|
أهذا هو الاستقلال الذي ودع الماظ الحياة لأجله خلف المدفع؟ بقلم د. جبريل إبراهيم محمد
|
بسم الله الرحمن الرحيم
في البدء اتوجه بالتحية و التهنئة الخالصة للشعب السوداني في كل ركن من أرض الوطن و في المهاجر و الشتات بمناسبات سعيدة عدة، تزامنت و توالت منها عيد ميلاد المسيح عليه السلام، و المولد النبوي الشريف، و عيد استقلال السودان التاسع و الخمسين؛ سأئلاً المولى جلّ شأنه أن يجعل أيام شعبنا كلها أيام سعد و حبور. أعياد ميلاد الرسل عليهم السلام مناسبات عظيمة و مهمة يجب أن يستذكر و يتأمّل فيها الناس الرسالات التي جاء بها هؤلاء الرسل، و التي تدعو في مجملها إلى الحرية و تؤصل لها في أوسع نطاق، للمدى الذي يخيّر فيه الخالق مخلوقه بين الإيمان و الكفر به و برسالاته من عدمه مع تحمل تبعات قراره. و في دعوتها إلى عدم الإكراه في المعتقدات، و في حق الناس أن يكون لهم دينهم و لغيرهم أديانهم. و بالتالي يتحقق المراد من هذه الأعياد و تكون لها معنى و مغزى لو اتخذناها محطات نقوّم فيها كسبنا من الحريات، و نعمل فيها معاً لانتزاع ما سلب منها، و ردّها إلى أصلها كحق إلهي مقدس ولد الناس بها، و ليست منحة أو منّة يمن بها الحاكم على الرعية. كما ينبغي أن نجعل من يوم رفع علم استقلال البلاد، بجانب اتخاذه مناسبة للوقوف على الأطوار و المراحل التي تخلّقت فيها دولة السودان، و الجهد النضالي التراكمي الذي تُوّج بجلاء المستعمر و رفع علم الحرية على السارية في صبيحة الأول من شهر يناير عام 1956، و الاعتراف بأفضال الرعيل الأول الذين قدموا التضحيات الجسام من أجل أن يكون السودان دولة ذات سيادة، و ما يستلزم ذلك من رد للجميل بتكريم هؤلاء الرواد و إنزالهم منازلهم التي يستحقونها، ينبغي علينا أن نقوم بجرد حسابات الاستقلال و ما أنجزناه و ما تنكبنا في تحقيقه، و رسم خارطة طريق لاستعادة ما فرطنا فيه. و يتطلب الجرد الموضوعي المنصف الإجابة على كمّ هائل من الأسئلة المشروعة التي تلحّ في البحث عن إجابات شافية: هل ينحصر معنى الاستقلال في علم و نشيد وطني و عملة و مؤسسات حكم و سفراء وعضوية في المنظمات الإقليمية و الدولية و غيرها من رمزيات و متطلبات السيادة أم أن للاستقلال الحقيقي معاني أجلّ و أعمق من الرمزيات المذكورة؟ هل للاستقلال معنى بغير حريات و بغير عقد اجتماعي بين الحاكم و الرعية يحدد لكل حقوقه و يلزمه بواجباته؟ هل تحرر الشعب واقعاً من العطش و الجوع و الجهل و المرض و الفقر؟ هل تحرر الشعب من الخوف و استأمن على نفسه و دينه و ماله و عرضه من السلطان نفسه؟ هل يملك الشعب قراره و هو لا يملك قوته؟ هل نحن مستقلون فعلاً و جيوش الدنيا تجوب أرضنا لتحول بيننا و بطش حكامنا؟ هل للاستقلال طعم للمغتصبات بالجملة في تابت و غيرها أو له معنى لأهلنا في معسكرات النزوح و اللجوء التي تتجلّى فيها معاني الاستضعاف و المهانة في أبشع صورها، و تفقد فيها المواطنة معناها و مغزاها؟ هل للاستقلال معنى أو طعم و البلاد تعيش حالة احتراب داخلي متطاول بعد تحوّل فيها حماة الوطن إلى مليشيات و عسعس يحمون الأنظمة بدلاً عن حماية الشعب و أرضه التي تنتقص من أطرافها كل حين؟ ما معنى الاستقلال لرب عائلة ينفق جلّ يومه في البحث عن سعن ماء - بغض النظر عن صلحه للشرب – لصغاره العطشى في القرن الحادي و العشرين؟ ما كسب الاستقلال بالنسبة للفقير الذي ترفض المستشفى جبر رجله المكسورة لأنه لا يملك قيمة الشاش و الجبس؟ ما قيمة الاستقلال لشعب حاصر الفقر تطلعاته و ابتسر همته في كسب وجبة متواضعة لأطفال جياع؟ أهذا هو الاستقلال الذي استقبل من أجله عشرات الآلاف من الأنصار الموت بصدور عارية في كرري و اختار الخليفة تورشين الموت على فروته في أم دبيكرات؟ أهذا هو الاستقلال الذي كان يحلم به عبدالفضيل الماظ لشعبه و هو يودّع الحياة وحيداً خلف مدفع المكسيم؟ أهذا هو الاستقلال الذي كان ينشده لنا الزعيم الأزهري و العقد الفريد الذين تحقق رفع العلم على أيديهم و في حضرتهم؟ ماذا حدث للميلون ميل مربع التي افتداها الأوفياء بدمائهم في زمن غابر؟ لا شك أن في قومنا، و بخاصة من هتّيفة النظام، من ينبري لتمجيد ما حققناه بالمقارنة ليوم رفع العلم، و ينسى أو يتناسى أن المقارنة معطوبة و خارج السياق. من الخطأ الفادح أن يقارن أحدنا الأبراج الشاهقة التي أُبتنيت في غالبها من مال السحت و من عرق الكادحين، و بعضاً من مظاهر الاعمار من أسفلت و كباري ببيوت الطين و القطاطي التي كنا فيها صبيحة الاستقلال. الصحيح أن تتم المقارنة ما بين ما حققناه منذ الاستقلال و الذي حققه قرناؤنا من الدول ساعة الاستقلال؟ على سبيل المثال: أين وصلت كوريا الجنوبية و ماليزيا و غيرها من النمور الآسوية من الحريات و البناء الديموقراطي و العلم و الكسب في مناحي التنمية الاقتصادية و الاجتماعية اليوم و قد كانوا دوننا في كل معايير الرقي و النماء يوم الاستقلال، مع ملاحظة أن جميعها أقل حظاً من السودان من حيث الموارد الطبيعية و ؟! بل و ليسأل الناس أين نحن من الحريات التي كان يتمتع بها الشعب في سني الاستقلال الأولى؟! الإجابة المنطقية للأسئلة الموضوعية أعلاه، تقول: إن استقلالنا و تحرر إرادتنا الوطنية لم يتحقق بعد، و ما تحقق دون الحد الأدنى من تطلعات شعبنا. يتحقق استقلالنا الفعلي يوم أن يتحرر شعبنا من العطش و الجوع و المرض و الجهل و جور المستبدين من الحكام الذين لا يرعون فيه إلّاً و لا ذمّة. يتحرر شعبنا عندما تنفكّ نخبنا السياسية عن التباري في الآيديولوجيا التي لا توفر ضرورات الحياة للمواطن، و يتحوّل إلى التنافس فيما يقدمونه للمواطن من خدمات مقابل ما يأخذونه منه و من مخزونات أرضه. لن يستمتع شعبنا باستقلال حقيقي و حكامنا يجبرون الآخرين على التدخل في شأننا الداخلي بلجوئهم إلى العنف المفرط و القهر و الانتهاك السافر لحقوق الإنسان في سعيهم لإثناء المواطن عن ممارسة حرياته الطبيعية، و المطالبه بحقوقه المشروعة. لن يهنأ شعبنا باستقلال حقيقي في القرار، و لن تكون للسيادة معنى ما دام حكامنا لا يحسنون إلا السباب و العنتريات التي وصلت حدّ إدعاء الحاكم أن العالم تحت حذائه، في الوقت الذي يقف فيه مكتوف الأيدي و طائرات أجنبية تغير على المواقع الإستراتيجية في قلب العاصمة الخرطوم. ليتحرر شعبنا و يذوق طعم الاستقلال الحقيقي، لا بد له من أن يخرج من حالة الاستكانة و الاستضعاف التي ركن إليها و يأخذ بزمام أمره بتغيير ما في نفسه من معايب و كسر ما عليها من مكبّلات. و لينهض شعبنا من كبوته و يعالج إخفاقات نخبه التاريخية و ينطلق من إساره نحو استقلال حقيقي يستشرف معه مستقبلاً أفضل لأجياله القادمة، لا بد له من التخلّص، و بأسرع وقت، من النظام المستبد الجاثم على صدره الحابس لطاقاته الجبارة من الانطلاق. و حتى يتم التخلص من هذا النظام، لا بد لقوى المعارضة الجادّة أن تتسامى عن الصغائر و حظوظ النفس الأمارة بالسوء و المكاسب الحزبية الضيقة، و تتّحد و تجمع على الكليات و على برنامج حد أدنى، و آليات كفيلة بتفعيل الشارع السوداني و قيادته نحو انتفاضة شعبية تطيح بالطاغية و نظامه المستبد و تأتي بحكومة انتقالية جامعة مؤهلة لانتشال الوطن من الهاوية التي يتدحرج إلى قائها بوتيرة متنامية، و العبور به نحو بر السلام و الحرية و الحكم بتفويض الشعب و إرادته الحرة.
|
|
|
|
|
|