|
أم جمعة وأببا تسفاي – اغتيال النكهة .
|
أم جمعة وأببا تسفاي – اغتيال النكهة . أمير تاج السر يذكرني حادث القتل الذي تعرضت له ( أم جمعة ) ، بائعة الشاي المثقفة في شارع الجمهورية بالخرطوم، بحادث مماثل وقع في ثمانينيات القرن الماضي بمدينة بورسودان ولبائعة شاي مثقفة أخرى ، هي الإريترية ( أببا تسفاي ) .كانت أببا زهرة ندية غرستها ظروف اللجوء والتشرد في موقف لباصات السفر ، زهرة توقد الفحم ، وتصنع الشاي ، وتبتسم بالأسنان ذاتها للمسافرين والعابرين والباعة ..وفي أخر الليل حين تخف وطأة السفر ، وتختفي أحذية العبور المتصعلك قرب نكهتها ، تلم مواقدها وخامات شايها وتذهب لتحلم في جحر بعيد في أحد الأحياء الفقيرة . ولأن الزهرة ندية والعطر فواح ،والعابرون بالنكهة أغلبهم فقراء وهائمون ، سقط الكثيرون في حبها وانبرى الكثيرون خطابا لجمالها لا يملكون سوى نبض القلوب وغيرات كبيرة يتعاركون بها للفوز بذلك القلب ذي النكهة ، وكان أن جاء أحدهم بسكين مسنن غرسه في قلب تلك الزهرة ذاهبا برحيقها إلى الأبد.ذلك الوقت كنت أعمل بقسم الجراحة في مستشفى بورسودان ..جاءوا بأببا في أحد الصباحات ، جسدا أبيض بلا دم ،ورئتين خامدتين بلا أكسجين ،وزهرة ذابلة بلا عطر ،أسرعت بخبرتي لإنقاذها ، لكن بلا فائدة .. كانت قد رحلت عن عالم الشاي والنكهة والغيرات المدببة في عشقها . لقد ظللت سنوات طويلة أستعيد حياة أببا وموتها ، أود كتابتها كوجه مطلسم ،وامرأة ذات بعد وإشراق لم تحلق في النضارة سوى أعوام قلائل ، وفي ذات مساء جلست لأكتب وكانت روايتي ( عواء المهاجر ) التي صدرت في العام الماضي عن الشركة العالمية بالخرطوم.رواية صغيرة ومكثفة حقنتها بدماء أببا التي سالت في زاوية فقيرة في موقف للباصات ، وجعلت قاتلها متشرد أعرفه .. إنه عبد الكريم مشاكل .. واحد من الذين استكشقت أحشاءهم في عملية طويلة ومعقدة ،جعلته الرجل صاحب الغيرة الأكثر حدة ، الغيرة التي تحمل السكين لتنحر من انطلقت من أجله . أم جمعة هي بالضبط أببا تسفاي .. واحدة برحيق مختلف ، مغروس في شارع يعبر به الألاف في كل يوم .. بعضهم يتذوق الشاي ويمضي في سبيله ، بعضهم يتلكأ قليلا ، بعضهم يعشق وبعضهم يشهر غيرته المسننة ..ليخرج في النهاية قاتل يختبئ في ثياب طالب للقرب . أتصور المعاناة التي كانت تعانيها البائعة المثقفة ، أتصور ابتسامتها التي كانت تستهلكها في دروب الرزق ، وبيتها البعيد الذي لن يكون أبدا سوى كوخ قاحل مترع بالفقر وربما كان بلا ماء أو ضوء . مثل هذه الشخصيات تأسرني .. أحسها تسري في نصوص مخبأة في داخلي وحين أكتبها ، أسمعها تقول داخل النص ما لم تقله في حياتها القصيرة المجهضة .للأسف لن أستطيع أن أكتب أم جمعة ، فقد كتبتها منذ سنوات ، حين جلست ذات مساء إلى طاولتي لأكتب اللاجئة أببا تسقاي . [email protected] www.ketabanstemp.com
|
|

|
|
|
|