|
أزمة دارفور: من المسئول؟ وكيفية الحل؟
|
أزمة دارفور: من المسئول؟ وكيفية الحل؟
بقلم دكتور/ محمد زين العابدين عثمان – الخرطوم
ليس هنالك من شك ان لدارفور قضية مثلها ومثل جنوب السودان وشرقه، ولا شك فى عدالة هذه القضية. وهى قضية ظلم وغبن وحيف قد وقع على أهل دارفور سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وهى مشكلة بدأت مع الاستعمار منذ أن تم ضم دارفور للسودان النيلى عام 1916م بعد هزية السلطان على دينار. وأهل دارفور أصحاب سلطنات قبل أن تكون للسودان النيلى سلة متمثلة فى السلطنة الزرقاء بتحالف الفونج وعرب القواسمة والعبدلاب، وقد ارتضى أهل دارفور أن يكونوا فى دولة واحدة مع أهالى وادى النيل لأنهم مربوطين قدراً ومصيراً بهم، اذ أنهم مسلمون ووجهتهم نحو مكة والوجهة الى مكة تحتم الاتجاه شرقاً والارتباط بمن هم شرقهم وهذا ما يظهر جلياً فى ارتباط النيجريون وكل أهل غرب أفريقيا المسلمين بالسودان النيلى. ولذلك كان لأهل دارفور الموقف البطولى الثورى فى عهد الثورة المهدية طرداً للمستعمر فى شراكة مع بقية اهل السودان الا أنهم كان لهم القدح المعلى اذ هم الذين ناصروا الامام محمد أحمد المهدى عندما تخلى عنه أهله أهل النيل.
واذا كان الاستعمار البريطانى قد أهمل دارفور تنموياً برغم امكاناتها المادية جزاءاً وفاقاً لموقف أهلها ومناصرتهم للمهدى عقاباً لأهلها، واذا وجدنا للمستعمر العذر فى اهماله لدارفور بهذا المفهوم، فاننا لا نجد أى عذر لحكوماتنا الوطنية منذ الاستقلال وحتى الآن. وبدلاً عن مكافأة أهل دارفور على مواقفهم البطولية استمر الاهمال والتجاهل - الذى بدأه المستعمر- من احكم الوطنى الذى أوصلنا بالتراكم للحالة التى نحن عليها الآن. وقضية أهل دارفور ليست جديدة ومطالبهم ليست جديدة وهى ما زالت نفس المطالب منذ أن رفعتها جبهة نهضة دارفور بعد ثورة أكتوبر المجيدة. وتكونت هذه الجبهة فى ذلك الوقت لأن أهل دارفور شعروا بتجاهل الاحزاب السياسية الحاكمة لمطالبهم .
مع أننا لا نعفى حكومات فترات الحكم الديمقراطى من المسئولية، الا أن الحكومات العسكرية لها القدح المعلى فى تفاقم مشكلة دارفور والجنوب خاصة ومشاكل السودان الاخرى عامة. وقمة الدور الذى أدى لتفام المشكلة وانفجارها هو حكم الانقاذ العسكرى الشمولى الحالى. ولأن الفكر شمولياً والنظرة احادية للقضايا الوطنية ولأن أصحاب الحكم مصابون بنرجسية لم نعهدها فى حاكم من قبل حتى فى هتلر النازى، فقد غاب عليهم الانتباه لما هو وميض نار تحت الرماد فى دارفور. ولو توقف النظام عند بعض المحطات ونظر اليها بالتحليل المتجرد وغير المتحامل لجنب البلاد وأهلنا فى دارفور هذه الكارثة. ان أول هذه المحطات هو أن يحمل قيادى متقدم فى الهيكل التنظيمى للحركة الاسلامية السلاح ويطرح مطالب أهله فى دارفور وذلكم هو الاخ داؤود يحيى بولاد والذى تعامل معه النظام بوحشية وأقمع حركته وصفاه جسدياً. ولو تمكن بولاد من الوصول الى جبل مرة بقاته لكانت دارفور الآن دولة قائمة بذاتها. وتعامل السلطة الحاكمة بالقوة واخماد الحركة جعلها تعتقد أنها قادرة على اخماد أى صوت يرتفع فى دارفور وأنها قد أخرست هذا الصوت الى الأبد. وفاقمت السلطة الحاكمة الأمر بأن جيشت وعسكرت المجتمع الدارفورى وجعلت السلاح متاحاً للموالين لها لمحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة دكتور جون قرنق فى شمال بحر الغزال وجبال النوبة مستنهضة العرق والدين فانقلب السحر على الساحر وعلى نفسها جنت براقش. وعندما تم ايقاف الحرب فى الجنوب وجبال النوبة وجدت هذه المليشيات نفسها دون عمل وبدون دخل ووقف منها الدعم المادى الحكومى فوجهت طاقتها وسلاحها نحو قبائل أخرى مستعملة نفس الاتكاة العرقية والاستعلاء العنصرى. وعندما بدأت تتعامل الحكومة مع القضية على أساس أنها نهب مسلح فقد تم التنبيه من كثير من المواطنين والحادبين على وحدة السودان أ الذى يجرى فى دارفور ليس نهباً مسلحاً ولا هو صراع تقليدى بين القبائل حول الماء والكلأ وانما الامر أكبر من ذلك، ولكن الحكومة فى أذنيها وقر ولا تسمع الا صوتها هى ولا تستبين النصح الا ضحى الغد.
وكانت المحطة الثانية والتى أدت تفسيرأ لكل ما يجرى فى دارفور الآن قبل أن يتفاقم الامر هو ظهور الكتاب الاسود الذى أظهر الى أين ذهب العمق فى مشكلة دارفور والذى حدد المشكلة فى صراع بين الزرقة وحقوقهم المهضومة وبين قبائل السودان النيلى العربية فى وسط وشمال السودان وذهب تحديداً الى ثلاث قبائل من الشايقية والجعليين والدناقلة وحدد استيلائهم على 70% من السلطة والخدمة المدنية والثروة فى السودان وال 30% المتبقية لكل قبائل السودان المختلفة. تعاملت السلطة الحاكمة بالغباء والنرجسية المعهودة فيها ولم تتوقف لتحليل هذه المحطة والخروج منها بالدروس والعبر والتنبؤ بما سيحدث لتداركه قبل أن تقع الفأس فى الرأس.
المحطة الثالثة هى انقسام الحركة الاسلامية أو النظام الحاكم الى مؤتمر شعبى بقيادة الاب الروحى للحركة الاسلامية السودانية الدكتور الشيخ حسن الترابى والمؤتمر الوطنى بقيادة أصحاب مذكرة اعشرة وعلى راسها من خفاء الاستاذ على عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية، وقد كان واضحاً لكل مراقب أن الحركة الاسلامية انقسمت تقريباً على خط عنصرى مما ينم أن داخل كواليس الحركة الاسلامية- ومنذ استيلائها على السلطة فى يونيو 1989م- صراعاً حاداً على المستوى العنصرى. هذا هو الذى يظهر الآن أن جل مؤيدى المؤتمر الشعبى هم من القبائل غير النيلية أو من الزرقة عامة او القبائل التى لا تسمى نفسها بالعنصر العربى فى حين أن اتباع المؤتمر الوطنى والقابضين على السلطة جلهم من القبائل العربية النياية وعلى راسهم قبائل الشايقية والجعليين والدناقلة. وكان هذا واضحاً من ظهور الكتاب الاسود والذى تشير اصابع الاتهام الى ان المؤتمر الشعبى يقف خلفه ان لم يكن كاتبه.
ان النظام الحاكم قد حول المجتمع الدارفورى الى مجتمع جهوى وعنصرى واستعدى القبائل بعضها على بعض. وهو النظام الذى ساعد على ظهور وعلو النظرات الجهوية والعنصرية. ولعل النظام بموقفه العملى ومقولته أنه لن يفاوض الا حاملى السلاح جعل كثيراً من اطراف السودان التى سمت نفسها بالمهمشة ان تتجمع على المستوى الجغرافى والقبلى وتحمل السلاح لتحقيق مطالبها خاصة بعد ان رأت ما تحقق للحركة الشعبية فى جنوب السودان ولسكان النيل الازرق وجبال النوبة ومنطقة أبيى. وبهذا يكون النظام الحاكم قد بذر بذور تفتيت وحدة السودانوتقسيمه الى دويلات وكنتونات، وان ما وقع من اتفاقات للسلام مع الحركة الشعبية رغم أنه أوقف الحرب فى الجنوب الا أنه لن يحقق سلاماً عادلاً فى السودان بل بذر البذرة الاولى للصراع القادم حتى فى الشمال النيلى.
لقد كان يمكن تدارك مشكلة دارفور قبل ان تصل هذه المراحل وذلك عندما طرحت القوى السياسية ومظمات المجتمع المدنى السودانى- المنضوية فى ملتقى السلام السودانى- على الحكومة خطوات عقد مؤتمر جامع لدارفور تشارك فيه الحكومة والحركات المسلحة فى دارفور والقوى السياسية المعارضة والادارة الاهلية ومثقفو دارفور. وقد كانت رسالة ملتقى السلام وقتها للحكومة أنهم ليسوا محايدين نحو قضايا الوطن ولكنهم محايدون فى الصراع المسلح بين الحكومة والفصائل المقاتلة من دارفور. وقد تم الاتصال بحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة واللتان وافقتا على حضور المؤتمر المنظم من جهة محايدة وفى ارض محايدة وهو ما حادث الآن فى أبوجا. ولقد خاطب ملتقى السلام الحكومة بمذكرة مقدماً مقترحاته للحل وانعقاد المؤتمر، فما كان من من الحكومة الا الرفض للمذكرة واستدعاء جهاز الامن لقيادات ملتقى السلام السودانى المكون من الاحزاب المعارضة للحكومة ومنظمات المجتمع المدنى واتهامهم بالاخلال بالامن القومى محزرين لهم بعدم تناول قضية دارفور. وكان رد الفعل ان قام رئيس الجمهورية بتكوين لجنة عزالدين السيد للتحضير للمؤتمر الجامع وكانت جلها من حزب المؤتمر الوطنى مع تمثيل ديكورى للاحزاب السياسية والشخصيات القومية مما أدى لانسحاب حزب الامة القومى احتجاجاً. وصارت لجنة عزالدين السيد تراوح مكانها دون فعل شئ يذكر حتى الآن وتجاوزها الزمن بانعقاد محادثات أبوجا والتى انتهت الى طريق مسدود لأن الحل سياسى قبل أن يكون أمنياً أو ترتيب الشئون الانسانية من اغاثة وخلافه. وقد قلنا للحكومة أن قضية المقاتلين هى مع السلطة الحاكمة ولا يمكن ان تكون الحكمة هى الخصم والحكم فى ان واحد. وذهبت الحكومة بعد ذلك تبحث عن الوسيط الاقليمى ومن ثم الدولى بدلاً من الوسيط الوطنى ممثلاً فى ملتقى السلام السودانى.
ان ازمة النظام أنه دائماً الداعى الاول وبمحض ارادته للتدخل الاقليمى والدولى وعندما يأتى التدخل ويكون ليس فى صالحه تبدأ المزايدة بالسيادة الوطنية واستعداء الدين الاسلامى ويكون الخطاب الاعلامى ضجيجاً وتهييجاً للجماهير السودانية مستغلين عاطفتهم الدينية، ولكن الشعب السودانى قد صار الآن أكثر وعياً وادراكاً لاأنه فقد جل وخيرة بنيه بدعاوى الجهاد وحماية الدين والعرض والوطن ومحاربة الكفر والشهادة والحور العين وتمخض كل ذلك عن علو ووطنية جون قرنق كما جاءت على لسان النائب الاول لرئيس الجمهورية ومن قبل جاءت على لسان الشيخ الترابى أن من مات بالجنوب ليس شهيداً وليس هنالك عرس شهيد على الحور العين. ان النظام هو الذى طلب من نيجيريا التوسط وكانت أبوجا الاولى والثانية وان النظام هو الذى طلب من دول الايقاد التدخل لحل مشكلة الجنوب وان النام هو الذى طلب من الرئيس ادريس دبى التوسط فى مشكلة دارفور وهو ايضاً الذى طلب من الاتحاد الافريقى التدخل وحتى انه وافق ان تكون المفاوضات فى جنيف بعد ان رفض متمردو دارفور اثيوبيا، فحفظ الاتحاد الافريقى كرامته وعقدها فى أبوجا بدولة نيجيريا.
ومن ثم جاء تدخل المجتمع الدولى والاتحاد الاوروبى وامريكا وان بدأ انسانياً ولكنه لا يخلو من المصالح. لو لم يعطى هذا النظام الذرائع والثغرات للمجتمع الدولى لما تدخل. ولو ان النظام عمل على حل المشكلة حلاًسياسياً بدلاً من الحل العسكرى الامنى لما تدخل المجتمع الدولى. لقد قدمت كل الفرص ومدت كل الايادى الوطنية البيضاء لهذا النظام معارضيه لحل المشكلة، لكنه اغمض عينيه ولم يسمع الا صوته وأخذته العزة بالاثم وعندما وقعت الفاس فى الرأس بدأ يصيح وينادى القوى السياسية ولكن بعد فوات الأوان ودون تقديم حلول عملية. ويكون النظام مخطئاً وغارقاً فى الخطأ ولا يتعلم من تجارب النظام العراقى السابق اذا كان يعتقد ان اصراخ والعويل والعنتريات أو استغلال العاطفة الدينية فى الشعب السودانى سينقذ البلاد مما هى فيه ولقد أدخل النظام كل الشعب السودانى الآن فى نفق مظلم وعنق زجاجة الخروج منه صعب خاصة بعد قرار مجلس الامن الاخير.
فى اعتقادنا ان 90% من حل مشكلة دارفور خاصة ومشكلة الحكم فى السودان عامة هى بيد الحكومة الحالية فعليها: أولاً: حل حكومات دارفور الولائية وعقد مؤتمر لممثلين لكل قبائل دارفور ومنظمات مجتمعها المدنى واحزابها السياسية لاختيار او انتخاب ولاة وحكومات جديدة لهذه الولايات الثلاث من اهل دارفور وليس من خارجها ويكونوا مقبولين من اهل دارفور. ثانياً: ان تعمل الدولة عن طريق القوات المسلحة لزع سلاح المليشيات المسلحة فى الاقليم وتقديم كل من تسبب فى القتل والحرق والتدمير للمحاكمة. ثالثاً: ان تعمل الدولة بجدية وتوفيركل المكانيات المادية للعون الانسانى لأهلنا فى دارفور وكذلك استنهاض مقدرات وامكانيات اهلنا فى شمال السودان للمساهمة فى اعانة واغاثة اهلنا فى دارفور وهذا ما كانت تريد ان تقوم به الهيئة الشعبية لنداء الوطن (نداء دارفور) والتى كبلتها السلطة الحاكمة باعتقال قياداتها برغم حسن النية والمقصد. رابعاً: ان توفر الدولة الممرات الآمنة وازالة المعوقات التى تعيق انسياب العون الانسانى الدولى. خامساً: لتحقيق لجبهة الوطنية وتكاتف اهل السودان ان يقوم الرئيس بحل حكومة الحزب الواحد وتكوين حكومة قومية ذات قاعدة عريضة تشارك فيها كل القوى السياسية حسب اوزانها وكل ىاقاليم وقبائل اهل السودان وكل الشخصيات القومية الوطنية المشهود لها بالحس الوطنى والكفاءة ونكران الذات. سادساً: ان يتم حل هذا البرلمان ودعوة الجمعية التاسيسية المنتخبة فى 1986م للانعقاد لمناقشة اتفاقات السلام التى ابرمت مع الحركة الشعبية واجازتها على ان يضاف لها ثلث الاعضاء من الحركة الشعبية والفصائل والاحزاب الجنوبية الاخرى. سابعاً: ان تتكون رئاسة الجمهورية من مجلس رئاسى بالتناوب يمثل فيه كل اقليم بممثل واحد وان يتم تبنى نظام الحكم الفيدرالى على مستويين كما فى الجنوب ويقسم السودان لستة اقاليم بالاضافة للعاصمة القومية.
فى الختام دون ان تقدم الحكومة تنازلات فان محادثات السلام مع الحركات المسلحة فى دارفور لن تحقق شيئاً ومتمردو دارفور سيطالبون بتطبيق اتفاق الاقليم الجنوبى عليهم ولن يرضوا بغير ذلك مما سيفتح الشهية للشرق لبدء الكفاح المسلح فالحل يجب ان يكون سياسياً شاملاً لكل السودان وهذا ما تطالب به حركة تحرير السودان بدارفور. وان لم تقدم الحكومة هذه الاتنازلات فعلى القوى السياسية والوطنية والشعبية ان تجمع صفوفها للضغط على هذا النظام حتى يرضخ للارادة الشعبية او اسقاطه وذهابه غير مأسوفاً عليه.
|
|
|
|
|
|