|
أحمد عمرابى و شطط العداء لمنصور خالد والجنوبيين
|
لا شك أن غالبية الشعب السودانى تتطلع إلى سلام عادل و شامل يعم البلاد بأسرها، و قد جاءت مبادرة الحركة الشعبية بإرسال وفدها إلى الخرطوم كمحاولة لبناء الثقة التى يُعتقد انها ضرورية لإرساء دعائم السلام. و قد رحبت كل القوى السياسية و كل الأقلام التى تكتب داخل الوطن و خارجه بهذه المبادرة، و رحب بها حتى المتشككون فى صدق نوايا الحكومة، و لم يشذ إلا كاتب فى عمود الرأى فى صحيفة البيان الإماراتية، هو أحمد عمرابى، الذى جاء مقاله مستشيطاً غضباً لهذه الزيارة. و لعل حكومة الجبهة قد خيبت آماله فى القضاء على الجنوبيين و إحراقهم فى أدغالهم كما كان يأمل. و بدلاً من الإستمرار فى محاربتهم ها هى تصالحهم و تسمح لهم بدخلوا الخرطوم، لا مذلولين ولا منكسرين، و لكن تستقبلهم الجماهير مُلوحة بعلم الجيش الشعبى، و تحملهم على الأعناق، فى مشهد يبدو أن عمرابى لم يحتمله فلم يتمالك نفسه و جاء عموده ينضح بالغبن و المرارة. ربما تسآل بعض القراء عن سر هذه المرارة التى وصمت كتابات العمرابى عن الجنوبيين، فآثرت أن أكتب هذا المقال مساعدة للقارئ فى فهم علة الكاتب. دأب أحمد عمرابى على تناول الدكتور منصور خالد و الجنوبيين فى كتاباته فى الصحف التى عمل بها فى ربع القرن الماضى بمرارة بالغة لا يخطئوها عقل . فقد أدمن عمرابى مهاجمة منصور خالد منذ أمد بعيد و قبل أن يظهر فى الساحة السياسية كيان إسمه الحركة الشعبية. و قد إنحصر هجومه على منصور فى وصمه بالعمالة للمخابرات الأمريكية. لكن بالرغم من أن كل من عرف عمرابى أو قرأ عموده قد حفظ هذه الأسطوانة الممجوجة. إلا أن هجوم عمرابى على منصور لم يتبدل و لم يكتسب موضوعية رغم مرور السنين. و مع ظهور الحركة الشعبية و إنضمام منصور إليها اصبح هذا الثنائى هو الهاجس الأكبر لعمرابى. أحمد عمرابى مواطن سودانى من أصول مصرية، تخرج فى جامعة الخرطوم كلية الإقتصاد، وقد كان من الشباب الذين هللوا لإنقلاب نميرى و إلتفوا حوله لتوجهاته اليسارية و الناصرية. فتم تعيينه فى الإذاعة السودانية، فلم يخيّب ظن أهل مايو فيه، فكان هتّافاً و صياحاً لنميرى و ثورته. فتمت مكافأته بتعيينه فى الخارجية التى كان يتطلع إليها كثير من الشباب. قبل مايو لم تكن للسودان سفارة فى الصين الشعبية، و كانت هنالك جمعية للصداقة السودانية الصينية فى الخرطوم يترأسها شاب جنوبى طبيب تخرج فى الصين الشعبية و معروف لدى الحكومة الصينية. عندما زار نميرى الصين الشعبية فى بداية عهد مايو و تمخضت الزيارة عن فتح سفارة سودانية فى بكين، طلبت الحكومة الصينية من نميرى تعيين الطبيب الجنوبى سفيراً لديها لجهوده فى بناء الصداقة بين البلدين. كان للطبيب الجنوبى عيادتين أحداهما فى منطقة الحاج يوسف يعالج فيها فقراء الجنوبيين بلا مقابل و أخرى فى وسط الخرطوم يعيش عليها. عندما إستدعاه نميرى و عرض عليه منصب سفير السودان لدى الصين، البلد الذى درس فيه و أحبه، تعلل الطبيب بأنه يرغب فى البقاء فى مجاله و خدمة أهله، لكن نميرى ألح عليه بأنها مهمة وطنية تفوق معالجة المرضى الفقراء. فقبل الرجل على مضض و سافر للصين سفيرأً. لسوء حظ الطبيب السفير فقد تضمن طاقم السفارة فى بكين تعيين شاب مايوى فى وظيفة قنصل، يدعى أحمد عمرابى، لم يسبق له العمل بالخارجية. شهدت تلك الفترة ظهور جهاز الأمن القومى لأول مرة فى تأريخ السودان، تولى رئاسته مامون عوض أبو زيد لفترة قصيرة، و تولاها بعده على نميرى، حيث عرف السودانيون لأول مرة البوليس السياسى ذو الصلاحيات الغير محدودة. أستغل أحمد عمرابى بساطة السفير الجنوبى و طيبته و راح يفرض سيطرته على السفارة وعلى السفير، معطياً نفسه سلطات غير محدودة على فرضية أن القنصليات أصبحت تتبع لجهاز الأمن، الذى وضعه النظام السياسى على قمة هرم السلطة، بالرغم من أن عمرابى لم تكن له الصفة الأمنية التى يدعيها. كان السفير كثير الشرب و بعض الأحيان يحضر الى السفارة متأخراً، فأخذ عمرابى يطالبه بكتابة إستيضاح كلما جاء إلى العمل متأخراً، و هو أسلوب مذل فى العمل الإدارى لا يمارسه الأنسان حتى مع من هم تحت إدارته، فغريب أن يمارسه إنسان مع من هو فوقه. لكن عمرابى لم يتعامل مع السفير الجنوبى كسفير، لكن فقط كجنوبى، و بالطريقة التى يرى أن الجنوبى يستحق أن يعامل بها. عندما كثرت الإستيضاحات و المهانات من عمرابى للسفير الجنوبى، ما كان من السفير إلا أن طلب من الحكومة الصينية عطلة و حمل دفتر الإستيضاحات التى أجبره عمرابى على كتابتها و عاد إلى الخرطوم و ذهب للقاء وزير الخارجية الدكتور منصور خالد، مقدماً له إستقالته بغضب و مرارة قائلا " أنا لم أكن أرغب فى هذه المهنة و لو رغبتها لإخترت فى دراستى مجالاً آخر. أنا لست فى حوجة أن تضع لى صبيتك رقباء علىّ لكى يذلونى بهذه الطريقة." و قدم له سجل الإستيضاحات. كانت للدبلوماسية السودانية أعراف قلما توجد فى دول العالم الثالث. كان تعامل الدبلوماسيين السودانيين مع بعضهم فريد، و لم يكن الدكتور منصور خالد أستثناءاً من ذلك، لكن عمرابى بسلوكه أثبت أنه نبت غريب فى الوسط الدبلوماسى فلم يكن غريباً أن إجتثه منصور خالد كما يجتث المزارع العشب الضار من حقله، فلم يستدعيه إلى الخرطوم بل بعث إليه ببرقية فصله فوراً من العمل. بين ليلة و ضحاها وجد عمرابى أن آماله فى تسلق السلم الدبلوماسى قد ضاعت و أن هذا المنصور فصله و أهانه و أضغث أحلامه بسبب رجل جنوبى. عاد عمرابى إلى الخرطوم مهزوماً مكسورا يتجول عاطلا فى شوارعها متجرعاً مرارة فصله. و لم يعد أمامه غير الهجرة إلى دول الخليج، و لم تكن الهجرة فى منتصف السبعينات مرغوبة للسودانيين، كانت بلادهم تسع طموحاتهم المهنية. تدرج عمرابى فى ديار الغربة وعمل فى جريدة الخليج بالشارقة حيث مُنح عمودا فى الصفحة الإقتصادية ليكتب فيه تحليلات إقتصادية، لكنه فشل فى التحليل الإقتصادى و راح يمارس التحليل السياسى (العادة السودانية)، و لكن فى الصفحة الإقتصادية. و تغاضت إدارة التحرير عن ذلك لحوجتها للقارئ السودانى و لعزوف السودانيين، أصحاب الأحاسيس العميقة و العقول المتسائلة، عن الكتابة. و تحولت كتابات عمرابى من سياسية إلى شخصية فى مهاجمة الدكتور منصور خالد. لكن كلما كتب عن منصور كلما تناقل الناس قصته مع السفير الجنوبى و فصل منصور له من الخارجية. جاءت الإنتفاضة، و راج سوق الصحافة الخليجية لتدافع السودانيون فى متابعة الأوضاع السياسية فى بلادهم. و كغيرها من الصحف، سعت الخليج لإجتذاب القارئ السودانى، و لقلة الكتّاب السودانيين، أفردت نصف صفحة لأحمد عمرابى يتناول فيها الوضع السياسى فى السودان. لكن جاءت موضوعاته عموميات متكررة؛ و كعادة كتّاب الأعمدة اليومية، ظلت أفكاره مبتورة لم تكمل دورة نضوجها، و نثره مملوء بالحشو الذى لا يضيف شيئاً إلى المعنى؛ و معالجاته سطحية بغير منهج علمى، مثل نقاش مجالس الأنس الليلية، ينقصها البحث والعمق و الإبداع. فأوقفت الخليج مقالاته بعد أن تحولت لإطناب فى المدح والتملق للصادق المهدى و حزب الأمة، و أرجعته إلى عاموده الصغير. و لم ينسى الصادق المهدى لعمرابى جميله (بعد أن قرأ عرضحالاته المفتوحة) فكافأه بتعينه سفيرًا ليحقق له أحلامه التى وأدها منصور خالد فى ريعان العمر. و جاءت الإنقاذ عاجلاً و فصلته، فقل راجعاً إلى الإمارات يلعق جراحه، و عمل بجريدة البيان، و فيها عاد إلى معاركه القديمة، وأضاف إلى قائمة أعدائه الميرغنى بعد أن أصبح منصور خالد مستشاراً لرئيس التجمع.
|
|
|
|
|
|