سرداق العزاء وجاءت من أقصا الجنوب الغربي لمناطق البجا يرافقها إبنها البكر حسين ، تسعي لرؤية حسين ولي طريح مستشفي الموانئ البحرية تحت العناية الطبية المركزة ، وما أن وقفت تطمئن عليه اخذت تمعن النظر في القرار الطبي ، أدركت للإنسان قدرات محددة وبقدر معلوم من الله سبحانه وتعالي ، فيفق بعدها عاجزا لا حيلة له ، وكانت مشيئه نهاية الإستجابة للعلاج ، والأعمار بيده سبحانه وتعالي ، إن شاء يحي وإن شاء يميت ، حمتكة في خلقه ، فدعت بدعاء الرحمة له ، وما أن أعلن نبأ الوفاة والرحيل الأبدي من دنيا الزوال إلي دار البقاء... لله ملك السموات والأرض وإليه المصير ، فإستغفرت كثيرا وحمدت كثيرا ودعت ، ربي أنا علي يقين تام أنت بين يدي غفور رحيم ، وسعت رحمته كل شئ ، تتقلب في نعيمه الباقي ، تنعم برفقة النبيين والصديقيين والشهداء وعباده الصالحين ، في جنات النعيم ، الله هم أرحمه رحمة واسعة ورده إليك ردا جميلا ، أقفل دونه يارب يا كريم أبواب العذاب ، وتجاوزعن الخطايا والأسباب ، وأرحمه في قبره تحت التراب ، وأجزل له الأجر والثواب ، وقامت بواجب العزاء وغادرت تتقبل العزاء في سرادق أقامه الأب في دارهم بولاية كسلا ، فقد كان الفقيد فقداعظيما لهم كما كان لأهله وأصحابه. وتعود بها ذاكرة الأيام ... كانت أمها ترفع كفيها بالدعاء وهي في أشهر الحمل الأخيرة ، ربي أريدها بنتا ، تؤانسني و توآخيني وتعينني ، اللهم أجب دعوتي وحقق مرادي ، وشاء القدر أن تأتي مسك الختام بعد سبعة أشقاء – وعمت الفرحة وصدحت زغاريد الفرح ومدت الأيادي بالسلامة والتهاني ، ودعاء - إن شاء الله من المستورات - فرضعت من منابع الصحة والعافية حتي شبعت وتعافت ، وسبحت في بحيرة الحنان دون خوف ، وتمتعت بالأحضان الدافئة مستقرا ومقاما كما تشاء - ولهفة الأب إليها لا تهدأ ، يقتطفها بلطف وحرص شديد ، وردة ربيع جميلة اللون ، متميزة بطيب عطرها ، يهرب بها بعيدا ، يسقيها حبا وحنانا - يأبي فراقها يريدها خالصة له ولكنها سرعان ما تتمنع وتهرب من بين يديه ، تريد حضن أمها ، والأشقاء يخفون غيرتهم فقد كانت الإستثناء في المعاملة ولكنهم يحبونها أيضا ، ويبادر الأهل بالسؤال عنها إن غابت عن الأعين أمنية أمها . مع خريف العمر ورحيل الأيام والسنين ، جاء أوان الفريضة الواجبة ، فريضة إعتلاء صهوة راحلة الحياة ، وأن تقوم بها كما ينيقي ، فالحياة لاتعد بشئ بقدر ما تأخذ وتملي إرادتها ... حتي وإن كان رب البيت ممسكا بزمامها ، يسير بها علي هدي خارطة ثقافية رسمت خطوطها الأيام والسنين وتوارثتها الأجيال ، لا إثارة فيها ولا تشويق ، تهئ له وهم الأمن والإستقرار ، حياة تعتمد الزراعة التقليدية و تربية ورعي الماشية معاشا ، ومن رباط قيم التكامل والتراحم والتوادد تواصلا وترابطا إجتماعي، ومن مقاصد هجرات لاتكسب أجرا ولا تمحو سيئة ثوابا ، يحسب الزمن في كل مرة بظهور الهلال وإختفاء ضوئه ، ويرجو هطولا الأمطار الموسمية في وقتها ، توفرة الماء وتنبت العشب وإخضرار الزرع وحصاد محصول الذرة الغذاء الرئيسي ، وجبة غذائية لاتتغير مع لين الأغنام ، للضيف وعابر السبيل و بإرث الجبنة ونارها الهادئة يهدر الوقت وترد وتنتقل الأخبار بخيرها وشرها وبها يهدأ إدمانها ويكمل واجب الضيافة ، وبالضرورة حماية أسوار ثقافته وردع المعتدي، والديمقراطية والماركسية والإشتراكية والدكتاتورية وقيم الحرية والعدالة ، وفتح الآفاق لقيم الحياة والاحترام وفق النواميس السماوية ووفق روح وقيم مواثيق حقوق الإنسان ... لا إعراب لها في واقعه الثقافي الذي طابعه عدم قدرة الانفتاح للمتغيرات وما يحدث من مستجدات في العصر ، حياة أقرب للبدائية والإنتماء المطلق للذات والإلتحام معها. وقالت لو كنا نعلم بالغيب ، ماكنا من ضحايا الكارثة البيئية ، ظنا أنها أيام عابرة ، حتي بدأت ثوابت الإستقرار في حياتنا تتغير تغيرا سريعا وكبيرا ، وسيطر الخوف والقلق ، أيام شديدة القسوة ، مسغبة وشقاء ، بؤسا وموتا ، حفظ النفس وإبعاد الضرر بات أمرا مستحيلا ... تصف الأحداث كأنها تعيشها اليوم ، إحساس بالهزيمة وفداحتها ، فقد كانت مأساة إنسانية رهيبة لايمكن وصفها ... ولما ‘تطرح الأسئلة فالأجوبة كانت حاضرة ؟ ، فقد ضاع كل شئ بلا أمل ، لم يكن غير الخيال في مستواه ذاك أعلي من الواقع ومن الذي حدث ، الأمطار الموسمية أخلفت موعدها أعواما طويلة ، شمسا وزمهريرا ، رياح عاتية ، رمال صفراء في كل مكان ، قضت علي الأراضي الزراعية فلم تعد صالحة للزراعة وإنبات العشب ، جفت الضروع ونفقت النعم ، وأصبح الماء نادرا وما تحت التراب غورا لا سبيل لطلبه ، الأشجار الخضراء الظليلة ، كأنها عجوز متيبسة ذهب جمالها وتساقط شبابها ، تمد يدها في تمام الفجيعة ولا تعانق غير نفسها يختلط لديها إحساس الهزيمة وفداحتها ، وأصبح الإنسان هيكلا تخطيطيا أوليا لإنسان. ‘هجرت القري ، و‘عطلت الأسواق المزدهرة بالبيع والشراء ،... فالكارثة حطت برحالها حيثما شاءت ، آثارها المحزنة ضحايا يواجهون الأمرين المرض والموت ، فلا يمكن أن تكون هناك هزيمة أسوأ من هزيمتنا فأين المفر وأين النجاة ؟ والسلطة تتكتم المأساة وتحرس أبوابها حتي لا يتسرب شيئا من الإغاثة والدواء ، وولت النفوس المريضة الطامحة للمقام والتي مردت علي النفاق وقت الحاجة ، هاربة تدير ظهورها للمنطقة وإنسانها ، بعد أن إستجد واقعا مغايرا تماما لا يتحقق فيه شئ من مصالحهم الأنانية. بلا دابة وبلا زاد وبلا ماء ، بدأ الهروب الإضطراري الكبير إلي كل فج عميق الجميع يطلب النجاة ، تحملهم أقدامهم النحيلة الحافية ، فالهروب خير وسيلة للدفاع عن النفس ، وإلا ستبتلع الكارثة بكل وحشية الإبتلاع ما نجا منهم . وعلي أطراف المدينة العامرة الموصدة الأبواب والنوافذ ، أناخت بهم راحلة الهروب وحطت برحالها ، وعلينا طي صفحة الماضي والمضي قدما لحياة جديدة تماما ، ودارت معركة الصراع والتحدي لإنقاذ النفس وتضميد الجراح العميقة ، فكان علينا أن نكدح لنعيش ، والرضا بشظف العيش وخشوبة المأكل والملبس ، فهناك من يتسول وهناك خدمة المنازل وهناك الحمالة وهناك كنس ونظافة الشوارع ، وغيرها من المهن الوضيعة ، وهناك راكوبة الخيش والكرتون وأكياس النايلون سكنا ومن الأرض بساطا ومن السماء غطاء ، حياة ما ظننا يوما سنخوضها بكل أوحالها. وسط تلك الظروف قشب عودها النحيل يوما بعد يوم وتنصقل شخصيتها وآيات الحرمان تحيط بها وأهلها من جميع الإتجاهات وكان أثرالحياة الجديدة عليها كبيرا ، ودعاء يارب أرحمنا برحمتك لاينقطع ، وشاء القدر أن تفتح لها أبواب المعرفة علي مصراعيها ، وكانت قد بلغت من العمر مبلغا يعطيها قوة دفع ذاتية كبيرة ، وبدأت تطلب شيئا من السماء وتطلب شيئا في الأرض ، فقد كانت صاحبة طموح وعزم قوي رسم وحدد لها رؤية المستقبل بمنظار جديد لم يكم متاحا لها في يوم من الأيام ، رغم قسوة الظروف المحيطة ، وضراوة معركة الحياة وضروراتها الملحة ، وإجتهاد الأب والأم والأشقاء كان معينا قويا للصمود ، كان علينا ربط أحزمة الصبر والتحدي والإيمان بالله سيحانه وتعالي والرضا بحكمه علينا. إنصرفت تقرأ وتكتب تستوعب ما تسمع وتري بقدرات كبيرة ، تجتاز كل المراحل الدراسية بتفوق ملحوظ وتقاوم كل ما يعترض طريقها بقوة ، حتي جلست لإمتحان الشهادة الثانوية العليا وحققت النسبة 75 % في القسم العلمي في عامين متتاليين ، نسبة نجاح عالية ، لم تحقق رغبتها الدراسية وإعادة المحاولة للمرة الثالثة قد لا يحقق نسبة النجاح المطلوبة. شاءت الإقدار وهي تندب حظها ... أن أيقظها من سبات أفكارها الطموحة التي يقيدها الواقع ، نداء يحي أمل مواصلة دراستها ... إذهبي إلي حسين ولي فقد حظي بعونه الكثير بمنح دراسية ، خارج البلاد لعلك تصيبن حظا يحقق رغبتك الدراسية. في منزل الراحل المقيم حسـين ولي محمد أركاب بسـلالاب مربع (7) ، رأيت لأول مرة الشابة النحيلة ، لم تتجاوز العشرين عاما من العمر ، مغطاة بثوب الحشمة والأدب يخالطها حزن غريب وتخبر عيناها بغير ذلك بجسارة وإصرار عظيمن باديين علي وجه يخبئ إبتسامة حزينة ، كلماتها رصينة وقوية ، خاضت وأهلها معركة عنيفة ونجوا بأعجوبة ، كما نجت من شراك الجهل المنصوبه حولها بالعزيمة والصبر ... قالت جئتك قاصدة أستنجد بك لعلك تعينني لمواصلة دراستي الجامعية (الطب البشري) ، جلست لامتحان الشهادة الثانوية ( علمي ) مرتين ولم يحالفي الحظ بنسبة النجاح المطلوبة للألتحاق بالكلية التي تحقق رغبتي ، وتكرار المحاولة يرعبني ويخيفني ، وبأبوته الحنونة والرغبة الصادقة بتقديم كل عون ممكن... أنتي أنثي يا إبنتي ، ولابد من موافقة ولي الأمر ، والمسئولية كبيرة والإطمئنان علي كل صغيرة وكبيرة لا مفر منه ، فهناك الرسوم الدراسية وقيمة تذاكر السفر ذهابا وإيابا والمصروف الشخصي وغيرها من المنصرفات الطارئة ، إذا توفرت فرص الدراسة ، وودعها كما إستقبلها ، بالكلمة الطيبة كالعهد به ، راجيا أن لا يكون قد نعي إليها نهاية طموحها . لم تمضي إلا أيام قلائل ... حتي عادت برفقة والدها وبحكم مسئوليتة الأبوية ظل يسأل ليطمئن قلبه حتي تأكد ... للانثي عناية خاصة توليها الدولة وإدارة الجامعة إلي أن تنهي دراستها وتتخرج من الجامعة ، وتظاهر الأب بالإطمئنان والرضي وتمني لها التوفيق وسلمت المستندات الدراسية المطلوبة للسيد حسن ولي ، لبدء إجراءات القبول ووعدهم ببشارة القبول الجامعي والإعداد للمغادرة وبدء الدراسة ، وهذا ما تم لاحقا وتخرجت طبية بتقدير جيد وباشرت مهنتها الإنسانية طبيبة بوزارة الصحة ( الإقليم الشرقي ) تداوي وتعين . عسي أن تكرهوا شيئا فهو خيرا لكم ، قالها الأب ، كان الأمر مستحيلا فلم نكن نملك قوت يومنا ، وكان قرار زواجها تم فعلا لولا مغادرتها المفاجئة للبلاد دون علم أو وداع وكنا في غاية الإنزعاج عليها ، حتي أخطرنا بوصولها إلي الجمهورية السورية وبدء دراستها الجامعية ، خمسة أعوام بالتمام والكمال مضت دون أن نراها وزال مابنا من هم وقلق بعودتها المفاجئة و بيدها شهادة التخرج ... بنتي بقت دكتورة كبيرة الحمد لله والشكرلأمة الخير التي مدت لها يد العون ، و اليوم بنتي أم وطبيبة ، تمد يد العون قدر ما إستطاعت للجميع ... تقدم النصح والإرشاد ... أطلبوا العلم ولو كان في الصين ، فبعد خوف أمان ، ومن بعد ضعف صحة و عافية ، وكما ترون المرحوم حسين ولي أضاء لي الطريق فمشـيت فيه حتي النهاية ، فأنا اليوم طبيبة كما أردت في يوم من الأيام ، رغم كل الظروف الصعبة التي مرت بنا جميعا ، أعينوني بقوة قدرما أستعطتم علي أنفسكم ، أعينكم بقدر ما أستطعت . قيل عندما يحمل الإنسان رسالة ما وهدفا في الحياة ، لايهم كم عاش ، بل كيف عاش وماذا قدم ، لأن ماعاش وناضل من أجله ، سيتواصل حتما بما بذره في الآخرين من أثر وعطاء. للذين قالوا مثل هؤلاء ضالتنا في الدنيا ثم استقاموا يقدمون العون المطلوب حتي النهاية ، وللذين رحلوا عن الفانية للقاء ربهم ، وهم يقضون حوائج الناس، أمثال العمالقة ، المرحوم حسين ولي محمد أركاب والمرحوم الدكتور هساي عاولي والشهيد اللواء طاهر بخيت أبكراي . علينا إنزال الناس منازلهم وليس في هذا مكرمة ، وللأمانة والتاريخ ، نحن مطالبون بوضع رموز المجتمع في وضعهم الذي يشعرهم بأنهم عنصر ثابت ‘يبني عليه ، ففي ذلك ‘نبل التقدير والتبجيل والإحترام. إن الشكر والحمد لله أولا وأخيرا ... و الله لا يضع أجر من أحسن عملا . رب أخ لم تلده أمك ياحسين ولي محمد أركاب . لك الرحمة والمغفرة من الله الغفور الرحيم ، اللهم أسكنه فسيح جناتك مع النبيين قبره والصديقيين والشهداء وعبادك الصالحين وحسن أولئك رفيقا، إنا لله وإنا إليه راجعون ، وداعــا أخي فقد كنت متواضعا ، كبيرا بعملك الذي أضاء الطريق لأبنائنا وبناتنا وهم كثر حتي أمنوا وإستقروا بمرافئ تضئ بالعلم والمعرفة والوظائف العالية الرفيعة الشريفة. أخيك/ ابراهيم طه ابراهيم محمد بليه [email protected] 10/ إبريل /2017 م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة