مِن غِناء الفنان القدير عبد الرحمن بلّاص هذا الشدو:ــ “يكتبْ لي لِماتك وافر الكيل، إن كان بي رضاكِ، إن كان براطِيل.. أنا عاد مي بسوي، أكل الدَّباس فوق القَنادِيل”..! وافر الكيل، هو الله.. وبحثت عن البراطِيل، فوجدتها تعني “الرّشوة”، بين معانٍ أخرى منها، ذاك الطقس الذي يؤديه صاحِب السِّر الباتِع، من أجل تقريب البعيد، لمّ الشمل، أو إخفاء المأثور.. إلخ.. وعندما يحدُث المُراد ــ يقول بلّاص ــ “أنا عاد مِي بسوّي أكل الدّباس فوق القناديل”،، والمعنى واضَح.. كان بلّاص فنّاناً مجيداً، وإبن بلد غنى للطبيعة وأصيل الطبائع. مفرداته تحتاج شرح لأن تُراب الحشو غطّى على الكثير من بهاء المعاني..”البلّالْ” هو المطر.. “بلّال يا بلّال، يا أبْ زوق عَشا أمّو”.. بلّال هذه سودانية خالِصة، تحكي احتفاء وانتظار العتامير لزخّات الخريف.. تلك هي بيئة عبد الرحمن بلّاص الذي عمل صحافياً، إلى جانب إبداعه في مجال الغناء.. عندما تسمعه يتغنى بـ :”جو ناس عزّلوا الحُلو في قصبنا، غاروا وحشّوا، كُلّيقنا العجبنا”.. ليس بالضرورة، أن يكون المقصود بالكُلّيق، شوية عيدان مريق، أو ربطات لوبيا، تلك التي يتم لفّها بعناية لتكون علفاً للبهايم في موسم الجفاف.. الفكرة هي رفض الإعتداء على حقوق الآخر، كأن تخمِش جهة أو حزب، طائفة أو فرد، مكتسبات الجماهير..! غنى بلاص الدِّليب على أصوله بدون طمبور.. يقال أن غناء الدليب على طريقته تلك هو الأصل، وان الغناء بالطمبور مُستحدث في غناء النوبة المستعربين. عندما يغني عبد الرحمن بالطمبور، فله “وَزْنة” فريدة، على تلك الآلة التي عُرِفت منذ القدم في بلاد النوبة. الأصل في أداء بلاص، هو المعاني.. أغنياته تحمل مضامين “النّفيلة”، لا الشوق وحده، لا المواجِد وحدها، ولا ينزع نحو اللذة الحسية، بقدر ما يستلهم كريم الخصال.. من ذلك قوله:ــ “إن بِقا في الحَرابات يَبقا صَايِل، وان بِقا في العِلِم يفتي ويَجادِل، إن بِقا في المحاكِم ماهو مايِل، وان بِقا في التِّجار ميزانو عَادل”.. أكرِم به من تاجر أو قاضٍ، لا يميل بالميزان، إلى تلك الناحية أو تِلك.. غنى بلاص، تنويعاتٍ شملت معظم ايقاعات الشريط النيلي، الممتد من البجراوية وحتى ضنقلة، وهو من المثقفين النادرين، الذين كانوا يعرفون قيمة وأثر إنتاجهم. يتلقى منه المستمع المفردات واحدة واحدة، من القلب للقلب، دون تشويش من الكورس، أو من الإيقاع. بلّاص أحيا الكثير مما كاد يندثر من غناوي الأٌمّهات والحبّوبات، إذ لا تخلو قرية في منحنى النيل من شاعرة تغني لمن يستحق، دون أن تخون أو تهزِم قضية القيم، فتقول في “عشاها” ما ليس فيه. أهل الجروف من طباعهم الفرح بـ “طين المِلك” ، كقوله : ــ “جزايرك بي تحت وِزّينه رزَّم / وعطف فوق القُيوف نخلك مردَّم / تكبر يا عشانا ولينا نسلم / وتصول فوق حقك الصح مُو مَلْمْلَم”.. الوِزّين طير عوّام، يسكن الجزاير غير المأهولة، وتُكنّى به المرأة ذات الرقص البديع، فقد سُمع محمد وردي أنه قال:ــ “القِديما قِديم الحَمام، الوِزيزينْ في مُوجو عَام”.. غناء بلّاص، لـ “المَنفَّل خَالو، بين النّاس، وعمّو”، لا مثيل له، بهذا التقديم والتأخير، عند مُبدِع آخر في هذا العالم الوسيع.. رحمة الله على فنّان الربوع عبد الرحمن بلّاص.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة