|
)كلام عابر) عبدالعزيز بركة ساكن... عاشق المنسيين
|
تقطعت أنفاسي على مدار أيام وانا ألهث وراء عبدالعزيز بركة ساكن ولد مريم بت أبوجبرين،وأتابعه من "مسيح دارفور" إلى" الأرصفة" مرورا ب"إمرأة من كمبو كديس" و"ما يتبقى كل ليلة من الليل"وانتهاء ب"بمخيلة الخنديس"، وهذه أسماء مؤلفاته التي اقتنيتها من معرض الكتاب الدولي في الرياض في شهر مارس الماضي، لتكتمل بذلك باقة مقتنياتي من كل مؤلفات الكاتب بدءا ب"الجنقو مسامير الأرض".هو رجل فخيم كثير الإبداع، تبدأ علاقته بقارئه حميمة منذ اللحظة الأولى، ثم بمرور الاسطر يسيطر تماما على القاريء، فيجوب به الغاب والصحاري وأزقة المدن وأطرافها، في خشم القربة، وأم درمان، والقضارف والخرطوم، والدمازين، وكسلا، ونيالا، ثم ينتقل به إلى أسيوط التي أمضى فيها سنوات من عمره طالبا في جامعتها ويحمل لها مكانة خاصة في قلبه، والقاهرة،ويستقر بالقاريء المنهك للحظات في مدن كاملة الدسم مثل نيويورك،ولكن لا يلبث أن يعيده غصبا عنه إلى معسكرات اللاجئين في دارفور والحدود الشرقية،وويلات الحروب والإبادة في دارفور، ويغوص عميقا في كتابه(مسيح دارفور) على وجه الخصوص، في نفوس المتحاربين وكيف انتهى بهم الحال إلى حمل السلاح،والمعتقلين في معسكرات التعذيب،والموظفين الفاسدين، والمهمشين الذين "لم يعيشوا يوما واحدا طيبا بأي مقاييس كونية، ينيمهم مجنبا إياهم مشقة البحث عن الطعام"، كما يصفهم. عبالعزيز به ولع كامن بالأمكنة، يجيد وصفها في هالة أدبية شديدة البذخ تنقلك إلى جوف الحدث والمكان، ويربط الأمكنة بشخوص قصصه، ويصفهم جميعهم .. الجلادين والضحايا بذات الصدق. يقول بجرأة موجعة عن المشردين، في تفرد ابداعي لافت، وكأنه واحد منهم عاش معهم كل عذاب التجربة " إذا توفر لدي المتشرد بعض ما يسكر وقليل مما يطعم، وشيء من الجنس،من نوعه أو من النوع الآخر لا يهم، فهو الأكثر سعادة والأكثر غنى من رئيس دولة في العالم الثالث". عبالعزيز بركة ساكن ينحاز لمشروعه الانساني الصعب،ويكتب عن طبقته "أحلامها،آلامها، طموحاتها المذبوحة وسكينتها أيضا التي تذبح بها هي الآخر" ويقول في غلاف كتبه التي تنشرها(أوراق للنشر والتوزيع) ومقرها قاهرة المعز، في طباعة وتصميم أنيقين جذابين، يقول عن طبقته انه يقصد " المنسيين في المكان والزمان.الفقراء، المرضى، الشحاذين، صانعات الخمور البلدية،الداعرات، المثليين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لا يعرفون عنها خيرا، المشردين،أولاد وبنات الحرام،الجنقو العمال الموسميين، الكتاب الفقراء،الطلبة المشاكسين، الأنبياء الكذبة، وقس على ذلك الخيرين والخيرات من أبناء وطني". عن مثل هؤلاء المنسيين كتب الكاتب السوري حنا مينا، وعلى وجه الخصوص في رواية(المستنقع)، وكتب عنهم محمد شكري المغربي الأمازيقي، والكاتب الساخر محمود السعدني من مصر،ومن غير كتاب العربية كتب عنهم الكاتب الكيني نقوقي وا ثيونقو وجابريل غارسيا ماركيز،حامل جائزة نوبل الذي رحل أثناء إعداد هذه السطور،وتناولهم في السودان صلاح أحمد ابراهيم وعلي المك في كثير من أعمالهما النثرية والشعرية. كلهم عشقوا المنسيين في مجتمعاتهم وتبنوا قضاياهم وانحازوا إليهم، لكن عبدالعزيز بركة ساكن،أو عبده بركة كما يختصر اسمه، رغم أنه اقل شهرة وانتشارا من كل هذه الاسماء، استطاع أن يغوص في أعماق شخصياته المنسية المهمشة،وأن يكتب عن حالات من الفقر والقهر والشقاء لا تخطر على بال أحد في القرن الحادي والعشرين،وأن يتناول نماذج من البشر لم يذكرها أحد من قبل،انتزعها انتزاعا من ظلمات النسيان وجسدها على الصفحات ، فجاءت كتاباته الملامسة للنفوس دقيقة التفاصيل، شديدة الصدق الذي يتحفظ عليه القلم أحيانا،وكل ذلك في خليط شفيف مذهل غير متنافر من جنون التمرد وروح التصوف وكثير من الانعتاق المتحرر من كل قيود،وكل ذلك بنهجه الخاص جدا، مما جعله (زبونا دائما للرقيب) كما تصفه بعض الأوساط الأدبية العربية. الخبر المفرح،في ختام هذه اللمحات السريعة من كتب عبدالعزيز بركة ساكن الخمسة آنفة الذكر،وهي لا تغني عن تناولها تناولا متأنيا من قبل المتخصصين، أن بعض أعمال هذا الكاتب الجميل قد تمت ترجمتها بالفعل وأخرى تجري ترجمتها للغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وهو إختراق كبير لهذه الأعمال العظيمة التي تحول السلطات الرقابية في السودان بينها وبين القاريء، فكتبه،التي صدرت لها عدة طبعات، تلقى رواجا متواصلا في معارض الكتاب وفي المكتبات في العواصم العربية، ولكنها،للأسف لا تزال محظورة في السودان،ربما لأن مشروعه الحضاري الخاص قد جاء متقدما على كافة مشاريعهم. تعظيم سلام لعبدالعزيز بركة ساكن الذي يصنع التاريخ وهو يحمل معه في مهاجره الأدب السوداني منطلقا به بخطوات واثقة وناجحة إلى العالمية. (عبدالله علقم) [email protected]
|
|
|
|
|
|