|
(ود الجزيرة)! بقلم ضياء الدين بلال
|
mailto:[email protected]@gmail.com -1-
في مساء خريفي، بمنزل العم إبراهيم حمد بالمناقل، كان ابنه الأستاذ عادل، يحدِّثُني عن دكتور عبد اللطيف البوني. عادل يعرف شغفي بقراءة الصحف، وبكتابات البوني وبشخصيَّتِه. لم أكن قد التقيته بعد، كل معرفتي به عبر ما يكتب.
عادل يحدثني عن البوني (قصصه وتعليقاته ونكاته). في مرة قال لي إن البوني قرَّر التفرغ للعمل التجاري، وسيقوم بافتتاح متجر بسوق المسيد، ربَّما لم يقلْ متجراً، وأشار لشيء آخر، ومكان مختلف. المهم كنت أشعر أن خيطاً سحرياً يربط بين عبد اللطيف البوني وعبد المنعم قطبي وسعد الدين إبراهيم. الثلاثة لهم طعم ونكهة في الكتابة مميزة، تجمع بين اللطف والعمق ودقة الملاحظات وبراعة الاستنتاج. -2- في أحد الأيام من العام 1998، بعد أشهر قلائل من عملي كصحفي محترف بصحيفة (الوفاق)، مع الشهيد محمد طه محمد أحمد، جاءني الشهيد ليخبرني أن شخصاً يريد التعرُّفَ بي. الشهيد أخفى عني اسم الزائر. كانت المفاجأة أن الشخصَ المعنيَّ، هو دكتور عبد اللطيف البوني. لم تسعني الفرحة وقتها بمقابلة الرجل: (البوني شخصياً جاء ليتعرَّف بي). هي نصف ساعة أو أكثر بقليل، وجدته على ما تصورته عليه، بشوشاً ولطيفاً، عامراً بالخير والود، كعادة إنسان الجزيرة، وهو قادر بسهولة ويسْر، على كسب محبة واحترام من يلتقيه لأول مرة. أهداني الرجل دراسة ممتعة، عن تشكل الهوية السودانية، أعدَّها لمركز الدراسات الإستراتيجية، حينما كان يشرف عليه الدكتور بهاء الدين حنفي. قرأتها في تلك الليلة باستمتاع، وكتبت عنها صباحاً بِحُب. وضع الرجل في رصيدي المعنوي عبارات ثناء وتشجيع، لا تزال إلى اليوم تعينني في مشوار مهنة المتاعب، تعينني على تعب النهار وسهر الليل وقلق النوم، وإساءات الموتورين وبعض أذى الأحبة! -3-
البوني وقف معي بدعمه المعنوي والمعرفي، في كل مراحل عملي الصحفي. تعاونت معه في صحيفة (الصباحية)، وفي مركز الهدهد للدراسات، وفي الإعداد البرامجي، وفي إنتاج الأفلام الوثائقية. وحينما كان عليَّ خوض تجربة رئاسة التحرير بصحيفة (السوداني)، تَرَك صحيفة (التيار)، التي كان يكتب فيها، وتنازل عن أسهمه، وجاء ليعينني للنهوض بـ(السوداني) من كبوَتها. لا أخطو خطوة في حياتي العامة دون الرجوع إليه، يُعاتبني برفق على حماقاتي وأخطائي في الأقوال والأفعال، وحتى على صمتي، عندما يصبح الكلام فرض عين وواجب ضمير. -4- البوني رجل شفيف عفيف، نظيف اليد، سليم الوجدان، راجح العقل، يضحك كما الأطفال، ويغضب كما الحكماء. البوني به بركات الصالحين. ربما لا تصدقونني، ولكن والله هذا ما حدث.. في مرة قال لي: رأيتك في المنام تقود سيارة بيضاء.. ضحكتُ وقلتُ له: لكنني لا أعرف قيادة السيارات في الأساس. صمت الرجل ولم يعقِّب. بعد أقل من شهرين، قرَّرتْ صحيفة (الرأي العام)، تخصيص سيارة لي، كانت زرقاء اللون، تعلمت عليها القيادة بتكلفة عالية من الإصابات والحوادث. قلت للبوني: تحقَّق حلمك، ولكن السيارة لم تكن بيضاء! ضحك ورد عليَّ باقتضاب: (لا أقصد هذه السيارة، البيضاء جاية). انتهى العام، وقرَّرت الصحيفة رفع الامتياز لسيارة أخرى، جاءت بيضاء اللون. -5- زرتُه في اللعوتة، وزارني في المناقل. علاقتنا تحوَّلت لعلاقة أسرية ممتدَّة، يرشدني للكتب الجديدة، وللمقالات المتميزة، ويلفت نظري للصحفيين النابهين. لم أسمعه يسيء لأحد، ولا يتلذذ بالاستماع لما يسيء للآخرين.
الناظم المركزي لسلوك بروف البوني، هو ذلك التواضع النقي من شوائب التصنُّع، تواضع طبيعي وطازج بلا تكلف ولا مَنٍّ. البعض يمارسون التواضع للتجمل الاجتماعي، ويُشعرونك بأنهم يتواضعون تكرماً، ويمنُّون عليك بذلك. عبقرية البوني في الكتابة، تلك المقدرة النادرة في صياغة الأفكار والآراء والمعارف الأكاديمية والحياتية، بلغة تجمع البساطة بالجزالة مع العمق، صباحه في الحقل، ونهاره في قاعات المحاضرات، وليله بين الشاشة والحرف.
حكمة البوني تطوي المسافة الفاصلة من فلاسفة الإغريق: سقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس، إلى فرح ود تكتوك والعبيد ود بدر ومكاشفي القوم. -6-
لا أعرف رجلاً في زمن تلوَّث فيه كل شيء، لا يزال نقيَّاً وطاهراً، أبيض القلب، وأخضر الضراع، وصافي النية، مثل بروفيسور عبد اللطيف محمد البوني. قبل أيام، جاءني البروف في المكتب، وقال إنه يرغب في ترك الكتابة اليوميَّة، والتفرُّغ للزراعة والبرامج التلفزيونية. غاب عن زاويته لأكثر من أسبوع، تساءل القراء وكتب عنه الزملاء في سجلات الوفاء بأحرف من ذهب. البوني مُحِبٌّ للبسطاء، عطوف على المساكين، شديد الاحتفاء بانتمائه لجزيرة الخير والوفاء. في خلقه وسلوكه تكمن عظمة إنسان الجزيرة المحب للأرض، الحفي بضيوف الليل وأبناء السبيل. بعد نقاش وجدال، اتفقنا أخيراً، على أن يأخذ إجازة لمدة شهر، ليختبر هل باستطاعته ترك الكتابة، وإيقاف التواصل اليومي مع جماهيره من القراء أم لا؟ رِهاني أن البوني سيعود لعموده اليومي بعد شهر أو أقل؛ فالرَّجُل من الذين يتنفسون بأقلامهم. سيعود بروف البوني قريباً، ليُنشد مع عبد الله شابو: قلبِي يزيدُ اتِّسَاعَاً لِكُلِّ البَشَر وأَغْدُو خَفِيفَاً تَقيَّاً.... تَسَاقَطَ عَنِّي الصَّدَأ وأَزْهَرَ فِيَّ الكَلَامُ الجَمَيل :::
|
|
|
|
|
|