أحد رجال الأعمال قال لي إنّ الذي يزور ميناء بورتسودان قد يدهشه أنّ الصادر الوحيد المُهم الذي يعبر بوابتنا نحو الخارج.. هو "البرسيم".. أو العلف الحيواني. قال لي ذلك في سياق تفسيره لأزمة الجنيه السوداني أمام العُملة الصعبة.. والقفزات المُتوالية لأسعار التحويل مُقابل العُملة الأجنبية.. فطالما أنّ (الإنتاج) يتضعضع فليس بالإمكان حَل مُشكلة الجنيه.. وليست المُشكلة في أنّ المُواطن بات الآن يتقلّب في سعير نيران المعيشة الجافة فحسب.. بل في النظر إلى الضوء في آخر النفق.. فالمّلاحظ أنّ وزارة المالية توقّفت حتى عن التصريحات المُطمئنة.. ولم يعد في الأفق حتى وعود ولو للتخدير خلال عملية جراحية لإصلاح الحال الاقتصادي. مثل هذه الأوضاع جد خطيرة من زاويتين.. الأولى أنّ مُتوالية تضعضع الإنتاج وتآكله قد تزداد سُرعتها مع غياب المشروعات والخُطط الكبيرة لمُعالجة الخلل. والثانية؛ وهي الأفجع..غياب الرؤية الجديدة التي تبني منصة انطلاق نحو حل الأزمة الاقتصادية.. فالواقع الذي بين أيدينا هو مجرد تعايش مع الأزمة.. ومُحاولة تخفيف وامتصاص النقمة لا أكثر.. وفي ذهني الأخبار التي نشرتها أخيراً وزارة المالية بولاية الخرطوم عن مراكز لبيع السلع المُخفضة.. وهو إجراءٌ يُذكِّرنا عهد الصفوف والبحث عن لقمة في عتمة ليالي الأزمات.. ويعني بالضرورة رفع الراية البيضاء والتعامل مع آثار الأزمة.. وليس جسم الأزمة نفسها.. الخلل أكثر من واضح.. البنية الاستثمارية انهارت.. نظرة واحدة لحجم الأموال السودانية المهاجرة باضطراد خارج الوطن (وخاصةً للجارة أثيوبيا) يكشف الحال المائل في الاستثمار.. وقبل يومين فُجعنا ونحن نشاهد ما حقّقته شركة (المراعي) السعودية الشهيرة التي جاءت إلى السودان بكامل إرادتها وحاولت الاستثمار في أرضينا الواسعة الشاسعة.. ولكنها عانت من (دس المحافير) واشتكت لطوب الأرض وأخيراً حملت بقايا (خفي حنين) ورحلت.. إلى أين؟؟ تصوّروا.. إلى آخر الكرة الأرضية.. كأنى بها (معزومة) على بطولة كأس العالم.. رحلت إلى دولة الأرجنتين.. وهناك أبدعت وأقامت مشروعاً يُثير الغيرة – لم أقل الفجيعة - قبل الدهشة.. السعودية الجارة الشقيقة بدلاً من أن نستقطب استثماراتها المُهاجرة.. إذا بنا نترك أكبر شركاتها تفر هَاربةً بجلدها إلى أقاصي الدنيا.. دون أن يستقيل موظف واحد أو حتى تنزل على خط الوطن دمعة حزن (أي دمعة حزن لا.. لا) على قول الفنان عبد الحليم حافظ. نستطيع أن نتحمّل الفقر والضنك.. لكن إلى متى؟ ما أسوأ من قهر الفقر إلاّ غياب الأمل في انقشاعه.. فالحديث عن خطة اقتصادية ثلاثية أو خمسية ليس كافياً لنربطه – كالحجر- على بطوننا الخاوية.. لابد من (رؤية) واضحة لا تدور حول الأزمة بل تضع النقاط فوق الأحرف بكل جرأة.. هذه (الرؤية) لا يُمكن أن تنطلق إلاّ من منصة (الحل السياسي.. أولاً).. فالأزمة وإن كانت بعض نتائجها اقتصادية لكنها في الأصل سياسية بامتياز.. متى تحل الأزمة السياسية.. الله أعلم..!! فالحكومة تعتبرها (ملحوقة)!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة