|
(كلام عابر) 45 سنة على انقلاب 25 مايو/عبدالله علقم
|
أخذت بعض الأقلام على اختلاف وعيها وأفقها تشيد في الآونة الأخيرة في الصحافة الورقية ووسائط النشر الالكترونية بسنوات الحكم العسكري الثاني (مايو1969-ابريل1985) وبقائده طوال الوقت جعفر محمد نميري، بل إن إحدى الصحف اليومية التي تصدر في الخرطوم كان عنوانها الرئيس يوم وفاة نميري قبل سنوات في تغييب جلي للذاكرة السودانية "رحيل الرئيس القائد"، رغم أن الرجل قد سبقنا لحساب الله سبحانه وتعالى، ولم يعد قائدا ولم يعد رئيسا.والرئيس القائد هو اللقب الرسمي الذي كان يسبق اسم جعفر نميري وقد ابتكره أصلا جعفر بخيت الذي شغل عدة مناصب في وقت واحد في سنوات النميري. كثيرون اليوم يتحسرون على نميري وأيامه،التي، بكل ما صاحبها من قسوة وشدة ودماء، تعتبر نعيما ورفاهية مقارنة بما آلت إليه أحوال ومصائر الناس هذه الأزمان..لم يبك الناس من خبث خل إلا بكوا عليه.الحنين لأيام نميري مؤشر محزن لحالة الإنهزام التي لحقت بالنفوس. قال الشاعر: لم أبك من زمن لم أرض خلته إلا بكيت عليه حين ينصرم وقال آخر: ونعتب عليه أحيانا ولو مضى لكنا على الباقي من الناس أعتبا في سنوات النميري كانت بداية حضانة الفساد المالي والإداري وظهور الرأسمالية الطفيلية وأسماء من خارج الحدود مثل عدنان الخاشوقجي وثريا الخاشوقجي وسليم عيسى،وإن كانت المحاكم التي أقيمت بعد انتفاضة 6 ابريل 1985 لم تعثر إلا على الجزء الظاهر للعين من جبل الجليد، وفي تلك السنوات جاء بنك فيصل الذي لم يشكل إلي اليوم إضافة حقيقية إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية رغم كل ما وفر له من امتيازات وإعفاءات، وعوضا عن ذلك مكن للرأسمالية الإسلاموية. شهدت سنوات النميري بداية إنهيار ومصرنة التعليم وتسييس الخدمة المدنية ومزاجية القفز بالعمود وتصفية الإدارة الأهلية وبداية انهيار السكة الحديد تصفية لحسابات شخصية بين الرئيس القائد والسكة الحديد، وشهدت تلك السنوات أيضا المصادرات العشوائية لأموال وممتلكات الناس، وعنف الدولة وقيام الأجهزةالامنية،وقطع أرزاق الناس بمسمى التطهير الذي تحول في مقبل السنوات لما يعرف بالصالح العام، وكان ختامها صفقة ترحيل اليهود الفلاشا سيئة السمعة. وكانت النهاية ديونا تجاوزت 13 مليار دولار أمريكي وهبوطا غير مسبوق آنذاك للجنيه السوداني من ثلاثة دولارات أمريكية للجنيه السوداني الواحد إلى أربعة جنيها سودانية للدولار الأمريكي الواحد. المضحك المبكي أنه لم يكن هناك من يتجرأ على تسمية تخفيض سعر الجنيه السوداني باسمه، بل كان يطلق عليه مسمى"تعديل سعر صرف الدولار الامريكي"، وكأنما الدولار الأمريكي عملة سودانية يتم تصنيعها في مصانع الشجرة. سنوات حكم النميري الستة عشر لم تكن كلها شرا،بطبيعة الحال، ولم تخلو من إنجازات، ففيها نشأت جامعتا الجزيرة وجوبا ومجالس البحوث المتخصصة، وشيدت قاعة الصداقة، وقصر الصداقة، ومجلس الشعب، وفندق هيلتون، وطريق الخرطوم مدني القضارف كسلا بورتسودان، وعدد من الكباري ومصانع النسيج والكناف والمدابغ ومشاريع التنمية، وإن أصبح كان معظمها فيما بعد قاعا صفصفا.وفيها أيضا تحقق السلام مع الجنوب الذي لم يصمد لأكثر من عشر سنوات بفعل بدايته المعطوبة، وفردية القرارات. وفي الواقع لابد لكل نظام حكم من انجاز ،قل أو كثر طالما كانت هناك موارد. حتي الاستعمار البرتغالي الذي يعد اسوأ وأقسى أنواع الإستعمار وأشدها استنزافا للشعوب ومواردها، إن كان يمكن تصنيف السوء إلى درجات، خلف وراءه مدنا حديثة في موزمبيق وأنجولا وغينيا بيساو والراس الأخضر.حقبة الحكم الاستعماري (أو الاستعمار الانجليزي المصري حسب مسماه الرسمي)، خلفت وراءها مشروع الجزيرة، وخزان سنار، وميناء بورتسودان، والسكة الحديد، ونظام الخدمة المدنية، والنظام القضائي، ونظام الحكم المحلي، ونظام التعليم الحديث، ومشاريع تنموية مختلفة في مناطق مختلفة من السودان، وبدرجة فساد صفرية.السودان غني بموارده التي تساعد على تحقيق مثل هذه الانجازات. بدأ نميري يساريا وقوميا عروبيا، وانتهى به المطاف في مستنقع الهوس الذي استغله بعضهم أبشع استغلال مثلما استغل غيرهم من قبل تواضع قدراته الذهنية، وتبدل لقبه من الرئيس القائد إلى الرئيس المؤمن وإمام المسلمين المسؤول أمام الله سبحانه وتعالى مباشرة دون آليات مساءلة ومحاسبة وانتخاب دنيوية،وكان طوال الوقت هو الحاكم المطلق الذي التف حوله صناع الأصنام، وخلال هذه التحولات سالت كثير من الدماء وأهدرت الموارد والطاقات واختل السلم المجتمعي، لكن رغم ذلك لم يرتبط جعفر نميري شخصيا أو أي من أفراد مجموعته العسكرية التي شكلت قيادة الانقلاب العسكري في 25 مايو 1969، وكانت تعرف بمجلس قيادة الثورة(جعفر محمد نميري، بابكر النور سوار الدهب، خالد حسن عباس، فاروق عثمان حمدالله، هاشم محمد العطا، أبوالقاسم هاشم، أبوالقاسم محمد ابراهيم، مأمون عوض أبوزيد، زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر) و بابكر عوض الله، المدني الوحيد في المجلس العسكري، جميعهم لم يرتبطوا بأي شبهة أو ممارسة فساد مالي،وإن لم يسلم بعضهم من بعض ممارسات الفساد الإداري. كانت طهارة اليد ثقافة مجتمعية سائدة آنذاك،ومن رحم نفس هذه الثقافة المجتمعية جاء من قبلهم حسن عوض الله ونصرالدين السيد ويحيي الفضلي وأمين التوم وكثيرون غيرهم من رموز الديمقراطية الأولى والثانية، الذين لم يمتلك أي منهم منزلا ولا ثروة حتى لقي ربه طاهرا نقيا من كل سحت أو حرام.كانت الفضيلة ممارسة تلقائية لذلك الرعيل الأول من القادة السياسيين مثل ممارسة التنفس والأكل والشرب. الإنقلابات العسكرية وما يعقبها ويرتبط بها من دكتاتورية عسكرية، هي من حيث المبدأ تعكس فشلا أكيدا في التعايش السلمي وضيقا بالرأي الآخر، وعدم إتاحة الفرصة للتجربة الديمقراطية لتتطور بالممارسة مثلما يحدث في العالم. في السودان لم يبلغ عمر التجربة الديمقراطية الأولى(1956-1958) ثلاث سنوات، أعقبها حكم عسكري لست سنوات، في حين أن التجربة الديمقراطية الثانية عاشت أربع سنوات فقط (1965-1969)،أما التجربة الديمقراطية الثالثة (1986-1989) فكان عمرها ثلاث سنوات لا غير. ثمانية وخمسون سنة مرت على الإستقلال السودان ورفع علم السودان ذي الثلاثة ألوان(أزرق وأصفر وأخضر) لم تتجاوز سنوات الحكم الديمقراطي المنتخب فيها عشر سنوات. النظام الديمقراطي ليست له أنياب حادة يحمي به نفسه من المغامرين من إحداث الانقلاب العسكري، أو يحاسب أولئك المغامرين بعد الاطاحة بالنظام العسكري واستعادة الديمقراطية.لم يذهب مغامر واحد انقلب أو حاول الانقلاب على النظام الديمقراطي والشرعية الدستورية،لم يذهب لحبل المشنقة ولم يواجه كتيبة الإعدام في ظل الأنظمة الديمقراطية، في حين أن قتل المعارض أو المغامر ممارسة سهلة في ظل النظم العسكرية، خالية من التبعات الوقتية.ظلت النظم الديمقراطية دائما بسجلات خالية من الدماء. الانقلاب العسكري في بلدان أخرى عملية محفوفة بالمخاطر وباهظة التكلفة ولا تنتهي أبدا بالسيطرة علي مباني قيادة الجيش ومحطة الإذاعة واعتقال عدد من القادة السياسيين. سهولة تنفيذ الانقلاب العسكري على النظم الديمقراطية في بلادنا، ومن ثم تغيير اسم الإنقلاب إلى ثورة إذا نجح الإنقلاب، والإفلات من العقاب إذا فشل الانقلاب،أو أن العقاب في أقسى درجاته لا يبلغ حد الإعدام، فتح شهية المغامرين على مر السنين بعد الاستقلال وكانت حصيلته ثلاثة أنظمة عسكرية وسبعة وأربعين سنة من حكم العسكر المباشر، وهي من أطول فترات الحكم العسكري في بلد واحد في العالم المعاصر.لقد أضرت الانقلابات العسكرية بالسودان كثيرا وبددت ثرواته وموارد البشرية والمادية،وأضرت كثيرا أيضا بالجيش كمؤسسة قومية منضبطة. سنوات الحكم العسكري الثاني(1969-1985) أو سنوات نظام مايو، التي أصبحت في ذمة التاريخ، والتي تجيء ذكراها الخامسة والاربعين، صاحبها النجاح وحسن النية أحيانا، وصاحبها الإخفاق أحايين كثيرة، ونحصد اليوم نتائج هذه الاخفاقات أكثر من النجاح. هي في مجملها تندرج في نطاق سنوات الفرص الضائعة، التي كانت مهرا قسريا للبحث عن الهوية والصيغة المثلى للتعايش بين مختلف المكونات المجتمعية، وهي مسيرة طويلة،وغاية لا تدرك إلا بمرور الزمن وتراكم التجارب، ومن الطبيعي أن يستغرق ذلك سنوات طويلة قادمة. أما الآن،و بعد مضي خمسة وأربعين سنة على انقلاب 25 مايو 1969 ، لا يملك البعض إلا أن يردد قول الشاعر: عتبت علي سلم فلما فقدته وجربت أقواما بكيت على سلم (عبدالله علقم) [email protected]
|
|
|
|
|
|