|
(كلام عابر) حكاية ميلان دي سيلفا بقلم عبدالله علقم
|
اعتدت منذ سنوات،كجزء من روتيني اليومي،أن يكون أول من أشاهده في الصباح عندما أجيء لمكان عملي في مدينة الدمام،وهو يجلس وراء أكوام من الأوراق والأختام التي تكاد تحجب وجهه.أمر من أمام مكتبه لاصعد الدرج لمكتبي في الطبقة التي تعلو مكتبه مباشرة.. مهما جئت مبكرا للعمل أجده قد سبقني للجلوس خلف أوراقه وأختامه، وفي كل يوم يرفع رأسه على وقع أقدامي، فأرفع يدي محييا تحية الصباح فيرد بصوت منخفض ولكن بابتسامة كبيرة تملأ كل وجهه وتزداد كل يوم إتساعا وإشراقا.. ميلان دي سيلفا قدم للدمام قبل أكثر من ثلاثة عقود من سيريلانكا،التي كانت تحمل اسم سيلان، والتي كان العرب يطلقون عليها قديما إسم جزيرة سرنديب، قدم ليسبقني في العمل في مجموعة الشركات التي أعمل فيها. لم أكن وحدي الذي ألف ميلان.. كلهم كانوا يألفونه ويحبونه بدرجات متفاوتة.. لم تكن علاقتي به تتجاوز هذه التحية الصباحية من جانبي والرد عليها بإبتسامة جميلة وصوت خافت من جانبه،وما عدا ذلك فكلمات نتبادلها بضع مرات في مناسبات قليلة وفقا لمتطلبات العمل القليلة هي الأخرى،وكان ذلك كافيا ومريحا لي. أبدأ يوم عملي بتلك الإبتسامة التي نربطها دائما بالحياة.كان كثير الصمت، شديد الهدوء. بنفس الصمت والهدوء ألمت به نوبة قلبية مفاجئة.. سقط على أرضية المكتب.. مرت دقائق ثمينة قبل أن يتنبه زملاؤه للأمر..عامل الوقت مهم جدا في مثل هذه الحالات لإنقاذ حياة المريض. مرت ساعات طويلة من الروتين والعجز وعدم الفعل قبل أن يستقر في النهاية في مرفق علاجي يوفره له التأمين الصحي..مرت ساعات أخرى قبل إجراء العملية الجراحية.تأخروا كثيرا. رحل ميلان. جئت للعمل صباح كالمعتاد صباح اليوم التالي لسقوط ميلان من علي كرسيه وذهابه في الغيبوبة التي لم يفق منها. نظرت بحكم العادة إلى حيث كنت أنظر كل صباح، فلم أجد هذه المرة تلك الابتسامة القديمة المتجددة. ولأن الإنسان في هذه المؤسسات الاقتصادية مجرد ترس صغير في آلة ضخمة لا تتوقف عن الدروان، فقد احتل ذات الكرسي ترس جديد من مخزون التروس الجاهز دائما للإستخدام،كان يبدو في شغل شاغل عن القادم أو الداخل لذلك المبنى الضخم الذي يضم عددا من إدارات تلك المجموعة الإقتصادية.قد يكون إنسانا طيبا،لكن يبدو أنه ليست لديه الرغبة في التطلع لداخل إلى المبنى أو خارج منه، وليست لديه ابتسامة يهديها لأحد.غمرت موجة الحزن المبنى ليوم واحد ولكن الآلة العملاقة واصلت دورانها.مثل هذه الآلات العملاقة لا تتعطل بتعطل ترس واحد، حتى لو كان ذلك الترس ميلان دي سيلفا الذي كان يبتسم طوال الوقت ويوزع تلك الابتسامة بسخاء شديد كان ينالني في كل يوم منه نصيب. الموت والحياة منذ الأزل وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها،وجهان لعملة واحدة،ولكن لا أذكر جيدا إن كنت يومها أو بعدها رفعت يدي بالتحية لشاغل المكتب الجديد مثلما كنت أفعل من قبل. (عبدالله علقم) [email protected]
|
|
|
|
|
|