|
(حاشاك يا أستاذ)! ضياء الدين بلال
|
[email protected] لا أحد في سوبا لا يعرف مزرعة الأستاذ غازي سليمان. نعم الطريق مظلم خالٍ من معالم الوصف، الساعة تقترب من الثامنة والنصف مساءً، الباب مغلق بغير إحكام، وغفير المزرعة ينبه إلى مكان باركنق السيارات، ثم يواصل الحديث مع نفسه بعبارات غير مفهومة. الطريق من باب المزرعة إلى المبنى السكني في الداخل شديد الإظلام.. ابن غازي (الشيخ) الشاب النجيب الهمام في استقبال الزوار. في داخل المبنى يتمدد على السرير جسد غازي المنهك، والرجل الشجاع يقاوم بصبرٍ وثباتٍ مرضاً عضالاً.
غازي سليمان لم يعد يسكن نمرة "2"، شمال غرب حديقة إشراقة التجاني، خرج من وسط الخرطوم، من زحامها وغبارها وضجيجها إلى هدوء مزرعته بسوبا، في مؤانسة الخضرة والمياه.
ما بعد منتصف التسعينيات، في ذلك الحي الخرطومي الراقي، حيث المنازل محصنة بالأسوار العالية والأسلاك الشائكة والحراسات المشددة، كانت بوابة غازي سليمان مشرعة على ضلفتيها أمام زوار الليل والنهار. صواني الطعام لا تتوقف، وأكواب الشاي لا تفرغ إلا لتمتلئ من جديد، ومجالس النقاش لا تنتهي إلا لتبتدر الحديث من أول السطر. غازي سليمان عمدة نمرة 2، وشيخ عرب السياسيين، ولد في الراهبات، ويعتز بجده الشيخ حامد أب عصاية سيف، لا ينقطع منزله من الزوار، من صحفيين وسياسيين وناشطين ورجال أمن، يأتون لمنزل زعيم معارضة الداخل دون مواعيد، ويدخلون دون استئذان. صحف الخرطوم عند ذاك، لا تخلو من أخبار وتصريحات غازي سليمان المثيرة للجدل، والشهيد محمد طه محمد أحمد شديد الإعجاب بغازي، ويردد دائماً: (غازي يواجه الحكومة بالكلمة لا بالسلاح، يجب ألا يضيق صدر الحكومة بأمثال غازي، حتى لا تشجع كل معارضيها على حمل السلاح). غازي رجل زاهد في ملبسه ومأكله، لا يرتدي سوى بنطاله الأبيض، مع بدلة كحلية ذات حمالات مطاطية، ويقود بمفرده سيارة (بوكس دبل قبين)، يأكل بأطراف أصابعه، وإذا اشتد النقاش يحلف بالطلاق، ثم يضحك مازحاً: (أنا أم النصر بتي بتحلف بالطلاق).
غازي سليمان سياسي على طريقته، طليق في إبداء آرائه، وجريء في اتخاذ مواقفه، لا تقيده أوامر تنظيمية، ولا تلزمه جهة عليا أو باطنية بالتحرك في مكان محدد بخطوط الطول والعرض! سياسي صنعته منابر جامعة الخرطوم، وحروب الجبال في أريتريا، وصراع الانتخابات المهنية، ومعتقلات كوبر ومحتجزات الإصلاحية في أواخر التسعينيات. أبرز ما يميز الأستاذ/ غازي سليمان المحامي، أنه رجل شجاع ومفاجئ إلى حد مُربِك لخصومه وحلفائه معاً، لا تستطيع التنبؤ بردود أفعاله، ولا بخطواته القادمات. حينما كانت الإنقاذ شديدة البأس بمعارضيها، تعاقبهم بكبد جاف وقلب غليظ وأقدام ثقيلة، فخرج منهم من خرج، وهاجر من هاجر، واختفى من اختفى؛ كان غازي سليمان من مكتبه بالسوق الأفرنجي، ومن منزله بنمرة 2، يقود ضدها معارضة مدنية شرسة. اعتقل غازي عدة مرات، وضرب في أكثر من مرة. وحينما قررت الحكومة توسيع هامش الحريات، ووضعت المعارضة سلاحها على الأرض وعادت للبلاد، بعد اتفاقيات قسمة السلطة والثروة، تنكروا جميعهم لغازي. انضم غازي للحركة الشعبية، وحينما لم يسمحوا له بالعزف المنفرد، غادرها إلى منصة الانطلاق التي بدأ منها. رجل شجاع وجسور، خارج الأطر التنظيمية، يعبر عن نفسه بصراحة متناهية، يوافق على بينة، ويخاصم على وضوح. شيئاً فشيئاً بدأ غازي يخرج من دائرة الضجيج السياسي، وانتقل مكتبه من قلب الخرطوم، ورحل من منزل نمرة 2 إلى مزرعة سوبا الحلة، وعلى مقربة من السرير أمس، اجتمع من المعارضة والحكومة، الدكتوران عبد الرحمن إبراهيم الخليفة وعلي قيدوب. كنت والصديق العزيز محمد عبد القادر، على مقربة من السرير. غازي من غفوته يفتح عينيه مرحِّباً بنا، وعلى وجهه ابتسامة مستلة من بؤرة الوجع، وبطريقته المحببة يخاطبني: (ضياء إنت زي ولدي، بتعرفني كويس، هل شفت فيني حاجة كعبة؟)، والدموع تجيب: (حاشاك يا أستاذ!). شفى الله غازي وخفف عنه آلامه، وأعاد إليه صحته في تمام العافية، إنه على كل شيء قدير. :::
|
|
|
|
|
|