أول درس تلقيته في عالم الصحافة كان في عهد ولاية الصادق المهدي لرئاسة الوزارة، كنت في بداية خُطاي أتهيّب الأسماء والمناصب والرتب، فروى لي أستاذي هاشم كرار أبيات شعر للفيتوري تقول: (إنه العدل الذي يكبر في صمت الجرائم/ إنه التاريخ مسقوفاً بأزهار الجماجم/ إنه الأرض التي لم تخن الأرض وخانتها الطرابيش وخانتها العمائم/ إنه الحق الذي لم يخن الحق وخانته الحكومات وخانته المحاكم).. وأضاف هاشموف: (إن لم تؤمن بأنك فوق هذه العمائم وتلك الرُتب، وهاتيك القفاطين، فإنك لن تنجح كصحفي). ومن يومها انطلقت. طافت بي هذه الذكرى وأنا استقبل صديقي رئيس التحرير وهو يعود من مفاوضات مُرهقة، من أجل استعادة صدور الجريدة مذ جاء، وهو يدخل عليَّ بصحبة سودانيين طيبين صالحين، وأحياناً مع بعض الإخوان ليقول على مسامعهم: دا الزول، اللي وقّف (آخر لحظة) لثلاثة أيام.. ثم يضيف: (لأن تسمع بالمُعَيْدي خيرمن أن تراه). وبما أن عبد العظيم صالح صديقي ويحق له أن يقول عني، دون أن يفزعني إلى غضب أو احتجاج، فقد عدت إلى التصاحيف، لأعرف أصل حكاية المعيدي: المعيدي تصغير النسبة إلى معد، يقال إن كثير عزة وهو أحد شعراء العصر الأموي، دخل على عبد الملك ابن مروان، وكان قصير القامة نحيل الجسم، فقال عبد الملك أأنت كثير عزة؟ قال نعم، قال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فرد عليه كثير: يا أمير المؤمنين، كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء على السناء، ثم أنشأ يقول: (ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثـوابه أسد هـصـورُ ويعجـبـكَ الطـريـرُ إذا تراهُ ويخلفُ ظنكَ الرجـلُ الطريـرُ بغـاث الطيـر أكثرهـا فراخـاً وأم الصـقـر مـقــلاة نزورُ فما عظم الرجال لهـم بفخـرٍ ولكـن فخـرهـم كــرم وخـيـرُ فـإن أكُ فـي شراركـم قلـيـلاً فـإنـي فـــي خـيـاركـم كـثـيـر). فقال عبد الملك ابن مروان: لله دره ما أفصح لسانه، وأطول عنانه، والله إني لأظنه كما وصف نفسه. وجاء في العقد الفريد (دخل ضَمْرة بن ضمْرة على النعمان بن المُنْذر، وكانت به دَمامة شديدة، فالتفت النعمانُ إلى أصحابه، وقال: تَسمع بالمُعيديّ خير من أن تراه. فقال: أيها الملك، إِنما المرء بأصغريه قلبِه ولسانه، فإن قال قال ببَيان، وإن قاتل قاتل بجَنَان. قال: صدقت، وبحَقِّ سوّدك قومُك). وهو مثل يضرب للرجل الذي له حديث وذكر، فإذا رأيته ازدريت مرآته، ذكروا أن رجلاً جاء إلى الحريري وكان دميم الصورة غزير العلم، يأخذ عنه شيئاً فلما رآه استقبح منظره، واستزراه ففهم ذلك الحريري فأملى عليه: (مَا أَنْتَ أَوَّلُ سَارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ وَرَائِدٍ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ الدِّمَنِ/ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ مِثْلَ الْمُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ بِي وَلَا تَرَنِي). قيل إن المنذر بن ماء السماء كان يبلغه عن (شقة) بن ضمرة الدارمي كثير من الأمور فكان يستعظمه، فلما قدم عليه ورآه دميماً فقال المثل: (لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فقال له (شقة) أبيت اللعن إن القوم ليسوا بجزر، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. نزولاً عند رغبة الحاكِم العام، أعود إلى تقليب هذه الذكريات، وهل من قيمة للذكرى في جرايد مستصحِف موهوم، ينشر صورته يومياً (وِشْ وقَفا)، دون مؤهلات علمية أو خبرات مهنية، ويعتقد - كحاله هو - أن الصحافة السودانية بدأت مع (دعوة الخير والحق والجمال)، التي أنشأها أحد أبناء الوِعاء.. ومعليش، تعيش كتير تشوف كتير!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة