لمحات من حياة خوجلى عبد الرحيم ابو بكر ( 1940 – 2004)

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-13-2024, 12:37 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الراحل خوجلى عبد الرحيم ابوبكر
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-13-2004, 03:32 AM

Deng
<aDeng
تاريخ التسجيل: 11-28-2002
مجموع المشاركات: 52687

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لمحات من حياة خوجلى عبد الرحيم ابو بكر ( 1940 – 2004)


    [email protected]


    خوجلى عبد الرحيم ابو بكر ( 1940 – 2004)

    لمحات من حياة

    بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته

    أ.د. / أحمد عبد الرحمن
    [email protected]

    الخرطوم 1961 :

    ونحن " برالمة " أغرار دعينا للاشتراك فى موكب طلابى صباح أحد أيام سبتمبر وفى الموعد المحدد بدأ الطلاب يتوافدون أمام داخلية النيل الأزرق قبل الثامنة ، وعند الثامنة أعتلى نائب رئيس الأتحاد وأظنه كان طالب الطب حينها ، على نور الجليل ، المنصة والتى كانت عبارة عن أحد طرفى بوابة الداخلية القصيرة وتحدث فى وقار موضحاً طريق المسيرة وماذا سيحدث . بعد ذلك أشار إلى طالب طويل القامة عريض المنكبين أن يتقدم فأعتلى ذلك الطالب المنصة مكان نائب الرئيس ، وهو فعلاً لم يكن بحاجة إلى أن يعتلى المنصة فقامته المديدة تعلو فوق الآخرين . طفق ذلك الطالب مرتجلاً كلمة قوية بصوت جهورى تتدافع كلماته متدفقة بحماسة أهتز لها بدنه . أذهلنا ذلك وأمَّنا على صدقيته بسبب ذلك . سألت زميلى المجاور والمطلع على خبايا السياسة الطلابية " من هذا ؟ " أجابنى : " اسمه خوجلى عبد الرحيم ابو الجاز . من قادة الطلاب المعتدلين ويعمل له الأخوان والشيوعيون ألف حساب" .

    بعد ذلك تحرك الجمع يردد : " داون ، داون ، ستاتيوت ناين !داون ، داون ، ستاتيوت ناين ! " وصلنا مكتب المدير وصعد أعضاء اللجنة ثم نزلوا بعد فترة وجيزة ومن ثم تفرق الجمع وهرولنا عائدين نمني النفس بطبق السمك أو الكبدة الذى ينتظرنا . فى السفرة وأثناء الفطار سأل زميلنا بعشر فى براءة " هواستاتيوت ناين الكلب ده عمل إيه؟ " ضحكنا فى سعادة .

    بعد ذلك لم يكن من السهل الا نلاحظ خوجلى فبغض النظر عن حجمه كان له نشاط سياسى وثقافى مكثف فقد قضى جزءاً من سنتيه الأخيرتين بالجامعة ضيفا على الدولة فى سجن كوبر هو وأعضاء اللجنة عدة مرات نيابة عن طلاب جامعة الخرطوم.

    * * *

    " نقد التفسير الماركسي للتاريخ" محاضرة عامة يلقيها الطالب خوجلى ابو بكر – ثالثة أقتصاد – غرفة 2 – كلية الآداب .

    قرأنا ذلك الأعلان يوماً وطبعاً ذهبنا إلى المحاضرة فحضور المحاضرات العامة كان جزءاً من برنامجنا وكنا قد تفوتنا محاضرة دراسية ولا تفوتنا محاضرة عامة سواء أكان موضوعها الجزائر أو الحرائر أو الطب البلدى . ذهبنا طبعاً ولم نستوعب الكثير فقط بهرتنا سعة إطلاع المحاضر وتصديه لمناؤئيه واعجبنا الطالب الذى لا يخشى منازلة العمالقة خاصة أن مهاجمة الفكر الماركسى فى ذلك الزمان كانت تعد هرطقه . كذلك بهرتنا دعوته إلى الأستقلالية فى الفكر والسياسة ( أشار خوجلى إلى تلك المحاضرة فى كتاب لاحق له وذكر أن سبب تقديمه لتلك المحاضرة هو أنه كان يتعرض لضغوط شديدة لتجنيده فى الحزب الشيوعى وأنه دخل فى صراعات فكرية معهم واراد بذلك أن يرد عليهم وأن ييئسهم منه ).

    بعد تخرجه فى عام 1963 لم أر خوجلى أو أسمع عنه وعلى الأصح لم يطرأ لى على بال لفترة طويلة .

    * * *

    واشنطن 1972 :

    أعداد الطلاب السودانيين القليلة اصلاً بالولايات المتحدة فى انحسار ( بسبب قطع العلاقات السياسية) حتى أصبحت السودانى الوحيد بفيلادلفيا ولذا كنت من حين لآخر أهرع إلى واشنطن القريبة نسبياً حيث موظفى السفارة على الأقل وذلك لتسنم آخر الأخبار والالتقاء بالزوار من الخرطوم . هذه المرة ألتقي باثنين حضرا لكورس قصير: عبد الحميد داود الذى أعرفه وخوجلى الذى أتعرف عليه شخصياً لاول مرة . يسألوننى عما أفعل فأرد عليهم باقتضاب ظاناً أن هذه أمور أكاديمية لا ينبغى أن أزعجهم بها . يذهلنى خوجلى بأسئلته الدقيقة فهو يريد أن يعرف موضوع اطروحتى بالضبط . اسألهم عما يفعلون وأعرف من خوجلى أنه يعمل فى مشروع الرصيرص منتدباً من المالية فى وظيفة نائب معتمد المشروع الذى هو قيد الأنشاء . تذهلنى حماسته لعمله وللمشروع وأنه بالكاد يستطيع الصبر قبل العودة وأنه هنا لتعلم بعض التقنيات التى ستساعده فى عمله . افترقنا وفى ذهنى صورة ثانية له فهو ليس فقط السياسى والمفكر الذى عرفته من بعيد بل شخص " حبوب " لا يخلو من روح الدعابة عندما تقترب منه .

    * * *

    الكويت 1984 – 1990

    فى منتصف عام 1984 حضرت إلى الكويت فى مقابلة عمل وقد حملنى أحد الأصدقاء رسالة إلى خوجلى ولم أتمكن من الاتصال به إلا فى اليوم الأخير لرحلتى علماً بأنى كنت مصراً على تسليم الرسالة . ذهبت اليه فى مكان عمله ولم أكن أتوقع أن يتذكر لقاءنا قبل أكثر من عشرة سنوات أو أن يتذكرنى . ذهلت بعض الشئ عندما وجدت أنه لا يتذكرنى فحسب بل سألنى بعد دقائق من لقائنا : " ماذا فعلت بموضوع سوق السيارات الأجنبية فى الولايات المتحدة ؟! " أجبته بأنى نشرته ثم تركته. بهرتنى ذاكرته واهتمامه بالآخرين .

    عدت إلى الكويت للعمل هذه المرة وتلقيت دعوات الترحيب المألوفة من الأخوان والأصدقاء . دعوته كانت متأخرة بعض الشئ نظراً لأسفاره الكثيرة . ذهبت مع زوجتى إلى منزله وجلسنا إلى عدد قليل عرفنا فيه على بعض الزملاء العرب . ونحن خارجون من منزلـه الاحظ فى ممر جانبى صورة رجل مهندم أعرف منه أنه والده ويخبرنى أن والده توفى وهو على رأس العمل ، موظف عام فى وزارة التجارة . نترحم عليه ونتمنى من الله أن يمنحنا اعماراً أطول من أعمار والدينا . ولم لا ؟ مع كل هذا التقدم! لا نريد أن نموت قبل أن نتقاعد ونكمل " رسالتنا " . لكن يبدو أنه لم يحظ بذلك .

    الأعياد بالكويت ، خاصة عيد الفطر ، عبارة عن سلسلة زيارات تقوم بها الأسر لبعضها طيلة أيام العيد . الجالية السودانية كانت رغم صغر حجمها مترابطة . فى أحد الأعياد أحصيت أننا زرنا أربع وأربعين أسرة وذلك شئ لم يكن يحدث لنا حتى فى السودان .

    خوجلى كانت له طريقة أخرى فهو يقوم بالاتصال هاتفياً بكل أصدقائه ويهنئهم بالعيد ويعتقد أن تلك الطريقة أجدى من القيام بالزيارة شخصياً . البعض له رأى أخر ويرى أن خوجلى غريب الأطوار أحيانا . من ناحية أخرى وضع الكويت الفريد يتطلب ذلك . حقيقة خوجلى كان دائماً يبحث عن وسيلة لمواصلة الآخرين ( سيأتى خوجلى بوسائل فريدة أخرى لتواصل السودانيين المغتربين كما سنرى لاحقاً ) .

    مثال آخر على أنه شخص فريد . فى أحد الأعياد سمعت أنه كان يرتدى جلابية " على الله " سوداء اللون . البعض لمح إلى أنه يتقرب بذلك من حزب الأمة وربما الأستوزار . لقيته وسألته عن ذلك فكان رده : " خوجلى ! انصارى ! دى ما تجيش مع اسم مثل ذلك ! "

    * * *

    " العبور إلى الشاطئ الآخر "

    عنوان كتاب له يحكى فيه قصة احتجازه هو ومجموعة النزلاء فى فندق بمدينة عدن بينما النيران والقذائف تتطاير من حولهم وذلك فى يناير 1986 . ذلك كان الصراع الدموى بين طرفى الحزب الاشتراكى اليمنى والذى استعملت فيه كل أنواع السلاح وتوفى فيه الكثيرون . وكان قد ذهب ممثلاً للصندوق العربى للإنماء يبحث مع المسئولين هنالك بعض مشاريع التنمية .

    تظهر تلك التجربة بعض صفاته النادرة وهى : شجاعته ، شخصيته القيادية ، روحه الإبداعية وروح الدعابة لديه .

    شجاعته لا تحتاج الى كثير تبيان فمن يعيش أياماً والنيران من حوله ومع ذلك يظل متماسكاً ولا ينهار نفسياً ينبغى أن يكون شجاعاً . شخصيته القيادية تظهر فى لجوء النزلاء إليه يسألونه عما يفعلون وكأنما هو قائد لهم وكانوا من كل الجنسيات العربية والأجنبية . تفكيره الإبداعي يظهر فى نصحة لهم بالثبات وعدم اللجوء اليالسفارة البريظانية وبالمشاركة فى تقديم أفكار للنجاة من البقاء فى الطبقات الدنيا وفى الجوانب البعيدة من النار ومن إدارة جلسات عصف ذهنى لتوليد والنظر فى البدائل . كذلك شارك فى إعداد برنامج ترفيهى لرفع الروح المعنوية استعاد فيه المسرحيات التى درسها فى الثانوى لكى يمثلونها بل أنه أعاد عليهم محاضرته فى الجامعة "نقد الفكر الماركسي" لشغل أفكارهم . ( ويحك خوجلى ! ها أنت فى بلد يحتضن الشيوعية وكلا المتصارعين من حزب واحد ومازلت تناقش أوجه قصور الماركسية ! ).

    روحه المرحة تظهر فى روايته قصة ذلك اللبنانى روبير الحبيس معهم والذي قفز في احدى السيارات الآتية لأخذ الفرنسيين قبل ركوب اهلها وعندما وجد ان خوجلي يرمقه باستغراب ابتسم ورد قائلا :"خيو ما تطلع فيني... من شان الله شوف لك شغلة غير روبير... نحن الموارنة محسوبين على فرنسا...شو بدك فينا".

    الاخلاص لاصدقائه وتكريم الانجازات من سمات خوجلى الأصيلة . فى عام 1987 كان من المنظمين لحفل وداع الدكتور عبد الرحيم ميرغنى الذى كان من بناة الصندوق الكويتى .. ولكنه قبل ذلك كان أول وكيل للتخطيط بوزارة المالية السودانية وواضع أول خطة عشرية لتنمية السودان كما أن له الفضل فى ابتعاث مئات السودانيين للدراسات العليا بالخارج بالبرنامج الذى بدأه حتى صار كل خريج سودانى يعمل فى الدولة يعتقد أن البعثة حق مكتسب له . كان د. عبد الرحيم (رحمه الله) فى طريقه للسودان لتقديم خبراته للحكومة الجديدة . فى ذلك الحفل وقف خوجلى يثني عليه ولم ينس أن يذكر المرأة السودانية خلف الرجل ولن أنسى جملته التى ذكرها به " مفيدة المفيدة !" اطال الله عمرها .

    (فى لاحق الايام سيقوم خوجلى بجهد كبير لتكريم سودانى مميز آخر كما سترى أدناه).

    * * *

    " تالتـن " :

    فى أغسطس 1990 غزا صدام الكويت ووجدنا أنفسنا كالأسرى . كانت هنالك حالة انعدام أمن داخلى ومن الخارج تتوالى الأخبار بالحشود العسكرية والأساطيل المتهجة إلى الخليج وكل الدلائل تشير إلى أن الحرب قائمة وستكون الكويت هدف الضربات . الجو مرعب والتوقعات سيئة والكل ينشد السلامة وكل يوم نسمع عن معارف غادروا عن طريق السعودية إلى أن قفل ذلك المنفذ . كنا مجموعة من المهنيين وكان خوجلى من ضمننا نجتمع كل يوم لنتفاكر فيما نفعل . البعض ضاق من الأنتظار ومن جدال المتعلمين الذين ينتظرون إلى أن يتهيأ الجو للخروج حتى يخرجوا بما فى ذلك " تواليت متنقل " كما علق أحدهم على جدل المتعلمين . أخيراً تقرر أن يخرج الناس فى رتل كبير من السيارات يوم 14 أغسطس وفعلاً تم ذلك بأكثر من مائة سيارة ازدادت بعد ذلك ولم يكن مستغرباً أن يتشتت الناس بعد فترة طوال الطريق من صفوان – البصرة - بغداد – طريبلة حتى الرويشد على الحدود الأردنية . لم التق خوجلى الا بعد اسبوع فى الأردن . قابلته فى السفارة فى عمان واخبرته انى افتقدته وسألته لم لم يظهر من بدرى ؟ اخبرنى انه اضطر إلى الرجوع الى بغداد قبل ان يدخل الأردن . استغربت وهل هنالك من يغامر بالرجوع إلى دار الحرب وهو على مدخل دار السلام ؟‍ اخبرنى أنه كان عليه أن يرافق السيدة الوزيرة المفوضة فاطمة البيلى وخادمتها حيث أنها أعلمت أنها كدبلوماسية لا يحق لها أن تخرج بتلك الطريقة وأن هنالك ترتيبات خاصة بالدبلوماسيين وعليها أن تعود إلى بغداد . تبرع خوجلى بأصطحابهن كما أخبرنى وأضاف " بقيت تالتن ‍‍!‍‍‍‍‍ ‍ " فى إشارة إلى المثل السودانى المعروف أجبته : حاشاك أن تكون " تالتن "‍‍‍ ‍‍!

    * * *

    الخرطوم 1990 – 1991 :

    عدنا إلى خرطوم الأنقاذ معدمين من الكويت فقدنا العمل والممتلكات والكل غير مصدق ما حدث والكثيرون يتوقعون العودة إلا أن حلم العودة بدأ يتلاشى تدريجياً وأصبحنا نفكر فى لملمة حياتنا . فى أثناء ذلك نبحث عن الأعمال الاستشارية المؤقتة . حدثنى خوجلى عن دراسة استشارية فى مناقصة يعد لها مكتب صديقه د. جعفر كرار ودعانى إلى الأنضمام لهما لنصير فريقا ثلاثياً لكن الدراسة لم ترس على المكتب . كان علينا البحث عن بدائل دائمة . من جانبى قررت الا مكان لنا فى سودان الإنقاذ حيث الولاء قبل الكفاءة على جميع المستويات بالرغم من عروض بعض الاخوة فقررت العودة إلى الي الخارج واتصلت بى جامعة الملك سعود تجدد عرضاً قديماً فقبلت هذه المرة .

    خوجلى كان أكثر حظاً من كثيرين حيث ظل الصندوق العربى يدفع رواتبهم ولم يطلب منهم سوى البقاء على أتصال . غير أن خوجلى لم يرض بذلك وقرر أنه باق فى بلده وسيبحث عن موقع يستفيد من طاقاته . إدارة الصندوق العربى من جانبها كانت فى حيرة ماذا ستفعل بموظفيها عموماً والسودانيين خاصة فحتى لو عادت الكويت ستمثل عودتهم اشكالية, فكان ان أعلنت الادارة مضاعفة مستحقات ما بعد الخدمة لكل من يستقيل طوعاً . قليلون من قبلوا ذلك حيث أنه يعنى فقدان دخل دائم ومنافع أخرى مقابل مبلغ مقطوع . بيد أن خوجلى اختار الاستقالة وقرر البحث عن عمل مناسب محلياً وطفق يدق على أبواب الوزارات والمؤسسات ذات الصلة ويقدم خدماته .

    فعل ذلك على الرغم أنه كان بإمكانه الاستمتاع بالراتب الشهرى بالدولار بدون عمل أو مسئولية لعدة سنوات ومن ثم العودة إلى الوظيفة الدولارية الجذابة بعد ذلك .

    تركت السودان فى سبتمبر 1991 للعمل فى السعودية ولم أسمع من أو عن خوجلى لفترة طويلة لكننى علمت أنه اصبح مديراً لبنك الغرب الأسلامى لعدة سنوات وهى فترة لا يحكى عنها كثيراً لكن يبدو أنه لم يستطع التأقلم مع ممارسات العمل فى السودان وأكسبه أسلوبه الصريح عداوة البعض فقرر الاستقالة أخيراً .

    * * *

    الكويت : 2000 – 2004 :

    عاد خوجلى إلى الكويت عام 1997 فيما أظن, للعمل كمدير لقسم البحوث بالمؤسسة العربية لضمان الاستثمار وقد ترك بصماته فى عمل المؤسسة إذ تعددت النشرات التى كانت تصدرها ورفع إنتاجية العاملين وأصبح مدير المؤسسة يعتمد عليه كثيراً وسرعان ما حل مكان مدير العمليات الذى توفى وتغير أسم أكبر قسم فى المؤسسة ليصبح"العمليات وتنمية الاعمال" وفى ذلك مؤشر للتوجه المتوقع . ( من سخرية الأقدار أن سلفه الذى يجاوره فى السكن مات على رأس العمل فتلك وظيفة قاتلة ، مات فى نفس المبنى ولم تكتشف وفاته الا بعد يومين وكان يمكن أن يكون ذلك مصير خوجلى لولا عناية الله إذ أنه توفى فى الطريق إلى المستشفى . ) أشفقت عليه من تلك الوظيفة خاصة أنه كان تعرض لذبحة صدرية قبل فترة لكن مع حماسه الدافق لا تستطيع أن تذكر أية تحفظات .

    وسط الجالية السودانية كان خوجلى دائماً يسعى إلى جمع الناس بأقتراح الرحلات الخارجية وما شابه . فى آخر عيد يحضره بالكويت أقترح ونظم يوماً للأسر فى حديقة فندق المريديان وتحصل من الإدارة على خصم لوجبة البوفيه فحضر ما يزيد عن ثلاثين أسرة . لم يعد يكتفى بالاتصالات الهاتفية كما كان يفعل فى الماضى . فى شهوره الأخيرة فأجأ أسر كثيرة بزيارتها وسروا بذلك . وكان الأطفال أكثر من يحب وكانوا يبادلونه الحب . فى مرة أخبرتنى أبنتى أن فلاناً أتصل هاتفياً " ومن فرط ظرفه ظننته عم خوجلى ‍! " وبالرغم من أنه كان يفاجئ الناس بزيارته إلا أن البعض كان يتضايق كون خوجلى يخبر الناس بالأوقات التى يمكنهم زيارته فيها ( كذلك كان له شئ كالديوانية ( زرياب ) فى المغتربين ببحرى يستقبل فيها أصدقائه من الرجال فقط كل يوم أثنين . أحد الظرفاء علق قائلاً أجمل ما فى ديوانينك هذه أنها للرجال فقط تتخلص فيه منا الزوجات لمدة يوم ) . تحديد وقت الزيارة كان محاولة من خوجلى لتنظيم الاجتماعيات وربما بسبب النظام الدوائى والعلاج الذى كان يتبعه . وفائه لاصدقائه وتكريم المميزين منهم ظهر مرة أخرى عندما قاد حملة لتكريم السيد مأمون إبراهيم حسن أحد قلائل السودانيين الذين تبوأوا رئاسة منظمة عربية ( واحد من اثنين ) لكنه صاحب أطول فترة فى رئاسة منظمة عربية . أتصل بالفنان الكابلى واقنعه بالحضور إلى الكويت ( رغم ضعف العائد المالى ) ورتب موضوع اقامة الحفل وإدارة تكلفته وجمع إيراداته الخ (طبعا بمعاونة بعض الاخوة) فكان أن أبهج الجالية السودانية لمدة أسبوع . قام خوجلى بذلك رغم أن الكثيرين ظنوها مهمة مستحيلة.

    فى إبريل تلقى خوجلى النوبة القلبية الثانية وهذه المرة رأى الأطباء أن بإمكانهم أجراء عملية ودخل المستشفى فى أنتظار وصول الشريان من دبى . أجريت العملية بنجاح وطلب إليه أخذ فترة نقاهة طويلة . التزم البيت فزرناه نعوده وحملت اليه قصيدة لأبى الطيب وأشرت إلى الأبيات :

    وهل ترقى إلى الفلك الخطوب



    ايدرى ما أرابك ما يريب



    وأنت لعلة الدنيا طبيب



    وكيف تعلك الدنيا بشئ



    وأنت المستعان لما ينوب



    وكيف تنوبك الشكوى بداء




    لم يتوقف عندها وقفز يذكر بيتاً آخر للمتنبى :

    وحب الشجاع النفس أورده الحربا



    حب الجبان النفس أورده التقى






    وبعد أقل من أسبوعين وقبل أن تنتهى فترة الراحة كان على رأس العمل . حقيقة تلك كانت تركيبته ، لا يستطيع أن يبقى خامداً وبيت المتنبى الأخير يعبر عن حقيقته " فالتقى " بالنسبة اليه هو الخلود الى الراحة والدعة والبعد عن ما يقصر العمر . والحرب هى النزال فى ميدان العمل الذى لم يكن يطيق البعد عنه . كان يذهب إلى العمل فى يوم العطلة الأسبوعى وفى الأيام العادية يحضر مبكراً ويخرج بعد الأخرين وعندما سمعنا خبر وفاته رفضنا التصديق وقلنا أنه فى أجازة علماً بأنه كان قطع أجازته ليحضر للعمل لمدة يومين . وعندما سألت أحد مسئولى المؤسسة أخبرنى أنهم لم يستدعوه . وظنى أنهم ربما أتصلوا به يسألونه شيئاً فما كان منه إلا أن أغتنم الفرصة وحضر بنفسه. وفى نهاية دوام الأثنين وزملاؤه يستعدون للخروج كان أخر ما قاله لهم : " يا جماعة العمل لذيذ . لماذا لا نستمر فى العمل ‍! " .

    كان أحيانا يقول أنه مازال يبحث عن التحديات ويشعر بأن بإمكانه فعل الكثير من أجل بلده وقومه . ظل كذلك طول عمره مدمن عمل ودائماً يبحث عن تحد جديد . غير أن جسده لم يعد يحتمل. أرهق جسده وأنهك قلبه وكما يقول شاعرنا :

    تعبت فى مرادها الأجسام



    إذا كانت النفوس كباراً




    توقف قلبه لأنه لم يعد يستطيع أن يجارى صاحبه!

    خوجلي كان دائما مشغولا بهموم الوطن يزوره عدة مرات في العام وكان دائما يفكر في العودة والعمل هناك وقد جرب ذلك كما رأينا في التسعينات لعدة سنوات واصطدم بأسلوب وبيئة العمل. نشاطه واهتمامه بالشأن العام لم يتوقف بعد تخرجه فهاهو يكتب الى محرر مجلة نيوزويك يرد على كتابات تتهم السودان بممارسة الرق او يكتب الى جريدة خليجية مفندا رواية مايوية عن كيفية مقتل الامام الهادي او يكتب الى جريدة سودانيةعن آخر العمالقة"مأمون بحيري" او عن الأستثمار في التعليم الخ... لإي مرة أريته مقالة كتبتها عن حتمية انفصال الجنوب رد انه من جيل خدم في اقاصي السودان ولن يقبل بذلكز

    بيد أنه فى أيامه الأخيرة بدأ يذكر كيف أنه وزع ما يملك على ورثته وأنه قرر العودة النهائية ويريد أن يقضى بقية حياته وسط أهله وأحبائه . يريد أن يعود ليستعيد ذكرياته مع الأخوان وربما يكتبها . يريد أن يستمتع بوجبة " سخينة دنيا " ( كما كان يسميها ) مع الأحباب.

    لكن الأرادة الألهية لها رأى آخر .

    مات ولم يجد الوقت لوجبة " سخينة " مع الأحباب حتى !

                  

09-14-2004, 10:53 AM

محمد الامين احمد
<aمحمد الامين احمد
تاريخ التسجيل: 08-28-2004
مجموع المشاركات: 5124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لمحات من حياة خوجلى عبد الرحيم ابو بكر ( 1940 – 2004) (Re: Deng)

    رحمة الله رحمة واسعة و اسكنه فسيح جناته مع الشهداء و الصديقين


    الوالد خوجلى صورة حقيقية للسودانى ود البلد يكل ما فيه من جماليات و شهامة

    شكرا سيد/ دينق على نقل هذا الموضوع
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de