ورقة الدكتور الواثق كمير.. صيحة أمينة، لمثقف حر..

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 01:21 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-06-2006, 08:22 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48789

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ورقة الدكتور الواثق كمير.. صيحة أمينة، لمثقف حر..



    Quote: Last Update 06 ديسمبر, 2006 09:24:41 PM

    السيد الصادق المهدي ومشروع السودان الجديد: من يدعو للاستقطاب؟

    د. الواثق كمير
    [email protected]

    مقدمة

    شاركت في "المؤتمر العام لاتحاد الكتاب السودانيين"، 19 سبتمبر 2006، بتقديم ورقة بعنوان "السودان الجديد: نحو بناء دولة المواطنة السودانية" وسعدت كثيرا بما لاقته الورقة من نقاش وحوار، إذ حظيت باهتمام عدد من الكتاب والباحثين والمهتمين بمستقبل الوطن من جنوب وشمال السودان، على حد سواء، وعقب عليها كثيرون من بين مؤيد لرؤية السودان الجديد ومضيفا إليها، أو منتقد لها بموضوعية، بينما رفضها البعض مبدئيا وكلية. ذلك بجانب من فضلوا إشباع رغبات ذاتيه فطرحوا أسئلة (ظنوا أنها محرجة) على شاكلة: هل توافق على زواج ابنتك من "جنوبي"؟، ولماذا أراد جون قرنق أن يحتسى القهوة في "المتمة"؟ وهذا عرض "بره الزفة". وبذلك تكون الورقة قد حققت هدفها الرئيس الذي حددته في مقدمتها ألا وهو "إذكاء وإثارة النقاش والحوار حول مفهوم السودان الجديد". وللمضي شوطا أبعد بالحوار حول بناء دولة المواطنة السودانية والذي اقترحته الورقة، يهدف هذا المقال إلى كشف أوجه القصور وتبيان مواطن الخلل في خطاب المعارضين لمشروع السودان الجديد والمناوئين له. ويقوم المقال على فرضية أساسية مفادها أن المرء قد يتفهم موقف الرافضين للمشروع من السودانيين الجنوبيين فهم، كما عبروا بصراحة، لا يطمحون في وحدة السودان، قديما كان أم جديدا، ويتأهبون للتصويت "بنعم" لدولة جنوب السودان المستقلة في الاستفتاء المرتقب. كما ألمس العذر للأستاذ الطيب مصطفى، صاحب الانتباهة، والذي ينأى جهرا بنفسه عن أي وحدة مع السودانيين الجنوبيين، بل ويتزعم منبر الانفصال في شمال السودان.



    هذا المقال يركز على تعقيب السيد الصادق المهدي على الورقة في جلسة "إفادات القوى السياسية" ضمن فعاليات المؤتمر العام لاتحاد الكتاب السودانيين والذي نشرته صحيفة "أخبار اليوم" في عددها الصادر بتاريخ 22/9/2006 وملاحظاته المكتوبة التي بعث بها للاتحاد. ولعل حكمة اختياري للرد تحديدا على السيد الصادق هي أن تعقيبه قد صادف هوى في نفوس الداعين للانفصال، من الشمال كانوا أم من الجنوب، حتى أن الغم الذي أصاب الطيب مصطفى "جراء قراءة مداخلة د. بشير البكري على ورقة الأكاديمي الشيوعي الواثق كمير حول مشروع السودان الجديد خاصة حول علاقة الحركة الشعبية بالدين والشريعة" (الانتباهة، 28/9/06) قد زال عنه في اليوم التالي حين قرأ "ملخصا لمداخلة الصادق المهدي الذي قال في مشروع السودان الجديد وورقة كمير أكثر مما قال مالك في الخمر، بالرغم من أن الرجل لم يقل كل ما يعلم أو كل ما ينبغي أن يقال". (الانتباهة، 28/9/06) فهل أضحى السيد الصادق المهدي من اليائسين في وحدة السودان ومن الداعين للانفصال، ولو بمواربة وعلى استحياء؟



    وللإجابة على هذا السؤال، سيتبع المقال منهجا يقوم على تحديد القضايا التي اختارها السيد الصادق بعناية وانتقائية بعد انتزاعها من سياق مشروع السودان الجديد كما استعرضته الورقة، فأصبح كمن أمعن النظر في الشجرة فتاهت عنه الغابة! فلا غضاضة في أن يختلف السيد الصادق مع مشروع السودان الجديد، بل هذا متوقع ومطلوب، ولكن الموضوعية تستدعى مقاربة المشروع كحزمة متكاملة من المبادئ الأساسية أو بالمقابل طرح فكر مغاير أو مشروع جديد لإدارة التنوع والتعدد في السودان يحفظ له وحدته ويعامل كل أهله كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وذلك بدلا من الاكتفاء بوصم المشروع وتصويره في جملة واحدة بأنه "كان اشتراكيا ماركسيا في عهد التحالف مع مانقستو هايليمريم، وصار في ظل تحالفاته الجديدة علمانيا، أنجلوفونيا، أفريقانيا"، كما جاء بالحرف في ملاحظاته المكتوبة، بدون تحليل موضوعي أو تقديم البراهين والأدلة المقنعة. كما استخدم السيد الصادق لغة عنيفة وأسلوب جاف تراوحت تعبيراته بين "يا هذا" (ويقصد الواثق كمير) و"حدية" و"قطعية" و"استقطاب سياسي حاد"، فهو يرى، كما جاء في هذه الملاحظات "أن ما ورد من تصوير للسودان الجديد في الورقة فانه مشروع استقطاب جديد"!. فمن هو، يا ترى، الذي يدعو للاستقطاب ويروج له؟ سنجيب في بقية المقال على هذا السؤال.













    السيد الصادق والسودان القديم



    يقول السيد الصادق المهدي أن "الورقة حملت على السودان القديم بصورة غير موضوعية"، فهل هذا صحيح؟ حقيقة، لو لم أكن متأكدا بأنني "الواثق كمير" المعنى لحملني الظن بأن السيد الصادق يتحدث عن ورقة كتبها كمير آخر! فقد شددت في الورقة على أن أحد مصادر اللبس والتشويش حول مفهوم السودان الجديد في علاقته مع السودان القديم هو أن كثيرين أغفلوا اعتبارا منهجيا هاما في هذا الخصوص. فالسودان الجديد ليس بنقيض للسودان القديم، كما أن الرؤية لا تهدف إلى هدم السودان القديم كليةً وبناء سودان جديد على أنقاضه كما ظن السيد الصادق وتوهم آخرون. فبناء السودان الجديد هو بالأحرى عملية "تحويلية" (Transformative) قوامها إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية جوهرية وإعادة هيكلة سياسية تستصحب كل العناصر الإيجابية في السودان القديم مسترشدة بكل تجاربنا التاريخية والمعاصرة، ومدركة بل ومؤهلة لمجابهة التحديات الضخمة للقرن الحادي والعشرين. هذا ما جاء في الورقة وبالحرف الواحد. كما أن السيد الصادق أساء الظن أيضا باعتقاده خطأ بأن مشروع السودان الجديد لم ينصف التجربة الديمقراطية ولم يعطها حقها إذ أن المشروع لا ينظر للسودان القديم إلا من خلال ثقوب الديمقراطية وتضخيم عيوبها وعثراتها، وكأنما يضمر عداءا للنظام الديمقراطى في دوراته المتعددة. فهو يرى أن الورقة اعتبرت كل التجربة الديمقراطية السودانية "ظلاما متصلا خاليا من الايجابيات". وفى رأيي، يرجع سؤ الظن هذا، والصحيح سؤ الفهم، للقراءة الخاطئة والاقتراب المبتسر لمشروع السودان الجديد، كما سأبين ذلك لاحقا.



    أولا: بينما لم تفرد الورقة إلا فقرة واحدة (ستة عشر سطرا بالتحديد) تعرضت فيها للحكم الديموقراطى وحقوق الإنسان كأحد الدعائم الأساسية لمشروع السودان الجديد، استفاض السيد الصادق في الدفاع عن النظام الديموقراطى عندما كان هو في سدة الحكم وخصص لذلك 60% من ملاحظاته المكتوبة، وكأنما هو شخصيا المقصود بهذه الفقرة! فاختار موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان بانتقائية ملحوظة من بين مجمل مكونات أساسية لرؤية السودان الجديد فصلتها الورقة في، 1) بلورة هوية سودانية متجذرة في تنوع المجتمع السوداني وتعدد ثقافاته وأديانه وأعراقه بدون استبعاد أي من المحددات الجوهرية في سياق عملية للبناء الوطني تستوجب إمعان النظر داخل السودان، وليس خارجه، واستصحاب تجارب الآخرين وصولاً لتكوين أمة سودانية متفردة، 2) تأسيس وحدة الوطن على المجموع الكلى للعناصر التي تشكل جميعها التنوع التاريخي والمعاصر للسودان ولا تقتصر، كالوحدة التي قام عليها السودان القديم، على عاملين اثنين فقط (العروبة والإسلام) بينما تجاهلت مكونات حيوية ومفتاحيه أخرى، 3) إعادة هيكلة السلطة المركزية بصورة تضع في الاعتبار مصالح كل المناطق والقوميات المهمشة، مع التشديد على لامركزية السلطة عن طريق إعادة تعريف العلاقة بين المركز والأقاليم، 4) الحكم الديموقراطى الذي يقوم على حماية حقوق الإنسان بحيث لا تكون الديمقراطية فيه صورية أو مجرد إجراءات تعمل على استدامة المصالح المكتسبة لمجموعات بعينها أو وسيلة للتنافس على السلطة فحسب، بل كنظام تنافسي لترسيخ الحكم الراشد وضمان توفير وتطوير الخدمات الاجتماعية لكل أهل السودان، و5) التنمية المتوازنة والمستدامة من خلال تطوير منظومة اقتصادية تضمن التوزيع العادل لثمار النمو وتضع حدا لكل أشكال التهميش والحرمان.



    إذن، يتشكل مشروع السودان الجديد من حزمة متكاملة من المبادئ الأساسية يقود انتقاء بعض منها، أو اختزالها دون اعتبار لعلاقتها العضوية ببقية المبادئ وتفاعلها مع بعضها البعض، إلى فهم خاطئ وقاصر. فماذا نرجو من الديمقراطية إن لم تفض إلى سودان تكون فيه المساواة والحرية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية واقعا ملموسا يعيشه الناس، وليس مجرد شعارات تردد دون محتوى؟ وما معنى الديمقراطية إن فشلت في حسم قضايا البناء الوطني التي تشكل جزءا لا يتجزأ من جملة مبادئ السودان الجديد؟ وهذا هو كل ما نتطلع إليه وندعو له. فهل هذا يعد تجنيا أو تحاملا على ديمقراطية السودان القديم؟ وهل يفهم القارئ من توصيفنا هذا للديمقراطية التي نصبو لها أن كل التجربة الديمقراطية السودانية لم تكن إلا "ظلاما متصلا" كما ذهب السيد الصادق في تعقيبه على الورقة؟ وللمفارقة، فان السيد الصادق نفسه يعترف، وعلى حد قوله، بأن 1) "الديمقراطية الليبرالية التي مورست خلت من التوازن المطلوب وكفالة حقوق مشروعة لجماعات وطنية. هذا العيب لحق بممارسة الديمقراطية الليبرالية في وطننا وفى بلدان كثيرة أخرى"، و2) "مورست العلاقات الخارجية بصورة غير متوازنة مما انحرف بها بصورة تتطلب توازنا مشروعا". فهل يكفل السيد الصادق حق انتقاد التجربة الديمقراطية ويحله لنفسه، بينما يحرم هذا الحق على الآخرين ويحرمهم منه؟

    ثانيا: يأخذ السيد الصادق على الورقة أنها ساوت "بين احتكار السلطة في أيدي قليلة سواء كانوا ضباطا أو أحزابا أو أسرا أو طوائفا. هذه المساواة هي بالضبط استنساخ لحجة الشموليين الذين استباحوا بها التعدي على حقوق الإنسان والتسلط على رقاب أهل السودان. كيف يجوز لكاتب موضوعي أن يساوى بين نظام التزم بالحريات العامة وحقوق الإنسان ونظام بدأ عهده بمصادرتها؟" هذا مثال صارخ آخر للانتقائية وانتزاع النصوص قسرا من سياقها التي وردت فيه عند استعراض الورقة للدعائم الأساسية لمشروع السودان الجديد. ففي معرض التفسير للمقصود بإعادة هيكلة السلطة، قلت وبالحرف " وهذا يعنى ابتداء إعادة هيكلة السلطة المركزية بصورة تضع في الاعتبار مصالح كل المناطق والقوميات المهمشة، سواء أولئك الذين حملوا السلاح أو الذين ظلوا يعارضون بصبر وفى صمت. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء احتكار السلطة في يد فئة قليلة أيما كانت خلفياتهم، وسواء جاءوا في زى الأحزاب السياسية أو أسر حاكمة أو طوائف دينية أو ضباطا في الجيش". فهل يشير هذا، من بعيد أو قريب، أو يستشف منه خلط أو مساواة بين أشكال الحكم المختلفة، خصوصا بين نظام يكفل الحريات وآخر يصادرها؟



    في رأيي، أن هذا الفهم الخاطئ يرجع، بجانب قراءة خارج حزمة المبادئ الأساسية لرؤية السودان الجديد، إلى الاختلاف بيني وبين السيد الصادق في تشخيص أدواء السودان القديم، ومن ثم أسلوب وطريقة معالجتها. فالعلة الجوهرية للسودان القديم، بعكس ما يعتقد السيد الصادق، لا تكمن فقط في شكل نظام الحكم، مدنيا أم عسكريا، ديمقراطيا أم شموليا، (ولا يعنى أنها متماثلة أو متطابقة، أو أن لا فرق بين نظام وآخر) إنما في الرؤية القاصرة للنخب التي آلت إليها السلطة السياسية بعد رحيل المستعمر وعجزها عن إدارة التنوع العرقي والإثنى والثقافي للمجتمع السوداني. إذن، فسياسات النخبة الحاكمة هي المحك، وليس شكل الحكم. فقيادات تاريخية مثل تيتو ونكروما وجمال عبد الناصر وليبولد سنغور، لم تحكم من خلال أنظمة ديمقراطية ولكنها نجحت في خلق أطر قومية لتأسيس الدولة-الأمة وظلت شخصيات تمجدها شعوبها ويذكرها التاريخ. فأزمة الهوية الوطنية ليست بظاهرة سودانية فحسب، بل أفرزتها نظم الحكم في أغلب أنحاء القارة الأفريقية. فقد انتهجت النخب الحاكمة، مدنية أم عسكرية، سياسيات أفضت إلى إقصاء قطاعات واسعة من أهل السودان من المشاركة في الحكم وبالتالي تهميشها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما حرض المهمشين إلى اللجؤ للمقاومة، إذ لم تعد هذه القطاعات الواسعة مشاركة أو صاحبة حق في حكومات يفترض أنها تمثلها. إن المهمشين، وليس مشروع السودان الجديد، هم الذين يساوون بين نظام الحكم الذي يكفل الحريات وذلك الذي يصادرها، فالنظامين عندهم سيان طالما أحسوا بالإقصاء وتذوقوا مرارة الاستبعاد. فإن تحدثت إلى المستضعفين في أصقاع السودان النائية عن الديمقراطية فلا شك سيقولون "ما نوع هذا الحيوان!". فدائما ما تنتهي السلطة بيد مجموعة أو مجموعات معينة من شمال السودان، وهذا ما وصفه الراحل قرنق "بالصدف التي لا تحدث صدفة!" فهل تجاوزت الموضوعية وتخطيت حدودها كما يرى السيد الصادق المهدي؟ لا أعتقد ذلك، فالسيد الصادق نفسه اعترف كما ذكرت سابقا وبالحرف بأن "الديمقراطية التي مورست خلت من التوازن المطلوب وكفالة حقوق مشروعة لجماعات وطنية. هذا العيب لحق بممارسة الديمقراطية الليبرالية في وطننا وفى بلدان كثيرة أخرى".



    ثالثا: من فرط سؤ ظنه في مشروع السودان الجديد كنقيض للديمقراطية، يرى السيد الصادق أن الورقة تحدثت عن "السودان القديم بمظهريه من 1956 إلى 1989 ومن 1989 إلى 2005، جامعة بين المظهرين في ليل ظلامي واحد. هذا تحامل جائر لأنه تجاوز عن سياسات وممارسات نظام مايو الظلامية، وسياسات وممارسات نظام "الإنقاذ" الدموية وألحقهما بعهود ديمقراطية خلت من تلك السياسات والممارسات". كما أن الورقة‘ على حد قوله "حاكمت النظام الديمقراطي بممارساته وطالبت أن يحاكم السودان الجديد بنواياه لا بأفعال رواده. لو صحت هذه الرخصة لجاز لجماعة "الإنقاذ" أن يطالبونا بالحكم على تجربتهم بأنهم إنما قصدوا إنقاذ السودان. إذا صحت هذه الرخصة لما قيل لأداء بعض الناس "جاء يكحلها عماها" و "جاء يتفولح جاب ضقلها يتلولح!". بتعليقه هذا، يعتبر السيد الصادق أن السودان الجديد هو ذات ونفس السودان القديم ربما ناقص فترات النظام الديمقراطي، من جهة، وأنه مساويا أو صنوا لنظام "الإنقاذ" في عدائه للديمقراطية، من جهة أخرى. ومربط الفرس أن السيد الصادق يتوهم أن مشروع السودان الجديد والداعون له يتربصون به ويضمرون له عداءا شخصيا كحارس أمين ومؤتمن على الديمقراطية، وهو عداء ترجمته جماعة "الإنقاذ" إلى فعل فأطاحت بحكمه في 30 يونيو 1989. وفى هذا خلط شديد وتمويه جلي لقضايا البناء الوطني من وحدة طوعية وسلام مستدام التي طرحتها الورقة للنقاش. فمن جانب، فإن مشروع السودان الجديد ليس بنظام حكم إنما إطار قومي لبناء دولة المواطنة السودانية يشترك فيه ويتراضى عليه الجميع، فهو لن يأت على ظهر دبابة أو عبر فوهة مدفع حتى يحاكمه الناس بنواياه المعلنة في بيانه الأول! ومن جانب آخر، فالورقة لم تقصد أصلا وليس من بين أهدافها المقارنة بين أنظمة الحكم "الظلامية" والنظام الديمقراطي (بصرف النظر عن من يكون على رأسه). وذلك رغما عن أن المقارنة مشروعة، بل ومطلوبة لتبيان الفروق بين هذه الأنظمة واستلهام الدروس، ولكنها ببساطة تقع خارج نطاق الورقة المعروضة للنقاش والحوار. كما أن هذا الموضوع قد طرقه آخرون وباتت هذه الفروق واضحة حتى أصبح من ينادى بالعودة إلى الشمولية يعتبر في حكم "فرعون وقلة عقله"! فالورقة تناولت الديمقراطية بوصفها أحد الركائز الأساسية لبناء السودان الجديد والتي لا يختلف اثنان على تناقضها التام مع الشمولية والتسلط مما يجعل التطرق لمثل هذه الأنظمة بالتقريع والإدانة، في سياق مشروع السودان الجديد، كتفسير الماء بعد جهد بالماء!



    رابعا: وحتى وان بادرت أنا، أو أي كاتب آخر، بدراسة مقارنة بين النظام الديمقراطي (في دوراته المتعددة) والنظام الشمولي (في أثوابه المتعددة) لخاب أيضا ظن السيد الصادق فيما قد تتوصل إليه الدراسة من نتائج. فمن ناحية، ليس من الموضوعية في شيء أن نقفز فوق بعض انجازات الأنظمة الشمولية مهما اختلفت الآراء حول تقييم هذه الانجازات. النظام العسكري للفريق إبراهيم عبود، مثلا، شهد عهده طفرة اقتصادية في مجالي البنيات التحتية وصناعة السكر صحبها رغد في العيش، مما جعل البعض يهتفون باسمه بعد الإطاحة بحكمه "ضيعناك وضعنا معاك يا عبود!". ونظام مايو، رغما عن فساده وإفساده، نجح في وقف الحرب لفترة في جنوب السودان وتوصل إلى اتفاقية سلام منح بموجبها الجنوب حكما ذاتيا كان يصبو إليه، مما جعل السودان ينعم باستقرار سياسي استمر عقدا من الزمان. لا ينتقص من انجاز النظام للسلام، أن جعفر نميرى نفسه لاحقا انقلب على الاتفاق حتى قوضه، أو أن اتفاقية أديس أبابا استندت على مقررات مؤتمر المائدة المستديرة أو لجنة الإثنى عشر خلال فترة الديمقراطية الثانية (1964-1965)، ففي نهاية الأمر، العبرة في التنفيذ!. أما نظام "الإنقاذ"، فبكل خطاياه وأخطائه التي يعرفها القاصي والداني، فقد توصل إلى اتفاقية وضعت حدا لحرب قضت على الأخضر واليابس وحقنت دماء سالت بين أبناء الوطن الواحد، وإن جاءت متأخرة، وان لم نستبين نتائجها المستقبلية بعد. وذلك رغما عن ما ظل يردده السيد الصادق وشدد عليه في تعقيبه على الورقة بأن " النظام الديمقراطي سعى لإنهاء الحرب الأهلية باتفاقية سلام عبر مؤتمر قومي دستوري يعقد في 18/9/1989 اتفق الطرفان على كافة مقدماته وكان من بين أسباب انقلاب 1989 الحيلولة دون انعقاد ذلك المؤتمر وإشقاء البلاد ب17 عاما من الحرب الأهلية". فمهما كان التحضير جيدا لأي عملية جراحية لإنقاذ مريض من الموت تظل حياته مرهونة بإجراء العملية، وليس بالتردد حول الظرف الذي أفضى إلى ضرورة إجراء هذه العملية و"توضيحاته"!!



    ومن ناحية أخرى، يعيب السيد الصادق على الورقة أنها تحدثت عن "الديمقراطية الحقيقية لا الديمقراطية الزائفة الخادعة للجماهير". وأنه "إذا سأل الكاتب نفسه لعلم أن اتحاد الكتاب الأول وجد من النظام الديمقراطي الاعتراف والدعم في عام 1988 بينما أطاح به النظام الانقلابي في عام 1989 وصادر أملاكه وحولها لاتحاد موال له. لا يجوز لرأى موضوعي أن ينكر أن النظام الديمقراطي التزم بحقوق الإنسان، وبالحريات العامة، وبحيدة الخدمة المدنية، والخدمة النظامية، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، وبدولة الرعاية الاجتماعية، وكلها حقوق مشروعة قوضها النظام الشمولي الانقلابي". بالطبع أعلم كل ذلك فقد كنت من الأعضاء المؤسسين للاتحاد، كما لا يعقل أن أدافع عن "النظام الانقلابي الشمولي" وأنا من ضحاياه الذين لاحقهم حتى خارج حدود السودان، إذ تم اعتقالي وترحيلي أكثر من مرة بعد أن أرشد على زبانيته بسفارة السودان في الجارة إثيوبيا، في وقت كانت فيه العلاقات سميكة بين الخرطوم وأديس أبابا. ولكن إن كان الشيء بالشيء يذكر، لم يكن النظام الديمقراطي كله حريات في حريات ولم تكن كل صفحاته ناصعة في مجال الالتزام بحقوق الإنسان كما تباهى السيد الصادق. فقد تعرضت أنا شخصيا ومعي عشرون آخرون من المهنيين والنقابيين إلى الحبس والتحقيق والتشهير لمجرد مشاركتنا في ندوة مع عدد من قيادات وكوادر الحركة الشعبية بمدينة أمبو، أثيوبيا، في فبراير 1989.



    كانت الندوة معلنة ولم تخرج أجندتها عن مواصلة الحوار مع الحركة استهداء بما تم نقاشه في لقاء كوكادام من قضايا في 1986، وهو الاجتماع الذي شارك فيه حزب الأمة نفسه. فقد تم دمغ المشاركين بالعمالة و"الطابور الخامس" وإفشاء أسرار القوات المسلحة ووصفنا بكل ما يتضمنه قاموس السياسة من نعوت ممجوجة للنيل من الخصوم. وبالرغم من أن النائب العام برأ ساحتنا بعد التحقيق ظلت أسمائنا محفوظة في سجلات الحظر من السفر حتى لجأت لوساطة التنفيذيين من المقربين لرئيس الوزراء (السيد الصادق) ليسمح لي بالسفر للمشاركة في منتدى الفكر العربي بالأردن والذي كان هو عضوا فيه، وللمفارقة كان عنوان الندوة: الديمقراطية والتعددية في الوطن العربي! ووقتها تيقنت بأن للأجاويد دور لا يمكن الاستغناء عنه في ديمقراطية السودان!. والأدهى، أم الطريف في الأمر لا أدرى‘ أن نظام "الإنقاذ" نفذ وصية النظام الديمقراطي فأبقى على كشف الحظر كما هو، فعندما قررت السفر إلى مصر في مايو 1990، رفع وزير الداخلية الحظر مؤقتا بقرار نص بالحرف "السماح له بالسفر على أن يعاد إدراج إسمه بالقوائم عقب عودته". وبالطبع، نصحني المريدون والمحبون أن لا أعود تخوفا من عواقب وخيمة لمثل هذا القرار، وفعلا لم تطأ قدماي أرض الوطن إلا في أبريل 2005. كما تعرض الدكتور عشارى أحمد محمود و الدكتور سليمان بلدو للاعتقال واتهما بالتخابر مع جهات أجنبية لمجرد قرعهما لأجراس الإنذار حول "مذبحة الضعين"، وبدلا من التحقيق في هذه الاتهامات الخطيرة، كما طلب الأستاذان، تعرضا للتحقيق والاستجواب. ولم يقتصر سجل النظام الديمقراطي، والسيد الصادق على قمته، على الزمن القريب وإنما يرجع للستينات من القرن الماضي في أيام الديمقراطية الثانية حينما طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان وحل الحزب ولم تحترم كلمة القضاء بعد أن أفتى بعدم دستورية قرار الحل وطرد النواب. كما أدخلت مادة الردة -لأول مرة في تاريخ السودان- في مسودة مشروع الدستور وهى نفس المادة التي حوكم بموجبها وأعدم الأستاذ محمود محمد طه في 1985.



    ولكن، رغم كل هذه الهنات والانتهاكات الخطيرة للحريات وحقوق الإنسان، والتي لم أوردها تشفيا أو شماتة بل توخيا للموضوعية والدقة في التحليل‘ فلا مجال للمقارنة بين النظام الديمقراطي، الذي ازدهر في إطاره المجتمع المدني ونشطت فيه الحركة النقابية المستقلة عن سلطان الدولة ووفر فرصا للاختيار الحر ووسع مواعين الفعل السياسي وفتح آفاقا أرحب للتطور، والنظام الشمولي الذي تكفى صفحة بيضاء خالية من الكتابة لوصف بشاعته وقبحه، كما جاء في الطرفة السودانية الشهيرة. ولكن كما قلت، فالشيء بالشيء يذكر!.



    مشروع السودان الجديد: صناعة سودانية أم أجنبية



    من المدهش، أن السيد الصادق توصل إلى نتيجة مذهلة حتى قبل أن يكمل حيثيات خلافه مع مشروع السودان الجديد واتفاقية السلام الشامل والتي تتماثل في نظره مع المشروع (كما سأوضح لاحقا)، فقد خلص إلى أنه "تقلب مع تحالفاته. لقد كان اشتراكيا ماركسيا في عهد التحالف مع مانقستو هايليمريم، وصار في ظل تحالفاته الجديدة علمانيا، أنجلوفونيا، أفريقانيا". فأولا: هذه الأوصاف هي نوع من القوالب جاهزة الإعداد والتي اعتاد السياسيون الأقحاح على وضع خصومهم وكل من يخالفهم الرأي في داخلها بغرض تأليب الناس عليهم، وهى حيلة لا تشبه مفكر ثاقب النظر في قامة السيد الصادق.



    ثانيا: هذه أيضا ظنون تفتقر إلى الدليل، وخلط لمبادئ رؤية السودان الجديد بالتكتيكات السياسية للحركة الشعبية في مراحل تطورها المختلفة. وهذا فخ اجتهدت الورقة في التحذير من الوقوع فيه، بل وشكل الدافع الرئيس والفرضية الأساسية لها. ولا أحسب أن السيد الصادق قد فات عليه أن يميز بين الرؤية والنظرية، من جهة، والفعل السياسي المصاحب لهما، من جهة أخرى. فقد وضحت الورقة بجلاء أن رؤية السودان الجديد إستهدت بكل التراث الإنسانى والمذاهب الفكرية والسياسية العالمية، بما في ذلك الماركسية وشتى مدارس الاشتراكية. كما أنها استصحبت بشكل كبير تجارب مشابهة في تكوين الأمم وبناء الدول في كل من أمريكا الشمالية واللاتينية. فالي جانب أن النزوع للاشتراكية في البدايات الأولى لمشروع السودان الجديد لا يقدح في، ولا ينتقص من مرتكزات المفهوم ولا يسيء إليه أو يلقى بظلال أيديولوجية عليه، فإن آخر ذكر للاشتراكية فيما يتعلق بالسودان الجديد كان في معرض حديث قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان في 3 مارس 1984، ولم ترد أي إشارة لها بعد ذلك.



    ثالثا: أما الحديث عن أن المشروع "تقلب في تحالفاته، فهو حديث تعوزه الدقة. فالمشاريع والرؤى لا تقيم تحالفات، بل الصحيح أنه كانت للحركة الشعبية وقائدها الراحل علاقات وطيدة مع مانقستو وفرت له دعما وسندا مقدرين، كل وفق رؤيته لمصالحه، وهذا مشروع في عالم السياسة. فقد لجأ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الحبشة في بدايات الهجرة عندما اشتد عليه حصار الكفار. ولماذا نذهب بعيدا؟ فقد كان للسيد الصادق علاقات قوية مع نظام مانقستو عندما كان أحد قيادات الجبهة الوطنية ضد نظام النميرى، وأيضا مع ليبيا التي انطلقت من أراضيها قوات الجبهة فيما عرف "بالغزو الليبي" آنذاك في عام 1976. وحزب الأمة، كطرف في التجمع الوطني الديمقراطي، أسس مكتبا له في أديس أبابا ثم انتقل من بعد إلى أسمرا. فهل نطلق على هذه العلاقات تسمية تحالفات؟ وهل أصبح برنامج "الصحوة الإسلامية" اشتراكيا ماركسيا أو أمميا جماهيريا نتيجة لهذه "التحالفات"؟



    رابعا: إن علمانية مشروع السودان الجديد ليس بسر يذاع (وسأتطرق له لاحقا عند الحديث حول علاقة الدين بالسياسة). أما أن يكون المشروع "أنجلوفينا، أفريقانيا" فقد استعصى على فهمي ما يقصده السيد الصادق. ولكن، تعرضت الورقة إلى نشأة وأصول فكرة السودان الجديد والتي كان وراءها اهتمام الراحل د. جون قرنق بأزمة الحكم في السودان والحرب الأهلية في الجنوب إلى جانب سعيه الحثيث وبحثه الصادق من أجل الوصول إلى سلام دائم وعادل. فبعد التمحيص وإعادة النظر في طرق وأساليب التعامل مع الأزمة السودانية خلص الراحل قرنق إلى أن التهميش بكل أشكاله، والظلم والتفرقة والتبعية تشكل جذور المشكلة وهي الأسباب الرئيسية للنزاع. وقاده هذا التفكير إلى إعادة تعريف المشكلة على أنها "مشكلة السودان" وليس "مشكلة جنوب السودان" كما صورتها أنظمة الحكم المتعاقبة في الخرطوم. وبالتالي، فان الدولة السودانية متمثلة في هيكل السلطة في المركز هي التي تحتاج لإعادة هيكلة جذرية حتى تتمكن من استيعاب الأشكال المتعددة للتنوع السوداني والتعامل مع كافة أشكال الإقصاء والتهميش لشعوبها. فالمشروع في أصله هو إطار قومي لإدارة التنوع والتعدد الذي يتميز به المجتمع السوداني، ولكنه يصلح لمعالجة نفس المشاكل في الدول الأفريقية التي لا تختلف عن السودان كثيرا من حيث طبيعة تكويناتها العرقية والإثنية والثقافية.



    وقد اعترف المراقبون على الصعيدين الإقليمى والدولي بصواب الفكرة كإطار مرجعي ذو طبيعة عالمية يتعدى السودان ويمكن تطبيقه في مناطق نزاعات أخرى شبيهة داخل وخارج القارة الأفريقية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة وفق شروطها الموضوعية. وتجدر الإشارة إلى جهد جارى حاليا بمبادرة من نخبة من المفكرين غير السودانيين تحمسوا لإنشاء مركز للدراسات والبحوث يحمل اسم الراحل د. جون قرنق، تخليدا لذكراه وتطويرا وتفصيلا للمبادئ والقيم والسياسات والاستراتجيات التي طرحها مشروع السودان الجديد. فالمشروع فكر سوداني أصيل وصناعة سودانية. فلماذا نستكثر على زعيم سوداني في قامة الراحل زعيم الحركة الشعبية أن يأتي بمشروع كسب احترام أفريقيا والعالم فنجرده نحن السودانيون من ملكيته، بمجرد أن المشروع لم يرق لمزاج البعض منا؟ أم هل أنه لا يتفق مع قوانين الكون ونواميسه إلا إذا جاءت الأفكار الخلاقة والمبدعة من شمال السودان أو صدرت من زعماء شماليين فقط؟ وفوق ذلك كله، ما هو "الأنجلوفونى" أو "الأفريقانى" في مشروع يسعى لمعالجة قضايا سودانية خالصة كبلورة الهوية السودانية، إقامة وحدة على أسس جديدة، إعادة هيكلة السلطة، الحكم الديمقراطي، والتنمية المتوازنة والمستدامة؟



    ولعله للتدليل على "أنجلوفونية" مشروع السودان الجديد يعيب السيد الصادق على الورقة "كتابتها بالانجليزية وكأن الكتابة بالعربية اتهام". لي أربع تعليقات على هذه الملاحظة. أولها: هو أن اللغة الانجليزية من مخرجات السودان القديم الذي يدافع عنه، ويفخر به السيد الصادق، ولكنها في نفس الوقت من الايجابيات التي يستصحبها السودان الجديد في صيرورة بنائه. فقد كانت الانجليزية هي لغة التعليم الثانوي والعالي حتى 1969 و1989، على التوالي، حين كان للتعليم شأن عظيم في السودان. فكتب ونشر معظم المثقفون السودانيون بها في شتى ميادين العلم والمعرفة، بمن فيهم السيد الصادق نفسه شأنه شأن كل المبعوثين الذين درسوا وتلقوا العلم في انجلترا وأمريكا، إن أوفدتهم الحكومة أو ذهبوا على نفقتهم الخاصة. فليس هنالك ما يعيب الكتابة بأي لغة مكتسبة، كما لا يجب أن تكون مصدر اتهام طالما أفلح الكاتب في توصيل رأيه للجمهور المعين. فاللغة في الأصل هي أداة للتواصل. وهآنذا أكتب هذا المقال بالعربية.



    وثانيها: طبيعة جمهور القراء أو المتلقين هي التي تحدد اللغة الملائمة في التواصل والتفاعل معه. فالورقة موضوع تعقيب السيد الصادق لم تقدم في ندوة سياسية جماهيرية في ميدان "المولد أو عقرب" ولا في "الساحة الخضراء"، بل في ندوة فكرية في قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم، جل الحضور والمشاركين فيها من الكتاب والأدباء ممن يفترض إلمامهم بالانجليزية. ورغما عن ذلك، فقد عرضت الورقة باللغة العربية مراعاة للناشئة من الكتاب والمبدعين ممن تلقوا تعليمهم بها، بل وأعدت كتابتها ونشرها بالعربية في كل المواقع المناسبة.



    ثالثها: إن الطبيعة العالمية لمفهوم السودان الجديد تستوجب نقل الحوار حوله مع كل المهتمين بقضايا البناء الوطني في دول العالم النامية لتبادل الآراء واستخلاص الدروس. وبالفعل، وجدت الورقة استجابة من عدد من الكتاب والدارسين من خارج السودان وأبدت صحيفة كينيه(Financial Post) حماسا لنشرها، كما ستنشر في كتاب يحرره الأستاذ فرانسيس دينق سيصدر قريبا بعنوان .(The New Sudan in the Making) فكيف يمكن التواصل مع جمهور المهتمين في شمال أمريكا وأوروبا وأفريقيا إن لم أكتب بالانجليزية؟



    رابعها:دستور السودان الانتقالي، تأسيسا على اتفاقية السلام الشامل، في مادته 2.8.4 لا يفرق بين العربية والانجليزية ويعتبرهما لغتين رسميتين للعمل الحكومي على المستوى القومي وللتدريس في التعليم العالي. والقصد من المساواة بين اللغتين هو تصحيح الخلل الذي لازم تجربة التعريب الشائنة في التفرقة بين المواطنين السودانيين على أسس ثقافية. وبهذا، لا يجوز لمن يجهل أو لا يفضل واحدةِ من اللغتين أن يكيل الاتهام لكاتب يختار إحداهما أو يعيب الكتابة باللغة التي يجهلها أو لا يحبذها.



    وخامسها: إن اللغة العربية لا شك تثير قضية في غاية الأهمية يجدر التنبه والالتفات لها. فقد كنت أتوقع من السيد الصادق أن يهتم بموضوع اللغة ويتأمله من منظور جيل كامل من بناتنا وأبناءنا دفعت بهم ظروف قاهرة للعيش في دول المهجر طلبا للرزق والتعليم، خصوصا في غرب أوربا و شمال أمريكا (الولايات المتحدة وكندا). فهؤلاء يتلقون تعليمهم بالانجليزية ويتفاعلون في مجتمع لغة التخاطب فيه الانجليزية والذي يحتم عليهم العمل والتعايش وفق شروطه لتأمين مستقبلهم. فلذلك هم لا يجيدون العربية كتابة، أو قراءة في كثير من الأحيان، وان نطقوا بها، ولكنهم في نفس الوقت لا ينقطعون عن أهلهم في السودان ويتواصلون مع بلدهم، بل وأن أسرهم الصغيرة والممتدة تعول وتعتمد عليهم في معاشها. فكيف نتعامل مع هذا الجيل من شباب المهجر؟ هل نصدر عليهم أحكاما بعدم الانتماء للوطن ونتهمهم بخلع رداءهم الثقافي لبلدهم؟ وكيف نستفيد من تجارب الشعوب الأخرى الأكثر باعا في التعامل مع مجتمعاتها في المهجر؟ أم كيف ننظر للغة كعنصر من جملة مكونات الثقافة؟ كيف نستفيد، ونوظف هذا الكم الهائل من الموارد والقدرات البشرية؟ وما هي آثار الهجرة والإقامة في دول المواطنة بغرب أوروبا وشمال أمريكا على عملية بناء دولة المواطنة السودانية. هذه هي نوع القضايا التي تستوجب عصفا فكريا وتستدعى ابتداع منهج لمعالجتها.



    السيد الصادق واتفاقية السلام الشامل



    القضية الثانية التي انتقاها السيد الصادق بعناية من الورقة هي اتفاقية السلام الشامل والتي ليس لمشروع السودان الجديد فيها ناقة أو جمل، من ناحية مبادئه الأساسية. فقد تعرضت الورقة للاتفاقية فقط من باب أنها خلقت واقعا دستوريا جديدا، إلا إذا اختار السيد الصادق أن يتغاضى عنه أو أنكر أنه يعيش في هذا الواقع وينشط سياسيا في إطاره. ويقوم هذا الوضع الجديد على نموذج "دولة واحدة بنظامين"، وهوالنموذج الثاني من جملة خمسة نماذج عرضها الراحل زعيم الحركة الشعبية في مقترحات الترتيبات الكونفدرالية في مفاوضات أبوجا في عام 1993. وكل ما طرحته في الورقة إن جميع القوى السياسية، بما فيها الحركة الشعبية، إن أحسنت استخدام هذا الوضع فانه يمكنها الانتقال به نحو بناء سودان جديد موحد ديمقراطي. والاحتمال الثاني أن تخفق هذه القوى في تحقيق هذا الهدف مما يسمح للأوضاع بالانحدار نحو الانفصال (النموذج الخامس). فاتفاقية السلام الشامل لا تعدو أن تكون آلية للانتقال والتحول قد تقود إلى أحد هذين الاحتمالين. ولا حاجة لي بأن اردد مقولة أصبحت في حكم البديهيات وهى أن جميع القوى السياسية المعارضة لنظام "الإنقاذ" قبل توقيع الاتفاقية، خصوصا تلك التي كانت تعمل تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي، اتفقت على إضافة الحل السياسي المتفاوض علية كأحد آليات التغيير والتحول الديمقراطي، بجانب الانتفاضة الشعبية والعمل المسلح. و لا أرغب هنا في أن أخوض في تفاصيل الاتفاقية وبروتوكولاتها الستة. كما لا أود أن أضفى عليها هالة توحي بأنها كاملة أو مكتملة أو خالية من العيوب، فللاتفاقية ثقوب وتشوبها ثغرات، بما في ذلك أنها ثنائية بحكم أنها موقعة بين طرفين. فقد تناول الدكتور منصور خالد الاتفاقية بما لها وعليها في مقالات عشر نشرتها صحيفة الرأي العام في صيف عام 2004. بل سأكتفي بالإشارة إلى ما حققته الاتفاقية من شروط للانتقال نحو سودان جديد وفى حدود ما أثاره السيد الصادق من انتقادات لاذعة لها ولمشروع السودان الجديد.



    ففي مجافاة تامة للموضوعية وتجاوز لمقتضيات الواقعية السياسية، نبذ السيد الصادق الاتفاقية وتناولها بالقدح والذم ولم تطاوعه نفسه بالمن عليها ولو بكلمة مدح واحدة. فهو يقول، وأنقل منه حرفيا وباستطراد "ركزت الورقة على أن التجربة السودانية قبل 2005 أخفقت في استدامة وحدة البلاد. وصورت ما بعد ذلك وفى ظل اتفاقية السلام على أنها قفزة إلى الأمام في سبيل استدامة وحدة البلاد. هذا التصوير ذاتي ومجرد أماني. فمع أن الاتفاقية أوقفت الحرب الأهلية في بعض جبهاتها، فان الاحتراب في البلاد مستمر وحالة التمزق في البلاد والتعرض للتدويل بلغت أسوأ حالاتها في تاريخ السودان الحديث. اعتذرت الورقة بأن ضرورات السلام أوجبت الاعتراف بنظامين في دولة واحدة وأن هذه خطوة في الطريق للسودان الجديد. يا ليت الاتفاقية اشتملت على هذا التوافق، لكنها أتت بموبقة سياسية وهى إقامة نظام دستوري على أساس حزبين في دولة واحدة. اتفاقية نيفاشا أطلقت على نفسها اتفاقية السلام الشامل مجافاة للموضوعية، فمع أنها حلت بعض التناقض الشمالي الجنوبي فإنها كرست تناقضات أخرى مطلوب حلها لتحقيق السلام الشامل: 1) عمقت التناقض بين حزبي التفاوض والقوى السياسية الأخرى فخلقت استقطابا سياسيا حادا، 2) فصلت في بعض بنودها وحرصت على توقيت محدد بأسابيع وشهور لتحقيقها. أما في أمر التحول الديمقراطي فقد تركت الأمر بالنسبة لمواعيد الانتخابات وضوابطها في يد أصحاب التمكين، وسمحت للمؤتمر الوطني أن يماطل في استمرار قوانين القهر الشمولية وأن يحميها بأغلبيته الميكانيكية".



    فهل هذا تحليل دقيق وأمين لاتفاقية أنهت اثنين وعشرين عاما من الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد وراحت ضحيتها الملايين من النفوس وخلفت قدرهم من النازحين واللاجئين في داخل وخارج السودان وتركت مئات الألوف من المعاقين، إضافة إلى ما لحق بالآلاف من تشوهات نفسية واجتماعية بسبب ما عانوه من ويلات الحرب؟ وفوق ذلك كله، فهي اتفاقية أشاد بها وشهد عليها وساعد في الوصول لها أغلب القوى السياسية السودانية والإقليمية والمجتمع الدولي. وهى وان "أوقفت الحرب في بعض جبهاتها" أو حلت "بعض التناقض الشمالي الجنوبي"، فهذا انجاز جد عظيم يجدر الاحتفاء به والبناء عليه وليس تبخيسه والتقليل منه والحط من قدره. كما هي مأثرة، قال فيها الراحل قرنق "إن السودان بعد الاتفاقية لن يعود أبدا كما كان عليه"، لم يحالف السيد الصادق التوفيق في تحقيقها عندما كان في سدة الحكم ورئاسة الوزارة. فالتناقض الشمالي الجنوبي ليس "بعض تناقض" كما وصفه السيد الصادق باستخفاف واستهجان، إنما هو جرح غائر في أعماق الوطن ظل ينزف منذ الاستقلال، بل وقبله، مما أعاق عملية البناء الوطني وكاد أن يعصف بوحدة البلاد ويعرضه لمخاطر التمزق والتفتت. ويقطن جنوب السودان أكثر من ثلث سكان السودان، إضافة إلى أهالي جبال النوبة والأنقسنا، فهل هذه "بعض جبهات"؟

    وان لم تفلح الاتفاقية في وقف الاحتراب في أماكن أخرى في السودان (دارفور مثلا)، كما ذهب السيد الصادق، فلا يطعن هذا بأي حال من الأحوال في الاتفاقية نفسها من ناحية مقاربتها الصحيحة أو في شمولها الموضوعي لكل القضايا الجوهرية التي تسببت في اشتعال الحرب ابتداءا إن كانت في الجنوب أو في دارفور. فالاتفاقية وفرت خارطة طريق واضح المعالم لمعالجة قضية الحرب في أي منطقة بالسودان، أما عدم التقيد بهذه الخارطة عند التنفيذ فلا تسأل عنه الاتفاقية بل الشركاء في الحكم. فالاتفاقية استلهمت وتأسست على مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية ومبادئ إعلان الايقاد، ما عدا مسألة العلاقة بين الدين والدولة والتي أفضت إلى نموذج "الدولة الواحدة بنظامين"، والتي حظيت بمباركة السيد الصادق وحزب الأمة، بل وشارك فيها الحزب بفعالية. الاتفاقية تعالج الأزمة السودانية معالجة شاملة فهي تناولت نظام الحكم‘ وإعادة هيكلة السلطة وتعريف العلاقة بين المركز والأقاليم والولايات، وتوزيع الثروة، وإنصاف المهمشين اقتصاديا وسياسيا وإشراكهم في هياكل الحكم على كل المستويات. والاتفاقية كمدخل لحل النزاعات أسهمت في التوصل لسلام الشرق مؤخرا، مهما كانت نواقصه، فهي لم تصمم أصلا لتطبيقها حرفيا وبحذافيرها في كل حالة، فظروف الحرب في الجنوب لا تتماثل مع تلك في دارفور أو شرق السودان. وبذلك حققت الاتفاقية ثلاثة من أهداف التجمع الرئيسة، والذي كان السيد الصادق من المؤسسين له، وهى 1) وقف الحرب المدمرة، 2) التحول الديمقراطي، و3) لامركزية السلطة وذك بإعطاء الإقليم الجنوبي والولايات سلطات واسعة بما يضع حدا للتهميش الذي كان سببا أساسيا في اشتعال الحرب.



    أما في أمر التحول الديمقراطي، فلا شك أن المشاركة في الحكم وقسمة السلطة هي قسمة "ضيزى" كما وصفها كثيرون من المراقبين، وان كانت الشراكة "موبقة سياسية" – على حد قول السيد الصادق- فإنها ترتيبات دستورية انتقالية، كما في حكومة أكتوبر 1964 وحكومة الانتفاضة في أبريل 1985، التي لم تراع المشاركة فيها أوزان القوى السياسية المختلفة، خلال الثلاث سنوات الأولى يتم الرجوع بعدها للشعب ويحتكم فيها لقراره الحر في اختيار من يحكمه في النصف الثاني من عمر الفترة الانتقالية. وكما قال د. منصور خالد في الجزء الثاني من سلسة مقالته التي أشرت إليها سالفا "أن تكون لأغلب الناقدين لُبثه عند حديث القسمة باعتباره هو المبتدأ والخبر في قضية التحول الديمقراطي أمر مؤسف، وكأن كل عناصر التحول الديمقراطي التي تضمنها الاتفاق مثل الاحتكام للشعب بعد ثلاث سنوات، واعتماد مواثيق حقوق الإنسان بصورة لم يعرفها أي دستور سابق بل تجاوزت ما أقره التجمع (وكان طرحه متقدماً على ما أوردته كل دساتير السودان السابقة)، ونقل السلطة فعلياً لا رمزياً للولايات بحيث سيصبح الحكم فيدرالياً بحق وحقيقة، وتأهيل أجهزة الأمن لتصبح أجهزة مهنية تحكمها ضوابط تتفق مع الأعراف وتخضع للدستور والقانون، كأن كل هذه أمور يستهان بها في معرض تحليل عناصر الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية التعددية. هذه هي المبادئ التي لا تقبل القسمة والتي يجدر الاهتمام بها".



    وأعتقد، أن السيد الصادق يملك من أدوات التحليل والنقد ما يمكنه من النفاذ إلى كيفية تطوير الاتفاق إلى واقع ملموس، وكيفية إحكام الضمانات لتنفيذه، كما أن له من المؤهلات والمقومات لإقامة تحالف سياسي حول القضايا التي تتناول جوهر الحكم والوسائل التي تتيح مشاركة فاعلة في صوغ سياسات ومراقبة التحول الديمقراطي، وليس تحالف من شأنه تقويض الاتفاق ونقض غزله مما قد يعود بنا إلى مربع الحرب والاقتتال. وكما قال الراحل قرنق وهو يخاطب اجتماع هيئة قيادة التجمع في 14 يوليو 2004 بأسمرا "إن اتفاقية السلام الشامل ترمز إلى انتقال جوهري من منظومة قديمة للحكم وأساليبه إلى منظومة جديدة وأيضا علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة. وان هذا الانتقال ليس ب"حدث" بل عملية “Process” " (والعملية هي جملة أعمال تنشأ من مركز انطلاق واحد ثم تترى وتتفاعل). فالتجمع، مثلا‘ يرى أن بروتوكولات السلام "تمثل خطوة هامة في طريق إنهاء الحرب الأهلية ومعالجة جذور الأزمة السودانية المزمنة، وهي بالتالي تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لتحقيق التحول الديمقراطي وترسيخ السلام. فالاتفاقية توفر أساسا لإعادة هيكلة البناء الوطني الموحد علي أسس جديدة تختلف عن الأسس القائمة منذ فجر الاستقلال، أسس تراعي الاستجابة الواسعة لمتطلبات الأقاليم في الحكم اللامركزي والمشاركة في السلطة والتنمية، وفي نفس الوقت تراعي ضرورة التوازن بين المركز وهذه الأقاليم، وتؤكد وحدة البلاد في إطار تنوعها وتعددها الإثني والديني والثقافي. لذلك فإن التجمع الوطني الديمقراطي سيعمل لاستثمار هذه الفرصة النادرة التي وفرتها الاتفاقية لمعالجة مفاصل الأزمة السودانية، وذلك عبر تركيز وتطوير إيجابياتها، وفي نفس الوقت بذل الجهد المطلوب لعلاج ما يشوبها من إختلالات بدءا من كونها مبرمة بين طرفين فقط من أطراف المعادلة السياسية في السودان، إضافة إلى عدد من الملاحظات التي أقرها التجمع في تقييمه للبروتوكولات". فلماذا يبتعد السيد الصادق وينأى بنفسه وحزبه من هذا الموقف في هذا الوقت الدقيق والحرج من عملية الانتقال والتحول نحو الديمقراطية؟



    تجدر الإشارة هنا إلى ملاحظتين هامتين، أولهما، إن حزب الأمة قرر أن يترك التجمع في 1999 ليس لخلاف حول برنامجه الذي شارك الحزب في صياغته بل لأسباب تنظيمية. فقد ذكر السيد الصادق في خطابة إلى زعيم الحركة الشعبية الراحل في 22 ديسمبر 1999 أنه "في فبراير 1998 انتقد مؤتمر حزب الأمة الرابع هياكل التجمع وأداءه. كتبنا مذكرة موسعة ساقت انجازات الماضي واعاقات الحاضر، واقترحت برنامجا إصلاحيا لإعادة هيكلة التنظيم وتوسيعه وتفعيله. ولكن بلا جدوى!. بعد عدة محاولات فاشلة لإصلاح التجمع وتفعيله قررنا أن نحرر أنفسنا من ذلك الموات، وذلك بمواصلة نشاطنا الحزبي مع الارتباط بالمرجعيات المتفق عليها (التشديد من عندي). وبعد أن صار هذا الاتجاه تقليدا معروفا في التجمع، سعينا لتقنينه باقتراح إصدار قرار يؤمن ذلك. ففي يونيو 1999 أعلنا أننا سنقابل أي شخص في سعينا نحو الحل السياسي الشامل". إذن، أين هو الآن موقف السيد الصادق وحزب الأمة من مرجعيات التجمع بخصوص اتفاقية السلام الشامل؟



    ثانيهما، يقول السيد الصادق في نفس الخطاب "إن توسيع هامش المعارضة السياسية الداخلية، وانكماش فرص العمل العسكري، والمخاوف من أخطار أجندة التدويل الخبيث وخطر البلقنة الدائم، كل ذلك أقنعنا بالتحرك السريع بحثا عن حل سياسي شامل مهدت له الظروف السياسية الجديدة". ولكن، أين هو هذا الحل السياسي الشامل الذي أفضى إليه اتفاق "نداء الوطن"؟ ثم، أو ليس هامش الحريات والمعارضة السياسية، رغم تكدير المؤتمر الوطني لصفو هذا الهامش، أوسع بكثير مما كان عليه الحال آنذاك؟ أولم يستعد إتحاد الكتاب السودانيين، الذي دعمه النظام الديمقراطي وصادره نظام "الإنقاذ" كما ذكر السيد الصادق‘ شرعيته وبدأ يعاود نشاطه علنا؟ فهل كان ذلك ممكنا في أعقاب توقيع "نداء الوطن"؟



    ويتشكك السيد الصادق في جدية اتفاقية السلام الشامل في مسألة التحول الديمقراطي فيما يتعلق بأمرين اثنين. الأمر الأول هو الانتخابات، إذ يقول أن تحديد مواعيدها قد ترك "في يد الشريكين خلافا لبنود أخرى حرصت على توقيت محدد بأسابيع وشهور لتحقيقها". وهذه نصف الحقيقة. فالمادة 1.8.3 في الاتفاقية تنص على أن "تكتمل الانتخابات العامة على كل مستويات الحكومات بنهاية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية". ولعل عدم تحديد مواقيت معينة محددة بالشهر أو الأسبوع له مبرراته الموضوعية. فقبل تحديد موعد معين لابد من اكتمال الإحصاء السكاني لكل السودان والذي لن يجوز إجراء الانتخابات أو الاستفتاء على حق تقرير المصير بدونه. وقد تحوطت الاتفاقية لذلك في المادة 1.8.1 إذ تنص على "إجراء وإكمال الإحصاء السكاني في كل السودان بنهاية العام الثاني من الفترة الانتقالية". إضافة إلى أن هنالك العديد من الواجبات الأخرى التي لابد من القيام بها قبل إجراء الانتخابات، رغم أن الاتفاقية لم تشترط الإيفاء بها جميعها حتى تقوم هذه الانتخابات. فالمادة 1.8.5 تنص على "اعتبارات معينة، دون أن يكون إكمالها شرطا، لابد من وضعها في الحسبان فيما يتعلق بمواعيد الانتخابات (وتشمل، بدون حصر، إعادة التوطين، إعادة التأهيل، إعادة النازحين، بناء الهياكل والمؤسسات، وتعزيز اتفاقية السلام)". هذا ما جاء في الاتفاقية وليس فيه ما يدعو للتشكك، فعدم الإشارة لمواقيت بعينها للانتخابات له أسبابه المقنعة. إضافة إلى أن الدول الراعية للاتفاقية والمجتمع الدولي على اطلاقة، لن يأخذ بالسهل استدامة أمد الفترة الانتقالية وتعطيل الاحتكام للانتخابات.



    وكل هذا بالطبع، لا يمنع السيد الصادق أو غيره من الشك، ليس في الاتفاقية، بل في التزام الشريكين بهذه النصوص والمماطلة في إجراء الانتخابات لتحقيق مكاسب حزبية ضيقة. فهل للشريكين مصالح تجعلهما يحجمان عن الالتزام بإجراء الانتخابات في خلال ثلاث سنوات، حتى وان تمت مراعاة الاعتبارات المذكورة؟ وأميل للاعتقاد بأن المؤتمر الوطني نظريا لا مصلحة له في تأجيل الانتخابات فهو أكثر الأحزاب استعدادا لخوضها وكفاه سبعة عشرة عاما من الهيمنة على مفاصل السلطة وكل مؤسسات الدولة، ويملك كل إمكانيات التمويل. فهو يتصرف وكأنه يتحدى ولا يهاب أحزابا خرجت لتوها لتعمل في العلن بعد سنوات طويلة من العمل تحت الأرض أو خارج السودان مما أفقدها التواصل مع قواعدها، كما أنها منقسمة على نفسها إلى فصائل وبطون، لا يسر حالها لا صديق لا عدو، ولا يبدو أن وضعها التنظيمي يسمح لها بهامش كبير للمنافسة. والحركة الشعبية، على حد سواء، لا مصلحة لها في المماطلة. فنجاح الحركة في إصلاح حالها وترتيب بيتها من الداخل واكتمال تنظيمها‘ خصوصا في شمال السودان، وانتظامها في تحالف سياسي ببرنامج للحد الأدنى، سيقودها إلى ضمان وجود مقدر في حكومة ومؤسسات ما بعد الانتخابات. أما إذا فتر حماسها في تحويل نفسها إلى حركة تتطلع إلى نفوذ سياسي لا في الجنوب فحسب، بل في كل أنحاء البلاد، وتراجعت نحو الجنوب، فستتمسك أيضا بالانتخابات كأحد متطلبات والتزامات اتفاقية السلام، فالوصول لمحطة الاستفتاء لابد وأن يمر عبر بوابة الانتخابات. فان كان السيد الصادق يتخوف من تلكؤ الشريكين، فهل حزبه جاهز لمنافسة تدل كل قرائن الأحوال على أنها ستكون شرسة بمكان، وقد أصبح أكثر من حزب في غضون سنوات وانفرط عقد قياداته وتفرقت بها السبل، مع صعود قيادات جديدة في مناطق نفوذه التقليدية (وفى دارفور، على وجه أخص)؟ وهل سيوفق السيد الصادق في لملمة أطراف القوى السياسية وتأسيس معارضة راسخة وصوغ برنامج يصادف هوى في نفوس الناس ويقدم بديلا مقبولا، وليس عرضا قديما تعودوا عليه ولم يعد عليهم بأي تغيير ملموس في حياتهم؟



    فالتحدي الحقيقي الذي تواجهه كل الأحزاب والقوى السياسية، وعلى رأسها الحركة الشعبية، هو الخروج من حالة الغيبوبة والسبات التي تعيشها حاليا وتعبئة قدراتها وحشد كل طاقاتها وتسخير إمكانياتها لتفوز بنتيجة الانتخابات. والمدخل الصحيح هو أن تهيئ هذه الأحزاب نفسها بعقد مؤتمراتها العامة وأن تبدأ بالانتخابات في داخلها قبل أن تدخل في معركة انتخابية حاسمة مع غيرها. فمعظم هذه الأحزاب والكيانات السياسية لم تنظم مؤتمرا عاما منذ أمد طويل، كما أن بعضها لم يعقده أصلا! وقد يبدو لهذه الأحزاب أنه من الصعوبة بمكان أن تدخل في منافسة انتخابية مع حزب حاكم، ظل يهيمن على سلطة الدولة لسبعة عشر عام، ناهيك عن هزيمته. ولكن هذا ليس بمستحيل، فالتجارب المعاصرة تشير إلى إمكانية تنحية الحزب المهيمن من السلطة عن طريق الانتخابات كما حدث في زامبيا وغانا والسنغال وكيب فيردى وشيلي والبرازيل وبوليفيا وفنزويلا ونيكاراجوا. ولا نحتاج للذهاب بعيدا، فقد نجحت قوى العارضة في إزاحة حزب KANU الحاكم في الجارة كينيا الذي استأثر بالسلطة المطلقة لأربعة عقود كاملة. فعلى جميع القوى السياسية، خصوصا المعارضة منها عبء ثقيل، فهل تقدر على حمله؟ فبدون أن تدرك الأحزاب ضخامة التحدي الذي ينتظرها وتعد له العدة، سيكون التشكك في عدم تحديد مواعيد بعينها للانتخابات من باب المزايدة والمكايدة السياسية. ولكن توجس السيد الصادق من التماطل في إجراء الانتخابات، يظل نظريا في مكانه. فإن ساور المؤتمر الوطني أدنى شك في أن لا تأتى نتيجة الانتخابات في صالحة، وهو المسيطر على أجهزة الدولة، فقد يسعى لعرقلة تنظيمها حتى بعد الاتفاق على مواعيدها. هذا سيناريو متوقع نظريا وقد حدث في أكثر من مكان. وهنالك احتمالان إن حدث ذلك. الاحتمال الأول: هو أن تقف الحركة الشعبية في تحالف مع القوى السياسية الأخرى لتجبر المؤتمر الوطني على الإيفاء بالتزامه بإجراء الانتخابات كأحد أهم متطلبات إنفاذ اتفاقية السلام حتى يوافق على قيامها. والاحتمال الثاني أن يتخندق المؤتمر الوطني في موقفه دون أن يأبه بمطالبة شريكه في الحكم وكافة القوى السياسية الأخرى. وعلية سيكون هذا الموقف بمثابة خرق سافر للاتفاقية في أحرج موادها على الإطلاق، مما ينذر بأمر لا يحمد عقباه إذ أن الانتخابات والاستفتاء هما الآليتان المتفق عليهما للتغيير وإدارة الصراع.



    والأمر الثاني، الذي أثاره السيد الصادق فيما يتصل بمسألة التحول الديمقراطي، فهو الخوف من مماطلة المؤتمر الوطني في استمرار القوانين الشمولية. وهذا تخوف مشروع وفى مكانه، لكنه لا يعيب الاتفاقية في حد ذاتها. فلجؤ المؤتمر الوطني لأغلبيته الميكانيكية، للإبقاء على قوانين تتعارض مع الاتفاقية ومع وثيقة الحقوق المضمنة في الدستور الانتقالي، يعد أيضا خرقا سافرا للاتفاقية. ومع أن الاتفاقية لا تتعرض مباشرة لجواز استخدام مثل هذه الأغلبية، فالمؤتمر الوطني كطرف أصيل فيها يدرك جيدا انه ملزم أخلاقيا وسياسيا باحترام الاتفاقية روحا ونصوصا. كما أن المفوضية القومية لمراجعة الدستور (التي سأتعرض لها لاحقا) وبحكم تكوينها لها دور مفتاحي في تنقية القوانين والوصول إلى صيغ توافقية بشأنها. ليس ذلك فحسب، بل مفوضية متابعة تنفيذ وتقييم الاتفاقية أيضا سيكون لها رأى. فان لم تجد كل هذه الضمانات فتيلا في إثناء المؤتمرالوطنى عن استخدام أغلبيته الميكانيكية‘ فهذا ِشأن لن يتم حسمه إلا في إطار الحراك والتفاعل السياسي بين كافة أطراف القوى السياسية، مما يصعب التنبؤ به، وقد يقود أيضا إلى ما لا يحمد عقباه.



    السيد الصادق المهدي والاستقطاب



    إلحاقا للإساءة بالأذى، ذهب السيد الصادق شوطا أبعد في التشكيك حتى في معالجة اتفاقية السلام الشامل للعلاقة بين الدين والسياسة. فهو يرى أن الخطأ بالنسبة للشمال "ليس في قبول مصدرية الشريعة ولكن الخطأ في قبول الشريعة وفق رؤية المؤتمر الوطني لا رؤية أغلبية مسلمي الشمال. الاتفاقية رزأت أهل شمال السودان بتجربة الجبهة الإسلامية القومية المختلف عليها على نطاق واسع بين المسلمين. أما اعتبار التشريع في الجنوب القائم على العرف والإجماع فصلا للدين عن الدولة فادعاء لا أساس له. القبائل الجنوبية لا سيما النيلية من أكثر القبائل السودانية تدينا ودينها هو أساس أعرافها. العرف هو شريعتهم". والنتيجة في رأيه، هي أن "فصل الدين عن الدولة التي تنادى به بعض النخب السودانية وتتطلع إليه في نداء السودان الجديد لم يتحقق في اتفاقية نيفاشا لا في الشمال لا في الجنوب". هذا حديث حافل بتناقضات ومغالطات لا تخطئها عين.



    أولا: لا أود الدخول في جدل فقهي حول دلالات ومعاني الألفاظ عما إذا كان "دين القبائل الجنوبية هو أساس أعرافها" أو أن "العرف هو شريعتهم". ما أعرفه جيدا هو أن دستور جنوب السودان الانتقالي ينص صراحة في المادة 8 (1) على أنه "في جنوب السودان الدين والدولة منفصلان". وفى المادة 8 (2) "تعامل كل الأديان بالتساوي، وأن لا يكون أي دين هو دين الدولة، الدين والمعتقدات الدينية يجب أن لا تستخدم في بث الشقاق". فهل يا ترى، يصبح فصل الدين عن الدولة في الجنوب ادعاء لا أساس له كما أفتى السيد الصادق؟



    ثانيا: وضحت في الورقة بما لا يدع مجالا للشك أن ما يقصده مشروع السودان الجديد بفصل الدين عن الدولة (أو قل السياسة) لا يعنى، بأي حال من الأحوال، إبعاد الدين عن الحياة والمجتمع ولو بأي شكل من الأشكال. فهذا ليس بممكن لأن الدين جزء أصيل من الإنسانية وسمة أساسية للحياة حتى في أعتى البلاد علمانية في غرب أوربا وشمال أمريكا، إذ لا تفرض على المسلم أو المسيحي أن يهجر نفسه أو ينخلع عن ثقافته. فالمطالبة بفصل الدين عن السياسة لا يرجع فقط لأن كل السودانيين لا يدينون بالإسلام، بل لا يوجد إجماع حول قوانين الشريعة حتى وسط المسلمين أنفسهم، كما أكد السيد الصادق نفسه بالتفريق بين "رؤية المؤتمر الوطني" و "رؤية أغلبية مسلمي الشمال". بل المقصود هو أن تبقى الدولة محايدة تجاه أصحاب الديانات والمعتقدات المختلفة وأن لا يستغل الدين كعامل في الممارسة السياسية أو أساسا للقوانين التي يحتكم لها المواطنون أمام القضاء، بغض النظر عن دينهم، إلا بالطبع في قضايا الأحوال الشخصية. وهذا يستوجب الاستناد على العرف والقيم والشريعة كمصادر لقوانين الأحوال الشخصية، سواء في الجنوب أو الشمال. فكل ما تقترحه رؤية السودان الجديد هو أن الدين ينظم العلاقة بين البشر وخالقهم وهى علاقة بطبيعتها محكومة بالتشريعات الدينية في المجال الخاص. بينما الدولة مؤسسة اجتماعية وسياسية استنبطها البشر وينتمي إليها الجميع بغض النظر عن معتقداتهم الدينية المختلفة. ولذلك يجب أن لا نسيء تفسير المقصود بفصل الدين عن الدولة، سواء كان ذلك عمدا أو عن جهل، فنغرق أنفسنا في خلط المواضيع و نفرق بين شعبنا فينقسم الناس ويحصدون الشقاق نتيجة لذلك!!



    ثالثا: لا أدرى ما هو المشروع البديل الذي قدمه السيد الصادق لحل هذا التناقض بين "رؤية الجبهة الإسلامية/المؤتمر الوطني" و "رؤية غالبية مسلمي الشمال" في اتفاقية "نداء الوطن" التي وقعها مع نظام "الإنقاذ" في نوفمبر 1999؟ أم أن العلاقة بين الدين والسياسة، والتي كانت وقودا لحرب مدمرة أعاقت عملية بناء دولة المواطنة السودانية، لم تكن من أولويات السيد الصادق، فأكتفي بالعودة والتعايش مع "رؤية الجبهة الإسلامية"؟ لم نسمع عن حوار عميق وصريح وعلني بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني حول صيغة لهذه العلاقة تضع حدا للحرب وتحفظ للسودان وحدته وتجنبه نموذج "الدولة الواحدة بنظامين". والحقيقة تقال، فان دستور الجبهة الإسلامية (199 يمكن إطلاق صفة "العلمانية " علية من جهة أنه يمثل ثورة في مفهوم الإسلام السياسي للعلاقة بين الدين والسياسة، إن كانت العبرة بالنصوص وليست في القوانين وممارسات الدولة ضد مواطنيها من غير المسلمين أو المسلمين من أصحاب الرؤية المغايرة. ذلك أنه "ولولا غلبة الهيجان على الخطاب السياسي، والاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الخصوم، لصدق الناس أن ذلك الدستور يعني ما يقول. كانوا سيصدقون ما جاء به الدستور أيضاً إن لم تصبح برامج الإعلام في الراديو والتلفزيون الرسميين، وتصبح مناهج التعليم في مدارس الدولة، برامج تبشيرية لا يري المواطن غير المسلم وجهه فيها، ولا يرى وجهه فيها أيضاً المواطن المسلم صاحب الرؤية المغايرة للدين. هذه هي الأسباب التي جعلت أغلب خصوم النظام يقرئون الأحرف الدقيقة (fine prints) لا النصوص الواضحة في الدستور، ويتمهلون في الإطلاع على ما بين السطور، في الوقت الذي لا يلقون فيه إلا النظرة العجلى على السطور". (منصور خالد، الرأي العام، سبتمبر 2004)



    رابعا: ألم تكن رؤية الجبهة الإسلامية للعلاقة بين الدين والدولة هي السائدة عندما كان السيد الصادق رئيسا منتخبا للوزراء بين 1986 و1989؟ ألم يكن رأى السيد الصادق حينئذ أن قوانين سبتمبر، والتي كان الأخوان المسلمون آنذاك من وراءها، "لا تساوى الحبر الذي كتبت به" ولكنه لم يفعل شيئا حيالها وهو صاحب الأغلبية في الجمعية التأسيسية، حتى ولو "تجميدها" بعد الاتفاق على هذه الصيغة بين الحركة الشعبية والحزب الاتحادي الديمقراطي في نوفمبر 1988(اتفاقية سلام السودان الشهيرة باتفاقية الميرغني – قرنق)؟ وان اعتذر السيد الصادق بأن "حكومة الجبهة الوطنية المتحدة" في فبراير 1898 كانت بصدد تنفيذ الاتفاقية بما فيها تجميد قوانين سبتمبر، إلا أن الجبهة الإسلامية لم تمهلها بانقلابها في 30 يونيو 1989 لانطبق عليه مطلع الأغنية الشعبية "بعد ما فات الأوان جاى الليلة بتعتذر!".



    خامسا: أورد السيد الصادق ضمن تعقيبه على الورقة كلاما طيبا إذ يقول "إن السودان هو أفريقيا مصغرة بكل عناصرها الدينية والثقافية والإثنية، وان محاولة فرض رؤية أحادية دينية ثقافية على هذا التنوع يؤدى للاستقطاب والصراع ثم الاقتتال. تصويبا لهذا المسار اقترحنا أن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية في مؤتمر نيروبي عام 1993، واقترحنا الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية في مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا عام 1995". وهذا موقف نتفق معه تماما. إذن لماذا لا يتمسك السيد الصادق بالصيغة التوفيقية التي تراضى عليها مع أطراف التجمع الأخرى، بما فيها الحركة الشعبية، في نيروبي ثم في أسمرا، حول العلاقة بين الدين والدولة؟ وذلك بدلا عن ترديد عبارة فضفاضة عن "رؤية غالبية مسلمي الشمال"!. أو لم يمثل التجمع، على الأقل في ذك الوقت وحزب الأمة جزء منه، غالبية مسلمي الشمال؟ وان كان التوافق بين القوى السياسية حول هذا الموضوع ممكنا حينها، فما المانع من التراضي على صيغة تكون مقبولة للجميع الآن من أجل وحدة الوطن؟



    ويجدر التنبيه هنا إلى أن الحركة الشعبية عندما قبلت هذه الصيغة التوافقية، التي تقوم على مبدأ المواطنة الذي أعلن السيد الصادق تبنيه له، كانت تحاور أطراف التجمع الأخرى بما فيها حزب الأمة من خلفية ومنطلقات مشروع السودان الجديد. ولولا موقف حكومة "الإنقاذ" المتشدد حول هذه القضية أثناء المفاوضات لكان أيضا من الممكن التوصل إلى توافق بشأنها يغنى عن الحاجة إلى نموذج "الدولة بنظامين". وما يثير الدهشة أن السيد الصادق خلص إلى نتيجة مفادها أن "ما ورد في الورقة من تصوير للسودان الجديد فانه مشروع استقطاب جديد". فان ارتضينا الديمقراطية نظاما للحكم قوامه التنافس الانتخابي الحر، فماذا يمنع قوى التغيير من صوغ وتبنى برنامج انتخابي يشكل مشروع السودان الجديد أساسه الفكري والنظري؟ ولم لا، فالاتفاقية تبيح تغيير القوانين إن توفرت الأغلبية لقوى التغيير في الانتخابات القادمة، فتقرأ المادة 2.4.5 من اتفاقية السلام الشامل حول العاصمة القومية، حيث الشريعة الإسلامية وتطبيقها في العاصمة القومية "دون انحياز ضد حق أي مؤسسة قومية (برلمان) لإصدار قوانين" وهذا يعني ضمنيا أن ذلك البرلمان يمكنه إصدار أي قانون، بما في ذلك القوانين "العلمانية". إن موقف السيد الصادق المعادى والمتشكك في الاتفاقية هو الذي يمثل دعوة مبطنة للاستقطاب، فهو يهز الثقة بين الشمال والجنوب ويوصد الأبواب أمام التوصل لأي توافق لتحقيق المساواة القانونية لكل المواطنين، شماليين وجنوبيين، مما يجعل الوحدة طاردة وليست جاذبة.



    ولا يفوت على المراقب الحصيف أن موقف السيد الصادق من جميع الاتفاقيات، إن كان في السلطة أو في المعارضة، يكاد يشكل نمطا ملحوظا. فعندما كان رئيسا للوزراء تراجع عن "إعلان كوكادام"‘ في مارس 1986، والذي شارك فيه حزبه بحجة أن ممثله في الاجتماع (الأستاذ إدريس البنا) لم يكن مفوضا للتوقيع، وأن حزبي الجبهة الإسلامية والاتحادي الديموقراطى لم يشاركا فيه. وبعدها حين توصل الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية إلى اتفاق سلام السودان في 1988 لم يتحمس السيد الصادق للاتفاقية أو يباركها إلا بضغوط سياسية ومذكرة صادرة من قيادة القوات المسلحة، ففاتت عليه فرصة نادرة لقطف ثمار الاتفاق كقائد للبلاد ليصبح بطلا للسلام. كما أنه لاحقا قرر أن يحرر حزبه من "موات" التجمع الوطني الديمقراطي فعقد اتفاق "نداء الوطن" مع نظام "الإنقاذ" في 1999، فكان ثمن هذا التحرر خروجه "من المولد بدون حمص". وهاهو الآن يحرر من طرفه شهادة وفاة لاتفاقية السلام الشامل، والتي خلافا لكل الاتفاقيات السابقة لم يكن هو طرفا فيها. فما هو الحل؟ وما هي طبيعة الاتفاق الذي يرضى طموحات السيد الصادق؟



    السيد الصادق والمؤتمر (الدستوري) الجامع



    كما أشرت سابقا، يقول السيد الصادق إن "النظام الديمقراطي سعى لإنهاء الحرب الأهلية باتفاقية سلام عبر مؤتمر قومي دستوري يعقد في 18/9/1989. اتفق الطرفان على كافة مقدماته وكان من بين أسباب انقلاب 1989 الحيلولة دون انعقاد ذلك المؤتمر وإشقاء البلاد ب17 عاما من الحرب الأهلية". ومع أنه لم يذكر المؤتمر الدستوري أو الجامع إلا في هذه الفقرة من تعقيبه على الورقة إلا انه ما زال "يتمسك برؤيته للحل عبر مؤتمر دستوري تحول في إطار التحولات الهائلة إلى مؤتمر جامع" كما جاء في كلمة الأستاذ محمد لطيف في صحيفة "السوداني"، العدد 355 بتاريخ 3 نوفمبر 2006. أتطرق هنا إلى نقطة هامة قبل أن أدلى برأي في دعوة السيد الصادق لعقد مثل هذا المؤتمر. فلابد من تصحيح ما ورد في كلمة الأستاذ محمد لطيف إذ ذكر بأنه "تاريخيا يعتبر الإمام الصادق المهدي أول من أطلق مصطلح (مؤتمر دستوري) في منتصف عقد الثمانين من القرن المنصرم بعيد الانتفاضة الشعبية". فللأمانة التاريخية، دون أن أقصد تسجيل أي نقاط، فان أول من أطلق تعبير "المؤتمر القومي الدستوري" هو الراحل زعيم الحركة الشعبية، الدكتور جون قرنق. فقد اتصل به الرئيس جعفر نميرى آنذاك في منتصف عام 1984 عارضا عليه منصب نائب لرئيس الجمهورية كصفقة يقبل معها الراحل قرنق وضع السلاح وإيقاف الحرب. وبالطبع رفض جون قرنق العرض بقوه ورد على النميرى بتهكم "إن قبلت هذه الوظيفة فما هو مصير الآلاف من مقاتلي الجيش الشعبي؟ إن مشكلة السودان ليست في من يحكم بل في كيف يحكم". ومن ثم طرح زعيم الحركة الراحل فكرة عقد المؤتمر القومي لمعالجة "مشكلة السودان" و ليس "مشكلة جنوب السودان" في كل خطبه والرسائل المتبادلة بينه وبين التجمع النقابي، رئيس الوزراء الانتقالي، والتجمع الوطني من أجل إنقاذ الوطن. (كل الرسائل منشورة في: منصور خالد، جون قرنق يتحدث، 1987) كما اقترح القضايا التي تشكل أجندة المؤتمر والتي تمت الموافقة عليها من قبل التجمع وتبنيها والاتفاق بشأنها لاحقا في كوكادام (1986) وشملت، كما ورد في الإعلان، 1) قضية القوميات، 2) مسألة الدين، 3) الحقوق الأساسية للإنسان، 4) نظام الحكم، 5) التنمية والتنمية غير المتوازنة، 6) الثروات الطبيعية، 7) القوات النظامية والترتيبات الأمنية، المسألة الثقافية والتعليم والإعلام، و 9) السياسية الخارجية.



    ولا يمكن إلا لمكابر أو معاند أن يغض الطرف أو ينكر أن هذه هي أم القضايا التي كانت تؤرق الوطن وتسببت في اندلاع النزاع المسلح، والذي اقتصر في ذلك الوقت على الجنوب الجغرافي ومن ثم انتقل و تمدد ليشمل، إضافة إلى جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، دارفور وشرق السودان. كما لا يمكن لأي ناقد موضوعي أن لا يقر بأنها ذات القضايا التي تناولها مؤتمر أسمر للقضايا المصيرية، ومن بعد تأسست عليها اتفاقية السلام الشامل كم وجدت لها معالجات دستورية، فيما عدا قضية تقرير المصير الذي لم يكن مطروحا في ذلك الزمان، و موضوع التحول الديمقراطي والذي سبق وأن حققته الانتفاضة في أبريل 1985. إذن، لماذا يثابر السيد الصادق ويصر على دعوته لمؤتمر دستوري أو مؤتمر جامع؟ هل لأنه لم يشارك في المفاوضات؟ أو لأن قسمة السلطة لم تراع الأوزان الحقيقية للقوى السياسية؟ إن كان كذلك، فحزب الأمة ليس هو الوحيد من بين القوى السياسية التي حالت الظروف الموضوعية دون الاشتراك فيها.



    أما قسمة السلطة، فقد أقر الجميع، وعلى رأسهم الراحل زعيم الحركة الشعبية، بأنها قسمة "ضيزى" أملتها ظروف وشروط الحوار بين "بندقيتين". ذلك بجانب، أنه بينما كانت الحركة الشعبية تتفاوض من منظور "مشكلة" السودان" كانت الحكومة تصر على أنها "مشكلة الجنوب" مما أفشل كل المساعي الرامية لجلوس الأطراف السياسية الأخرى على طاولة المفاوضات. ومن ناحية أخرى، فانه ليس من الواقعية السياسية في شيء أن نتوقع أن يقبل المؤتمر الوطني تجريده من أغلبيته من خلال مفاوضات تحكم موازين القوى نتائجها. لذلك، تم الاتفاق على ترتيبات انتقالية لقسمة السلطة والشراكة بغرض إنفاذ اتفاقية السلام ثم الرجوع للشعب عبر انتخابات حرة وتحت مراقبة دولية ليعبر فيها عن حر إرادته في النصف الثاني من الفترة الانتقالية. ولمعالجة هذا الخلل، فان الاتفاقية نفسها نصت على إنشاء المفوضية القومية لمراجعة الدستور كآلية تباشر وتضمن عملية مراجعة دستورية مستمرة طوال الفترة الانتقالية. وتتشكل المفوضية من طرفي الاتفاقية وممثلين لكافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني. وحسب علمي فقد قدمت الدعوة لحزب الأمة للمشاركة في أعمالها، ولكن حتى وان رفض المشاركة فان الباب مفتوح وقنوات الاتصال مشرعة، وقد اشترك بالفعل مؤخرا في الحوار حول مسودة مشروع قانون الأحزاب.



    ولذلك، فان كان المؤتمر الدستوري آلية مناسبة في ظروف الانتقال التي خلقتها الانتفاضة الشعبية فانه لم يعد ملائما لأوضاع التحول الذي يعيشه السودان حاليا في أعقاب اتفاقية أوقفت الحرب وحسمت كل القضايا الدستورية مكان النزاع وحققت لجنوب السودان مكاسب عظيمة (بعد تضحيات جسيمة). ولعل المؤتمر الجامع قد يصلح لمناقشة ومعالجة الأوضاع الدستورية لدولة شمال السودان إن جاءت نتيجة الاستفتاء حول تقرير المصير لصالح انفصال الجنوب. ولكن، فى ظروف الانتقال نحو السودان الجديد فقد وفرت الاتفاقية فرصة أخيرة لوحدة الوطن، مما تعد معه أي دعوة لمثل هذا المؤتمر هي دعوة مبطنة لمراجعة الاتفاقية وإعادة التفاوض، مما يشكل وصفة جاهزة لاستقطاب جديد!. فالوحدة الطوعية كالزواج، تقوم على التعايش وقبول الآخر، ولا تأتى بالخناق!. فالدعوة هذه كعلبة "باندورا" في الأسطورة الإغريقية ما أن تم فتحها، بدافع الفضول، حتى انطلقت منها كل الشرور والرزايا!.



    خاتمة



    أختم مقالي هذا برجاء واقتراح للسيد الصادق المهدي.



    لابد أنه اتضح للقارئ الحصيف لماذا أزالت مداخلة السيد الصادق، تعقيبا على ورقتي "السودان الجديد: نحو بناء دولة المواطنة السودانية"، الغم عن الأستاذ الطيب مصطفى. فكلاهما يناصبان مشروع السودان الجديد العداء وإن انطلق كل منهما من منظور مختلف ومن منطلقات وخلفيات متباينة. فأرجو من السيد الصادق أن لا يطلق

    على أسماء أو أوصاف جاهزة ملها سمع الناس فأضحت مسخا لا معنى له. فأنا لا أروج لقناعات شخصية بل أعبر بصدق عن طموحات قاعدة عريضة من السودانيين في بناء وطن يسع الجميع ولا يعزل أحدا. فدعنا نؤسس لثقافة ديمقراطية قوامها الحوار العقلاني وقبول الآخر واحترام رأيه والإقرار باختلاف الآراء بدلا عن التمسك بأفضلية رأى على آخر.



    وأطلب منه أن يراجع، عله يتراجع، عن قناعته شبه الراسخة بأن الداعين لسودان جديد، خصوصا من منتسبى الحركة الشعبية من شمال ووسط السودان النيلي، ما هم إلا نخبة معزولة تتخذ من الحركة الشعبية مطية للوصول إلى السلطة. فقد وصفتهم بقسوة في خطابك، 22 ديسمبر 1999، إلى الراحل د. جون قرنق، وبالحرف ب"شذاذ الآفاق من المثقفين الشماليين الذين يطمعون في تجنيد الجيش الشعبي ليحارب من أجل أهدافهم "اليائسة" التي ليست لديهم الرغبة ولا الزخم الجماهيري للقتال من أجلها". فبالعكس، إن مشروع السودان الجديد الذي طرحته الورقة يعبر عن تطلعات قطاعات واسعة من السودانيين في شمال السودان وكافة أنحاء البلاد، وليس في الجنوب فحسب. فخروج الملايين من كل صوب وحدب لاستقبال زعيم الحركة الشعبية الراحل بالخرطوم في 8 يوليو 2005 في حشود لم يشهد السودان لها مثيلا في تاريخه المعاصر يقف شاهدا ويقدم دليلا لا يمكن تجاهله، مهما حاول البعض التقليل من شأنه وتفسيره بأن كراهية للنظام وليس تعلقا للناس بمشروع السودان الجديد. فقد خاطب المشروع وجدانهم وأسر عقولهم وقلوبهم ووجدوا فيه أنفسهم.



    فحقيقة، منذ أول لقاء جمعنا بالراحل زعيم الحركة الشعبية فى عام 1986، راودنا حلم واستهوتنا فكرة وطرح متقدم لمشروع وطني ديمقراطي قابل للتطبيق ويحقق لنا دولة المواطنة التي ننشدها. فمن الطبيعي أن نقف مع صاحب الرؤية، طالما كان سودانيا، لندفع بها إلى الأمام. فلو جاء هذا المشروع من السيد الصادق أو أي زعيم سوداني آخر لما ترددنا لحظة في تأييده والوقوف من خلفه، فهل يعقل وصف من يفعلوا ذلك ب"شذاذ الآفاق"؟؟



    وعودة لمنصة الفكر التي انطلقت منها هذه المساجلة ابتداء، دعني أتقدم باقتراحي. أغتنم هذه الفرصة لاقترح على السيد الصادق فكرة عقد "مؤتمر فكرى" لمناقشة الموضوعات مصدر الخلاف في محاولة للإجابة على الأسئلة المطروحة حول مفهوم المواطنة ودولة المواطنة، قضية الدين ودوره في الدولة والمجتمع، التعددية الثقافية ودولة المواطنة، الهجرة وبناء الدولة، العولمة ودولة المواطنة، موروث الرق وأثره على مفهوم المواطنة، ودور المثقفين في غرس ثقافة الديمقراطية وصناعة الهوية الوطنية وسياسات الدولة. ومن المفيد أن ندعو لهذا المؤتمر لفيف من المفكرين من أفريقيا، العالم العربي‘ آسيا، وحتى من أوروبا وشمال أمريكا، وذلك بغرض استعراض التجارب وتبادل المعرفة، واستخلاص الدروس التي تعيننا على الوصول إلى توافق نحو بناء دولة المواطنة السودانية. ولعل أحد مراكز الدراسات والبحوث الجادة يبادر ببلورة هذه الفكرة في شكل مقترح بحثي ويعمل على تنظيم واستضافة هذا المؤتمر ربما بالتنسيق مع أي مؤسسات أخرى تقع هذه الموضوعات في دائرة اهتمامها. فعقولنا وقلوبنا مفتوحة لمثل هذه المبادرات!

    تونس

    نوفمبر 2006
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de