|
عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير
|
عن المقابر نحكي
بقلم: وجدي الكردي وأنا بعد طفل صغير، لا أعرف الفرق بين شاهدي القبر والمحكمة، توقف قبالة بيتنا لوري «عبدو ضوي» العتيق بوادي حلفا، وقبل أن يزفر أنفاس دخانه من منخر العادم المتهالك، تسلل جثمان والدي من ثقب ضلفتي الباب محمولاً على الأكتاف ليتمدد بقامته الفارعة على ظهر اللوري الذي يتشح في بردعة من الصاج المتآكل التعس. أتكئ في بلاهة على جذع شجرة المهوقني وإبهامي يغوص في فمي أرقب القوم يتكالبون على أبي ويحيطون به ملتصقين على حواف اللوري الذي إرتجّ إيذاناً بالرحيل. لم يهمني من أمرهم شئ، وأنا السعيد بأن أبي كان يبدو مهماً يومها. إنتهرني جارنا «حسّان» طالباً اللحاق بهم، رغم ان اللوري غادر مخلفاً دخاناً كثيفاً من عويل النساء وغبار النحيب المتصاعد لأعلى، لكني أدركت آخر سيارة في عجيزة موكب الجثمان الأبيض. عند حافة القبر، عبثت بحصاة سرعان ما خبأتها في قميصي لأنها تصلح ضرّاباً للعبة «البلي»، والقوم أيضاً خبأوا أبي في الحفرة ثم أسرعوا نحو السيارات ينتعلونها. في المساء، أحدثت ثقباً بين كتل اللحم النسائي المتراكم جوار أمي وسألتها: ــ يمّة..أبوي مات ليه؟ ــ كان عيّان ياولد. ها.. أيكفي هذا مبرراً كي يهيلوا عليه التراب؟!
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«1» تلك كانت تجربتي الأولى مع الموت والمقابر، بعدها صحبت موتى كثيرين ممّن غابوا تحت الثرى، أو من الذين يزالون يمشون على قدمين وهم من زمرة الجثامين، في تحدٍ سافر لفضيلة القبر الساتر. تجربتي الاخيرة خضتها قبل أيام، وأشعة شمس الظهيرة تعرت من غلالات الغيوم وبدت سافرة، ذهبت لمقابر حلة حمد، لا لشئ، فقط لتمعن الموتى وهم مستلقون في المقابر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«2» في المقابر تاريخ إجتماعي ضخم مدون على شواهد القبور، فهي بالإضافة إلى ما تحويه من معلومات تاريخية عن حياة الأفراد ومكانتهم العلمية والاجتماعية، تعد شاهداً موثوقاً بدلالاته على مستوى الحياة الاقتصادية والعلمية للفترة التي كتب فيها الشاهد، من شكل الخط ولغة عباراته ونوعية الشاهد الذي كتبوا عليه ــ صفيحاً كان أم رخاماً ــ فضلاً عن دلالتها وفصاحتها وقوة تأثيرها على زائر القبر الذي يتطوع بعد قراءته لمحتواها بالدعاء إلى الله أن يغفرله، أو يفغر فمه لغرابتها..!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«3» لغرابتها توقفت قبل أن أغوص في مهمتي، سيدة بلاستيكية الملامح تنتصب في بوابة المقبرة وأطفال كثر في أعمار متقاربة وأشكال متشابهة كأنما نسختهم بماكينة تصوير في بطنها، السيدة كانت مثل الكمساري «تطقطق الشُفع»، تقلع من هذا وتخطف من ذاك وتسحب واحداً لتخرج من ثنايا سرواله ألف جنيه كرفسه «العكليت» في عناية للفرار به من نقطة العبور.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«4» نقطة العبور التي عنيتها هي والدة الاطفال، تطلقهم لزوار المقابر لتبتز بهم أهل الميت بتوسلات من شاكلة: ــ عليك الله كان ما أديتني ألف جنيه رحمة بالميت ده..! وفي براءة الاطفال وسذاجتهم يردفون: ــ الله يخليهو ليك! لا تملك أمام الطوفان «التسول» إلاّ ان تدفع رسوم العبور، ألفاً أو ألفين، وأياك والعملات المعدنية لأن شآبيب الرحمة لن تتنزل على قبر فقيدك حسبما أفتي به فقهاء «التسول» الصغار.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«6» بالرحمة وحدها يقتات الموتى، عبارة لافتة على شاهد قبر كاد يطمسه المطر، قرأته وأنا في طريقي لمثوى الشهيد الزميل محمد طه محمد أحمد، لم أجد عنتاً في تحديد قبره الذي لم يمض على تشييده أسبوعان، كنت قد تعرفت ساعة دفنه على جيرانه الجدد في دار البقاء، من جهة الغرب تسكن عيشة محمد، وجنوبه يرقد الموسيقار إسماعيل عبد المعين.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«7» إسماعيل عبد المعين ـ نقلا عن يحي فضل الله ـ من اوائل الموسيقيين الذين تعلموا العزف على العود في بداية الثلاثينات، جاء بايقاع التم تم من الحكامات اللائي اخذنه عن «مساعدية اللواري» الذين كانوا بمثابة اذاعة السودان كأكفأ وسيلة إتصال ــ قبل أن ينطلق أثير امدرمان ــ بأشعار على شاكلة: ياربي تجيب الصيف ننجر مع الشنيف الليل بوبا ودوني لي غبيش وقال لي حشي العيش *** الألمي الفي الحجر شربا الحمام وسدر والفقر ماندورا كان قبة ما نزورا وفي أواخر أيامه حاول عبد المعين، إعانة الاغنية السودانية بمدرسة جديدة أطلق عليها «الزنجراب» وهي مزاوجة بين الزنجي والعربي في منظومتي اللحن والايقاع، وللتدليل ان التم تم أصلها من كردفان كان كثيراً ما يحكي قصة الاغنية المشهورة: يا أم قرقدناً جبدي كان يبقي زي حقي دي..!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«8» دي ملاحظة مهمة، قلتها بصوت عال سرعان ما أدرت مفتاح الفكرة لأخفضه حتى لايظن بي المارة أو أفراد نقطة العبور الظنون، ملاحظتي تقول ان الفقر يصحب سيده إلى القبر، وإلاّ كيف نفسر ان بعض القبور شيدت من رخام صقيل، فيما إتخذت أخريات قطعة صفيح ثقيل عنواناً لها؟! هل تصدق ان قبراً من رخام لأحد المشاهير من الاغنياء، وضعوا على حافته «سبلوقات مطر» حتى لاتفسد سطح قبر العزيز؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عن المقابر نحكي .. زيارة إلى صاحب الوفاق في مثواه الأخير (Re: وجدي الكردي)
|
«10» التسول وفق معايير أخلاقية رفيعة شاهدتها بأم عيني، جاءت أسرة من رجال ونساء لتتوقف جوار قبر بدد سنامه عزيف الريح وصفير المطر، وقبل ان ترتفع الاكف بالدعاء، إنطلق شاب مثل السهم من قوس الإنتهاز، إنكفأ على القبر في حنو مستعيناً بسفنجته المرهقة يلملم أطراف تربته إلى أعلى. لم يرفع رأسه قط على طريقة: ــ شايفين التعب ده؟ كيف ينكرونك ياصاحبي، وما هذا بمكان يشح فيه الناس وآفة الموت تطل بعنقها اللا مرئي.. ساوى القبر مستعيناً بكل الادوات الممكنة، سفنجته وكفيه وبعض أصابع قدميه ثم أخرج من طيات ملابسه «قزازة كريستال»، مثل سكير راوغ شرطياً لم يكن حريصاً على الامساك به، سكب الشاب محتويات الزجاجة من ماء بحرفية عالية غطى بها كل مساحة القبر المتقوس، ثم إستعدل ظهره المقوس منتصباً ومواجهاً أسرة الفقيد، ماسحاً العرق من وجهه المعفر بالتراب. إستدار الشاب ليغيب بين شواهد القبور ولم ينجح بما فيه الكفاية في دس الورقة المالية الحمراء في جيب بنطاله الخلفي
| |
|
|
|
|
|
|
|