جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال: تأليف الدكتور محمود قلندر، عرض وتحليل أبوشوك

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 08:28 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-26-2006, 10:20 PM

Ahmed Abushouk

تاريخ التسجيل: 12-08-2005
مجموع المشاركات: 344

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال: تأليف الدكتور محمود قلندر، عرض وتحليل أبوشوك

    جنوب السودان
    مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال
    تأليف: الدكتور محمود قلندر

    عرض وتحليل: د. أحمد إبراهيم أبوشوك
    تقديم
    إن القراءة التاريخية لأحداث الماضي البشري تحكمها منطلقات شتى، تختلف باختلاف التوجهات الفكرية للباحثين، ودرجة استيعاب القُرَّاء للمادة التاريخية التي يعرضونها، فالإطار الفكري لكل باحث يمثل البِنْية التحتيَّة التي يقوم عليها صرح مفردات الحدث التاريخي المُدوَّن من وجهة نظر ذلك الباحث، الذي يستقي مرجعيته من تراث الماضي وفق حزمة من الأسئلة المتأثرة بإسقاطات الحاضر، والمرتبطة بقضايا الـهُويَّة، والأصالة، وإثبات الوجود البشري الفاعل في تحديد مسارات حياة الناس العامة والخاصة. فإسقاطات الحاضر على الماضي تؤثر سلباً أو إيجاباً في توجيه دفَّة الحياة الإنسانية، لأنها تصوغ مرجعية الماضي من منظور انتقائي، قائم على تعتيم الجوانب المظلمة من حركة التاريخ، وتسليط الضوء على الجوانب المشرقة، فهذا الاتجاه من التأليف يصب في وعاء ما يُعرف بالتربية الوطنية، أما الاتجاه القائم على جمع شتات السلبيات دون الإيجابيات فهو اتجاه معاكس يقضي بتفتيت وحدة البناء الوطني، وذلك إذا افترضنا جدلاً أن الدولة القُطرية هي الوعاء الأنسب لمناقشة وقائع التاريخ الحديث. ومن ثم فإن القراءة التاريخية الفاحصة يجب أن تكون قراءة شاملة في إطار ظروف العمران البشري الذي تشكلت فيه أحداث الماضي، ومن خلال فهم ثاقب للمقاصد الكامنة وراء تلك الأحداث، بعيداً عن إسقاطات الحاضر المعشعشة في مخيلة التراث الشعبي. وبهذه الكيفية تستطيع مثل هذه القراءة أن تسهم في تأسيس وعاء معرفي لفهم الجوانب التاريخية التي لديها حضور كثيف في تشكيل مفردات الحدث التاريخي المعاصر.
    وتقودنا هذه التوطئة إلى القول بأن قضية الصراع السياسي والحرب الأهلية في جنوب السودان هي من أهم القضايا التي تستند معطياتها الأولية إلى الفعل التاريخي البشري، الذي تتبلور معالمه في مجاهدات إنسان الجنوب المحارب من أجل تراثه المحلي، وفي سيادة المستعمر (التركي، والإنجليزي-المصري) الذي سعى بشتى السبل والوسائل لفرض سلطانه على السودان وتحقيق تطلعاته الاستعمارية، وفي تركة إنسان الشمال الذي ورث سيادة دولة السودان القُطرية المستقلة، إلا أن هذه السيادة قد طعن في شرعيتها شريكه في الجنوب، وبذلك انهارت الثقة بين شقي القُطر الحر المستقل، وتدريجياً تحوَّل هذا الانهيار إلى حالة أزمة، ثم بلغت هذه الأزمة ذروتها في الصراع السياسي المسلح الذي جثم على صدر بلد المليون ميل مربع قرابة نصف قرن من الزمان. وبذلك أضحت مشكلة جنوب السودان تمثل محور اهتمام العاملين في الحقل السياسي، والباحثين في الشأن السوداني، وترهق مخيلة رجل الشارع العادي الذي أثرَّتْ الحرب الأهلية في لقمة عيشه التي يكتسبها بجهد الأنفس في أرض الوطن المتصدع أو في بلاد المهجر التي شدَّ رحاله إليها بغية العيش الكريم أو الهروب من صلف السياسة في السودان. وعلى هدي هذه الخلفية تنوعت آراء العاملين في الحقل السياسي والباحثين في المؤسسات الأكاديمية وغيرها حول تحديد الأسباب الكامنة وراء مشكلة الجنوب، وكيفية معالجتها من خلال أطروحات تهدف إلى إعادة صياغة مفهوم الـهُويَّة، وطبيعة المشاركة في السلطة، وكيفية توزيع الثروة، تعللاً بأن حل هذه القضايا المصيرية ومثيلاتها وفق معاهدات يتراضى عليها الخصوم سيسهم في ترميم شبكة الاتصال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي بين أبناء السودان الواحد، وفي إعادة الثقة المفقود بين الخصوم، ثم الإسهام في دفع عجلة النماء والتطور التي تمثل بُعد اتصال آخر.
    فقد وقفنا في هذا الشأن على جملة من الأطروحات التي روج لها ونشرها نفر من أعلام أهل السودان، ونذكر منهم الأستاذ الجامعي محمد عمر بشير، ورجل القضاء والسياسة الأستاذ أبيل ألير، والدبلوماسي-السياسي الدكتور منصور خالد. فلا شك أن هذه الأطروحات تحمل بين ثناياها كثيراً من القواسم المشتركة وخطوط التماس المختلف عليها، لكن هذا الاختلاف لا يؤثر في قيمتها المعرفية، لأنها تقدم المعطيات التي تقوم عليها مادة الحوار الهادف، الذي يسهم في وضع الحلول المناسبة، وتقديم صوت العقل على صوت الرصاص.
    ومن تلاميذ المؤسسة العسكرية التي ترعى صوت الرصاص خرج إلينا اللواء معاش الدكتور محمود قلندر بكتابه الموسوم بـ "جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال، 1900-1983م"، والكتاب في مجمله عبارة عن قراءة تاريخية لحيثيات مشكلة الجنوب من خلال منهجية جديدة تستمد شرعيتها من أدبيات "علم الاتصال الاجتماعي"، الذي يُدرِّس مادته الدكتور قلندر في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا. والكتاب موضوع مُدارستنا صدر عن مطابع دار الفكر الدمشقية، في هذا العام (2004م)، فهو يتكون من 342 صفحة من الحجم المتوسط، تتصدرها كلمة أستاذ علم السياسة الدكتور مدثر عبد الرحيم الطيب، الذي ثـمَّن مادة هذا السفر القيم، ووصفه بأنه "دراسة لا تقوم على التعميم المبتسر الذي درج عليه كثير ممن عرضوا للموضوع، ولا سيما من ذوي النـزعات الحزبية، والتوجهات الدعائية المعلنة أو الخفية، بل على الاستقاء المتأني لتفاصيل الأحداث والوقائع التاريخية عبر مرحلة محددة بالغة الأهمية، ... تنامت في أثنائها عوامل الفرقة وفقدان الثقة بين طرفي القطر، بصورة تراكمية مأساوية." (قلندر:ص 13) وتلت هذه الكلمة مقدمة الكتاب وفصوله الستة، ثم الخاتمة وثبت المراجع العربية والإنجليزية.
    وفي مراجعتنا لهذا الكتاب القيّم في موضوعه سيدار النقاش عبر ثلاثة محاور أساسية، وذلك حسبما جاء عليه الترتيب الموضوعي لمادته التاريخية، ولا شك أن كل محور سيقدم المعطيات الموضوعية التي تقودنا إلى استيعاب نتائج المحور الذي يليه. ويمكننا من خلال هذا العرض أن نري إلي أي مدى استطاع الدكتور قلندر أن يوثق لرصيد مشكلة الجنوب المترابط الحلقات والمتداخل الأدوار من خلال قراءة جديدة تقوم على مفهوم انهيار الاتصال، الذي أطَّر له لويس كوزر (Lewis Coser) في خمسينات القرن الماضي، كحالة "اجتماعية-نفسية ناتجة عن وجود واقع اجتماعي وثقافي ونفسي شديد التباين بين الأطراف المشتركة في عملية الاتصال". وتظهر هذه الحالة في شكل نزاع منبثق عن إحساس أحد الأطراف بأن الطرف الآخر يخالفه في المواقف، أو الآراء، أو يزاحمه على موارد الكسب المحدودة، ويَعقُب ذلك غضب عارم، يتراكم في شكل حقد وكراهية تجاه الطرف "الظالم"، ومحصلة ذلك تكون الاقتتال، الذي يفضي إلى انهيار الثقة وردم جسور الاتصال بين الخصوم (قلندر: ص 16-17). ومفهوم الاتصال المستخدم في هذه الدارسة هو مفهوم شامل للواقع الثقافي والاجتماعي الذي يحيط بالأفراد والجماعات، ويشكل قدرة استيعابهم للبيئة التي يعيشون فيها، وطبيعة قنوات الاتصال التي تعارفوا عليها، وفاعلية القوانين التي استنوها لتحكم دقائق بيئاتهم المحلية. هكذا يشكل الدكتور قلندر الهيكل النظري لدراسته، الذي يقوم على فرضية مؤداها أن مشكلة الجنوب في أساسها "صراع اجتماعي وثقافي، قبل أن يكون صراعاً سياسي الأبعاد." (قلندر: ص 1 لذا فإن الحلول السياسية، من وجهة نظره، هي عبارة عن مسكِّنات لوقف نزيف الدم الذي يمثل مراحل الصراع في ابشع صورها، إلا أنها لا تسهم إسهاماً مباشراً في معالجة معطيات الأزمة الاجتماعية والثقافية، القائمة على انعدام الثقة وانهيار قنوات الاتصال. ومن ثم فإن المعالجة المثلى، كما يرى قلندر، تكمن في خلق أرضية اجتماعية وثقافية، تُشق فيها قنوات الاتصال الأفقية بين عامة الناس، والرأسية بين الحاكم والمحكوم، وعلاوة على ذلك يجب أن ترعى هذه القنوات وتصنها مؤسسة سياسية واعية بأبعاد المشكلة الحقيقية.

    مشاهد من التاريخ على طريق انهيار الاتصال
    يقدم هذا المحور عرضاً تحليلياً للفصل الأول الموسوم بـ "مشاهد من التاريخ على طريق انهيار الاتصال"، وذلك من خلال قراءة تاريخية تسلط الضوء على علاقات الاتصال التي نشأت بين الشمال والجنوب، ودواعي الانهيار التي لازمت مراحل نشأتها وتطورها في الاتجاه المعاكس، وذلك ابتداء بالعهد السناري (1405-1821م)، ومروراً بالعهدين التركي (1821-1881م) والمهدوي (1881-1898م)، وانتهاءً بالحكم الإنجليزي-المصري (1898-1955م) وتداعياته. ويوضح الدكتور قلندر في مدخل حديثه عن هذه القضايا ومثيلاتها، أن واقع الحال في الجنوب كان واقعاً احترابياً آنذاك، قوامه الصراع والاقتتال، الذي فرضته ظروف الحياة القبلية، التي كانت تشكو من عدم وجود أية سلطة مركزية تنظم علاقاتها الاجتماعية، وتشرف على تقسيم موارد الثروة المحدودة بطريقة عادلة تكفل حق الجميع. ويبدو أن هذا الواقع قد دفع اللواء قلندر إلى القول بأن الصرع بين القبائل في الجنوب كان "متصلاً ومستمراً" إلى حد يرقي إلى درجة "الفوضى" السائدة في أواسط المجتمعات البدائية. ويرجح الرأي بأن مثل هذا التناحر كان سبباً تاريخياً دفع "سلاطين السلطنة الزرقاء إلى الحذر من التعامل السياسي مع الجنوب، باعتبار أن مثل ذلك التعامل يمكن أن يغرق الدولة في مستنقع من الصراعات الجانبية التي تلقي بظلالها على الاستقرار الهش لتلك السلطنة" (قلندر: ص 30). ومن هذه الزاوية ينظر المؤلف إلى مؤسسة الرق في ذلك العهد باعتبارها ظاهرة اجتماعية، أفرزها واقع الحال القائم في الجنوب والشمال على مبدأ الصراع ذي البُعد الاقتصادي، الذي تجسدت حصيلته في جيوش من الأسري تمَّ استرقاقهم، وأصبحوا جزءاً من المغانم القبلية في الجنوب، ومغانم السلطنات الإسلامية في الشمال. إلا أنه يقر بأن مؤسسة الرق لم تكن مؤسسات جامدة في السودان، بدليل أنها قد اكتسبت بُعداً أيديولوجياً وعرقياً مزدوجاً، عندما حُصرت مصادرها في القبائل اللادينية، وارتبط دورها الوظيفي بمؤسسات السلطة والولاية في شمال السودان.
    أما العهد التركي فقد كان يمثل مرحلة هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية أعمق، تجلت معالمها، حسب رأي المؤلف، في بسط سلطان الحكم التركي السياسي على بعض أجزاء الجنوب بقوة القهر والسلاح، وفي تمكين نفوذه الاقتصادي بتوسيع دائرة التعامل في الرق ونهب خيرات البلاد الأخرى، وفي تنشيط عمل الهيئات التبشرية المسيحية، والسماح لبعض القيادات المسلمة، التي قدمت إلى الجنوب إما في صحبة الحاكم التركي، أو بدافع التجارة في الرقيق وسن الفيل وريش النعام، بممارسة نشاطها الدعوي الإسلامي في أحراش الجنوب. وحصيلة ذلك كله تبلورت في "مرحلة القهر المسيء، حيث استغل الضيف القادم بساطة المضيف، فعاث فساداً في أرضه، وانتهك حرمة المجتمع، وسعى لخلخلة تماسكه الاجتماعي بتجريده من مقوماته الأساسية، وإفراغ النظام الاجتماعي الراسخ لقرون من محتواه بالقتل أو الاسترقاق، أو حتى التناسل." (قلندر: ص 75). وبهذه الكيفية ضعفت فرص الاتصال الاجتماعي والثقافي القائم على التراضي بين الطرفين، وبدأت مظاهر النفور والحقد والكراهية تطفو إلى السطح.
    وهذا الواقع لم يتغير بمجيء الحكومة المهدية (1881-189، لأن المهدية نفسها لم تنجح في بسط سلطانها على الجنوب، ولم تفلح في إعادة ثقته المفقودة في الشمال، لذا "فإن القبائل الجنوبية عادت إلى سابق حالها من الصراع والاحتراب، إلى أن جاءت الإدارة البريطانية، وأخذت في بسط نفوذها على المنطقة مرة أخرى." (قلندر: ص 54) بيد أن بسط نفوذ المستعمر البريطاني في جنوب السودان، كما يرى قلندر، لم يتم بين عشية وضحاها، ولم تستقبل القبائل الجنوبية المستعمر الجديد بالبشر والترحاب، بل واجه المستعمر حرباً ضروساً، انطلقت من حرص إنسان الجنوب الفطري على سيادة نظامه التقليدي وسيطرته، ومحاربة أي نظام اجتماعي دخيل يقضي بتقطيع أواصر مؤسساته التقليدية العتيقة. ويعلق قلندر على هذا الواقع الصدامي بقوله: "تحول الإداريون [البريطانيون] إلى حكام متسلطين لايهمهم من أمر الجنوب إلا أن يدين لهم بالقهر. فوجدت قبائل الجنوب نفسها في مواجهة عنف أحمق، تصدت له بما يستحق من ثبات، وأقبلت على ما رأته واجباً في حماية الموروث الاجتماعي، بفدائية تجبر على التقدير والاحترام". (قلندر: ص 60) وبعد أن دانت القبائل الجنوبية لسلطة القهر والاستبداد حاول المستعمر أن يمزق أوصال الاتصال الثقافي-الاجتماعي بين الشمال والجنوب، حيث حرص على تشجيع التبشير المسيحي، ووضع التعليم المدني تحت إشراف مدراس الإرساليات الكنسية، وجعل الإنجليزية اللغة الرسمية في جنوب، وحارب مظاهر الثقافة العربية الإسلامية، حيث منع رؤساء القبائل من اتخاذ أسماء عربية أو لبس الزي العربي، ثم أبعد التجار الشماليين من الأسواق الجنوبية، والعاملين المسلمين من وظائف الدولة في الجنوب. وبلغت هذه الروح الانفصالية ذروتها بإصدار قانون المناطق المقفولة الذي سعى إلى عزل الجنوب إدارياً، وثقافياً، واجتماعياً من الشمال، وبذلك غُرست بذور الفرقة والشتات بين أبناء الوطن الواحد، وشُيد حاجز نفسي بين طرفي القطر، يقوم على تراث مؤسسة الرق، واختلاف العرق والدين. وبذلك استطاعت الإدارة البريطانية، كما يرى المؤلف، أن "تـُمدِّن" جنوب السودان في إطار قيمها الغربية وبعض ثوابت تراثه المحلي، ونجحت أيضاً في "اجتثاث كل نبتة اتصال اجتماعي نمت أو تحاول أن تنمو بين الشمال والجنوب." (قلندر: ص 7.

    الشمال والجنوب ومشاهد انهيار الثقة والاتصال
    يعطى المحور الثاني قراءة تحليلية للفصل الثاني المعنون بـ "الشمال والجنوب: مشاهد انهيار الاتصال"، والفصل الثالث الموسوم بـ "وقائع الانهيار"، والفصل الرابع الذي أطلق عليه المؤلف: "عبود والجنوب: مشاهد تعميق الانهيار". والمحصلة الوسطى التي تجمع بين هذه الفصول الثلاثة هي عملية انهيار الثقة بين أبناء السودان الحر المستقل، وفشل النُخب السودانية الحاكمة في صيانة جسور الاتصال والتواصل بين الجنوب والشمال. ويمهد الدكتور قلندر لهذا المشهد الحزين بنظرة سريعة إلى نشأة الحركة الوطنية السودانية، التي يصفها بأنها حركة "نخبوية حضرية"، انحصر اهتمامها في قضايا النضال السياسي المرتبطة بدوائر الحكم البريطاني في الخرطوم، وإن اهتمامها بقضية الجنوب لم يأخذ وضعاً محورياً إلا في عقد الأربعينات، عندما سلم مؤتمر الخريجين العام مذكرته الشهيرة إلى السكرتير الإداري، وانتقد في بعض بنودها سياسة الحكومة الرامية إلى "تغريب الجنوب عن الشمال"، ثم نادى بضرورة إلغاء قانون المناطق المقفولة، ورفع القيود على حرية التجار والتنقل بين الشمال والجنوب، وإلغاء الإعانات الممنوحة للإرساليات، وتوحيد برامج التعليم بين شطري القطر. وأعقب هذا المشهد الإيجابي دعوة الحركة الوطنية إلى إلغاء المجلس الاستشاري لشمال، وإنشاء هيئة تشريعية للشماليين والجنوبيين معاً، ثم المشاركة في مؤتمر جوبا الذي انعقد في مايو 1947م، وتمخضت وقائعه في نبذ "فكرة الانفصال" والاعتراف "بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب". وقد حدثت هذه النقلة النوعية في الفكر الجنوبي في جو الوعود التي صاغها محمد صالح الشنقيطي، مدافعاً عن وجاهة وصل الجنوب بالشمال، ومذكَّراً "الجنوبيين بمحاسن الانضمام إلى الشمال"، التي تتمثل في "المساواة في الأجور"، والحصول على "الوظائف الجديدة المتاحة للموظفين والإداريين"، وإنهاء العداء الذي زرعته الإدارة البريطانية بين الشمال والجنوب. (قلندر: ص 112) فإن هذه الوعود البراقة، كما يرى المؤلف، كانت تمثل جزءاً من برامج الحملات الانتخابية للأحزاب الشمالية عشية الاستقلال، وجزءاً من الآمال المعقودة على أعمال لجنة السودنة، إلا أنها في حقيقتها كانت سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. وقد لخص الدكتور قلندر هذا الواقع المرير في عبارات البروفيسور محمد عمر بشير، الذي أفصح عن ذلك بقوله: وعندما أعلنت لجنة السودنة قرارها في أكتوبر 1954، انقلبت شكوك أبناء الجنوب التي انطوت عليها الجوانح أكثر من خمسين عاماً إلى مشاعر معادية صريحة.(قلندر: ص 116) وقد عبر الجنوبيون عن فقدان ثقتهم في الشماليين، عندما عرضوا الفيدرالية كنموذج أمثل لحكم الجنوب، متذرعين بأنه سيكون ترياقاً مضاداً لتغول الشماليين في إدارة الجنوب. إلا أن هذا العرض قد رُفض من قبل حكومة الأزهري الأولى، التي كانت تعتبر الفدرالية دعوة مارقة تقود إلى "انشطار الوطن في ليلة ميلاده". ومن ثم فإن هذا الرفض الصريح قاد إلى انهيار آخر في قنوات الاتصال بين الشمال والجنوب، وتجلت معالم ذلك في استقالة الوزرين الجنوبيين الوحيدين في حكومة الأزهري، وفي تحول الجنوبيين الناشطين إلى جماعة ضغط سياسي، أضحت تُعرف فيما بعد بالكتلة الجنوبية، التي كانت تسعى إلى تحقيق مطالب الجنوبيين المتمثلة في رفع أنصبتهم في الوظائف الإدارية، وطرح الفيدرالية كبديل أمثل لتنظيم علاقتهم السياسية مع الشمال. ونتيجة لرفض هذا المطلب المشروع من قبل الساسة الشماليين "تجسدت رغبة الجنوبيين في الابتعاد نفسياً عن السلطة التي تتآمر على الأهل والولد". (قلندر: ص 119)
    فلا عجب أن هذه القطيعة النفسية قد قللت فرص الاتصال بين شطري القطر، وجعلت الظن السيئ والشك المميت في نوايا الشماليين يبثان سمومهما في أوساط الجنوبيين، الذين بدأوا ينظرون إلى رحيل القوات الاستعمارية بأنه يعني "وقوف الأعزل دون حام ولا نصير"، ويجسد بداية انفراد الشمال بالجنوب. ويصور لنا الدكتور قلندر في عدد من صفحات الفصل الثالث، كيف تحول هذا الشك والكراهية إلى مواجهة رافضة الانصياع لإدارة الحكومة السودانية الانتقالية، ثم كيف تبلور هذا الواقع في سلسلة من المؤامرات السياسية والصدام المسلح عيشة الاستقلال. فتخفيض العمالة في مشروع الزاندي بحجة سوء الأداء وقلة العطاء عارضته الجبهة المعادية للاستعمار في الشمال، تحسباً بأنه سيقلص دائرة نشاطها الماركسي في أوساط العاملين في جنوب السودان، وعارضه أيضاً بعض الساسة الجنوبيين وأهالي الزاندي، تعللاً بأنه سيؤدي إلى تكريس سلطة الشماليين العاملين في المشروع على حساب أهل الأرض في الجنوب. وأخيراً تحولت هذه المعارضة إلى مظاهرات عارمة في أنزارا راح ضحيتها نفر من أهل الجنوب. فلا جدال أن هذا الحادث كان يمثل شرارة الصدام المسلح الأولى، التي أشعل فتيلها الغُل السياسي، والثقة المفقودة بين أبناء السودان، الذين كانت تتوزع مشاعرهم بين الفرح بقدوم الاستقلال، والحزن لما يجري في الجنوب، وبين هذا وذاك نلحظ أن وسائل الاتصال الرسمي والشعبي كانت عاجزة عن توحيد هذه المشاعر المتناقضة.
    ومع اقتراب يوم الجلاء (أي جلاء القوات الاستعمارية من السودان)، كما يرى المؤلف، "انطلقت عناصر الكتلة الجنوبية في مختلف مدن وقرى الجنوب تبشر بمبدأ الفدرالية، وتشرح لبسطاء المواطنين معناه، باعتباره السبيل الوحيد لمقاومة سيطرة الشمال المنتظرة بعد الاستقلال. وفي سبيل كسب التأييد للفدرالية، استعملت القوى السياسية الجنوبية كل أساليب الترويج الدعائي، فتمادت في دعايتها إلى حد تصوير الاستقلال وكأنه بداية احتلال جديد للجنوب من قبل الشمال". (قلندر: ص 126) ويعضد هذا التوجس وقائع الاجتماع الذي عقده السياسي المرموق بوث ديو في منـزله بتوريت مع نفر من الساسة والعسكر الجنوبيين، ويلخص الدكتور قلندر توقعات بوث ديو التي نقلها لأحد الضباط الذين حضروا الاجتماع في النقاط التالية:
    1. "إن السياسيين الشماليين يضمرون للجنوب نوايا سيئة بعد أن يكتمل الاستقلال،
    2. إن عدداً من الساسة الجنوبيين سيتقدمون بمطالب من أجل الاتحاد الفيدرالي،
    3. إنه في حالة عدم الاستجابة لمطلب الاتحاد الفدرالي سيسعون إلى الاستقالة من البرلمان ليحدثوا انهياراً يمكن أن يقود إلى عودة القوات البريطانية". (قلندر: ص 134-135)

    وفي ظل هذه الظروف المشوبة بالتوجس والحذر رفضت حكومة الخرطوم مشروع الفيدرالية، وواصلت سيرها قُدماً تجاه التحضير ليوم الجلاء واستقلال السودان الموحد، ومن جملة التدابير التي اتخذتها في هذا الشأن: "إخطار سرية توريت الثانية بالانضمام إلى حامية الخرطوم" التي ستكون بمثابة رمز من رموز التوحد الوطني، وترحيل قوة من قوات الهجانة المقيمة الخرطوم إلى مدينة جوبا عاصمة المديرية الاستوائية. فلا غرو أن هذه التدابير قد فُسرت تفسيراً سالباً من قبل بعض الساسة والعسكر الجنوبيين الذين اعتبروها نقطة انطلاق لتمكين سيطرة الشمال على الجنوب. ويبين الدكتور قلندر كيف احكم هؤلاء الرافضون حلقات التآمر وإعداد المسرح النفسي في الجنوب، عندما وزعوا برقية "مزورة" باسم السيد إسماعيل الأزهري، وكانت هذه البرقية تٌقرأ كما يلي: "إلى رجال إدارتي في المديريات الجنوبية الثلاث. لقد وقعت الآن على وثيقة تقرير المصير. لا تستمعوا لشكاوى الجنوبيين الصبيانية. اضطهدوهم وضايقوهم وعاملوهم معاملة سيئة بناء على تعليماتي. وكل إداري يفشل في تنفيذ هذه سيكون عرضة للمحاكمة. وبعد مضي ثلاثة أشهر ستأتون وتجنون ثمار ما قمتم به من أعمال." (قلندر: ص 159)
    وفي اليوم الموعود لترحيل سرية توريت الثانية إلى الخرطوم (18/8/1955م) انفجر بركان الدم في توريت، وقَتل أفراد السرية الثانية قادتهم العسكريين الشماليين، واتسعت تدريجياً دائرة القتل والتنكيل لتشمل معظم المواطنين الشماليين العُزَّل في مدينة توريت، وتكرر هذا المشهد في جوبا، وكبيوتا، وياي، ويامبيو، ومريدي، وبعض المدن الأُخرى بدرجات مختلفة. وحقاً فقد أفلح المؤلف في تصوير هذا المشهد التراجيدي تصويراً دقيقاً من خلال المعلومات التي حصل عليها من التقرير الذي أعدته لجان التحقيق بشأن وقائع التمرد وتداعياته. ويصف اللواء قلندر في حُرقة هذا الواقع المأساوي بقوله: "وكانت مثل هذه التصرفات الناضحة حقداً وغلاً، هي الدليل الأقوى على أن الذي جرى لم يكن من إفراز الممارسة السياسية الآنية، بل هو ناتج تراكمات تجاوزت بحجمها السنوات، لتضرب بجذورها العميقة في الزمان وتتشكل من وقائع التاريخ الغابر، فتم توارثها لتنبت في وجدان كل جيل، حيث بقيت ساكنة كامنة في الأعماق، تغذيها التصرفات الحمقاء والأقوال". (قلندر: ص 175)
    وتحت ضغط الرأي العام الشمالي والوسطاء وحكومة الخرطوم استسلم معظم المتمردون، وحوكم نفر منهم محاكمات تراوحت بين الإعدام والسجن، وبانتهاء هذه المحاكمات، حسب رأي قلندر، "أسُدِل ستارٌ ثقيلٌ على الأحداث الماسأوية التي ظللت الوطن، منذ ذلك التاريخ، بظلام كثيف، وكبَّلت قدراته وأقعدته عن بلوغ الغايات والأهداف المرجوة". (قلندر: ص215) ومن ثم فقد كانت محاكمات توريت تمثل خطوة تسكينية تجاه إعادة الثقة المحفوفة بالتوجس والكراهية، واستئناف بث شبكة الاتصال الاجتماعي ذات القاعدة الهشة بين أبناء الشمال والجنوب.
    أما الفصل الرابع فيتحدث عن واقع الحال العسكري والسياسي بعد أحداث توريت، ويعطى صورة حية لمشاهد تعميق الانيهار وفقدان الثقة بين الشمال والجنوب في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، التي لجأت للقهر والعنف باعتبارهما أنجع وسيلتين لإعادة هيبة الدولة وفرض السكون والطمأنينة في ربوع الجنوب، المتوجس في كافة تصرفات الشماليين، الصالح منها والطالح. فالحضور العسكري الشمالي الكثيف في الجنوب، كما يرى المؤلف، قد بدل "مشاعر الطمأنينة بالخوف والقلق والتزعزع النفسي"، وتعقدت الأمور عندما قامت حكومة عبود بإلغاء عطلة الأحد، وجعلت الجمعة عطلة رسمية في كل أنحاء الجنوب، وقلصت النشاط التبشيري المسيحي، ووسعت دائرة العمل الإسلامي الدعوي. فالمؤلف مـُحقٌ عندما انتقد هذه الإجراءات الإدارية، ووصفها بعدم التوفيق، لأنها أعطت الهيئات التبشرية المختلفة في الجنوب أسباباً قوية لمواجهة الحكومة ومعارضة إجراءاتها الاحترازية، كما أنها منحت السياسيين الجنوبيين الفرصة المناسبة لدفع حركة المعارضة في اتجاه الدعوة إلى تحقيق استقلال سياسي للجنوب في علاقته مع الشمال. ونتيجة لتعنت حكومة الخرطوم غير المدركة لعواقب مثل هذه الإجراءات، نشطت حركة المعارضة الجنوبية في الداخل والخارج، ووجدت أيضاً تأييداً إقليميا وعالمياً، ثم أخيراً نظمت نفسها في كينونات سياسية مثل "اتحاد السودان المسيحي"، والاتحاد الوطني الإفريقي للمناطق المقفولة"، و"حركة تحرير جنوب السودان"، وكوَّنت لنفسها جناحاً عسكرياً يُعرف بـ "الأنيانيا". وفي ضوء هذه التطورات الدرامية كثرت أحداث العنف والعنف المضاد في جنوب السودان، وظهر نوع من التململ في الشمال على المستويين الرسمي والشعبي ضد سياسة الحكومة غير الموفقة في الجنوب. ويستشهد الدكتور قلندر في هذا المضمار بالمذكرة التي رفعها وزير الداخلية آنذاك، محمد أحمد عروة، والتي تقرأ بعض فقراتها على النحو التالي: "إن سيطرة الحكومة على الموقف (في الجنوب) لا يعني إطلاقاً الحل النهائي للمشكلة، إن الحل الصحيح هو إيجاد حل فعلي ودائم للجانب السياسي للمشكلة. ولذا يجب علينا قبل أن نمضي في تحمل أعباء الصرف والتنمية والإدارة في الجنوب، أن نتبين منذ الآن وقبل فوات الأوان مستقبل وحدة البلاد وما الاحتمالات أو الأهداف التي ستصل بنا إليها هذه الأوضاع بعد فترة من الوقت. إننا طبعاً لا نقر الانفصال بأي حال من الأحوال، ولكن فرض الوحدة بالإكراه لن يحل المشكلة، وربما كان من المستطاع أن نصل إلى حل يرضاه ويؤمن به المواطنون في الجنوب والشمال. ومتى وما توصلنا لمثل هذا الحل أمكن لنا أن نعمل جميعاً من أجله." (قلندر: ص 240-241) فلاشك أننا نتفق مع اللواء قلندر أن مذكرة عروة كانت مذكرة صائبة وذات رؤية مستقبلية فاحصة، لكنها لم تُدرك بمُنْعَرج اللَّوى، بيد أنها كانت واحدة من الأسباب الرئيسة التي ألَّبت الرأي العام في الشمال ضد حكومة عبود، وقادت إلى ما يٌعرف في تاريخ السودان الحديث بـ"ثورة 21 أكتوبر 1964م"، التي دقت إسفينا في نعش النظام العسكري ومهدت الطريق إلى ديمقراطية ثانية (1964-1969م).

    محاولات ترميم جسور الاتصال المنهارة وإعادة الثقة
    يستعرض هذا المحور مشاهد الفصل الخامس الخاص بمحاولات حكومات الديمقراطية الثانية (1964-1969م) في ترميم جسور الاتصال المنهارة بين الشمال والجنوب، ثم يحلل مفردات الفصل السادس التي تتمحور حول اجتهادات حكومة مايو (1969-1985) بشأن ترميم جسور الاتصال المتصدعة، ونكوصها عن اتفاقية أديس أبابا 1972م التي كانت بمثابة طوق نجاة لعلاقات الشمال والجنوب الغارقة في أوحال الشك والريبة وفقدان الثقة المتبادلة بين شطري القطر الواحد من طرف، وبين الوحدويين والانفصاليين في الجنوب في طرف ثانٍ. وكما يرى الدكتور قلندر فإن حكومة أكتوبر التي ترأسها سر الختم الخليفة قد وضعت "اللبنة الأولى في صرح الثقة الضائعة بين السلطة السياسية في الشمال والجنوبيين،" وذلك بإصدارها بياناً يقضي بالعفو العام "عن جميع الرعايا السودانيين الذي هربوا من أرض الوطن منذ كانون الثاني (يناير) 1955، والذين حوكموا غيابياً، والذين ما زالوا مطلوبين للمحاكمة مهما كانت التهم الموجهة إليهم." (قلندر: ص 27 وفي إطار هذا التوجه الإيجابي تم إطلاق سراح السجناء السياسيين، وإصدار أوامر للجيش والشرطة بعدم تعقب الخوارج، والموافقة على (جَنْوَبة) الوظائف الإدارية والضبطية (البوليس والسجون) في جميع مراكز الجنوب. إلا أن حصاد هذه الإجراءات لم يكن بالصورة المرجوة لأن الطرف الجنوبي واصل تشكيكه في نوايا حكومة الخرطوم، واستقل فرصة الهدنة لتمكين نفوذه العسكري والسياسي في جنوب السودان على حساب الأمن والطمأنينة بالنسبة للشماليين العاملين في الإقليم. وظلت حالة فقدان الثقة هذه قائمة إلى أن انعقد مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم عام 1965م تحت رعاية حكومة أكتوبر الانتقالية، وشاركت فيه نخبة من الساسة الشماليين والجنوبيين وبعض الأكاديميين المهتمين بقضية الجنوب. وانبثقت عن هذا المؤتمر لجنة الاثني عشر التي أعدت تصوراً كاملاً بشأن حل قضية الجنوب، بما في ذلك مشروع الفدرالية كأساس ترتكز عليه عملية التنمية في الجنوب، وتمكين الجنوبيين من حكم إقليمي تحت رعاية الحكومة المركزية. لكن كما يرى قلندر "فإن معظم القرارات المتعلقة بالمائدة المستديرة لم تُحظ بأي نصيب من التنفيذ، لأسباب متعددة أهمها قصر عمر الحكومات المسؤولة عن التنفيذ". (قلندر: ص 281) ويضيف إلى ذلك سلسلة حوادث العنف والعنف المضاد في جنوب السودان، التي خلقت جواً غير صحي لمواصلة التفاوض والوصول إلى صيغة مثلى ترضي الخصماء.
    ومن ثم ظل الوضع السياسي والعسكري في جنوب السودان في حالة تدهور مستمر، لم يشهد أي انفراج محسوس في عهد الحكومات الديمقراطية المتعاقبة، التي شغلها الصراع السياسي في الخرطوم، وقلل من فاعلية عطائها تجاه مشكلة الجنوب التي ظلت محفوفة بالشك والريبة والكراهية. ومن زاوية أخرى يؤكد الدكتور قلندر أن الحركة السياسية العسكرية الجنوبية قد نجحت في تعبيد جسور الاتصال الإقليمي مع أوغندا، والكنغو، وإسرائيل، فلاشك أن هذه العلاقات كانت بمثابة أوراق (كروت) ضغط على حكومة الخرطوم، التي فشلت نسبياً في تحقيق مثل هذه النجاحات، سواء كان ذلك نابعاً من واقع التزامها بالقضية الفلسطينية أو فتور علاقاتها الدبلوماسية بدول الجوار الإفريقي.
    وفي ظل هذا الجو الملبد بالمخاطر سقطت الديمقراطية الثانية، مفسحة المجال لنظام مايو العسكري (1969-1975م)، الذي أولى اهتماماً خاصاً بقضية الجنوب، وأصدر فور توليه زمام السلطة في الخرطوم بياناً يعترف فيه بالفوارق الثقافية والاقتصادية والدينية والعرقية والاجتماعية بين الشمال والجنوب، ويُحمِّل الحكومات الحزبية المتوالية مسؤولية تردي الأوضاع في الجنوب، ويعد المتمردين بإنشاء نظام حكم إقليمي في الجنوب، وتعيين وزارة مركزية تشرف على شؤون الجنوب التنموية والثقافية والاجتماعية. وبهذا الإعلان، كما يرى المؤلف، فقد فتحت حكومة مايو الباب للحوار، وعينت وزارة مركزية لشؤون الجنوب برئاسة وزير جنوبي، لتثبت صدق نواياها تجاه القضية التي تمثل محور الصراع بين الشمال والجنوب، بيد أن استجابة القيادة السياسية الجنوبية لهذا النداء التفاوضي كانت استجابة "مبهمة وغير واضحة". ومن ثم فإن العبء وقع على كاهل وزارة الجنوب التي لعبت دوراً رائداً في إقناع الساسة الجنوبيين في الداخل والخارج بضرورة التفاوض، وكسب التأييد العالمي الكنسي والسياسي الإقليمي في تفعيل آلية الحوار. وحصيلة ذلك تبلورت في اتفاقية أديس أبابا لعام 1972م، التي منحت الجنوب حكماً إقليمياً، وأعادت توطين اللاجئين، واستوعبت المتمردين في القيادة الجنوبية وبعض القيادات العسكرية الأخرى في الشمال، ثم راعت ضرورة تمثيل الجنوبيين في الحكومة المركزية بثقل يتوافق مع حجمهم السياسي ووضعهم الديمغرافي في السودان.
    ويصف المؤلف هذه الاتفاقية بأنها "جهاد أصغر"، لأن "الجهاد الأكبر"، من وجهة نظره، يتمثل في "تثبيت أركان السلام، وتركيز أقدامه على أرض الواقع." (قلندر: ص 312) فلا شك أنه مُـحقٌ في ذلك، لأن تثبيت أركان الاتفاقية على صعيد الواقع قد واجه انتقادات جمَّة من الذين خرجوا عن الإجماع الجنوبي، وبدأوا ينادون بالانفصال عن الشمال، ويواصلون جهادهم من أجل تحقيق هذا الهدف المنشود تحت مظلة قواتهم العسكرية المعروفة بـ "أنيانيا تو". وأضف إلى ذلك أن عطاء الحكومة الإقليمية كان عطاءً مجزوزاً، لأنه تأثر إلى حد كبير بإفرازات الصراع العرقي-المصلحي بين قيادات الدينكا والأقليات الجنوبية الأخرى، وبالفعل فقد قاد هذا الصراع إلى انشطار الفعاليات الجنوبية الموقعة على اتفاقية أديس إلي مجموعتين متناحرتين. إحداهما مجموعة تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم ويتزعمها جوزيف لاقو، وثانيهما مجموعة وحدة إدارة الجنوب ويتزعمها أبل ألير. فلاشك أن الخصومة المتصاعدة بين المجموعتين قادت إلى تدخل القيادة السياسية العليا في الخرطوم، الشيء الذي أثار غباراً كثيفاً من الشك حول مصداقية اتفاقية أديس أبابا، وبلغ ذلك التدخل غايته عندما أصدر الرئيس جعفر نميري في يونيو 1983م قراراً بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم. فالشرر المتولد من قرار التقسيم، كما يرى اللواء قلندر، قد صادف "برميل البارود العسكري المسمي بالانصهار [يعني انصهار القوات الجنوبية المحاربة في القوات النظامية المسلحة] فانفجر البارود في وجه الوحدة الوطنية التي بدت يومها وكأنها توشك أن تتناثر أشلاءً". ورفض الانصهار الذي أشار إليه المؤلف قد جسدته الكتيبة 105 في بور، التي رفضت التحرك إلى شندي مقر القيادة الشمالية، ودخلت الغابة، ثم أعلنت طلاقها البائن من حكومة الخرطوم. وقد كانت هذه الكتيبة تمثل النواة التي قامت عليها "الحركة الشعبية لتحرير السودان" التي يتولى زعامتها حالياً العقيد جون قرنق دي مبيور. وعند هذا المنعطف الخطير في تاريخ مشكلة الجنوب توقف بنا اللواء معاش الدكتور محمود قلندر، متوِّجاً كتابه القيم بخاتمة نعتها بـ"الطريق الوعر نحو السلام"، وأثار بين ثناياها جملة من التساؤلات الحائرة: "فأي مصير ينتظر اتفاقاً تقف على أبوابه أسنة الوعد ورماح الوعيد؟ كيف يكون حال الاتصال والتواصل وللشجرة [يعني شجرة الشك والريبة والتاريخ الحافل بالمرارات] بعض جذور تتشبث بالأرض؟ هل أزلنا من أرض الوطن بقايا الجذور؟ لا بد أن نزيلها. فذلك وحده هو الضمان الوحيد لسلامة السلام." (قلندر: ص 339)


    الملاحظات العامة
    وبعد هذا العرض التحليلي المفصَّل لكتاب "جنوب السودان: مراحل انهيار الثقة بينه وبين الشمال، 1900-1983م"، تبقي لنا بعض الملحوظات العامة التي يمكن أن نستخلصها من المنهج الذي استخدمه الدكتور قلندر في عرض مفردات مشكلة الجنوب، وذلك في إطار الحقب التاريخية التي تطرق إليها.
    أولاً: نتفق مع الأستاذ مدثر عبد الرحيم في أن الدراسة بصورة عامة قد استندت إلى مجموعة معتبرة من الوثائق الرسمية، التي أماطت لثام السرية عن كثير من القضايا المسكوت عنها، وبذلك استطاعت أن تضيف بُعداً معلوماتياً جديداً للقضية موضوع النقاش. زد على ذلك أن منهج الاتصال الاجتماعي الذي تبناه المؤلف قد أفلح في استيعاب الخلفية التاريخية القائمة التنوع الثقافي والعرقي والديني والسياسي بين الشمال والجنوب، وقد بيَّن أن ضعف شبكة الاتصال الاجتماعي القائمة على الشك والريبة وعقلية المؤمراة كان سبباً رئيساً في تعقيد عملية التعايش بين الطرفين، وجعل الحوار بين الخصوم أشبه بحوار الطرشان.
    ثانياً: وفي ضوء الخلفية التاريخية التي استند إليها المُؤلِّف يمكننا القول بأن علاقة الاتصال الاجتماعي ذات الجوانب السالبة بين الشمال والجنوب قد تمت خارج إطار دولة السودان القُطرية المعاصرة، وكان ذلك في جو تسوده روح القبلية القائمة على الصراع والاقتتال؛ وواقع تحكمه تطلعات الحكم التركي الساعي إلى استغلال موارد السودان المادية والبشرية؛ ومستقبل دولة قُطرية وَضعتْ لبناته الإدارة البريطانية، وفق سياسة مجحفة، استطاعت أن توسِّع البون الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الشمال والجنوب. فلا شك أن هذه التركة المثقلة بإرث الماضي وتداعياته السالبة قد ألقت على عاتق السودان الحر المستقل جملة من التحديات الجسام، وعدداً من الألغام المتفجرة في طريق مستقبله المنشود.
    ثالثاً: إن حصيلة هذا الواقع المرير قد أسهمت سلباً في صياغة "العقل الاستراتيجي السوداني"، كما يسميه منصور خالد. فالعقل الشمالي يعتبر نفسه صانع الاستقلال الذي شارك فيه إنسان الجنوب مشاركة متواضعة وسلبية في بعض الأحيان، فإن هذا الوضع جعله ينظر للآخر نظرة استعلائية، ترتكز إلى الماضي البغيض والحاضر المعرفي المكتسب. ونسبة لهذه النظرة الاستعلائية فقد رفضت حكومة الأزهري الأولى طلب الشريك الجنوبي الخاص "بالحكم الفدرالي"، متوهمةً بأن الاستجابة لمثل هذا الطلب المشروع ستقود إلى "وأد الاستقلال قبل ميلاده"، وبذلك انهارت أولى قنوات الاتصال بين الشمال والجنوب عشية استقلال السودان. أما العقل الجنوبي الانفصالي فقد توقفت عقارب ساعته الفكرية عند تجارة الرقيق، والحواجز القيمية التي وضعها الاستعمار البريطاني، وممارسة بعض الساسة الشماليين غير المبررة. وتنعكس بعض جزئيات هذا العقل الانفصالي، مثلاً، في الكلمة التي ألقاها الأب سترنينو لا هوري أمام البرلمان السوداني في يونيو 1957م: "إن الجنوب لا ينوي الانفصال عن الشمال كهدف بحد ذاته، بل يريد أن يعيش في ظل وحدة فدرالية بكامل إرادتها، ولكن الجنوب سينفصل عن الشمال حتماً بسبب الأعمال والتصرفات غير المسؤولة التي يقوم بها السياسيون الشماليون."
    رابعا: يجب أن لا يقود مفهوم "العقل الاستراتيجي السوداني" القارئ الفطن إلى الاعتقاد بأن الشمال والجنوب هما أوعية صماء في تصورها لقضية الصراع الدائر بين أبناء الشمال والجنوب، وفي استجابتها للحلول المطروحة، أو الاعتقاد بأن القضية مجرد صراع بين الشمال "العربي" المسلم والجنوب "الزنجي" المسيحي. فلا شك أن مثل هذا التعميم يعطى قراءة مغلوطة عن دينامية الواقع المحرك للصراع، وطبيعة الحلول المطروحة بشأنه، وكيفية تحليل تباين مواقف الساعين لحل هذه القضية، كل حسب أجندته المعلنة، سواء كان ذلك في معسكر الشمال أو الجنوب. ومن هذه الزاوية يجب أن نقرَّ أن رأي المواطن السوداني العادي في الشمال والجنوب يكاد أن يكون مهمشاً تهميشاً تاماً عن فهم جذور هذه المشكلة ومُسوغَّاتها، وكيفية تفعيل مشاركته في حلها وتنفيذ ذلك الحل المرجو على صعيد الواقع. إذاً الشمال والجنوب لا يشاركان مشاركة كليةً-جماعيةً في الصراع الدائر، وإن النخبة المسيطرة على مقاليد الأمور هنا وهناك هي التي تسير دفَّة الصراع، وتفرض تمثيلها على طاولة المفاوضات حسب أجندتها الخاصة. وفي كثير من الأحيان نجدها مرهونةً بعقلية الشك والريبة تجاه الطرف الآخر، أو بهاجس نظرية المؤامرة الذي يحاول أن يفسر الفعل ورد الفعل المضاد خارج إطار الواقع الذي تشكل فيه وتخلق. وهنا مربط الفرس، لذا فإن القضية كما يرى الدكتور محمود قلندر تحتاج إلى اتصال اجتماعي يقوم على محورين: أحدهما أفقي جماهيري يسهم في توعية الرأي العام بخلفية القضية وأبعادها المسكوت عنها، وماهية الحلول المطروحة وكيفية المشاركة في تثبيتها على محيط الواقع؛ والآخر رأسي بين الحاكم والحكوم، تكون غايته المنشودة الإقرار بحرية الإنسان السوداني، والاعتراف بحقه المشروع في اختيار من يمثله في مؤسسات الحكم، ومناقشة القضايا المصيرية التي تهم الشأن العام، وبذلك تكون مسؤولية أي قرار يُتخذ مسؤولية جماعية تضامنية، قائمة على سماع الرأي والرأي الآخر، الذي يتبلور عبر مؤسسات اتصال اجتماعي وسياسي وثقافي مشروعة.
    خامساً: التهنئة الصادقة للدكتور قلندر وكتابه القيَّم الذي يُعد إضافة حقيقية لمكتبة الدراسات السودانية. ونآمل أن يعطى الباحث الحصيف في طبعته الثانية نظرة خاصة لطبيعة الأدبيات التي نُشرت بشأن قضية الجنوب، ويصنفها حسب خلفياتها الأيديولوجية، ويعالج تباين الآراء الوارد فيها من خلال منظومة الاتصال الاجتماعي، ويبين كيف يؤثر هذا التباين الفكري في استيعاب قضية الجنوب استيعاباً موضوعياً، وفي وضع الحلول المنطقية التي يمكن أن تُطبق على محيط الواقع، ثم أخيراً يستنتج: هل أن مثل هذا التباين الفكري سيقود إلى سودان موحد تربط أواصره عُرًى فدرالية، وإرثاً تاريخياً، ومصالح مشتركة؟ أم أن حصيلة ذلك ستحوِّل واقع السودان المتصدع إلى أدب تاريخي يَحكي عن قصة دولتين؟
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de