مرة أخري، صراع الرؤي والهوية السودانية؛؛

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 02:21 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-18-2006, 12:21 PM

Abdulgadir Dongos
<aAbdulgadir Dongos
تاريخ التسجيل: 02-09-2005
مجموع المشاركات: 2609

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مرة أخري، صراع الرؤي والهوية السودانية؛؛


    صدر مؤخراً عن مركز عبد الكريم ميرغني

    دراسات في تاريخ السودان القديم

    "نحو تأسيس علم الدراسات السودانوية"

    مع قائمة ببليوغرافية شاملة

    د. أسامة عبدالرحمن النور

    أستاذ الآثار والتاريخ القديم
    [email protected]

    يتألف الكتاب من 694 صفحة، تضم مقدمة وتمهيد وستة فصول. كما ويضم ثلاثة ملاحق تشمل نص ابن سليم الأسواني عن النوبة، ونص ملك أكسوم عيزانا، ومقتطفات من الفصل الأول لكتاب كراوفورد "مملكة الفونج السنارية". كما ويشتمل الكتاب على ملحق بالصور. وتضم قائمة المراجع الشاملة الأعمال المنشورة بلغات أجنبية مختلفة بدءاً من بداية القرن التاسع عشر حتى العام 2004 تتناول تاريخ السودان القديم وآثاره.

    مقدمة الكتاب



    منهجياً الكتاب قُصد منه سهماً يضرب في المعركة الفكرية الحالية التي تدور حول "تأصيل الحضارة السودانية". أقول بأن تراث حضارتنا "السودانية" لا يمثل مرحلة تاريخية بعينها، بل هو سابق على التكوين الحديث للسودان وتال له في الوقت نفسه، فهو جماع التاريخ المادي والمعنوي للأمة السودانية منذ أقدم العصور إلى الآن. الأمر كذلك فإن تراثنا الحضاري السودانوي أبعد ما يكون عن التجانس، ذلك أنه وثيق الارتباط بمتغيرات لا نهائية من ظواهر الحياة المتنافرة والمنسجمة، الحية والجامدة، التي عرفتها الجماعات السودانية منذ عصور ما قبل التاريخ وما تلاها من مراحل تاريخية. بهذا المعنى يصبح جلياً أن دور التراث في حياتنا يتحدد على ضوء ما قد يضيفه إلى مرحلة بناء الأمة السودانية من مؤثرات سلبية أو ايجابية. الخطأ الأكبر هو التمسك بمنظور أُحادي انسدادي لتراث أمتنا السودانية ينطلق من نظرة جزئية تحاول تحديد "مولد" تراث الأمة السودانية بالفتوحات العربية الإسلامية، ليصبح "الإسلام" وحده هو كل تراثنا. بالإضافة فإنها نظرة شكلية لم تؤثر إيجاباً باستلهام التراث السوداني، بل آثرت الطريق السهل بالنقل الحرفي والتطبيق الميكانيكي واختزلت حضارتنا السودانية في دعوة سياسية مباشرة تتجاوز "الطابع القومي السودانوي" و "الواقع" معاً.



    إن تراثنا الحضاري السودانوي الذي يؤلف جماع تشكيلات الثقافات المحلية والوافدة لهو أغنى من أن يحد بمرحلة حضارية واحدة، فمن العصر الحجري الحديث، وكرمة ونبتة ومروى، ومن نوباديا والمقرة وعلوة، ومن سلطنة الفونج السنارية وتقلي والمسبعات، والدولة المهدية ينحدر إلينا تراث ضخم لم يلق للأسف ما هو جدير به، وما هو جدير بنا. ظل دعاة الرؤية الأُحادية الانسدادية ولا زالوا يحاولون التشديد على ضرورة الانشغال بالمقاربة بين التراث الإسلامي والثقافات السودانية ومحاولة التوفيق بينهما، هذا في الوقت الذي يتوجب علينا فيه استعادة ذاكرتنا الحضارية السودانوية بكل أبعادها ومحتوياتها، مهما تناقضت وتعارضت، مثل هذا البحث في أغوار هذه الذاكرة وما تتضمنه من طبقات حضارية راسبة في لا وعينا يمكن أن يكون كفيلاً بتأسيس ثقافة سلام حقيقية، الشرط المسبق لوحدة أمتنا السودانية.



    ففي حين أخذت الثقافات السودانية المحلية عن الحضارة العربية الإسلامية الوافدة فإن الأخيرة بلورت كينونتها السودانوية المتفردة وتشكلت بفعل العطاء الذي قدمته الأولى. فالثقافة في جوهرها خاصة إنسانية تعتمد الأخذ والعطاء. الامتناع عن الأخذ من ثقافاتنا المتنوعة هو تنكر لقيمة "العطاء" الذي أسهم به أجدادنا الأوائل في إثراء التراث الإنساني. فدعاة الرؤية الأُحادية الانسدادية يتصورون تراثنا السودانوي في قوقعة صدفية منيعة لا تأخذ ولا تعطي ويتباهون بتمسكهم برؤية عرقية للعالم، وينجرفون مع الأفكار العنصرية استعمارية الطابع القائلة بأن لا تراث للمحليين قبل وصول الحضارة العربية الإسلامية، ثقافاتهم، على حد تعبير واحد من أبرز ممثليها، البروفسور حسن مكي، ليست سوى "ثقافات تيه وضلال"، وبالتالي فإن مصير هذه الثقافات الوحيد هو الضياع والذوبان في "الثقافة المركزية".



    المشكلة التي تواجهنا أننا لم نطرح بجدية منذ استقلال السودان تراثنا السودانوي طرحاً تاريخياً جدلياً، لم نكتشف وحدته وتنوعه، لم نبحث تراكماته الكمية وتغيراته الكيفية ... بالتالي لم نتعرف، بفعل سياسة إعلامية وتعليمية منسدة، على أعظم ما فيه ويمكن أن يشكل لنا عناصر التحدي اللازمة لمواجهة ميلاد الأمة السودانوية.



    كان عليَّ منذ البداية أن أقرر طبيعة الكتاب الذي عزمت على تسطيره وندبت نفسي للقيام به، فهل أخصصه لدراسة جوانب محددة من تاريخ السودان القديم أم أتصدى لتلك الحقبة بكاملها ؟ قلبت المسألة في ذهني فتوصلت أن مصلحة طلابنا السودانيين وغيرهم من القارئين للعربية تقتضي أن يكون الكتاب شاملاً لكل تلك الفترة من تاريخ السودان حتى بدايات نشوء الممالك المسيحية* حتى يتسنى للطلاب أن يمتلك كل منهم نسخة بيده في بداية انخراطه بالجامعة للتخصص في التاريخ. بالتالي كان القيام بهذا العمل محاولة قصد بها إلى تقديم قدر من تاريخ السودان القديم وحضارته – في نطاق معارفنا الحالية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولست أزعم أنه عمل يتسم بكثير من الأصالة. فالغالب أن جميع النتائج المعروضة هنا موجودة في مؤلفات العديد من العلماء الإنجليز، والفرنسيين، والألمان، والروس، والإيطاليين، والبولنديين، والاسكندنافيين، والأمريكيين، والكنديين؛ وفي كم لا يحصى من البحوث القصيرة، وتقارير أعمال البحث الآثاري الميداني. كل تلك المجهودات تعبر عنها قائمة المراجع المثبتة في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب. وإن كان هذا لا ينفي بحال تقيدي بمنهج يمكنني من إعادة قراءة الكثير من المسلمات السابقة، ونقد العديد من الفرضيات الحالية المعبر عنها في البحث الجاري، ومن ثم السعي لتقديم قراءة تسعى لإعادة تركيب التاريخ الحضاري للسودان القديم دون الإخلال بالمبادئ العامة لأسلوب التحليل التاريخي متحاشياً قدر المستطاع الوقوع في منزلق التحكم الآلي عن طريق صورة "أيديولوجية كلية" لمعرفة الصيرورة التاريخية. من هنا شددت في منهجي على أهمية البحث المتماسك للواقع التاريخي الاجتماعي، وتمسكت بأهمية الالتزام بمبدأ الاستقصاء المبدع في مجال التنظير العلمي والمنهجي حتى لا أفسح المجال لتحول التجريدات العلمية إلى مجرد تعريفات منطقية مبسطة يمكن استخلاص بعضها من الآخر بنجاح أو أن أجمل عن طريقها الواقع التاريخي.



    وبما أن الدراسة المزمعة للتاريخ الحضاري للسودان القديم تهدف إلى تقديم تفسير متماسك لعدد من الإشكاليات بدءاً بالأسباب الكامنة وراء ظهور التعقد الثقافي الذي تميز بتبلور أنواع من العلاقات المتبادلة بين المجموعات السودانية القديمة، وبنشوء طرق لنقل الخصائص الثقافية وأشكال للضبط الاجتماعي والعديد من العناصر الأخرى، فإنني وجدت نفسي مضطراً للاستعانة بأساليب منهجية أحرزت نتائج تتمتع بقدر من الموثوقية في مجال الدراسات الأنثروبولوجية. هكذا لجأت أحياناً للتزود بأساليب تحليل تطورية تارة، وبأساليب تحليل ايكولوجية ثقافوية، ومادية ثقافوية تارة أخرى. كذلك فقد وجدت في أساليب التحليل الوظيفية والبنيوية خير معين في تفسير الكثير من المعطيات التاريخية المستعصية.



    والحق يقال أنه عندما حاول كل من ميوللر Müller 1904 وبدج Budge 1907 قبل قرن من الزمان تتبع المصير التاريخي للسودان القديم كان علم الآثار السودانوية في مرحلته الجنينية الأولى حيث لم تتجاوز حدوده في واقع الحال وصف بعض المركبات المعمارية – الأهرام والمعابد – بالاضافة إلى بعض المحاولات غير العلمية للحفر والتي لا يجوز تسميتها بأعمال تنقيب آثاري بحال من الأحوال. توفرت حينها بعض الآثار الابيجرافية (النقوش)، في المقام الأول حوليات ملوك السودان القديم، وبعض النقوش المصرية المرتبطة بهذا القدر أو ذاك بالسودان القديم بخاصة بأطرافه الشمالية التي تسمى حالياً بالنوبة السفلى أو المصرية في حالات، وكتابات المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان – هذا هو ما كان متوفراً لكل من ميوللر وبدج عندما شرعا في محاولتيهما إعادة تركيب التاريخ القديم للسودان.



    كان اعلان البدء في تشييد خزان أسوان الأول حافزاً جذب اهتمام علماء الآثار لدراسة صروح الأطراف الشمالية للسودان القديم والتي أصبحت مهددة بالزوال غرقاً تحت مياه البحيرة الناشئة بفعل تشييد الخزان. هكذا بدأت أعمال الاستكشاف والتنقيب وأخذت منذ ذلك الحين في الظهور تقارير مصلحة الآثار المصرية التي تلخص بصورة موجزة نتائج الأعمال الجارية فيما بين الجندلين الأول والثاني، وتراكمت مواد آثارية أدت إلى بروز العديد من الإشكاليات الجديدة التي تم تبيانها في التقارير المقتضبة. أفضت تلك الأعمال الإنقاذية بالإضافة إلى النقوش المكتشفة في كوة (جم آتون)، والمخربشات الديموطيقية والإغريقية التي تم تجميعها ودراستها، وفك رموز الكتابة المرَّوية في نهاية المطاف، رغم أنه لازال متعثراً فهم النصوص التي كتبت بها، إلى شد انتباه العديد من الباحثين الذين أخذوا في كتابة المقالات والكتب. ورغم الملاحظات والاستنتاجات القيمة فإن تلك الكتابات، باستثناء القليل منها، تناولت مسائل متفرقة أو فترات جزئية من تاريخ السودان القديم، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن تلك الكتابات شددت الاهتمام في المقام الأول على علاقات السودان مع مصر. على سبيل المثال عمل سيف سيودربيرج الذي يغطي تاريخ السودان القديم حتى فترة السيادة السودانية على مصر وتأسيس الأسرة الخامسة والعشرين، حيث شدد المؤلف اهتمامه فقط على العلاقات المتداخلة بين البلدين إلى جانب تناوله لبعض المسائل الأخرى.



    في عام 1955 بدأت مرحلة جديدة للبحث الآثارى في النوبة الشمالية والسودان عندما بدأت مصر، بعد تحريرها من الاحتلال الاستعماري طويل المدى، في وضع مشروع خزان أسوان (السد العالي) والذي سيؤدى إلى إغراق منطقة تمتد إلى 500 كيلو متر من الجندل الأول حتى كوشه في الجنوب. تطلب ذلك تنفيذ أعمال إنقاذ هائلة للآثار ودراستها. الاحتياجات التي خلقها السد العالي، على كل، كانت تفوق موارد أي من الحكومتين المصرية أو السودانية. في مثل هذه الظروف قررت منظمة الأمم المتحدة للتعليم والثقافة والعلوم (يونسكو) تبنى نداء يهيب بضمير العالم، أن يسهم بالموارد العلمية، والفكرية، والمالية في الحفاظ على آثار النوبة المهددة. بينما كان السد العالي يغمر تحت بحيرته الناشئة آثار الأطراف الشمالية للسودان القديم، كان يفتح في الوقت نفسه فصلاً جديداً في دراسة آثار مناطق السودان فيما وراء الجندل الثاني. عبر مشاركتهم في حملة الإنقاذ أخذ علماء آثار كثر أول نظرة لهم على الأراضي الفاتنة، على حد تعبير آدمز، إلى الجنوب من الجندل الثاني، يحمل الكثيرون منهم الآن إمتيازات تنقيب في أجزاء أخرى من السودان. المدن المرَّوية في المصورات ومروى، العاصمة القروسطية القديمة دنقلا، معابد صلب وصادنقا وقلعة صاى العظيمة، أخضعت كلها للتنقيب في السنوات التي أعقبت السد العالي، وبعثات أخرى قدمت إلى السودان الأوسط. إن الاهتمام بهذه المنطقة التي تم تجاهلها لوقت طويل تضاعف حينما أضحى وعدها الآثارى أكثر شهرة وعندما زال البديل المتمثل في العمل في الأطراف الشمالية للسودان القديم.



    في الوقت الذي تنمحي فيه حملة إنقاذ آثار النوبة في الستينيات من الذاكرة قد يبدو من الأهمية بمكان أن تصبح النتائج الباهرة التي حققتها بالنسبة لدراسة التاريخ الحضاري للسودان القديم متوفرة للطلاب الدارسين للآثار والتاريخ والأنثروبولوجيا، ولجمهور أوسع من السودانيين، ولقراء العربية عموماً. مع ذلك فإنه لم يظهر حتى الآن كتاب متخصص شامل لتاريخ السودان القديم باللغة العربية يغطي النتائج المذهلة لحملة إنقاذ آثار النوبة باستثناء تاريخ السودان القديم للدكتور محمد إبراهيم بكر والذي انحصر في معالجة تاريخ مملكتي نبتة ومروي (وقد عمل المؤلف لفترة أستاذاً للتاريخ القديم في جامعة القاهرة فرع الخرطوم وأصبح لاحقاً مديراً لهيئة الآثار المصرية). نشر الكتاب في العام 1971 وأعيد طبعه في عام 1983. كما وظهرت في السنة الماضية الترجمة العربية لسفر البروفسور وليام آدمز النوبة رواق أفريقيا التي قام بها الأخ الدكتور محجوب التيجاني.



    الحق يقال فإن حملة إنقاذ آثار النوبة دشنت بداية فرع معرفي جديد في مجال التاريخ القديم والآثار، فرع نال تسمية "الدراسات النوبية Nubuiology"، لكنني ظللت منذ سنوات أجادل في كل المؤتمرات العلمية سواء التي عقدتها الجمعية الدولية للدراسات النوبية International Society of Nubian Studies، أو الجمعية الدولية للدراسات المرَّوية International Society of Meroitic Studies بضرورة اعتماد اسم يطابق الواقع الجغرافي والتاريخي. فالنوبة تشمل المنطقة الممتدة على وادي النيل من الجندل الأول في الشمال حتى الجندل السادس في الجنوب، وبالتالي، فإن التسمية لا تضم لا الصحاري الممتدة إلى الشرق والغرب بعيداً عن وادي النيل، كما ولا تضم الجزيرة المرَّوية (البطانة)، ولا جنوب النيل الأزرق، ولا جبال النوبا، ولا دارفور، ولا أي جزء من الشطر الجنوبي وهى امتدادات الحضارة السودانية في مختلف مراحلها ما قبل التاريخية، والتاريخية المبكرة، وعصر نبتة ومروي، والممالك المسيحية، والإسلامية المبكرة. أما بالنسبة لتسمية مجال هذه الدراسات بـ "الدراسات المرَّوية Meroitic Studies" فهي محدودة كرونولوجياً (زمنياً) بفترة مملكة مروي فقط. من ثم ظللت أجادل بأنه آن الأوان لتسميته الفرع المعرفي الجديد بـ "علم الدراسات السودانوية Sudanology" وأن يتم تجاوز التابو المفروض من قبل المصريولوجيا Egyptology والذي يرتبط بالمنظور العتيق الذي لا يرى في الحضارة السودانية القديمة أكثر من مجرد انعكاس شاحب و"متوحش" للحضارة الفرعونية. من ثم فإن تسمية "الدراسات النوبية" أو "الدراسات المرَّوية" لا تستجيب بحال للمعطيات الآثارية الحديثة التي أدت إلى نشوء منظور جديد. فمع احتضار مساحات واسعة من الأطراف الشمالية للسودان القديم تحت مياه بحيرة ناصر، احتضر في الوقت نفسه المنظور العتيق للتاريخ الحضاري للسودان القديم، وهو المنظور، على حد تعبير رئيس الجمعية الدولية للدراسات النوبية الدكتور دريك ويلسبي، "الذي شيده علماء الآثار الأوائل الذين عدوا عملهم في السودان ليس أكثر من مجرد بحث عن الامتدادات الجنوبية للحضارة المصرية وكاستمرار لنشاطاتهم في مصر". وتجئ نتائج البحث الآثاري والأنثروبولوجي الميدانية والنظرية الجارية حالياً في السودان لتدق المسمار الأخير في نعش ذلك المنظور العتيق معلنة عن مولد فرع جديد مستقل تماماً هو، في تقديري، لا يمكن تسميته بأي مسمى آخر خلاف علم الدراسات السودانوية يشدد، وفق تعبير ويلسبي "على الجذور المحلية الأصيلة لحضارات السودان موفراً البينات الوثائقية والمادية التي تقدم منظوراً جديداً يرى في المؤثرات المصرية خلال العصر الفرعوني والمراحل اللاحقة مجرد عناصر خارجية". وقد ارتأيت أن أخصص هذا الكتاب لإلقاء الضوء على هذا المنظور الجديد للتاريخ الحضاري للسودان القديم المنبثق بفعل تلك النتائج. ومن ثم طموح الكتاب ليكون خطوة من الخطوات باتجاه تثبيت علم الدراسات السودانوية فرعاً معرفياً قائماً بذاته في مجال التاريخ القديم للبشرية.



    وقد ارتأيت أن أمهد للكتاب، نسبة للتضارب الملازم لتسمية السودان القديم سواء في المصادر أو المراجع الحديثة، بتناول إشكالية المسميات القديمة للسودان. ومن ثم تكريس الفصل الأول لدراسة مصادر تاريخ السودان القديم الأساسية، التاريخية الوثائقية والآثارية المادية، تمكيناً للقارئ من إدراك ما تم تنفيذه من أعمال للاستكشاف والتنقيب حتى بدايات حملة إنقاذ آثار النوبة التي انطلقت في الستينات من القرن المنصرم لإنقاذ المواقع الأثرية المهددة بالغرق تحت مياه بحيرة ناصر نتيجة تشييد خزان أسوان الثالث (السد العالي). وكرست الفصل الثاني لدراسة التدوين التاريخي للحضارة السودانية القديمة ومحاولة تبيان المراحل التي مرت بها عملية التدوين والتيارات النظرية المختلفة التي سادت في كل مرحلة. وتناولت في الفصل الثالث تاريخ السودان في مرحلتي ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر؛ وفي الفصل الرابع الدولة في السودان مرحلة التأسيس ومملكة السودان الأولى في كرمة؛ وتناولت في الفصل الخامس مملكة نبتة؛ وفي السادس مملكة مروي. وأضفت للكتاب بعض ما ارتأيت ضرورة توفيره للقارئ بيسر من وثائق هامة جاء في مقدمتها ملحق يضم ما كتبه ابن سليم الأسواني عن النوبة، وترجمة الأستاذ الراحل جمال محمد أحمد لنص نقش ملك أكسوم عيزانا، ومقتطفات من الفصلين الأول والثاني من كتاب كراوفورد مملكة الفونج السنارية التي يتناول فيهما التسميات الجغرافية التي أوردها الكتاب اليونان والرومان ومطابقتها بالمواقع الجغرافية الحالية. هذا بالإضافة إلى ملحق يضم بعض الصور الفوتوغرافية التي تمثل نماذج من الآثار والصروح البارزة.



    بالنسبة للتهميش فقد اتبعت أسلوبين بحيث خصصت الهوامش في قاع الصفحات للشروحات والملاحظات والمراجع العربية، ولجأت لتحديد المراجع الأجنبية في داخل النص بين قوسين مشيراً إلى اسم المؤلف وتاريخ النشر ثم وضع نقتطين تليهما الصفحات. ورتبت المراجع في القائمة في آخر الكتاب وفق التواتر الأبجدي وتاريخ النشر.



    وأخيراً وجدت نفسي مواجهاً بالكيفية التي يتوجب عليَّ بها تصميم قائمة المراجع. والحق يقال أصابني الارتجاف بمجرد انتهائي من تسطير آخر جملة في هذا الكتاب. فليس هناك ما هو أكثر مخادعة من إجراءات تركيب قائمة المراجع. إنه أمر، ولا شك، مدعاة للإرهاق، ومهما قد يبدو محزناً فإنني رأيت أن أعظم ما يمكن أن أسديه للطلاب والباحثين في تاريخ السودان القديم وآثاره هو قائمة مراجع شاملة وحديثة. إنني أدرك أنه في عصر ثورة المعلومات وتزايد وتيرة إنتاج الأدب المتخصص بصورة مخيفة فإن المرء يقرأ بعناية الفقرات التي تهمه قافزاً فوق الكثير. إلا أن ما يريده القارئ الباحث، في تقديري، حقاً هو قائمة المراجع. تقبع جذور الجدل ولازالت حول الوظيفتين المفترض في قائمة المراجع أن تؤديهما. في الأصل كان الغرض من قائمة المراجع مساعدة الهوامش وملحقاً لها، وبحسبانها إفادة ختامية بالمصادر التي يدعي الباحث اعتماد بحثه عليها. وكانت، ولازالت تعد في رحاب البحث العلمي، جريمة نكراء ذكر مصدر أو مرجع في قائمة المراجع لم يتم الرجوع إلى استشارته في مسار البحث.

    لكنني ارتأيت أنه من غير المجدي أن أضع في هذا الكتاب قائمة مراجع تكون بمثابة ترديد يطابق تماماً وظيفة الهوامش، ومن ثم فرضت علىَّ طبيعة الكتاب الإرشادية بالنسبة للطلاب والباحثين الالتزام بتركيب قائمة مراجع تنطلق من مفهوم الوظيفة الثانية لها، أي كشافاً أو دليلاً إلى كل الأدب المتعلق بتاريخ السودان القديم وآثاره والمعروف لي حتى لحظة تحضير مسودة الكتاب حتى و إن لم أتمكن من استشارة كل ما أوردته فيها، وشملت فيها الأعمال والأبحاث المنشورة، بلغات أعرف بعضها وبلغات أخرى ليس لدي إلمام واسع بها، منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى عام 2004.

    المولف













    (منقول من سودانيل)

















    دنقس.
                  

09-18-2006, 12:27 PM

Abdulgadir Dongos
<aAbdulgadir Dongos
تاريخ التسجيل: 02-09-2005
مجموع المشاركات: 2609

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرة أخري، صراع الرؤي والهوية السودانية؛؛ (Re: Abdulgadir Dongos)

    مشكلات السودان:

    أزمة هوية أم عقبات ملازمة لميلاد الدولة القطرية؟

    الخضر هارون/ واشنطن
    [email protected]

    تجمع الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية معا على قدم تاريخ الجزء الشمالى من السودان الممتد من الحدود المصرية الحالية وحتى حدود مملكة علوة جنوب الخرطوم. وقد ذهب الدكتور على محمد عثمان رئيس قسم الآثار بجامعة الخرطوم عبر برنامج بثته قناة السودان الفضائية فى العشرين من شهر فبراير من عام 2005....الى أن مدينة ربك الحالية فى ولاية النيل الأبيض تمثل الحد الجنوبى لممالك النوبة القديمة وأن تاريخ تلك الممالك قد امتد لعشر آلاف سنة كاملة. والشاهد الحى على ذلك كتابات الرحالة الاغريق والرومان بل والآثار الرومانية واليونانية الشاخصة حتى اليوم فى كرمة وفى المصورات الصفراء شمال الخرطوم ثم ماورد فى الانجيل عن بلاد كوش وعن أن تهراقا قد حرر الأرض المقدسة فى فلسطين من الفرس الغزاة وما ورد فى العهد الجديد من أن السيد المسيح قد أوحى للقديس يوسف أن يعمد الخصى وزير خزانة الكنداكة ملكة النوبة فى منطقة غزة الحالية كأول (أمى – جنتايل gentile ) ليعتنق الديانة المسيحية. وقد ورد ذكر اثيوبيا والتى تعنى بلاد النوبة وأجزاء من ممالك الحبشة القديمة فى أكسوم أكثر من ثمان وثلاثين مرة فى الانجيل بجزئيه العهد القديم والجديد ثم كتابات الرحالة العرب قبل وبعد دخول الاسلام الى بلاد النوبة وما أفرده ابن خلدون عن تغلب الثقافة العربية فى السودان عبر نظام الوراثة النوبى.

    والشاهد من هذا الاستطراد أن هذا الجزء من السودان كان جزئا من العالم القديم تأثرا به وتأثيرا فيه وقد ظل على هذا الحال حتى العصر الحديث حتى جاء محمد على باشا فى القرن التاسع عشر ليضمه اسميا الى الامبراطورية العثمانية ويضم اليه ممالك لم تكن جزءا منه شرق وغرب النيل فى كردفان ودارفور والتى عجزت دولة سنار التى ورثت المنطقة الجغرافية التى كانت تضم ممالك النوبة الثلاث عن ضمها كممالك المسبعات ومملكة تقلى العباسية فى الجبال الشرقية من جبال النوبة بكردفان وممالك دارفور التى عين الزبير باشا رحمة حاكما لها فى عام 1875 ثم سلاطين باشا ابان العهد التركى ثم اتسعت رقعة السودان الجغرافية جنوبا حتى منطقة البحيرات فى سياق سعى محمد على لاكتشاف منابع النيل.

    لقد أسهمت الجغرافيا الخاصة بالرقعة التى تمددت عليها ممالك النوبة التأريخية والمتمثلة فى وجود النيل والقرب النسبى للمنطقة من البحر الأحمر فى صناعة تاريخ هذه المنطقة بربطها بالعالم منذ القدم مما جعلها عرضة للغزوات والمغامرات والاستعمار.

    ولهذا السبب فقد تأثرت هذه المنطقة بحكم كونها كانت على الدوام عرضة للمؤثرات الخارجية دون غيرها من مناطق السودان الأخرى بما كان يجرى فى تلك العوالم من حولها لذلك ظلت تيمم وجها على الدوام شمالا اما تحسبا من الوقوع فى براثن الغزو الخارجى والطموح لمعرفة التقانات والمعارف التى تزيد من قوى الدولة فى النهوض والصمود فى وجه العدوان أو اللجؤ الى غزو الآخر قبل أن يغزو ( الغزو الاستباقى) كما فعل بعانخى وتهراقا مؤسسا الأسرة الفرعونية السادسة والعشرين من جبل البركل فى مملكة نبتة وجاء ت المسيحية على يد رسل الامبراطور البيزنطى وزوجه ثيودورا فى القرن الرابع الميلادى الى ملوك النوبة فى السودان ليضيف ذلك لصلة السودان بالشمال بعدا روحيا يتمثل فى الديانة المشتركة التى تربط السودان بذلك العالم الشمالى .الأمر الآخر أن سكان هذه المناطق يرتبطون بوشائج دم مع شعوب البحر الأبيض المتوسط (ملاحظات الرحالة الاغريق وتشبيههم للنوبة بالهنود وما ذهب اليه الأنثربولوجى ويليام آدمز فى سفره : النوبة المعبر الى افريقيا Nubia , Corridor To Africa ووثيقة ملك أكسوم عيزانا الذى دمر مملكة مروى وما ورد فيها من حديث عن النوبة الحمر) أما علاقة السودان بالشمال العربى فقد سبقت مجىء الاسلام اليه فقد ذهب الرحالة والمؤرخون العرب الى أن ملوك النوبة المسيحيين كانوا يرجعون أنسابهم الى حمير فى اليمن. وتكلست هذه العلاقة لاحقا بظهور الاسلام وتدفق القبائل العربية على السودان الأمر الذى أدى الى تغيير تركيبة البلاد الثقافية والسياسية ولم يعد الارتباط بالشمال روحانيا وحسب بل أصبح ارتباط ثقافة ولغة ودماء مشتركة .وتعزز هذا الرباط لاحقا بتدفقات عربية من المغرب العربى خاصة بعد سقوط غرناطة عام 1492 للميلاد الأمر الذى ألحق أغلب مناطق غرب السودان بالثقافة الجديدة المشتركة لمناطق النيل التأريخية وهى ثقافة بلد ينتم الى العالم الاسلامى ويعبر عن ذلك الانتماء بلسان عربى مبين. والقول بأن العربية فرضتها أقلية على البلاد يكذبه التاريخ .اننا وبعد البحث المضنى لم نقف حتى على مجرد ادعاء تاريخى كدليل على هذا الاتهام فدولة سنار التى قامت عام 1504 للميلاد لم تكن تملك وسيلة فعالة حتى على فرض الضرائب بل ظل سلطانها السياسى والعسكرى على المناطق الواقعة بقليل شمال مناطق حلفائها العبدلاب اسميا فى أغلب الأحيان دع عنك فرض لغة وثقافة على أحد .و اتخذت العربية لغة رسمية للدولة لأنها ببساطة كانت هى اللغة السائدة أو ما يعرف اصطلاحا بالانجليزية lingua franca ودونكم رسالة ملك سنار للغزاة الأتراك الرصينة " لايغرنكم تغلبكم على الجعليين والشايقية فنحن السادة وهم الرعية واعلم أن سنار محمية بصوارم قاطعة هندية ... " الى آخر الرسالة وقد اعتمدت الادارة التركية التى قوضت دولة سنار ذات النهج فى اعتماد العربية رغم أن اللغة التركية ظلت لغة رسمية حتى فى مصرنفسها حتى العقد السابع من القرن التاسع عشر بل اضافت الادارة التركية الجديدة بعدا جديدا بادخال التعليم النظامى وجاءت بأساتذة مصريين أكفاء لوضع لبنات ذلك التعليم من أمثال رفاعة رافع الطهطاوى. وتدل رسائل الامام المهدى (راجع سفر البروفسور أبو سليم فى هذا الخصوص)وخليفته على تجذر اللغة العربية فى هذا البلد الى الحد الذى استعصى معه على الاستعمار البريطانى بعد عام 1898 البحث عن لغة بديلة للعربية بل حرصت الادارة البريطانية فى كثير من الأحيان على ارسال بريطانيين يحسنون العربية للعمل فى السودان ومن بينهم قائد اعادة استعمار السودان السردار كتشنر ( راجع بداية الجزء الثانى من مذكرات بابكر بدرى) بل أبقت الادارة البريطانية على استخدام اللغة العربية كلغة تعليم حتى فى جنوب السودان حتى عام 1928لأنها ببساطة كانت وحتى فى ذلك الزمن البعيد لغة التخاطب المشتركة بين قبائل الجنوب. ( راجع اسبنسر ترمنغهام : التناول المسيحى للاسلام فى السودان Christian Approach To Islam In The Sudan) وقد هالنى شخصيا ما وجدت من رسوخ العربية فى السودان خلال دراستى للصلة الوثيقة لعاميتنا بالفصحى فى عهود بداوتها الباكرة وهو ما سجلته فى كتابنا " أشتات فى العامية السودانية مجتمعات فى الفصحى " والذى صدر قبل أيام.

    اذن فان هذا الرصيد التاريخى الضخم من التفاعلات الحضارية والثقافية مع الشمال مطلقا وعبر التاريخ هو سبب اتجاه السودان دوما نحو الشمال عندما كانت مراكز الحضارة فى اليونان ثم فى بيزنطة وطيبة فى مصر ثم مكة والمدينة والفسطاط ودمشق وبغداد. وقد عزز تركيز ذلك التوجه الى الحواضر العربية والاسلامية الصلات الروحية كما أسلفنا وصلات الدم الناتجة عن التزواج الذى تم بين العرب المهاجرين وسكان البلاد من النوبة والزنج والبجا وتلك حقيقة تاريخية لا جدال فيها هى المبرر المنطقى الوحيد لرسوخ قدم العربية فى هذا البلد. هذا هو السبب فى أن يخص السودان الشمال العربى والاسلامى بخصوصية فى العلاقة دون سائر الجهات و ليس نتيجة لمركبات نقص يحملها بنوه كما ذهب لذلك الدكتور باقر العفيف فى تناوله للقضية فى بحث له بعنوان ," أزمة الهوية فى شمال السودان: متاهة قوم سود ذوو ثقافة بيضاء" الذى ترجمه الى العربية الأستاذ الخاتم عدلان. وقد علمت أن الدكتور العفيف عاكف على اتمامه كتابا بزمالة من المعهد الأمريكى للسلام فى واشنطن. ( لا أدرى ان كانت المصادفة المحضة هى مرد التشابه فى الأسماء بين البحث وبين كتاب المناضل الذائع الصيت فرانز فانون : بشرة سوداء, أقنعة بيضاء Black Skin White Masks أم هى اسقاطات الكتاب على البحث !)أو تنكرا لانتماء السودان الى افريقيا وهو انتماء تؤيده أيضا كل الشواهد كما أنه انتماء يعتز السودان به وقد كان فى طليعة الدول الداعمة للكفاح الافريقى والاعتزاز بهذا الانتماء هو الذى حمله على السعى ليلعب دوره كجسر تواصل بين عالميه افريقيا والعالم العربى . وقد ذكر لى الرئيس الجزائرى عبد العزيز بوتفليقة أثناء عملى بالجزائر وقبل أن يصبح رئيسا أن السودان والجزائر قد لعبا دورا تأريخيا فى تبنى افريقيا لقضية الحق العربى فى فلسطين بعد حرب عام 1967. وتزويد السودان لنلسون مانديلا ورفاقه في نضالهم ضد نظام الفصل العنصرى بالمال ووثائق السفر من الشواهد على اعتزاز السودان بانتمائه الافريقى.

    هذا الحراك السياسى والثقافى أدى الى نشؤ ثقافة مشتركة فى معظم أجزاء ما يعرف اليوم بالسودان الشمالى بحيث أنك حيث ما ذهبت فى هذه الرقعة المترامية الأطراف تدرك أنك فى بلد واحد تربط بين أجزائه لغة مشتركة وسحنات متشابهة ومآكل ومشارب تكاد تتطابق تماما بالاضافة الى لباس مشترك وديانة غالبة الى درجة أن السودانيين فى مهاجرهم يعدون اقذع الذم أن تصف أحدهم بأنه " ما سودانى " أو أن اخلاقه " ما أخلاق سودانيين" وهذا أبلغ اعتراف بوجود سمات عامة مشتركة تميز أهل هذه البلاد.صحيح أن الجنوب وبعض المناطق التى شملها قانون المناطق المغلقة فى جنوب النيل الأزرق وجنوب دارفور وبعض مناطق جبال النوبة لم تتكثف فيها السمات المشتركة كما فى المناطق الأخرى التى ذكرنا بذات الدرجة بحيث أنك لوعبرت عن ارث مشترك للثقافة وسلطان الدولة بالألوان لحظيت المنطقة الجغرافية التى تمددت فيها دولة سنار بأغمق الألوان ثم تليها مناطق الممالك الاسلامية فى المسبعات وتقلى فى الجبال الشرقية ثم ممالك دارفور فى أقصى الغرب.

    قضية الهوية:

    الهوية ويرمز لها بالانجليزية بكلمة Identity تعنى الخصائص المميزة لشعب اولمجموعة بشرية بعينها .

    ولتقريب الصورة ودون أن نوغل فى التعريفات العويصة من لدن سقراط وحتى فرويد فان هويات الأشخاص التى تضمن فى بطاقات تعريفية تتحدث عن خصائص جسدية وأخرى مكتسبة أو وظيفية فيثبت فيها أن حامل البطاقة يتميز عن الآخرين بلون وطول وحجم ووزن معين وأنه يسكن فى جزء معلوم من المدينة ويشغل وظيفة كذا فى مكان كذا وترجو السلطات ألا تتطابق هذه السمات مع شخص آخر حتى يتم التعرف بيسر على حاملها عند الحاجة. فهل توجد هوية مميزة للسودانى ؟ بمعنى أنك اذا سألت عراقيا مثلا عن السودانى. اتصور أن سمات خلقية بعينها قد تقفز الى ذهنه: انسان أشبه بسكان شرق افريقيا شديد الشبه بالأثيوبيين والصوماليين والأريتريين. يتحدث العربية يلبس جلبابا أبيضا ويعتمر بعمامة بيضاء وقد يكون فى الغالب مسلما . وهذه السمات نفسها تقفز الى ذهن السودانى اذا سمع كلمة سودانى لكنه قد يسأل من أى مكان من السودان ذلك السودانى لتقريب الصورة أكثر الى ذهنه.

    أين الأزمة التى يتحدثون عنها هنا؟ يقولون انها ادعاء السودانى أنه عربى فيدخل الجدل الى دهاليز السياسة والأيدولوجية ثم يتفرع الى مشكلة التهميش ويتحول هذا الادعاء " الكاذب" الى أس البلاء الذى فجر مشكلة الجنوب ومشكلة دارفور ومشاكل الشرق ومشاكل تحت الاعداد فى بلاد النوبة القديمة وتوج هذا كله بدعوة للتخلص بالكلية من السودان المعروف حتى الان عوضا عن الصبر على آليات التطور السلمى الطبيعى عبر التعليم والوعى حتى تبلغ مداها بحيث تفض الى ضم النائى البعيد الى حضنها بل قفزا فوق المراحل وبمباضع الجراحة المؤلمة التى قد تفض الى الموت لاقامة سودان جديد . لماذا و ما مقدار الحق فى مقولة أن السودان يعانى من أزمة هوية؟ هذا هو موضوع الأسطر التاليات وقبل أن نشرع في تبيان فساد تلك المقولة ننبه الى خطورة أنها أصبحت المصباح الذى ترى فى ضوئه جهات أجنبية عديدة ودول فاعلة مفتاح الحل لمشكلات السودان وأصبحت فى ضوئه أيضا تتعاطف مع كل حركة مسلحة تتبنى العنف وسيلة لنيل الحقوق على أساس أن هذا البلد الذى يمتد عمره الى نحو عشرة آلاف عام " بلد مصطنع " ينبغى اعادة صياغته. فقد ذكر مسؤول بارز فى دولة عظمى فى سياق استعراض سياسات ذلك البلد ازاء السودان أمام جهاز حساس من أجهزة تلك الدولة الفاعلة :

    " أن الدولة قد تكونت فى سودان النيل فى القرن التاسع عشر بفضل تحالف بين مرتزقة وتجارالخرطوم وأنها قد تميزت تأريخيا بغلبة أقلية من التجار والجنود والاداريين عليها جاءوا من مناطق النيل الواقعة شمال الخرطوم تجمعهم ثقافة عربية اسلامية تشدهم الى القاهرة ودمشق والعربية السعودية."!!

    ولكم أن تتصوروا مقدار التحدى الذى يواجه بلدا ينظر اليه بهذا المنظار ولكم أن تتصوروا أيضا مقدار التحامل الذى يمكن ان يصوب نحوه وبالتالى مقدار التعاطف الذى ستجده الجماعات والحركات الساعية لتقويض بنيانه من القواعد.ونقرر هنا ومن واقع تجربة طويلة أن هذه كانت من أعقد القضايا التى واجهتنا فى حواراتنا مع مراكز ومعاهد البحوث حيث تصنع السياسات ولدى الجمعيات غير الحكومية الضاغطة لانفاذ تلك السياسات. والخلاصة لدى أولئك جميعا أن الحروب الدامية فى السودان كامنة فى ذلك الخلل الجوهرى فى الدولة منذ قيامها كما ورد آنفا. ولو بقى الأمر سجالا بين الأكادميين فى أروقة الجامعات لكان أهون شأنا الا أنه وكما ترون يترجم الى سياسات وقرارات ومواقف.

    لم أقف قط على باحث غربى أوعربى أوسودانى جاد يشك فى الحقيقة التاريخية بحدوث تدفقات عربية على السودان على مر الزمان وأن هذه التدفقات أسهمت فى تشكيل المكونات العرقية والثقافية لسودان اليوم. والسودانيون الذين ينسبون أنفسهم للعرب يعتمدون فى ذلك على تلك الحقيقة التاريخية وعلى ظاهرة الانتساب فى الثقافة العربية التى تجعل النسبة الى الأب سواء عدهم عرب اليوم فى جزيرة العرب أو فى الشام عبيدا أو زنجا . المهم أن هذه النسبة ليست ناتجة عن احساس بالدونية أو النقص.انظر بعين الخيال ان شئت لقرنين قادمين وتصور مقدار الاندماج الذى سيطرأ على قبيلة لا يشك أحد فى أنها قدمت من الجزيرة العربية فقط قبل قرن ونيف مثل قبيلة الرشايدة. هل من فسحة فى العقل والمنطق آنذاك تحرم عليها الانتساب الى العرب لمجرد اختلاطها بالحاميين والزنج فى أرض السودان ( باعتبار ما سيكون حتما) أو لأن حرارات الشموس قد نالت من جيناتهم الوراثية؟ و السودانى اليوم لا ينكر الدماء الزنجية أو الحامية التى تجرى فى عروقه بل يفاخر بها ويعدها سببا فى تفرده بين الأنام . قال شاعرهم مفاخرا:

    عرب ممزوجة بى دم الزنوج الحارة ديل أهلى

    وديل قبيلتى لما أدور أفصل للبيدور فصلى

    ودون أن ننفق الوقت فى استعراض التعريفات العلمية العديدة لمصطلح الهوية نشير الى اجماع الباحثين بأن تحديد الهوية يتضمن بعدا ذاتيا وأحيانا تخترعه المجتمعات البشرية من العدم لكننا نقف عند مسألة التصنيفات العرقية والتى هى عملية ثقافية محضة لا تستند الى علم. صحيح أن الشفرة الوراثية قد تحدد بدقة المنطقة الجغرافية لكنها كشفت الى حد بعيد تعدد الانتماءات العرقية بما يصعب تصوره وكنت قد كتبت شيئا عن ذلك فى مقال منشور تحت عنوان " العرق دساس؟". ويؤكد الأنثربولوجى المرموق والأستاذ بجامعة كولمبيا فى نيويورك مارفن هاريس أن تحديد هوية المولود لزوجين من عرقين مختلفين عملية ثقافية ووصفها بأنها عملية عبثية واعتباطية . ويقول فى صفحة 89 من كتابه الدراسى فى طبعته الثالثة Culture, People, Nature تحت عنوان التقسيمات العرقية : انه مع وجود تباينات داخلية قد يكون من اليسر تحديد الأفراد المولودين فى أوربا او وسط افريقيا او وسط آسيا لكنه من الصعوبة بمكان تحديد عرقيات سكان شمال افريقيا وجنوبها و الشرق الأوسط وشرق أوربا وغرب آسيا والهند وسيلان واندونيسيا وغينيا الجديدة والعالم الجديد . وقال بالحرف " انه باستثناء الهنود الحمر فى ألامريكتين فانه من غير الممكن ان تنسب سكان المناطق العديدة المذكورة آنفا الى العنصر الأوربى أو الافريقى أو الآسيوى. ويعزى ذلك الى أن هذه الأقاليم قد استوطنتها مجموعات بشرية ذات صفات خلقية (بفتح الخاء) لا تماثل الصورة النمطية المتصورة للأعراق التى ينتظر وجودها فى هذه الأقاليم فأنت تجد شعورا ناعمة حريرية مع شفاه غليظة وأنوف فطس مع ألوان فاتحة أو سمراء أو أميل للبياض بينما تجد مع السواد شفاها رقيقة فى عين المكان وعيون منغولية ضيقة فى مناطق مثل الجنوب الأفريقى (البشمن ). هذه سمة بارزة فى الأقاليم العديدة التى ذكرها من الهند الى اندونيسيا الى الشرق الأوسط وشمال افريقيا وحصر المناطق التى قد تتميز بنوع من المكونات المشتركة لسكانها بغرب أوروبا وأواسط القارتين آسيا وافريقيا والسودان خارج هذه المناطق الثلاث على اعتبار أن أواسط هذه القارات بعيدة عن التأثيرات الخارجية والحراك البشرى للشعوب الأخرى الذى ينتج عنه التزاوج والاختلاط وهو ماذهب اليه البروفسور المؤرخ عثمان سيداحمد البيلى فى الجزء الأول من مقالة له بعنوان" سودان وادى النيل بين الهوية والوطنية والديمقراطية والأثنوقراطية" نشرتها يومية " الخرطوم" بتاريخ 30 يوليو 2006.

    ويقول مارفن هاريس ان اطلاق لفظة أسود على مولود لأب ابيض وأم سوداء أو أم بيضاء وأب أسود فى الولايات المتحدة لايستند الى مبررات وراثية بل هو اختيار ثقافى لأن الطفل يحمل مورثات بيضاء وسوداء بذات القدر. وسيتطرد قائلا ان هذا التصنيف الاعتباطى تتأثر به كثير من الدراسات المتعلقة بالسود والبيض مؤكدا أن غالبية السود فى الولايات المتحدة " قد تلقوا قدرا هاما من (جيناتهم) الوراثية من أسلاف أوربيين." وهذا –كما يقول _ قد نتجت عنه ظاهرة قوم يبدون بيضا تماما لكنهم يصنفون اجتماعيا ضمن السود. لكنك تجد تدقيقا أكثر فى مسألة الألوان والقسمات فى المجتمعات ا (الملونة) ربما سببه الفضول والتوق الى معرفة أسباب تعددها ومحاولة البحث فى جذورها.و نحسب أن الاقتباس الذى أورده الدكتور العفيف من كتاب( حرب الرؤى) للدكتور دينق الذى ذكر فيه عناية السودانيين بالألوان والقسمات التى تحدد مقدار الفاصل العرقى بينهم وبين العروبة والزنوجة هو من قبيل ما نجده فى مجتمعات مختلطة تتعدد فيها الألوان والقسمات فتثير الفضول لا من قبيل مركبات النقص والبحث عن انتماءات أرقى . فمثلا فى أمريكا الوسطى والجنوبية حيث الاختلاط فاش بين السكان الأصليين والأوربيين القادمين غزاة من شبه جزيرة آيبريا (أسبانيا والبرتغال) والسود الذين جىء بهم من افريقيا يطلق على المولد من أسود وهندى أحمر لفظ زموتوzomoto ولخليط الفرنسى الأبيض بالأسودCreole وللابيض بالأسود مولاتو mullato وللابيض بالهندى الأحمر mestizo ولخاطف اللونين ان كان رجلا Morenoوان كان امرأة Marina وهى مشتقة من كلمة Moore التى تطلق فى الاسبانية على سكان شمال افريقيا من المغاربة والموريتانيين ومنها لفظة (موريتانيا).

    وفى حوار متحضر بين الروائى الأمريكى الأسود جيمس بولدوين و مواطنته البيضاءالأنثربولجية المرموقة مارقريت ميد فى كتاب شائق بعنوان " دردشة حول الأعراقRap on Race اشارات مفيدة الى ماذكرنا من وشائج الدم والموروثات التى تربط بين البيض ومواطنيهم السود فى الولايات المتحدة. واساءة معاملة البيض لمواطنيهم السود ترتبت وتترتب عليها ردود افعال ثقافية وسياسية عنيفة لا تعكس بحال حميمية تلك الوشائج ليس هذا موضع نقاشها. وقد أثبتت أحدث الدراسات فى علوم الوراثة ما كان قد ذكره مارفن هاريس فى كتابه سالف الذكر من أن نقاء الأعراق خرافة كبرى وأن كثيرين من البيض قد زهلوا عندما أثبتت شفراتهم الوراثية أن دماء افريقية وآسيوية تسبح فى شرايينهم وأوردتهم جنبا الى جنب مع الدماء الأوروبية.(للمزيد يمكن الرجوع الى مقالتنا "العرق دساس" فى أرشيف يومية الصحافة الالكترونى). ولمثل هذا التصنيف الاعتباطى ذهبت هند زوج الحجاج بن يوسف الثقفى وكانت لا تحبه:

    وما هند الا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل

    فان نتجت مهرا كريما فبالحرى وان يك اقراف فما انجب الفحل

    أى ان جاء مولودها كريما فذلك بسببها لأنها بنت كرام أما ان جاء لاخير فيه يكون أبوه هو السبب فى ذلك!

    ومن الضرورى الاشارة هنا الى أن السودان ليس حالة فريدة متميزة فى مسألة الاستقطاب الناشئة عن تعدد الانتماءات بين سكانه وتمددها عرقيا وثقافيا الى خارج الحدود فهذه ظاهرة عامة فى جل مناطق أمريكا الوسطى والجنوبية حيث اختلط الغزاة الأسبان بالأهلين وبقيت المناطق النائية القصية بمنأى عن ذلك الاختلاط. فتسعون فى المائة من سكان المكسيك من خليط الأسبان بالهنود الحمر بينما توجد جيوب فى الهامش في شبه جزيرة( يوكتان) موطن حضارة المايا المعروفة يقل أو ينعدم فيها هذا الاختلاط لدرجة أنها لا زالت تحتفظ بلغتها الأصلية وتخلط الكاثوليكية بشىء من معتقداتها الوثنية القديمة. وقد أعد الأنثربولوجى الأمريكى ( روبرت ريدفيلد) كتابا دراسيا هاما عن آليات التلاقح بين الثقافتين وفق منظور المدرسة الوظيفية أسماهThe Folk Culture of Yucatan.

    وقد وقع تمرد منذ سنوات قادته العرقيات الهندية التى لم تختلط بالأسبان تروم قسمة أكبر فى السلطة والثروة. وقد احتفى المواطنون المنحدرون من أصول هندية لم تخالط الأسبان حفاوة عظيمة قبل سنوات بفوز أول رجل منهم الى سدة الرئاسة فى (بيرو) و هو الاقتصادى خريج جامعة هارفارد الأمريكية الرئيس ( تـوليدو). وقد تكرر الحدث أوائل هذا العام بفوز اليسارى المنحدر من أصول هندية حمراء الى رئاسة بوليفيا. وتوجد صراعات من ذات الشاكلة فى نيكراغوا وهندوراس والاكوادور وغيرها. وتوجد هذه الظاهرة فى دول المغرب العربى بين الثقافتين العربية والبربرية وتوجد فى جزيرة مدغشقر حيث بعض السكان خليط من اندونيسيا ومن قبائل البانتو الافريقية وبين الأفارقة الذين لم يختلطوا والذين وقع بعضهم فى الماضى فى ربقة الرق. وهذه الدول جميعا تجتهد فى صهر هذه الفوارق العرقية والثقافية دون أن تطالب أحدا بالتنكر لانتماءاته لأن ذلك لن يحل القضية . والذين يطالبون الشماليين بالتنكر لأنتماءآتهم العربية يغفلون عمق الروابط الثقافية والعرقية التي تشدهم الى العرب والتى أفضنا فى التفصيل فيها آنفا . من المفيد ترقية الروابط المشتركة بين السودانيين عرقية تتمثل فى دماء افريقية مشتركة وثقافية عديدة تعبر عنها الفنون والطعوم والطقوس أحيانا دون أن نلقى الخصوصيات التى تتميز بها المجموعات المختلفة المكونة للنسيج المجتمعى السودانى . وقد شاهدت فيلما سينمائيا يحكى قصة الأمريكى أسطورة الغولف (تايجر وود)وقد استوقفنى فيه الحاح مواطنيه السود عليه أن يكف عن الاشارة الى نصفه التايلندى الذى اكتسبه من كون أن أمه تايلاندية خالصة فأبى قائلا انه جد سعيد بمزية الانتماء الى عالمين يفاخر بهما معا! ولننظر فى محيطنا الى التنافس بين القوميتين الأمهرا والتيجراى فى الجارة اثيوبيا لم يقلل منه الأصل المشترك والديانة المسيحية وحتى المذهب الارثادوكسى.

    وقد استند الدكتور فرانسيس دينق فى نظريته حول ما يسميه " أزمة الهوية" فى السودان الى التصنيف الغربى وهو كما ورد آنفا تصنيف يخص الثقافة الغربية التى تعتبر البياض ليس بلون لذلك فغير الأبيض ان كان أصفرا أو أحمرا أو أسودا هو الذى يتميز بلون فهو ملون و هذا توصيف ثقافى لا يستند على مستندات علمية. بل ظل عرضة للتطورات الديموغرافية فى الولايات المتحدة فالايطاليون واليهود والشوام وغيرهم من الشرقيين لم يكونوا فى زمرة البيض بادى الأمر بل الحقوا فى تاريخ متأخر جدا. واليهود ينتسبون الى أمهاتهم فالأم هى التى تهود الانسان وليس أباه وهذا اختيار ثقافى محض لا يقاس عليه وتوجد له نظائر فى الثقافة الافريقية.

    ولأن السود فى الولايات المتحدة من أكثر الناس شبها بالسودانيين الشماليين لذات السبب وهو اختلاط هؤلاء وأولئك بدماء ومورثات قوقازية جاءت من خارج القارة الافريقية, متوسطية قبل الاسلام وعربية قبله وبعده فى حالة السودان وأوربية فى حالة الأفارقة الأمريكيين استخدم الدكتور فرانسيس دينق وآخرون ذات المعيار الثقافى الغربى فانكروا عاى الشماليين الانتساب الى غير افريقيا هذا رغم اقرار الدكتور فرانسيس دينق وهو الرائد فى وصف أزمات السودان بأن مردها الى "أزمة الهوية" , بأن الشماليين نتاج اختلاط فعلى بين العرب المهاجرين وبين سكان البلاد فى ذلك الوقت وذلك فى مقالة له نشرتها" مجلة الثقافة السودانية" العدد الثانى –فبراير 1977 بعنوان " الجذور التأريخية للوشائج العربية الافريقية فى السودان " ذكر بالحرف (ص6) :" ونسبة لأن العرب جاءوا دون نسائهم ونسبة لأن الاسلام يحظر زواج المسلمة بغير المسلم فان التزاوج بين العرب وأرباب الديار كان احدى الوسائل لحل هذا الاشكال. ولان هذه التجربة لم تكن مفروضة ولا مقيدة فقد نشأت قاعدتها على قيم عربية افريقية قاعدتها العائلة وشجرة الأسرة. ونتيجة لهذا فان التكامل العربى الافريقى أدى الى نشر مجموعات تسمى بأسماء مؤسسيها أو تتسمى بأصولها ويمكن ارجاع هذه الى أصول فى الجزيرة العربية ." و لعمرى هذا عين ما نذهب اليه. اذن أين الادعاء الكاذب بالانتساب الى العرب ؟ وأين تكمن أزمة الهوية ؟ اللهم الا اذا طبقنا المعيار الغربى الذى يقول بأن مجرد اختلاط العرب فى السودان بقوم سود يسقط تلقائيا انتسابهم للعرب! والعرب ظلوا يختلطون من لدن اسماعيل الذبيح الذى استعرب فقط بعد مصاهرة قبيلة جرهم العربية.وأبوا العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية هو الوحيد من بين اخوته حفدة العباس بن عبدالمطلب الذى لقب بابن العربية لأن أمه ربطة بنت عبيد الله الحارثى كانت من قبيلة عربية معروفة هى بلحارث بينما كان بقية خلفاء بنى العباس قاطبة لأمهات غير عربيات وفيهن سوداوات. وفي ملوك العرب اليوم ملوك وأمراء لأمهات غير عربيات لم يشكك أحد فى انتمائهم العربى فلماذا يشك في من كان جده عربى اذا كانت أمه نوبية أو زنجية؟ وقد روت كتب الأدب أن ابراهيم بن المهدى قد دخل على الخليفة المأمون فقال انك نعم الخليفة الأسود فتمثل المأمون ببيت نصيب:

    ان كنت عبدا فنفسى حرة كرما أو أسود اللون فانى أبيض الخلق

    وقد اعترضت على الدكتور فرانسيس دينق قبل أشهر خلت فى سمنار عن السودان جمعنا سويا فى مدرسة كنيدى فى جامعة هارفارد بأن المصطلح الذى استحدثه فى وصف مشكلات تكوين هوية مشتركة جامعة فى السودان بأنه " ازمة هوية" بأنه مصطلح جارح ومسىء فضلا عن كونه ليس صحيحا لأن " أزمة هوية" مصطلح يستخدم فى طب الأمراض العصبية للشخص الذى يعانى من لوثة عقلية تجعله لايعرف من هو. وفى المقابل فان نظر العرب المختلطين بالفرس والترك والأكراد والنبط والبربر وبأجناس جعلت سحناتهم لآ تخرج من دائرة البيضان في جزيرة العرب والخليج وبلاد الشام الى انتماء السودانيين العربى بعين الشك والريب فذلك ليس مدعاة ( للحردان) وادارة الظهر للحقيقة واعتماد المنظور الغربى فى التصنيفات العرقية التى تجعل العالم مصنفا على طريقة عادل امام فى مسرحية " شاهد ما شافش حاجة! " (يا ابيض يا اسود!). ولأن أولئك أنفسهم وبحكم اختلاطهم بعرقيات أخرى لايختلفون عن السودانيين فى مقدار انتسابهم للعرب بالقدر الذى يجعلهم عمدة وقضاة فى تحديد العربى من غير العربى .

    وقد نحا ذات المنحى الدكتور الباقر العفيف فى بحثه آنف الذكر و تعسف كثيرا فى ايراد التعريفات والشواهد لتتفق مع العنوان الذى اختاره فى بحثه ليصور الشماليين بأنهم مرضى يعانون من شعور عارم بالدونية ومركبات النقص. وقد قدر لى العيش لأكثر من عقد كامل فى أكثر من بلد عربى فلم أجد السودانيين فيه الا أكثر تمسكا بانتمائهم للعرب بل غلبت على الكثيرين منهم شوفونية زائدة جعلتهم استنادا على ما يتمتع به السودانى من مكارم الأخلاق كرما وشهامة وعزة نفس يزايدون على بيضان تلك البلاد فى عروبتهم وان عيروهم بسوادهم أو أنكروا عليهم الانتساب الى العرب و اعتبروهم " عبيدا" أو "خالا" كما ذكر الدكتور العفيف كما انه ليس من معارفى بينهم من فقد عاميته السودانية رغم طول المكث مستبدلا اياها بلهجات أولئك كما زعم الدكتور الباقر العفيف أيضا ليؤكد زعمه فى اصرارهم علىالانتساب اليهم فيما أسماه المترجم بالتماهى أو Identification يدلل به على شعورهم بالدونية. كيف وفيهم أساتذة أجلاء وعلماء أفذاذ ذهبوا بخبراتهم ليسهموا فى نهضة تلك البلدان؟. ولئن اتصفت قلة منهم بمازعم فذاك استثناء لا يقاس عليه.

    ولو أن ادعاء السودانيين للنسب العربى جاء فى وقت كان شأن العرب فيه مثل شأن أمريكا اليوم غلبة وسطوة عسكرية وحضارية لقلنا مقالة ابن خلدون انه تشبه المغلوب بالغالب لكن العرب تسللوا الى بلاد النوبة تحت ملاحقة ودفع بعد وصول غير العرب لحكم مصر أيام ابن طولون (راجع تاريخ العرب فى السودان لمكمايكل) وبعضهم بعد زوال ملك العرب فى الأندلس بسقوط غرناطة وصعود العثمانيين على سدة الخلافة الاسلامية فى المشرق . حتى ذهب بعض المؤرخين الى أن قيام مملكة سنار جاء تعويضا وسلوى للمسلمين والعرب عن أفول سطوة العرب المسلمين على مسارح الريادة والسلطان . والشاهد أن بروز الثقافة العربية فى السودان قد حدث فى عصور ضمور تلك الثقافة وانحطاطها فى مواطنها وفى تأثيرها على الساحة الدولية يومئد بما لايغرى بفخر الانتساب اليها أو الى العنصر العربى. نعم ليس فى حال العرب ما يسر يوم ان آل الملك فى السودان لذراريهم من أمهات نوبيات وزنجيات حتى يتباهى أهل السودان بالانتساب اليهم وليس فى حالهم اليوم ما يبعث على الالتصاق بهم أو ادعاء النسبة اليهم.وهنا فرق عظيم بين حال انبهار الأسود الفقير فى جزر الكاريبى فى أمريكا الوسطى بحضارة المستعمر الفرنسى التى سببت له عقدة شعور بالدونية تجاه الرجل الأبيض تصدى لها الثائر الطبيب فرانز فانون فى كتابه سالف الذكربالمعالجة بنفخ روح الثورة فى مواطنه الأسود للتخلص من تلك العقدة التي حملت مثقفين فى تلك الأنحاء وفى افريقيا للباس أقنعة بيضاء من الوهم والتعالى على أعراقهم وثقافاتهم. الأمرليس كذلك بالنسبة للسودانى تجاه العرب ماضيا وحاضرا لأن أمر انتسابه اليهم تقرير لواقع تقوم عليه كل الدلائل. والهجمات المتتالية على هذا البلد الضعيف البنية المسمى بالسودان اليوم ليست بسبب ادعاء كاذب بل بسبب يقين راسخ للعالمين ببواطن الأمور أنه جزء أصيل من الثقافة العربية الاسلامية شديد التأثير فى محيطه حتى قبل أن تتبدى للعيان آثار النعم المخبوءة فى جوفه.فكيف ان قوى عوده واستغل ثرواته وأصبح محجة لنيل العلوم والمعارف والتقانات؟

    وهناك استدراكات أخرى على الدكتور العفيف أود المرور عليها بايجاز قبل الانتقال الى مبحث آخر حول تصويره لقضية اللون والعرق فى الثقافة العربية بصورة جعلتها مطابقة لموقف الثقافة الأوروبية وألأمريكية البيضاء والأمر ليس كذلك فى حقيقته . و الدكتور بيرنارد لويس الذى استشهد به الدكتور العفيف فى احتقار العرب للسود موردا اقتباسات من ورقة له بعنوانThe African Diaspora and The Civilization of Islamوالتى يبدو أنها منقولة بالكامل من كتاب له بعنوانRace And Color In Islam , أكاديمى مرموق الا أنه متهم فى الأوساط الأكاديمية فى الولايات المتحدة بأنه شديد التحامل والكراهية للعرب والمسلمين وقد أجتهد بتعسف فى كتابه Race And Color in Islam لهز قناعات راسخة لدى الدوائر الأكاديمية فى الغرب بأن الاسلام متسامح فى المسألة العرقية خاصة ازاء السود وذوى الألوان الداكنة وهو ما ضمن له الانتشار الواسع فى افريقيا وآسيا وبين السود فى الغرب. وقد أورد لويس فى كتابه المشار اليه ما أورده المؤرخ البريطانى الضخم توينبى فى شأن تسامح العرب ازاء السود فى افريقيا والهند مشيرا الى أن العرب كانوا يفاخرون بألوانهم الداكنةswarthy وينظرون باحتقار الى جيرانهم الأكثر بياضا فى الشمال والشرق( كانت واقعة ذى قار فى الجاهلية بين قبائل العرب والفرس بسبب رفض النعمان بن المنذر ملك الحيرة تزويج ابنته لملك الفرس رغم خضوع ملكه لفارس ). وقال ان العرب كانوا على اتصال واندماج بالزنج فى افريقيا والسود فى الهند الى درجة أنهم كانوا يزوجونهم فتياتهم ذلك لأن العرب المسلمين كانوا ينظرون الى البشر بثنائية : مسلم وغير مسلم بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم. وقال ان اوروبا فى القرون الوسطى كانت تنظر للبشر بذات الثنائية فتقسم البشر الى مؤمنين وكفار لكن اوروبا كانت قليلة الاحتكاك قليلة المعرفة بالشعوب الملونة بحكم موقعها الجغرافى البعيد الا أن بلاد العرب كانت على الدوام شديدة الارتباط بافريقيا والهند وهذا ما يسر لها التعامل بحكم الالفة مع شعوب تلك الأنحاء. هذا التقرير لم يعجب برنارد لويس فانبرى لتفنيده خصيصا بكتابة هذا الكتاب ليدحض هذه المزية المثبتة للثقافة العربية الاسلامية بدرجات متفاوتة لدى كثير من المنصفين فى الغرب وهم يعزون اليها سرعة انتشار الاسلام فى افريقيا وآسيا. ورغم ذلك أورد فى ثنايا مسعاه المذكورشواهد تقوم حججا عليه لا له مثل قصة عبادة بن الصامت الصحابى الذى جعله النبى على راس رسله الى المقوقس عظيم مصر فيما أورده ابن الحكم فى فتوح مصر: قال عندما دخل عبادة بن الصامت على المقوقس طلب من أصحابه أن يخرجوه قائلا :" أخرجو هذا الرجل الأسود انه يخيفنى وأتوا بغيره ليحدثنى !" قالوا ما الى ذلك من سبيل "ان عبادة أرجحنا عقلا وهو أفضلنا وأنبلنا فوق أنه القائد الذى ولى أمرنا" قال المقوقس :" كيف ترضون أن يكون الأسود سيدا فيكم وموضعه أن يكون دونكم؟ " قالوا " الأمر ليس كذلك فهو رغم أنه أسود كما ترى الا أنه أفضلنا وهو صاحب سبق فينا ورجاحة عقل وحكمة ونبل ثم ان السواد ليس محتقرا فينا ." علل برنارد لويس مكانة عبادة الرفيعة التى بوأته تلك المرتبة الرفيعة بين الصحابة بعد ان دس الشك فى صحتها بالقول –ان صحت هذه الرواية- بأن عبادة رغم سواده كان عربيا قحا من جزيرة العرب! والشاهد هنا أن سواد اللون لا يسقط عروبة العربى وأن العربية لم تكن ثقافة بيضان على النحو الذى عليه الثقافة الغربية ولئن كان العبيد السود يعاملون معاملة دونية فذلك للوضع الاجتماعى لا انتقاصا من أعراقهم تماما مثل ما يعامل العربى المملوك والفارسى والرومى والصقلى فقد كان زيد بن حارثة عربيا قحا الا أنه وقع فى ربقة الرق .كذلك أورد لويس روايات تشير الى أن جدة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كانت من الحبشة وقد أورد الدكتور حسن على الشايقى فى بحث أكاديمى لدرجة الماجستير أسماء عديدة لصحابة وتابعين يتحدرون من أصول افريقية . وقد ذكر لى أن قريشا أرسلت الى النجاشى فى طلب المهاجرين اليها من المسلمين عمرو بن العاص لأن أمه كانت من الحبشة. ولم تخلو دولة بنى أمية المتهمة ببعث الحمية العربية واضهاد الموالى من أمراء وحكام من أمهات من السود فقد أورد لويس أن ابن عم معاوية بن أبي سفيان وعامله على الكوفة عبد الرحمن بن أم الحكم كان من أم حبشية. لقد اجتهد لويس الى درجة الشطط لتتبع القصص والحكايات التى لا ترقى لتأكيد اتهاماته فوق حقيقة أن الثقافة العربية الاسلامية رغم ما قد تكون قد حملت فى بعض مراحلها من علل التحامل العرقى والجهوى أنها أول حضارة في ذلك الزمن السحيق يتولى فيها السود مناصب الحكم والقضاء والولايات المختلفة هذا رغم اعتراف لويس بقدم العلاقات بين ضفتى البحر الأحمرمشيرا الى أن الحبشة تأسست على يد قبائل حبشات السامية وأن بعض الباحثين ذهبوا الى القول ان افريقيا ربما كانت الموطن الأصلى للساميين وليس بلاد ما بين النهرين. ذكر ذلك فى كتابهThe Arab In History وقد اجتهد الدكتور لويس فى تطريز تحليله باعترافات بثها فى ثنايا الذم ليضفى على بحثه فى كتابه الأول (العرق واللون فى الاسلام) شيئا من الموضوعية مثل اعترافه بصحة ارساء الاسلام لمعانى المساواة فى صدر الاسلام الا أنه رد ذلك الى علل ظرفية مثل قوله بأن معاملة السود وكان جلهم من الأحباش كانت حسنة لأنهم كانوا أهل حضارة وأنهم أحسنوا وفادة من لجأوا اليهم من المسلمين فى الهجرتين الأولى والثانية !الا أنه سارع الى القول بأن التطورات السياسية والاقتصادية اللاحقة بدلت الحال وفشت مظاهر التمييز العرقى. هذه الاعترافات تدلل على وجود التسامح ازاء السواد سواء كان أصيلا من جزيرة العرب أو وافدا عليها من افريقيا أو شبه القارة الهندية وهى أبلغ من استشهاداته المأخوذة من كتب الأدب الكلاسيكية التى تدعم حججه فى اضطهاد السود بين العرب وتلك الاعترافات تطابق رأى العلامة المؤرخ توينبى الذى أوردناه آنفا. والحرص الذى أبداه الدكتور لويس فى تأويل كل مزية دالة على تسامح الثقافة العربية الاسلامية فى مسألة الأعراق لا يحملك الا على الشك فى حيدته والغرض السياسى والأيدولوجى فى مراميه وكذلك الدكتور الباقر العفيف الذى حزا حزو بيرنارد لويس فى ايراد ذات الشواهد من كتب الأدب ولو تحرى الدقة لوجد فى ذات المصادر شعراء وأدباء امتدحوا بل تغزلوا فى جمال السواد. من ذلك الحرص المريب الذى ميز تحليل الدكتور لويس بل مماحكاته فى لى أعناق الحقائق الجلية زعمه أن الجاحظ أضخم كتاب العربية قاطبة لم يكن جادا فيما ذهب اليه فى كتابه عن فضل السودان على البيضان وانما كان يمارس المزح والفكاهة كعادته لأنه بعبارة أخرى كان (كوميديان) ! رغم أنه اعترف أن الجاحظ أراد بالسودان كل الملونين بما فى ذلك العرب وهو ما أشار اليه مصيبا البروفسور المؤرخ عثمان سيداحمد فى مقاله آنف الذكر ورغم علم الدكتور لويس بأن الجاحظ نفسه كان من السود.وقد أحس الدكتور لويس فى خواتيم كتابه الذى خصصه كما ذكر لتفنيد تسامح العرب والمسلمين مع السواد بمقدار التحامل الذى حمله كتابه فذكر كالمعتذر فى صفحة 102:" ان تصحيح خطأ ما يحملنا على الحذر من مغبة الوقوع فى نقيضه. انه لم يحدث قط وفى أى وقت من الأوقات أن شهد العالم الاسلامى نوعا من الاقصاء العنصرى كالممارس حاليا فى جمهورية جنوب افريقيا ( ذلك قبل انهيار نظام الفصل العنصرى هناك) أو كالذى كان سائدا فى الولايات المتحدة الى تاريخ قريب." نعم يا دكتور لويس لقد ظل تراث التسامح العرقى فى الحضارة الاسلامية ولوكان نسبيا مما لا نظير له فى الحضارات الأخرى حتى عصور متأخرة . ولشد ما أثار وجود قضاة سود فى عاصمة الخلافة العثمانية دهشة واستغراب الرحالة الأوربيين الذين زاروا تركيا لأول العهد. ونشير اشارة عابرة الى أن ما أورده الدكتور العفيف عن عبده بدوى من أن العرب كانت تحب البياض فى الرجال والنساء على السواء ليس دقيقا . فقد كانوا يتغنون ببياض النساء لكن البياض لم يكن محببا فى وصف الرجال فكانوا ينصرفون عنه الى كلمة "أحمر"رغم أنها ليست من أوصافهم المفضلة اذ أنهم يصفون على وجه الذم جيرانهم حتى من العرب فى المناطق الشمالية ب "الحمران". وعند التدقيق فى الوصف قد يصفون الرجل بالبياض على سبيل التوصيف لا مدح البياض او استحسانه مثل وصفهم للنبى (ص) بأن بياضه كان مشوبا بحمرة وقد وصفوا ابن عمه وختنه على بن أبى طالب بأنه كان "آدما شديد الأدمة!" أى أنه كان داكنا جدا . وهذا تباين فى الألوان و فى نطاق الأسرة الواحدة لا تجده فى المجتمعات البيضاء بل يفشو فى المجتمعات الملونة . وبهذه المناسبة فان كلمة أخضر الواردة فى بحث الدكتور العفيف ليست اختراعا سودانيا يتحاشى به السودانى وصف أخيه بالسواد بل هى من فصيح العربية فى وصف السمرة الداكنة المائلة الى السواد وهذا دليل آخر على أن هذا اللون فاش فى العرب. وقد ذكره الدكتور لويس فى كتابه المشار اليه وأشار أيضا الى أن العرب وصفوا أنفسهم فى بعض ألأحيان بالسواد. قال الفضل بن العباس بن عتبة بن عبد المطلب:

    وأنا الأخضر من يعرفنى أخضر الجلدة من بيت العرب

    ونود الاشارة هنا الى أننا لاندافع عن العرب هنا بقدر سعينا لتحرير القضايا بالدقة العلمية المطلوبة دون أن ننفى نفيا قاطعا انتفاء العنصرية فى المجتمعات العربية قديما وحديثا ونقر بأن السودان يقع على هامش الهم العربى وقد كتبت مقالة مطولة فى هذا المعنى بعنوان"قسمات وقواسم مشتركة بين عنترة لا العنتريات وأهل السودان" لعلها أيضا فى أرشيف يومية " الصحافة " الالكترونى.

    لكن ذلك كله لايحملنا على انكار حقيقة أن السودان وطن من مواطن العرب والثقافة العربية أقر بذلك بعض العرب فى مواطن أخرى أو أنكروه دون انتقاص لافريقيتيه التى تستعصى على الانكارودون انتقاص من حقوق مواطنيه الذين يرون غير ذلك فى العناية بلغاتهم وثقافاتهم بذات القدر المتاح للثقافة السودانية القومية التى تعبر عن نفسها باللسان العربى نثرا وشعرا وفنونا. تلاحظون أننا لم نقصر انتماء السودان الى العرب الى الثقافة وحدها انسجاما مع الحديث الشريف لأن ذلك الانتماء لا يقتصر عليها رغم أن مدارس القومية العربية والبعث العربى عولت عليه وعلى التاريخ والمصير المشترك مقللة دور العرق فىذلك تفاديا للحاجة الى مرجعية مركزية للهوية العربية تملك حق الاعتراف بالعروبة وسحبه عمن تشاء وقتما تشاء هو مالم يتفاداه الدكتور العفيف فى بحثه آنف الذكر حيث اعتبر عرب الجزيرة العربية والهلال الخصيب يمثلون تلك المرجعية ليقوم باسمهم بانكار عروبة أهل السودان. أما الدكتور صادق جواد سليمان وهو أستاذ بجامعة جورج تاون في واشنطن وهو أيضا عربى من سلطنة عمان فقد عرف العربى فى ندوة بعنوان" كيف نعرف الهوية العربية؟" أقيمت يوم 17 يناير2006 : " العربى هو الانسان المنتم الى الأمة العربية وهو عربى بالثقافة لا بعرق أو دين."



    وفى كتاب الدكتور أمين معلوف ( فرنسى من أصل لبنانى) المترجم عن الفرنسية In The Name Of Identity (بأسم الهوية: العنف والحاجة الى الانتماء) أفكار جديدة فى مسألة الهوية والانتماء تستحق الدراسة فهو يعتبر تعدد الانتماءات يقوى الآصرة الانسانية ويضعف من النزوع الى العنف انتصارا للانتماءات الضيقة.

    قضية التهميش:

    أقرت اللجنة التى كونها مجلس الأمن الدولى للتحقيق فى مزاعم بانتهاكات خطيرة لحقوق الانسان فى دارفور اثر اندلاع التمرد هناك فى فبراير 2003 أن جميع أقاليم السودانى تفتقر الى التنمية ما عدا المنطقة المحيطة بالخرطوم ومشروع الجزيرة. وللتدقيق فالمعنى بالخرطوم هو المدن الثلاث المكونة للعاصمة : الخرطوم , الخرطوم بحرى وأمدرمان. ولأنها ظلت عاصمة للبلاد ومقرا للحكومة المركزية منذ عشرينات القرن التاسع عشر فهى تتمتع بقدر من الخدمات التعليمية والصحية ووسائل نقل واتصالات وبعض الصناعات الخفيفة فى أطرافها. ذلك لم يكن اصطفاء لسكانها دون سائر السودانيين لكنه أمر فرضته طبيعة المكان ووظيفته بينما ظلت تفتقر أجزاء الولاية التى تبعد قليلا عن محيط المدن الثلاث لأبسط الخدمات بل ولعل بعض المناطق فيها تعد من بين أكثر أجزاء البلاد قاطبة افتقارا للخدمات الضرورية. أما الجزيرة فقد أقام الاستعمار فيها مشروعا ضخما لزراعة القطن لمد المصانع البريطانية بالمواد الخام لصناعة المنسوجات وقد كانت تلك الصناعة فى صدارة الصناعات وكانت ساحة للتسابق بين الدول الكبرى فى ذلك.

    هذا النذر اليسير من التنمية جعل بقية أجزاء الوطن هامشا كبيرا.

    من المسؤول عن ذلك التهميش؟

    يعتمد (مانيفستو) الحركة الشعبية لتحرير السودان الصادر فى31 يوليو 1983 تفسيرا اشتراكيا بل ماركسيا فى تفسيروتحديد مسؤولية ذلك التهميش حيث ورد فى النسخة التىنشرتها فى دورية "القرن الافريقى" تعريف الحركة الشعبية بأنها حركة ماركسية لينينية وأنها تهدف لتحرير الجماهير السودانية من اضطهاد وبطش نظام برجوازية العرب المزيفيين الفاسد الرجعى والعنصرى فى الخرطوم وفق أسس الحرية والمساواة والعدالة الاشتراكية.

    الغريب أنه وبعد هذه العبارات الملتهبة المفعمة بالعاطفة الجياشة فى منافيستو الحركة فقد جعل المانفيستو مسؤولية نظام العرب المزيفين فى الخرطوم عن ذلك التهميش مسؤولية ثانوية تكمن فى أنه فاقم مشكلة التهميش وأن النظام نفسه لايعدو أن يكون من صنع الرأسمالية العالمية التى استعمرت السودان.

    يقول المانفيستو فى الفصل الأول تحت عنوان " الجذور التاريخية لمشكلة السودان" ان المشلكة تعود لتوسع الرأسمالية و الاستعمار عند نهاية القرن الفائت ( أى التاسع عشر) حيث أن افريقيا قد قسمت بين المستعمرين الأوربيين واعتمدت سياسة "فرق تسد" بين هذه المستعمرات وداخلها أيضا . وقد رمت السياسة الاستعمارية الى تعميق الفوارق الدينية والثقافية بين الشمال والجنوب. هذا بالطبع مما لا خلاف عليه. لكن المانفيستو ووفقا للرؤية الاشتراكية اعتبر أن منح الاستقلال للمستعمرات ومن بينها السودان جاء نتيجة صفقة بين الاستعمار والنخبة التى تشكلت على يديه من أبناء المستعمرات لقطع الطريق على ثورات التحرير التى بدأت تناضل من أجل الاستقلال الحقيقى وليقوم أولئك بحكم المستعمرات بالوكالة على هيئة ما أسمته الوثيقة ب "الاستعمار الجديد". ويقول المانفيستو أيضا أن الاستعمار قد قام بتنمية محافظة الخرطوم ومديرية النيل الأزرق ( التى كانت تضم ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار وجنوب النيل الأزرق الحالية) ونظرا لحاجة الادارة الاستعمارية لاداريين صغار فقد عمد الى تشجيع التعليم فى الشمال بينما ترك أمر التعليم فى الجنوب للارساليات الكنسية التى لم تتعدى أهدافها فى تعليم الجنوبيين أكثر من حاجتها الى التبشير بالديانة المسيحية. وبالتالى فقد كانت وتيرة تطور النخبة فى الشمال أسرع بكثير منها فى الجنوب. هذا التفاوت – حسب المانفيستو-أصبح هو مشكلة السودان المركزية فى فترة ما بعد الاستعمار.وقد أطلقت الحركة على هذا الوضع ما يعرف باقتصاد الهامش أوperipheral economy فى مقابل اقتصاد المركز أو core economy واقتصاد المركز اقتصاد متطور يعمل فيه عمال مهرة وله مزية سهولة التصدير والاتصال بينما الآخر اقتصاد تابع يقوم على كثرة من العمالة غير الماهرة وربما السخرة وهو يقوم بمد اقتصاد المركز بالمواد الأولية.هذا على مستوى القطر الواحد ولكن يمكن تطبيق ذات النظرية على نطاق العالم بحيث تتحول اقتصاديات العالم النام جميعا فى ظل العولمة وسيطرة الشركات متعددة ومتعدية الجنسيات الى اقتصاديات هامش بالنسبة الى اقتصاديات المراكز الصناعية فى العالم. هذا الطرح طرح نقدى للرأسمالية المتوحشة يتبناه اليسار الجديد والماركسية الجديدة فيما يعرف أحيانا بنظرية الاعتماد الاتكالىDependency Theory. ولو ظلت الحركة وفية لهذا الطرح لرفعت الكثير من العتب عن أنظمة الحكم المتعاقبة على المركز بل وفى اطار الطرح الماركسي الذى يعول على محورية العامل الاقتصادى فى حركة التاريخ لم يكن مناسبا أو مفيدا حتى بميزان الكسب السياسى اقحام حكاية العرب المزيفين والاشارة الي أن العرب حسب الاحصائية الاستعمارية لا تتجاوز نسبتهم 39% من جملة السكان فى السودان( ترى هل هم المزيفون هنا أم عرب أصلاء سوى أولئك؟ لا ندرى.) فى ضوء اقرار الحركة بأن التفاوت فى التعليم بين الشمال والجنوب وتعميق الفوارق الثقافية بينهما كان بتدبير من الاستعمار وأن مسؤولية النخبة الحاكمة من" أشباه العرب" فى الشمال تنحصر فى تعميق التفاوت بينهما . اذن فيم كانت الحرب الضروس التى حصدت مئات الألوف من البشر وعطلت عجلة التنمية فى سائر أجزاء القطر. ألم يكن من الأجدى الركون الى تدابير أخف لمعالجة تركة استعمارية ليس نصيب الشمال فى صنعها سوى العجز عن معالجتها بالفاعلية المطلوبة؟ لكن زوال الحرب الباردة قد أطاح بذلك التفسير الاقتصادى لمشكلات السودان وأفضت مسوغات استدرار عطف الغرب - الحليف الجديد- الى حزمة جديدة من الشعارات والوسائل وضعت الوطن كله على حافة الهاوية . وكيف ما كان الأمر سنحاول فى ما يلى من سطور بحث نصيب الشمال فى جريرة تهميش الجنوب والمناطق الأخرى.

    مسؤولية الشمال عن تهميش الجنوب والمناطق الأخرى:

    اولا ظلت استراتيجية الادارة البريطانية على مدى 47 عاما أى حتى عام 1945 تهدف الى فصل الجنوب عن الشمال والحاقه بمستعمراتها فى شرق افريقيا وكانت أولى لبنات تلك السياسة هى تكوين كتيبة الاستوائية التى هدف الهدف من تكوينها حاكم منقلا البريطانى أوين بقوله فى خطاب منه موجه لونجت باشا يقترح فيه تكوين الكتيبة عام 1910 " ان كتيبة الاستوائية ستكون بالكامل من الجنوبيين وتكون لغة المستخدمة فيها هى الانجليزية بينما يكون معتقد أفرادها هو الديانة المسيحية" وقد وافق ونجت الحاكم البريطانى على السودان على المقترح . وقد تكونت الكتيبة بالفعل عام 1917 وظلت حسب الوثائق البريطانية هى الحامية الوحيدة الموجودة فىجنوب السودان حتى اندلاع التمرد فى أغسطس 1955. ( راجع محمد عمر بشير The Southern Sudan , Background to Conflict ) اذن فان التمرد لم ينشأ لنقض الشمال لعهد قطعه مع الجنوب أو لأنه قصر فى تنميته فالحرب قد اشتعلت قبل أن يأول أمر الحكم لنخبة العرب المزيفين فى الخرطوم وقبل أن يتقاعسوا عن الاستجابة لمطالب الجنوب فى الفدرالية وهو ما حدث فى مايو عام 1958 عندما رفضت لجنة الدستور الاستجابة لمطلب الفدرالية . بل ان ذلك التمرد هو الذى أخاف الشمال من الفدرالية التى لم تعرف آنذ فى أى من بلاد العالم الثالث ولطالما اعتبروا كلمة فدرالية Federation مجرد مرادف لكلمة انفصال Separation فهتفوا (لا فدرالية لأمة موحدة) No Federation For one Nationومعلوم أن انشاء كتيبة الاستوائية وان كان من أبرز مظاهر السياسة البريطانية الرامية لفصل الجنوب الا أنها دعمت بحزمة من السياسات والتدابير وصولا الى ذلك الهدف من ذلك قانون المناطق المغلقةThe Closed Areas Ordinances والذى حرم لباس الأزياء الشمالية على الجنوبيين واستخدام الأسماء العربية وانتهى بطرد التجار الشماليين من الجنوب واحلال نصارى من الشام و من اليونانيين والطليان محلهم ثم تحريم تعليم اللغة العربية فى الجنوب انفاذا لمقرران مؤتمر الرجاف عام 1928.

    أما لجنة سودنة الوظائف فقد أكملت عملها فى الثانى من أغسطس 1955 أى قبل اسبوعين من اندلاع التمرد ولم تشر لجنة التحقيق فى التمرد الى أن ما ناله الجنوب من مناصب محدودة استنادا الى عمل اللجنة كان سببا من أسباب التمرد علما بأن بريطانيا ومصريا ممثلين للادارة الاستعمارية كانا فى عضوية اللجنة الى جانب ثلاثة سودانيين. ( راجع مدثر عبد الرحيم Imperialism And Nationalism in The Sudan وان كان من ملاحظة على ادائها فى اسناد الوظائف كان بالامكان ابداء مرونة فى المعيار المتشدد للتعليم فى اسناد الوظائف باعمال مبداأ التمييز الايجابى Affirmative Action فى تعيين الجنوبيين على النحو المعمول به فى الولايات المتحدة والهند ازاء الاقليات تعويضا لهم عن الفرص غير المتكافئة فى التعليم التى كانت من سياسات الادارة البريطانية. لكن يمكن التماس العذر لهم بأن تلك التدابير لم تكن معروفة فى ذلك الوقت فالجنوب الأمريكى نفسه كان واقعا فى تحت وطأة التمييز العنصرى بينما الهند كانت تضمد جراحها جراء حروب الانفصال.

    ان الانصاف يحتم الاعتراف بأن الحكومات الوطنية لم تجد فرصة حقيقية لحل مشكلة التهميش فى الجنوب بسبب اندلاع التمرد المبكر واستمراره حتى عام 1972 بل واستهدافه للقليل من مشروعات التنمية التى أقامتها الادارة البريطانية فى الجنوب. وبذات القدر من الانصاف فان سياسة حكومة 17 نوفمبر ازاء الجنوب قد عمقت الجراح بين شطرى البلاد باعتمادها على الحل العسكرى للمشكلة لكن ينبغى أن يثبت الجنوب لجماهير الشمال فضيلة أنها اسقطت تلك الحكومة- رغم أنها سعت بصدق- لدفع عجلة التنمية فى السودان وذلك بسبب سياساتها القمعية فى الجنوب.

    تمحيص مقولة سيطرة أقلية على الحكم فى الخرطوم منذ الاستقلال:

    اشرنا فى صدر هذا المبحث الى أن التاريخ والجغرافيا قد جعلتا من سودان النيل من وادى حلفا الى ربك الحالية جزءا من العالم القديم وأنه بقدر ما أكتوى من ويلات الغزوات والحملات التأديبية وسرقة الثروات من قوى خارجية طامعة فقد أفاد من تلك التجارب القاسية قسطا من التعليم ومعارف وفنون فى ادارة الدولة. وقد رأينا كيف أشار مانفيستو الحركة الشعبية الى أن الادارة البريطانية ولحاجات تخصها قد أتاحت قدرا من التعليم فى الشمال لم تتحه للجنوب. وقد نتج عن هذه الميزة أن حظى الشمال باقاليمه الستة القديمة بمزية فى وراثة المناصب المدنية والعسكرية بعد رحيل المستعمرولم يكن المعيار للحصول على تلك المناصب قبليا أو جهويا أو عرقيا بل استفاد منه سكان المراكز الحضرية الذين أصابوا قدرا من التعليم وهم خليط من كافة قبائل ومناطق السودان. وقد قدر لنا أن نختلف الى مدارس العاصمة الخرطوم والى مدارس فى عاصمة الجزيرة أواسط السودان زاملنا فيها زملاء من كافة أرجاء السودان كان ذووهم قضاة ومحامين ضباطا فى الجيش والشرطة من بارا والأبيض وكسلا والقضارف والفاشر والجنينة ودنقلاودلقو فى المحس. وهذا ايضا أثبته البروفسور محمد عمر بشير فى كتابه المذكور آنفا :

    The development of education in the North had created a new class, recruited from the different areas and cities, whose loyalties transcended provincial and tribal areas

    وترجمة ذلك " ان تطور التعليم فى الشمال قد خلق طبقة جديدة تكونت من مناطق ومدن مختلفة تسامى ولاؤها على القبلية والجهوية . "

    والحكم وادارة الدولة لم يورث من قبل المستعمر لهذه الطبقة الوسطى التى لم يكن من سبيل الى نشوئها سوى الطريقة الديمقراطية التى تمت بها وهى الصعود عبر سلم متاح للجميع هو التعليم. هكذا اذن تشكلت الادارة المدنية والعسكرية والقضائية فى البلاد.

    أما ادارة البلاد علىمستوى السلطة السياسية فقد تم عبر أكثر وسيلة ديقراطية عرفتها البشرية حتى الآن وهى الاقتراع الحر المباشر"صوت واحد لكل شخص". ولم تشترط معرفة القراءة والكتابة كما حدث فى بعض ديموقراطيات العالم للاقتراع لحجب أصوات قطاعات معينة. تلك الانتخابات العديدة والحرة والنذيهة أوصلت الى الحكم أحزابا سياسية ضمت كل أهل السودان . أوصلت الأزهرى وعبدالله خليل ومحمد نورالدين ودريج وبوث ديو وهاشم بامكار ويوسف العجب وزاكى الدين ومحمد توم وعلى حسن تاج الدين وويليام دينق اما الى القصر أو البرلمان. وهؤلاء أتوا من كل صوب وحدب ومن كل قبيلة وعرق فى هذا البلد المترامى الأطراف. فأين هى تلك الأقلية التى ورثت الحكم منذ الاستقلال؟ فلو أن دساتير السودان ومنذ دستور 1956 المؤقت قد اشتملت على بند واحد يحابى قبيلة أو جهة أو يحرم مواطنا بسبب لون أودين أو أن القوانين المنبثقة عن تلك الدساتير قد احتملت تأويلات من ذلك النوع لصدقت الدعاوى بأن الأقلية المزعومة قد صممت القوانين على مقاسها لتحتفظ بالسلطة لكن لم يقم دليل واحد على ذلك حتى يوم الناس هذا.

    هذه الظاهرة , ظاهرة التنمية غير المتوازنة صاحبت نشؤ الدولة القطريةNation-State فى كافة دول العالم الثالث بعد رحيل المستعمر عنها والسودان ليس حالة فريدة فى ذلك كما أن ما سمى ب "أزمة الهوية" ليس السبب فى الصراعات والحروب والتى اشتعلت بالفعل فى معظم أرجاء المعمورة التى و قعت فريسة للاستعمار كما تشتعل النار فى الهشيم بل كانت المشكلات فى بيافرا فى نيجريا وفى الكونغو وفى أمريكا اللاتينية وآسيا صيحات استغاثة تبحث عن وسائل وطرق لمعالجة أوضاعها المتخلفة تنمويا عن مناطق فى بلدانها كانت أكثر حظا فى التنمية والنمو لاعتبارات قدرتها وتعلمها الادارات الاستعمارية. وكثيرا ما تختار حركات الاحتجاجات الى غطاءات دينية أو عرقية أو ايدولوجية لجلب العطف أو العون الخارجى أو الجهوى فى مواجهة المركز للحصول على الحقوق. وأبلغ الأدلة على ذلك تغير ولاءات هذه الحركات وفق مقتضيات الحال والظروف الدولية والاقليمية ويبقى الأصل فى شكاياتها هو طلب النصفة فى السلطة والثروة مع المركز.

    معالجة التهميش:

    وفقا لسياسة الاستعمار فى ادارة البلاد القائمة على مبدأ "فرق تسد" الذى أشارت اليه الحركة الشعبية فى أم وثائقها "المانفيستو" كان من الطبيعى أن يجد العهد الوطنى منذ يومه الأول مشكلة كبرى تتمثل فى وجود أقاليم فى البلاد يقل حظها من التنمية كثيرا عن محيط العاصمة والوسط وأن الجنوب سيشعر بثقل ذلك أكثر ذلك لأن بقية الاقاليم فى الشرق والغرب والشمال تربطها بالمركز درجات من التجانس الثقافى والدينى تقلل من حدة نظرتها اليه مستاثرا بتركة السلطة والثروة. أو بلغة موجزة نقول ان العهد الوطنى كان يواجه تحديا يتمثل فى اقامة دولة قطرية عصرية قوام الحقوق والواجبات فيها المواطنة. أما اقتسام السلطة فقد كان متاحا من الناحية القانونية اذ أن المبدأ هوالاختيار الحر عبر صناديق الاقتراع وفق الديمقراطية البرلمانية ودون حجر من لون أو عرق أو جهة. تبقى المشكلة فى معالجة التنمية غير المتوازنة وذلك بمنح الأولوية فى التنمية للمناطق الأقل نموا بعلم ومشاركة ممثلى تلك الأقاليم واللجؤ الى معالجات مثل التمييز الايجابى التعويضى عبر نظام( الكوتات)لتسريع عملية استيعاب المناطق الأقل نموا فى ميادين التعليم العالى ( أحسب أن بعض هذا ظل موجودا بالنسبة للجنوب) وكذلك فى مؤسسات الدولة مصحوبا بخطة اعلامية محكمة لمحاربة النعرات العنصرية والجهوية واحترام التعدد فى اطار الوحدة لأن الدولة القطرية لم تعد كما بدأت فى (ويستفاليا) فى القرن السابع عشر دولة متجانسة بل أصبحت فى الغالب الأعم متعددة الأعراق والثقافات وعليه فان محاولات اعادة صياغة هوية السودان كبلد افريقى وحسب والغاء روابطه الأخرى وارتباطاته, تعد تعسفا يقف على باب العناوين واللافتات والتعريفات التى تعتبر التجانس العرقى واللغوى والثقافى ضرورة لبقاء الدولة القطرية .

    وقد اعتمدت الهند على هذه المعالجة التي تحترم التعدد فى اطار الوحدة لمخاطبة قضية التهميش فيها وهى من البلاد التى تتمتع بتنوع ربما لا نظير له فى العالم.

    مثل هذه المعالجة السلمية كفيلة بمرور الزمن بالقضاء على المرارت وابعاد شبح التمزق والانفصالات ولكم تمنيت لو أننا صرنا الى ما صارت اليه الهند وهى تعد اليوم فى مصاف الدول الهامة فى العالم. لكن السودان الذى يشابه الهند فى التنوع وتجربة الاستعمار البريطانى لم يتمكن من بناء ديمقراطية راسخة كالتى صمدت فى الهند نظرا لوقوع السودان فى منطقة ساخنة من العالم جعلت الديموقراطية فيه أضعف فى قدرتها على التصدى لتيارات الحرب الباردة وحرب الوكالات فاندلعت فيه حرب أهلية ضروس عمقت الجراحات والمشاعر السالبة فجاءت المعالجات تحمل فى طياتها قدرا كبيرا من انعدام الثقة الذى جعل الطلاق البائن بين شطرى القطر أحد خيارين لا ثالث لهما. وهو ماتكرر بحدة أقل في دارفور .

    ان ايقاف الحرب الأهلية وامتداداتها فى الغرب والشرق عبر اتفاقيات السلام الموقعة كان ضرورة وطنية أملتها اعتبارات داخلية وخارجية. لكن ينبغى وضع مشكلات السودان فى اطارها الصحيح كمشكلات انعدام للتنمية المتوازنة قل بسسببها كسب المواطنين فى تلك المناطق الأقل نموا من التعليم وبالتالى المشاركة بفاعلية فى ادارة البلاد. والأهم من ذلك أن ذلك كان تركة استعمارية مقصودة ولم ينتج بتدبير من المركز وان أجمع الناس على تقصير المركز فى تركة عمرها 58 عاما من السياسات والتدابير والحيل فليس المقصر كالصانع المدبر وسيجد الباحث المنصف أنه لا سبيل الى مقارنة دور المستعمر فى صنع مشكلات السودان بتقصير حكومات ما بعد الاستقلال فى معاجة تلك المشكلات وكم هى النجاحات التى حققتها دول فى مثل حالنا يمكن الاستشهاد والاقتداء بها؟ قليل لا يعتد به أو عدم لايوجد الا ما ذكرنا من أمر الهند.

    انى أخشى من تضخيم دور الشمال فى تهميش الأطراف بكل ما يحمله ذلك التضخيم من مرارات عرقية وجهوية لأن ذلك سيفضى الى استقطاب تحس فيه اقاليم النيل التأريخية بالاستهداف فتستقو بخصوصياتها فى مواجهة الاستهداف بما يكرس الجهوية ويبطى من وتيرة نمو مشاعر وطنية مشتركة تضم أطراف الوطن المختلفة على صعيد التنمية والآمال المشتركة. أن مناورات الحركات المطلبية وحدة خطابها الذى حوى غير قليل من النعرات العرقية والجهوية غيبتها فى شعارات التقدم والمساواة والعدالة قد أيقظ للأسف المشاعر (الرجعية) وعزز الانكفاء على القبيلة والجهة التى كانت فى مطلع صبانا الباكر تتوارى خجلا وهى تخلى مكانها للمفاخرة بالسودان الوطن الجامع.وكان الدكتور فرانسيس دينق قد علل تنامى المشاعر العربية والاسلامية فى الشمال الى حدة خطاب الحركة الشعبية لعل ذلك كان فى مقالة له نشرتها دورية Middle East Journal فى عدد خريف عام 1990 ولعله أعاد ذكر ذلك فى ندوة عقدت قبل أشهر فى معهد بروكنز على قاعدة أن لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة ومعاكس له فى الاتجاه. ونتفق هنا تماما مع الدكتور فقد اشتمل خطاب الحركة الأول على جرعتين ثقيلتين احداهما مست الدين مسا مباشرا وشكلت مهددا له بتعريف الحركة بأنها حركة ماركسية لينينية تنطلق من بلد كان يحكمه نظام الدرق الماركسى فى اثيوبيا والمعسكر الاشتراكى الداعم له لم يذل قويا , وجرعة عرقية وثقافية هى تطهير السودان من سيطرة أقلية العرب المزيفين فى الشمال! ان حدة مثل هذا الخطاب الذى هدد مقومات السودان الدينية والثقافية المعروفة , كان كافيا لجعل الشمال يوظف آلياته الدفاعية من الدين والموروث الثقافى للتصدى لخطر معلن ومدعوم لا يروم مجرد نصيب من سلطة أو ثروة. أن حدة الخطاب الجهوى والعنصرى أحيانا التى نجدها اليوم جلية لم تعد معها الدعوة للانفصال بين الشباب فى الشمال دعوة منكرة منبوذة كما كانت لدى جيلنا.

    أما التحامل القبلى أو العرقى أو الجهوى prejudice فمنقصة انسانية مصاحبة للتساكن البشرى تجدها فى بلاد حط فيها الانسان على سطح القمر كما تجدها فى أدغال الأمزون وافريقيا وهى منقصة لا تبرر أوتعلل لكن يمكن رد أسبابها فى السودان مثلا لأحداث التاريخ الدامية من قتل متبادل أو حملات اختطاف أو استرقاق تركت كدمات فى النفوس تأبت على البرء. وقد تنشأ عن قلة معرفة لصيقة بالآخر بسبب بعد المسافات واختلاف اللهجات والعادات الذى يولد الجفوة فيستعاض عن قلة المعرفة بالركون الى الصور النمطية عن الآخرstereo type وعلاج ذلك يكون بنشر الوعى عبر وسائط التعليم والثقافة والاعلام مع الصرامة فى تطبيق القوانين التى لا تعرف محاباة لشخص أو تحامل على آخر بسبب اللون أو الدين أو العرق.

    انى على يقين بان ابتدار المسار الديمقراطى المضمن فى اتفاقية السلام الشاملة وبعد زوال تدابير الانتقال فى تقسيم السلطة على أسس جهوية وقيام انتخابات حرة ونزيهة سيمنع تكريس دولة مقسمة فى داخلها منقسمة على نفسها كما هو الحال فى دول تعرفونها مقسمة فيها الحظوظ على الطوائف المكونة للمجتمع الأمر الذى قد يستمر الى ما لا نهاية , عقبة كأداء فى وجه قيام بوتقة وطنية جامعة لا تعرف التمييز.و سيثبت مبدأ صوت واحد لكل شخص مجددا تجذروغلبة مكونات الثقافة السودانية الحالية بمضامينها العربية والافريقية معا وسيثبت بطلان دعاوى القائلين بأنها تمثل خيار القلة التى آل اليها أمر السودان بعد خروج المستعمر وأنها مكونات فرضتها تلك الأقلية على غالب أهل السودان على حين غفلة منهم. وأحسب أن حرص أحباب الثقافة السودانية القائمة بفنونها وأهازيجها وأساطيرها وبلسانها الذى تعبر به عن ذلك كله, ينبغى أن يكون من صميم حرصهم على تأسيس ديمقراطية راسخة هى السبيل الوحيد و الكفيل باستدامة تلك الثقافة وبقائها مبرأة من تهم الهيمنة والتسلط على الآخرين كما أنه الدريئة الحصينة من التآمر الخارجى الذى يتكىء دوما على مثل تلك الدعاوى لتقويض سلطان تلك الثقافة الحبيبة الى نفوسنا. فضلا عن ذلك كله فان الديمقراطية الراسخة القوية ستفتح الطريق لاسهامات الثقافات الفرعية للتنافس الحر والسلمى والاسهام فى بلورة ثقافة وطنية جامعة.

    ان خيار الوحدة يبقى هو الخيار الأفضل لأهل السودان قاطبة لأن محاولة اقامة كيان منفصل فى الجنوب على افتراض أن التجانس العرقى والثقافى النسبى هناك قمين بضمان قطر جديد خال من مشلات السودان الكبير مغامرة غير محمودة العواقب وقفزة فى المجهول فقد دلت التجارب كما هو الحال الآن فى الصومال وهو من أكثر بلدان العالم تجانسا, أن التناحريمكن أن يكون فتاكا بين بطون القبائل وابناء العمومة على نحو يقوض أركان الدولة ويجعل مواردها الطبيعة نهبا لكل طامع. وبالمثل فان الشمال سيعانى من تناقضاته الداخلية اذا انفصل الجنوب عنه. ان نظاما فدراليا حقيقيا يمنح صلاحيات واسعة للولايات فى ادارة شؤونها وتنمية مواردها ويقصر صلاحيات المركز على الدفاع والسياسة الخارجية ومسائل السيادة وما لابد منه من تخطيط مركزى يصون وحدة البلاد ويعمل على ترقية ثقافة وطنية مشتركة هو الخيار الوحيد المتاح أمام السودان ليحقق أشواق أبنائه جميعا فى الحياة الحرة والعيش الكريم وليواصل دوره جسر تواصل بين افريقيا والعالم العربى والشرق الأوسط.








    (منقول من سودانيل)


















    دنقس.
                  

09-18-2006, 12:40 PM

Tragie Mustafa
<aTragie Mustafa
تاريخ التسجيل: 03-29-2005
مجموع المشاركات: 49964

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرة أخري، صراع الرؤي والهوية السودانية؛؛ (Re: Abdulgadir Dongos)


    شكرا دنقس

    وينك ومشتاقين لك.

    تراجي
    .
                  

09-18-2006, 12:47 PM

Abdulgadir Dongos
<aAbdulgadir Dongos
تاريخ التسجيل: 02-09-2005
مجموع المشاركات: 2609

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مرة أخري، صراع الرؤي والهوية السودانية؛؛ (Re: Tragie Mustafa)

    +




    العزيزة تراجي، تحية واحترام.
    مشتاقين كتير، وأشكرك كثيرا علي الصمود النبيل.
    سأهاتفك غدا بعد وصولي المدينة.
    تحياتي للصغار، ودمت.









    دنقس.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de