|
الخامس من (حزيران)
|
الياس خوري مرت ذكري الخامس من حزيران، كأن لا ذكري. فالهزيمة العربية الكبري التي تفوقت في آثارها المدمرة علي نكبة 1948، دخلت في سبات الثقافة العربية النائمة، وفقدت قدرتها علي طرح الأسئلة علي مسار حركة التحديث في المجتمعات العربية التي صادرها الضباط وصارت اضحوكة بأيدي العسكريتاريا. ولعل العجز في قراءة وقائع تلك الأيام السوداء، ثم غياب التأريخ العلمي للأحداث، قادا الي ما يشــــبه الفوضي الثقافية والفكرية، بحيث لم تستطع بدايات النقد الذاتي بعد الهزيمة، بحسب صادق جلال العظم، ان تبلور فكرا جديدا، فسقط الفكر العربي ضحية اصوليتين: اصولية ماركسوية، عبرت عن نفسها في اطار المقاومة الفلسطينية، ولم تستطع ان تقدم بديلا للحركة الوطنية الفلسطينية التي تشكلت في ظلّ هيمنة النموذج الجزائري. واصولية اسلامية، قادت الي مواجهات دموية في سورية، قبل ان تخلي الساحة لأصوليتين متصارعتين: الأولي ايرانية الهوي، والثانية وهابية الجذور. السؤال الذي لم يطرح في شكل حقيقي هو هل كانت الهزيمة حتمية؟ واذا كانت كذلك فما هو البديل، اما اذا لم تكن فمن هو المسؤول؟ لا شك ان تغييب المسؤولية، بعد انتحار المشير عبدالحكيم عامر، والمحاكمات الشكلية لقادة سلاح الطيران المصري، تركا المسألة في اطار التخمين. لم تنشأ لجنة قضائية مستقلة لمحاكمة قادة الهزيمة وتحديد مسؤولياتهم، لا في مصر ولا في سورية. بل تحولت الهزيمة مناسبة لتشديد قبضة الحاكم الفرد، او البطل، بحسب التعبير الأثير لمحمد حسنين هيكل. طبعا هناك سؤال آخر يتعلق بيومي 8 و9 يونية، حين خرجت الملايين في مصر مطالبة الزعيم جمال عبد الناصر بالبقاء في منصبه. هل كانت تظاهرات عفوية ام مدبرة؟ وما هي دلالات خروج الملايين للمطالبة ببقاء المسؤول الدستوري عن الهزيمة في منصبه؟ هل هي سيكولوجيا عبادة الأب والخوف منه؟ ام تعبير عن الفراغ السياسي الذي بنته ثورة الضباط الأحرار، بحيث وجد المجتمع المصري نفسه عاجزا عن تخيل غياب القائد، لأنه الفراغ بعينه. هذه الأسئلة ليست جزءا من الماضي، فالماضي لا يمضي الا اذا تمت محاكمته في شكل عقلاني، ونشرت وثائقه، واخضع للبحث العلمي، واستخلصت دروسه السياسية. غير ان الهزيمة الحزيرانية المروعة بقيت سرا. لماذا بعد الضربة التي وجهت الي الطيران، انهارت اسلحة الجيش كلها؟ لماذا تفكك المشاة وهاموا علي وجوههم في الصحراء، من اصدر امر الانسحاب؟ اسئلة لا يملك احد جوابا عنها. بل ان سقوط الطيران بالضربة القاضية يبدو هو الآخر مستغربا. اما الاداء السياسي للقيادة فيبدو اكثر غرابة. لماذا اغلقت مضائق تيران وتم سحب قوة الأمم المتحدة. هل كانت مصر في طور الهجوم ام ان الحشد العسكري في سيناء كان خطوة لردع اسرائيل عن مهاجمة سورية. وهل كانت اسرائيل تستعد فعلا لمهاجمة سورية؟ اسئلة لا يملك احد اجابة اولية عنها. فلقد اختصر سؤال الهزيمة بمسألتين: الدفاع الأعمي عن القيادة الناصرية التي كانت تواجه مؤامرة امريكية. و/او اعتبار الهزيمة حتمية بسبب طبيعة النظام البورجوازي الصغير في نظر البعض، او الكافر في نظر البعض الآخر. وفي الحالين تمّ تمرير فكرة عدم المحاسبة التفصيلية، وبقي التاريخ طلسما، وبقي البطل القائد في مكانه. ولعل قمة المهزلة تكمن في ذلك الافتراض البعثي السوريالي الذي حاول اقناعنا بأن حرب حزيران فشلت لأن هدفها كان اسقاط الأنظمة التقدمية العربية! كأن هذا النظام الذي هزم بتلك الطريقة الكاريكاتورية كان يشكل خطرا علي اسرائيل؟ ولعل السؤال الأكبر في ذكري الهزيمة هو وعود ما قبلها. صحيح ان عبدالناصر كان حذرا جدا في تعاطيه مع مسألة تحرير فلسطين، لكن الخطاب القومي، والناصرية جزء منه، لم يقدم تحليلا لموازيين القوي، ولا لحل للمسألة في لهب الحرب الباردة التي كانت مستعرة انذاك. بل اكتفي بوعد بناء قوة عسكرية كبري، اكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط، واذ بهذه القوة تتحول كرتونا محترقا في الصحراء. اذ انها كانت خارج اي محاسبة سياسية، في مجتمع منع من السياسة وصار ملحقا صغيرا بجهاز الدولة العسكري والمخابراتي. لعل الذكري تشكل التحدي الأكبر للمؤرخين المصريين والعرب. عار علي الثقافة العربية ان تبقي في جمود الانتظار، ومن العار ان نترك تاريخنا ينزلق من بين ايدينا. صحيح ان الوصول الي الأرشيف الرسمي العربي شبه مستحيل، لكن مهمة انقاذ تاريخنا من الاندثار، مهمتنا نحن. من المخجل ان نقرأ تاريخنا في التواريخ التي يكتبها المنتصر الاسرائيلي، وان نبقي في دوامة القراءة الغيبية التخمينية، لأن هذه القراءة بالضبط تقوم باعادة انتاج الغياب، وتسمح للجمهورية بالتحول جمهوريات وراثية، وتخنق قدرة المجتمع علي ان يكون ويصنع حاضره ومستقبله. اريد للهزيمة الحزيرانية الكبري ان تبقي خارج قدرة العرب علي اكتشاف منطق التاريخ واستخلاص دروسه. لذا يدفع العرب اليوم ثمن تلك الهزيمة اضعافا مضاعفة. فبعد غياب عبد الناصر علي ايقاع ايلول الأسود، تحول الواقع العربي تكرارا دمويا ومملا لسواد ايلول الذي صنعته هزيمة حزيران. 0
|
|
|
|
|
|