|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
هناك, فوق الرصيف, وسط مسافرين ومودعين آخرين, خيم صمت حارق بيني وبينه. بعيد ذلك, كنا نتبادل حمل الشنطة والتحايا والأسماء الأليفة:
- "مع السلامة (يا عثمان علي)".
- "في رعاية الله (يا سيف الدين المبارك)".
وضع قدمه داخل قطار الصعيد المتأهب.
وغاب قليلا.
كان ذلك آخر عهدي به.
كنت أزمع الهجرة صوب آرض الأحلام, أمريكا.
كان القطار يسير نحو الوطن البعيد متئدا.
قبل عام, أويزيد قليلا, يا أصدقائي, مات سيف الدين المبارك. ولم يعد, منذ ذلك الوقت, سوى ذكرى, تظهر ثم تختفي في خضم الحياة, مثل حلم بعيد المنال تماما.
يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: msd)
|
نحيف, وكأن عصا الراعي أحد والديه. ذو بشرة سوداء باهتة. أنفه ليس أفطس. شعره خشن. عيناه جميلتان. إبتسامته خفيفة ساخرة, كوجه عانس نقية الدواخل.
كان يعشق السكنى دونما رفيق. كان يقرأ أغلب الوقت. كان يتأمل الوجوه والأشياء. كان يمارس العادة السرية عند حافة الخطر.
في لحظات يأسه المتكرر, خلال أيامه الأخيرة فوق أرض الكنانة, كان ينظر شارد البال, وأحيانا كان يردد لحن بوب مارلي الآسر الحزين:
"وكانت تحب كل هذه الأشياء الصغيرة".
منذ ثماني سنوات تقريبا, قال لي:
- "أتدري (يا عثمان علي) ما أجمل أحلامي"؟!.
كنت حاضر الإجابة, سريعها:
- "طبعا, فأحلام الشباب مثلنا معروفة, أن نكمل سنوات الجامعة والتجنيد الاجباري, نلتحق بوظيفة مرموقة في الخرطوم, ونتزوج من حسناء ذات أدب ودين".
ومرت دقيقة:
- "أنا شخصيا, يا سيف الدين المبارك, أفضل سيارات تويوتا اليابانية, وخصوصا الهاي لوكس".
وقد لاحت إبتسامته الخفيفة الساخرة:
- "لا, تلك ليست أحلامي تماما, أجمل أحلامي, يا عثمان علي, خمن قليلا"؟.
كان ينظر, في أثناء حديثه, بعينين وامضتين, وراء سور الجامعة, نحو أفق أزرق مفتوح, وعقب إنتهاء آخر إختبارات السنة الجامعية الثانية مباشرة.
آنذاك, بدأ ينمو بيننا, ذلك الشيء النادر, الذي يشبه بذور صداقة وضعت ذات نهار داخل تربة الحياة الحديثة, التي لا تنبت في الغالب سوى القسوة والقسوة المتبادلة.
وسألني:
- "ألم تخمن بعد"؟.
وقد أعياني التفكير والخيال خارج دائرة تلك الأحلام:
- "قل لي أنت, يا سيف الدين المبارك, ما أجمل أحلامك العجيبة هذه"؟!.
يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كنا نتبادل الحديث جالسين فوق حافة حوض الزهور الأسمنتي القصير القائم وراء مبنى الكلية. ورهق الامتحانات يشملنا. والطالبات الجميلات كأساطير حية تدنو وتبتعد. وهاهو الشيطان مرة أخرى يفتح أمامي أحد أبوابه الغريبة الغامضة:
- "أجمل أحلامي, يا عثمان علي, أجمل أحلامي, أن أكتب رواية واحدة جيدة وأرحل".
فكرت قليلا:
- "إلى أين, أمريكا, مثلا"؟.
صمت مسافة وابتسم:
بعد لحظات, وحتى لا أبدو كأبله تماما, بدلت من نبرات صوتي, وقلت له في جدية تامة:
- "أتدري, يا سيف الدين المبارك, ما أجمل أحلامي, في هذه اللحظة تحديدا"؟.
- "طبعا, لا"!.
- "أن أضاجع لوسي حنا, أجمل طالبات الكلية والدفعة, ثم أرحل, إلى جنوب السودان حتى"!!.
وضحكنا, أنا وهو.
منذ عامين:
ضحكت, أنا.
ولم يضحك, هو.
آنذاك لم أتبين مدى حزنه جيدا.
إذ ضحكت مرة أخرى وأنا أتذكر تفاصيل ذلك الفخ المحكم الذي لم تشهد مثله جامعة الزقازيق من قبل.. والذي عكفت على حياكته بصبر ودأب أيام طوال إلى أن غدا في جمال فكرة خارجة من رأس شيطان عزب له سبعة قرون من الوحدة والكبت والظمأ.. ضحكت وأنا أتذكر أنين حمامة المدرج البيضاء الخافت ذلك المتناهي أسفل وطأة اللذة كرنين أجراس الكنائس البعيدة.. ضحكت وأنا أتذكر ملمس ذلك الشعر الحريري المنسدل فوق كتفيها العاريين مثل خيمة أعرابية مطهمة بالخمر والشواء ونمير الرغبة المتحققة.
يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
وكأن لا برد هناك.
كان لظى جهنم يستعر داخل سراويلي الناشفة حين غادرني صوتي الجاد الهامس المرتعش النبرات والذي بدا لي في تلك اللحظة ولسبب ما مثل رجل وثني يقبل صوب أعتاب دين جديد:
- "لوسي حنا, المسألة خطيرة, لقد أعياني التفكير كثيرا, وباختصار شديد: أريد أن أعتنق ديانة السيد المسيح عليه السلام".
لو قلت لها عبر هيئتي تلك, وعبر ذات الصوت المقنع حد الدهشة الذاتية, إن العذراء واقفة عند باب الكلية توزع الهداية والغفران, لهبطت من توها سلالم الدور الأرضي المتعاقبة دفعة واحدة.
يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: Samau'al Abusin)
|
شيئا فشيئا توقف ضحكي.
وبدأت أدرك مدى حزنه المباغت.
كان حزنه, خلال أيامه الأخيرة فوق أرض الكنانة, يشبه على نحو ما مطر المناطق الإستوائية. تارة يهمي خفيفا متباعدا. وتارة يندلق ثقيلا متواصلا. وفي كلتا الحالين, لا تدري متى يبدأ, أويتوقف.
ثم نظرت إليه مرة أخرى.
كان ساهما, لا يزال.
كانت معالم الزقازيق, وملامح لوسي الجميلة, تتلاشى داخل الذاكرة, وتنطفيء تدريجيا مثل أنوار قصر كبير آخر الليل.
وبدا, في تلك اللحظة اليائسة, ألا شيء يمكنه فتح كوة الماضي السعيد بعيد ضحكي ذاك, وأمام لوعة الحزن المرتسمة داخل عينيه الجميلتين منذ فترة, عندما تناهى صوته الخفيض قائلا:
- "ما عادت الأحلام هي الأحلام (يا عثمان علي)".
يتبع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
سموأل:
أجل, هكذا عبرنا معا, وهكذا تتقاطع وتتفارق خطوط الحياة مع خطوط حيوات أخرى قد تتقارب أوتتباعد مسافاتها الداخلية من حيث نقف هنا أوهناك. لكنها خيوط تكتسب معناها على أية حال بما تكتسبه أوتضفيه من قيم إنسانية. ولا بد أن الحنين كان ماثلا في عمق ذلك الراهن كما هو الآن. وهنا كما يبدو لي ليس سوى عالم يتفتق في بساطة البدايات وبراءتها. وأخيرا للخيال مهمة إثراء الواقع وتوسيع مختلف أبعاده!.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قبل كل ذلك, قال لي فجأة:
- "أتدري"!.
- "ماذا"؟.
- "ربما تبدل حلمي ذاك, يا عثمان علي, وقد لا أكتب تلك الرواية اللعينة أبدا".
حدث ذلك عصرا, قبل عامين على وجه التحديد, بين جدران شقته الأرضية الضيقة الواقعة عند أطراف حي عين شمس الشرقيةة ووسط خمسة مساجد صغيرة متقاربة. آنذاك, كنا نتوغل, أنا وهو, داخل زمان القاهرة المختلف, منذ أربع سنوات تقريبا.
يتبع (زمن الحكي):
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الفصل الأول من رواية (إنسان المكان) (Re: عبد الحميد البرنس)
|
لوح لي, في ذلك المساء, من نافذة قطار الصعيد المتحرك ببطء شديد, وبدا سعيدا, أوهكذا تخيلته.
كنت أقف, على الرصيف الثامن, وسط مودعين انصرف أغلبهم, أرد عبر إبتسامة شائهة على تلويحته المبتعدة شيئا فشيئا, راسما شارة النصر بين لحظة وأخرى ولسبب ما على سبورة الهواء المعتم بإصبعين مرتعشتين, متابعا انزلاق القطار أسفل "كوبري الحديد", ينحرف ناحية اليمين قليلا, ثم يطلق صفارته الممطوطة, قبل أن يحل في مكانه قطار آخر جديد.
في أعقاب ذلك, وأنا أتهيأ لمغادرة المحطة وحيدا, وحين احتواني ضجيج ميدان رمسيس مرة أخرى, كان يتردد, في مكان ما داخل نفسي, مثل صفعة رقيقة حانية, صدى ذلك الصوت الخفيض الساخر:
عثمان علي, يا صديقي العزيز, أكاد أتخيلكم, يا معشر اليسار, جالسين ذات مساء, بين أحضان ذلك "الامبريالي القابع وراء المحيط", عامرة موائدكم بخيرات "العم سام", تدينون نظام العسكر, بينما تكرعون الكؤوس المترعة بنشوة النبيذ الأحمر المعتق والوايت والبلاك والريد ليبل والشيفاز, تثملون ببطء, على الطريقة الحديثة طبعا, وحين يشتد بأحدكم حنينه الثوري, يقف على رؤوس الرفاق القدامى التي أحناها السكر, مرددا كلمات ذلك الإنسان الصادق النبيل:
أبانا الذي في المباحث كيف تموت وأغنية الثورة الأبدية ليست تموت؟.
| |
|
|
|
|
|
|
|