سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 11:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-07-2005, 04:22 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان

    )

    محمد خلف الله سليمان



    نواح الروح في ملكوت (نبتة)
    أو بيوت الريح السبعة



    نص قصصي




    ( يثير المحاربون السود الذين قدموا من أرض كوش الهلع )

    سفر الملوك الثاني 19 ، 9
    سفـر أشعيــا 27 ، 9


    تعلقت الريح بسترى ..
    فتعلقت إمرأة بي .. وتعلقت بها ..
    (هي وردت ..
    وهو ورد) (1)
    ولما نظر إليها .. لا أدري
    هل تبسمت ..
    أم تعجبت ..
    أم أنكرت ريح الشمال – كعادتها – صاحبي ؟
    قالت : هل ارتدت تلك الأماكن القصية ؟
    قلت : أي الأماكن ؟
    قالت : بيوت الريح السبعة
    قلت : تقصدين بيوت البغايا ؟
    قالت : بلى
    قلت : متى ؟
    قالت : حين بعثرت الغيمة أسمال قميصك ؟ وانبثق الماء الملكي من بين فخذيك .
    قلت : أجل
    قالت : أنا أسكن البيت السابع بعد أن قرر المحافظ حظر المهنة أنا وأمي وأبي وأخواني .. لكنا ما زلنا نسمع حشرجات وأنين وتأوهات تلك الليالي .
    كانت تحكي لي التفاصيل الدقيقة .
    قالت : كان – رحمه الله - أول من أعتصر المريسة وشربها ، ثم لبس بعد ذلك الجبة ، ومن فوقها الرحط ، ووضع جرسين أحدهما عن اليمين والآخر في الشمال ، وكان يزغرد ، ويشهد (الزار) واهتزازات النساء وكان قومه يخرجون بصنوف اللهو ويقرعون الدفوف ويرقصون حولها ، ويشربون الخمر ويواقعون النساء جهاراً من غير ستر تعلقت الريح بستري .. وبيوت الريح السبعة تفتح نوافذها فتطل بنات ناعسات .. حلاتن ! مابين تبري صافي وأخضراني اللون
    كنت .. كانت تقول لي : هل ارتديت تلك الـ ... ؟
    قلت : وهل تسمعين نواحات تلك الليالي ؟
    قالت : أنا وجاراتي الخمس ، أما السادسة فقد كانت الوحيدة التي عاصرت تلك الليالي وشاركت فيها .
    قلت : أتسمعها النساء دون الرجال ؟
    قالت : يسمعها الرجال كذلك ، لكن عند الصباح تخضر وجوهنا خجلاً من الآباء .
    قلت : أه لألوانكم الشفيفة
    قالت : تاب الله على الخلق
    قلت : وهل ثبن إلى رشدهن
    قالت : بل تفرقنا في المدينة وتركن أشباح أنينهن وحشرجاتهن وتأوهاتهن في بيوتنا ..
    - بيوتهن القديمة – في كل ليله تحكي لي حكاية جديدة فأؤجل خاتمتي .
    شهودي وغيابي .. فصلي ووصلي .. نوري وناري ..
    وقالت : (كان دكزيو هو دكزيو ، وحينما بزغت الشمس صار دكزيو وردة .. وظل النحل ينهل منها حتى هبط الليل فرقد ونام)
    والباعة الجوالون المولعون بالرقص يصطخبون ويسومون أشياءهم كل حاجة بسبعة ونص !
    (ثم طلعت الشمس فغدا دكزيو سنبلة سامقة ، وعند هبوط الليل كان دكزيو هو دكزيو..)
    وانتشرت رائحةالعطر بالمكان ، خمره ودلكة ودخان
    (ارتفعت الشمس .. يتحول دكزيو إلى سحلية ، ثم ينقلب فاكهة خضراء سرعان ما نضجت .. ولما غابت الشمس أمسى رجلاً فاستراح ، ثم عاد نوعاً من النبات يحمل فاكهة حمراء وذهبية ..)
    والفتيات يطاردن الأيائل ويمسحن خدودهن بحمرة الفواكه ويشرن إلى عربات الكارو
    التي تصدح فيها أجهزة التسجيل .
    ( عندما صعدت الشمس ، واستيقظ دكزيو ... الغارق في وحشته ... أبصر الشمس فصار شجرة ... وجاءت امرأة تساقط عريها لتقطف من ثماره ، فاختفت الشجرة وبكت المرأة)
    ( وأصبح طائرا، وصائدا للطيور ثم غدا رجلا منبوذا يطارده الرجال ... واتخذوا من صوت بكائه أدأة لتتبع آثاره ... وغدت دموعه أجنحة لطائر عظيم يرفرف فوق السحاب) وروحه تطوف فوق بيوت الريح السبعة ، وفي حضرة الليالي الصاخبة تخرج أميرات أمهريات من دخان بخور السواحل... يشاهد المضاجعات العنيفة بين هؤلاء الأميرات وملوك كوش برماحهم الغليظة .
    جاء رهط المغنيين والموسيقيين الموتى وهم يجوبون الشوارع ، يغنون أغاني الحقيبة الشجية ، وأصوات الطبول تعوي ، ويغرد الطير ، ويمشي النمل خطوطا مستقيمة ...
    اتبسم ضاحكا ...
    وانزوي ...
    انزوي...
    انزوي ...
    نطفة ، فعلقة ، فمضغة...
    وتخرج من ثوب الريح قرنفلة ...
    وترفرف أجنحة الحمائم السمراء ...
    وأخرج من عزلتي لأشهد تكوين ( نبتة ) جديدة .

    v v v


    هوامـش :
    1- كتاب المطالعة
    2- مابين القوسين توظيف لأسطورة دكيزو الواردة في كتاب الحكاية الشعبية في أفريقيا
    3- إبراهيم إسحق والمأخوذة من كتاب قلب الصياد The Heart of The Hunter للرزونزفان دربوست
                  

05-07-2005, 04:24 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    دهاليز المنامات .. متـاهة سـرديـة

    الـمـنـامـة الأولـــى


    قالت لي جدتي : سمعتُك تنادي باسمِ إسماعيل .....
    - يمرُّ القطارُ في مروجٍ خضرٍ ، أحياناً مروج ملونة بألوانٍ تجاوزت ألـوانَ القُزح ، ألوان سَرمَدية ما شاهدناها مُذّ خُلِقنا .
    - الكهلُ يقرأُ كتابَ (الحارسُ في حقل الشوفان) .
    - البنتُ التي كانت تجلس بجانبهِ تقرأُ (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) .
    - أمّا الرجلُ النبيلُ فقد كان يقرأُ رواية (دون كيخوتيه) ويضحك بلا سببٍ واضح ، لقد انهار تماماً
    - وقع بصري على الكتاب الذي أبحثُ عنه حولَ الأسرار الكونية في سور الكتب (بالبوستة)
    - ثم اختفى الكتاب
    - واختفى سورُ البوستة
    - واختفى (سامي) بائع الكتب
    - تلاشت ملامحُ المدينةِ التي كان اسمها أم درمان
    - تقومُ مقامها مملكة (تمبكتو) القديمة
    - القادمون يركبون الإبل ، ويلبسون أحذيةً أشبه بأحذية (النورمانديين) ، كان التجارُ يذهبون إلى (تيغري) ليعودوا بالملح
    - اختفى رهطُ القراء المنكبين على متن القطار
    - الكهلً اختفى وكذلك الرجل النبيل ، وكلَّ أولئك الذين تغالبت عليهم شهوة الكتب
    - اختفى لغطُ الركابِ ، وتحركتِ الأشباحُ في القطار
    - القطارُ يسيرُ إلى اللانهاية
    - وأنا أحتضنُ البنت التي كانت تقرأُ ماركيز (لا نأكلُ الأحلام ، بل نَستطعِمُها)

    v v v



    الـمـنـامـة الثانيـــة



    قالت أمي : كنت أسمعك تصيح باسم أحد ملوك العجم !
    - وقف أمام الحاكم العام الإنجليزي
    - كسر قلمه
    - لم يكسر رقبتهُ ، وما مزَّق قميصه
    - جلسنا في مقهى (الكاشف)
    - شرِبنا قهوةً دون أن نذوبَ السكر
    - مرَّ أهلُ السفينةِ بملابس الأنجلو – سكسون القديمة
    - لقد وجدنا من سفرِنا هذا نصبا
    - يبحثون عن الخضرِ وموسى وفتاه !
    - الباعةُ الروحانيونَ الأوغادُ بأجسادٍ شفافة تتحرك أشياؤهُم
    تسمع أصواتهم
    ولا تراهم !
    - وصوت (أبودؤاد) يغني (من زمان)
    - (جينشا أيكو) الياباني يُلصِقَ على جدرانِ غرفته البائسة صوراً للأثاثات التي كان ينبغي عليه حيازتُها

    v v v



    الـمـنـامـة الثالثة



    قالت لي عشيقتي التي كانت تركب معي في القطار : سمعتُك في منامِك تنادي اسم (شهريار)
    - صوتَ المقرئ الرزين يتلو (إني أرى في المنام أني أذبحُك)
    - كان الميناءُ فارغاً ... والبحرُ يجري في تؤدةٍ ، ألوانُهُ تتعدَّدُ .... وأنا وحدي أسير نحو وحشتي ....
    - (الهوساوي) الذي جلس بجانبنا في المقهى ترطن مع رفيقهِ .. ما زلت أهابَهمُ ، أخشى أن يتناجى الناس بلغةٍ لا أفهمها ... طوارق ، وشلح ، وشناقيط ، وأثيوبين ، وخواجات ، وبرابرة ، وأتراك يتراطنون في رأسي ... رطاناتُ الدنيا تدخلُ وتخرج من المقهى .
    - كانت عشيقتي تروي لي حكاية الميناء

    v v v



    أطيــاف المنـامــات


    - أرى سراديب ونقوشاتٍ بارزةً على الدهاليزِ
    التوابيتُ المرسومةُ ... وشواهدُ القبور جنودُ الملك
    سنابك الخيول
    ضوءُ اليعاسيب وأولئك الذين يتخذون من الثعابين والفهود والطواويس والضفادع والفئران آلهة ...
    يتنحىَّ النمل ...
    - في خِزانةِ الكتبِ القديمة تقرأُ أنَّ الإمبراطور يوليان الروماني كان مُغرماً بالكتب التي تصحبُهُ حتى في حروبه
    - كان يُحبُّ أن يدعى قساً من أن يسمى إمبراطور
    - (كل ضربة لها نغمةُ يفيقُ فيها المجنون وتذهلُ منها العقول وتطربُ لها الحيواناتُ والجمادات)(1)
    (..... كنتُ الساعة آكلُ مع أولاد الشلك لحم حوت في مركب نيلي تخطى كوستي ... شالني عصار و جابني هنا رماني وسط هذا الحشد الملتم )
    نعبر الجسر ...
    نتوقفُ ...
    وأرى دماءَ أسلافي التي تجري في عروقي تتدفق ...
    ترتطم الصِحافُ بأصواتِ الديكة المتعالية لتوقظ الصباح من غفوتِهِ ...
    فتتنادى الأصواتُ الطالعة من أطيافِ الأحلام المتناثرةِ ... تَلُمَّ شظاياها ويخترق الصوتُ المؤذنُ للصلاةِ جموحات الغزلانِ التائهة ، فأتعرف على أهلي ...
    وتعودُ أم درمان كما هي تعلن عند رأس كَّل ربع ساعة وجودها الملتبس ...
    الاضاءات الكثيفةُ تزغللُ العيون
    وتغُري الناس بالسقوط ...
    هذا ما كان من أمري …

    (يا أيُّها الملاُ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون)

    يناير 2003م



    v v v

                  

05-07-2005, 04:26 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    كرنولوجيا الولد


    يحكى أن ولداً كان يرتحل يومياً
    وكان ذلك الولد يتحول إلى أول شيء تقع عليه عيناه
    وكان ذلك الشيء يصبح جزءاً منه طيلة اليوم
    أو جزءا من اليوم أو لسنوات عديدة أو عصور ممتدة .

    (والت وايتمان)



    v v v

    (أ)


    كـان الحديـد نفـط ذلك الزمــان ...

    يقال : إنه في هزيع القرن الخامس قبل الميلادي كانت مروي مدينة يسكنها الناس وتحيط بها الحجارة ، تتطاول فيها قلعات الحي الملكي وقصوره وحماماته ونوافيره الملونة ومعابد آمون وإيزيس والشمس والأسد ثم الأهرامات ومقابر الملوك والعامة وأطلال معبدين خرج أتباعهما الفقراء من مِلة الملوك .

    تنتشر في المدينة متاجر الحُلي والمجوهرات ومحلات صناعة الفخار المزخرف بضفادع خضراء ومدن أخرى روحانية تقيم الأمسيات الصاخبة .
    وتمتد بيوت العامة على الأطراف
    يسومون الأطعمة ...... والشراب
    يرابون ، ويتنابذون بالألقاب ....
    يقرأون فرمانات الملك ..........
    يتبارون بالشعر ...... ويتنادمون
    يبارحون الأمكنة إلى منافٍ بعيدةٍ .

    v v v

    (ب)


    رأى الولد في هذا الصباح عشبة الحديقة وغدت العشبة تطوف في الحدائق والميادين العامة يجلس عليها العشاق ......
    تسمع همسات عاشقين شفيفين يتحدثان عن ساعة اكتمال القمر، ويبحثان عن المناطق المتوهجة الغامضة في روحيهما ....
    والعشبـة ساكنةٌ ومتوحدةٌ تطؤها الأقـدام ....

    v v v

    (ت)


    ارتكب الولد في هذا اليوم حماقة صغيرة بعد أن نهض مبكراً .
    رأى كتاب تفسير الأحلام .... الذي صارت تتلقفه الأيدي في المدارس والمكتبات والمتاهات ، ويجذبه الناهضون لتوهم من النوم ، ويستنسخه التلاميذ والباحثون
    لما عاد منهكاً آخر اليوم تمزقت أطرافه وتبعثرت الأحلام ....
    (حكى في زمن لاحق أن رجلاً أتى ابن سيرين وقال : رأيت امرأة مختونة وسط بيتها ، تضطرب على فراشها فقال ابن سيرين ينبغي أن تكون هذه المرأة قد نُكحت على فراشها في هذه الليلة وكان الرجل أخاً للمرأة وكان زوجها غائباً فقام الرجل من عند ابن سيرين وهو مغضب على أخته مضمر لها الشر فأتى بيته فإذا بجاريه أخته قد أتته بهدية وقالت : إن سيدي قدم البارحة من السفر)
    ضرب الولد رأسه على الحائط ... وأفاق ... واتخذ كتاب (الكاماسوترا) أوضاعاً مختلفة فصارت المرأة غزالاً وبقرة سماوية وكوبرا ومحارة تكسو نفسها بخلاصات الورد والطيب والزعفران ....

    v v v

    (ث)


    الولد الذي ركل الملك برجله في منامه ، ركل ديناراً عليه صورته في صحوه ....

    (ابن سيرين)



    v v v

    (ج)


    أرسلته أمه لبيت ناس التاية بنت الفضل ، دخل ، ووجدها تجلس في (بنبر) لاصطياد الشمس ، وكأنما تراه لأول مرة ...
    رددت هامسة ...
    أهو الولد...
    أم الملك ؟!
    الملك ...
    أم الولد ؟!
    الـ .... وتحول (بنبر) التاية بنت الفضل إلى عرش عظيم ...
    لم تكن التاية بنت الفضل ترى (طشاشاً) ...
    مسحت وجهها بطرف ثوبها ، وسقطت المرآة على الأرض وتهشمت ، فتطيرت الحاجة من شر هذا اليوم وشر ما بعده وتناثر وجه الولد شظايا ...

    v v v

    (ح)


    ما جاء في الخبر أن الولد الذي شرب سيجارة (بنقو) قبل ثلاثين عاماً صمت منذ ذلك الحين ولم يكلم بعدها إنسياً ...
    ربما يتراءى له الآن شبح صديقه الذي اختطفه النهر وظل غائصاً في قيعانه المزركشة ...
    لقد تبدى له الصمت في صورة غريق ، وغدا يلتقط الأصوات التي تحوم في الفضاء منذ قرون ، ولا تستقر ...
    أصوات ديانا في الغابة ...
    وصوت الخليل (لما خيل الضل على الأريل
    في مشارعه الصيد ورد وقيل)
    أصوات الملوك وهم يوبخون الوزراء ، يولون ويعزلون وينهون ويأمرون ... أصوات الكهنة وهم يرددون التراتيل الدينية القديمة
    أصوات السحرة والمشعوذين والعرافين

    وصوت يونس إمرة القائل (طلعت على شجرة البرقوق وأكلت منها العنب ، فنهرني صاحب البستان وقال لي : لم تأكل جوزي ؟)
    أصوات المؤذنين ....
    أصوات لغات سندية وبنجابية وأوردية وآرامية وفارسية ولاتينية ....
    صوت النداءات في الأسواق ....
    صوت شهرزاد ….
    وأحاديث معروف الاسكافي وهو يسرد لأهل مدينة اختيان ختن حكايته ...
    أصوات كازنتزاكي وكافكا ولوتريامون ...
    أصوات الممرورين والمتنبئين والمجانين ...
    أصوات المغنيين ...
    أصوات المشاجرات والشتائم ...
    صوت المرأة وهي تضطرب في فراشها ...
    صوت التاية بنت الفضل...
    صوت الفضل...
    صفير الناس في السينما...
    صراخات الكرة ...
    هسيس الأرواح التي تسكن الأشجار ...
    ومازال الولد يجمع الأصوات بحثا عن صوته الذي راح مع النهر متتبعا الموجة...
    كان الحديد نفط ذلك الزمان…
    والولد جاء من بلاد بعيدة

    v v v

    (خ)


    في اليوم السابع ، استراح الولد الذي تشوشت حواسه وما فتئ يفتش صوته الخاص ، وهو يتجول بين مدينة وأخرى .... وزمن و آخر ....

    v v v


    الهوامـــــش:
    1. ديانا نيمورينسيس ملكة الغابة في الأسطورة الاغريقية
    2. أغنية لخليل فرح
    3. متصوف وشاعر شعبي تركي

    محمد خلف الله سليمان
    أمدرمان مارس 2004 م
                  

05-07-2005, 04:28 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    نزوات صاحب السبيل

    محمد خلف الله سليمان



    أهمس لأصدقائي زاعماً أني أعكف – الآن – على كتابة حكاية حول رجل عادي جداً ظل لوقت طويل مهووساً بالأمر والنهي ، ولكي ما أفسد سبر الكتابة شرعت أروي لهم مباشرة خبر هذا الرجل الذي حاول إشباع نزواته الصغيرة عبر إصداره لتوجيهات محددة صار يحكم بها صغاره في البيت ، وتطورت هذه النزوات ، واجتازت عتبة داره لتطال أطفال الجيران ، وأولاد الحارة ، ثم أخذ يمارسها في الحافِلات ، ويحدد للركاب أماكن جلوسهم .... النساء .... الرجال .... الأطفال ....
    وتصاعد هذا السلوك لتسيطر أوامره على رؤسائه ومرؤوسيه داخل المكتب الحكومي ... ولأن الناس - هنا – غالباً ما يقابلون مثل هذه الشهوات بدهشة صامته ، مما اتاح له إحكام قبضته على الحبل والغارب معاً .

    ولأن الناس هنا .... غالباً ما ..... فإن الرجل الجالس بجانبي والذي يتحدث عن القبعات ، لم ينتبه لوجودي كما أن وجودي نفسه لم يكن لينتبه إلى الرجل الذي يجلس بجانبي .
    فجأة التمعت النياشين
    (والقادمون من الممالك القديمة يحثون الخطى ، ويحملون على الظهور أمتعتهم ، ويقتفون آثار أسلافهم ، وقيل إن الملوك يهجعون بالنهار وبالليل هم ساهرون) .
    ربما جلسنا يومـاً قرب رجل يمكن أن يرفع علماً لدولته قرب (سبيل) يقيمـه للعابريـن ....
    وبالفعل هذا ما حدث ، فقد وضع أمام منزله حجر الأساس لسبيل يحمل أسمه .... وجعل زيراً للنساء ....
    وآخـر للرجـال ....
    واقتصر الثالث على رعاياه من المثليين ... وعادة ما يشير لكل فئة إلى زيرها ...
    ولكي ما تتسع إمبراطوريته غرس ثلاث شُجيرات لم يطرحن شيئاً ....
    هناك – بالطبع – أحداث طريفة من الواجب أن تحدث في هذا السياق ، ولكني لا أرى داعياً لسردها وإقحامها ، لأن الخيال الخصب للمتلقي قادر على ابتداع حكايات تفتح بوابات للضحك وأنهاراً من المتعة الصافية ...
    أيضاً يمكن القول بأنه مغرم بالطريقة التي يلفُّ بها الحجاج بن يوسف الثقفي عمامته ، ولا يخفي إعجابه بالقائد الروماني ديديوس الذي استدرج قبائل بأسرها ، بدعوى توزيع أراضي زراعية لهم ، وذبحهم عن آخرهم .
    لقد دارت رحى الحروب في خلد الرجل صاحب السبيل ، منذ حرب البسوس والعلمين وأم دبيكرات وخاضت مخيلته حروباُ لم تنشب قط .
    صار الجميع رهن إشارته ، وتحت طاعته وغدوا يلجأون له كلما نشب خـلاف بين أبن وأبيه أو زوجة وبعلها أو جارٍ وجاره أو دائنٍ ودائنه وأضحى يصدر (فرماناته) ، ويقضي بين الناس ، ولولعه بالعظمة أطلق على سبيله اسم (سبيل الساقي العظيم) .
    لقـد تبـدل الحـال وفي غمرة سطوته وانشغاله بسبيله نسى اسم أخيه الذي قُتل عن طريق الخطأ في إحدى الأحداث الدامية التي جرت بالعاصمة لقلب نظام الحكم فـي البلاد ، ولم يجرؤ على سؤال أحـد ، وبينما يحاول إيقاظ ذاكرته ، ويعيد تكرار الأسماء التي يعرفها في سره ، يسأل الأطفال الصغار عن أسمائهم ، لعل اسم أخيه يسقط فجأة .... وبدأ يستحي من نفسه وهكذا لاحقه وخز الضمير ، وهو يحاسب نفسه بعدم الوفاء لذكرى شقيقه الذي مات ظلماً .... وطارت أوامره ونواهيه من رأسه واجتاحت الروح مشاعر القنوط
    فانكسـر زيـر النسـاء
    وتدثر زير الرجال بالصمت
    وبقيّ زير المثليين ساهماً ...و"متمحناً"
    والرجل الذي كان يتحدث عن القبعات انزوى بعيداً .
    وما يزعج صاحب السبيل أنه لن يستطيع أن يطرح السؤال على أحد ... ماذا عساه أن يقول ؟ .... نسيت أسم أخي .....
    إلى هنا يمكن أن نترك صاحب السبيل يواجه أكثر الأسئلة صعوبة .... لمعرفة أسماء من فقد .
    وبقيّ على هذا الحال إلى أن تفشت في المدينة ظاهرة السلام وأوردت الصحف العناوين التالية :
    (على أثر بلاغات تلقتها شرطة الولاية في عدد من أقسامها من مواطنين ادعوا أن هنالك أشخاصاً يتسببون في فقدانهم لأجهزتهم التناسلية بعد مصافحتهم مباشرة)
    (كشفت رئيسة قسم الطب النفسي بجامعة الرباط الوطني أن مجموعة الشباب الذين تقدموا بشكوى ضد بعض الأشخاص متهمه إياهم بتسببهم في فقدانهم لأجزاء حساسة من أجسامهم لديهم القابلية الإيحائية وغير المتوازنة)
    وشاع الأمر في المدينة ، وما لم تورده الصحف هو أن هؤلاء الناس بدأوا يفقدون أعضائهم ، بالفعل العضو تلو الآخر وتضيع ملامحهم ويتلاشون تماماً وتهيم أرواحهم في البرية .
    وقيل إن الرجل صاحب السبيل صار ينسى الأشياء ، أسماء المدن التي زارها ، أسماء الشوارع ، أسماء المعارف والأصدقاء ، أسماء الكائنات ، حتى نسى أسمه ، لقد نسى كل شيء وأصبح بلا ذاكرة ...
    كما أن ذوي المفقودين قد ظلوا يتتبعون آثار المختفين فتضّيعهم الطرقات ويغيبون .... ولا يعودون إطلاقاً .
    أفرغت المدينة قاطنيها ، وصارت ساكنة ، صامته ، وهنا أنا أكتب بذاكرة جديدة ولكني بدأت أتلاشى ...أتلاشى ....أتلاشى .... أتلا .....
    v v v



                  

05-07-2005, 04:30 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    هوامش من سيرة حمال نوبي

    محمد خلف الله سليمان



    كنت حمالا في مرفأ نوبي انقل الأمتعة والسلاحف والعاج وقرون الخرتيت والعطور والنبيذ والذهب وابيع عقاقير جنسية للبحارة والسواح البيزنطيين ،وحينما سقطت وبان فخذي تعلقت بي امرأة كانت تعرفني عندما كنت أميرا اغريقيا في اثينا وهي أحدى وصيفات أمي ،فنادتني باسمي القديم تذكرت ونفضت التراب عن جبتي ،تمر البارجات والعربات التي تجرها الخيول ،أسمع الدمدمات الهائلة لصهر الحديد ،وفي الامسيات اقود حنطورا فرعونيافي شوارع ممفيس ،أحمل في الليل سباب المخمورين وعناء الراقصات وهمسات العشاق الممسوسين ،وأتقاسم الجر مع صاحب الحنطور.أجلس هناك وتتراص أكواب الماء المقدس ،أعلق سيفي الملكي وصورة الأب من فوقي مزدانة بالزمرد،تسللت الى غرفتي ،لحقت بي وصيفة أمي بعد أن غافلت المحظيات ،تحسست جبهتي ،ثم وضعت كفهاعلى صدري واستلقت بقربي..كنت حمالا في مرفأنوبي ،أحمل الأمتعة والسلاحف والعاج وقرون الخرتيت والعطور والذهب والنبيذوأبيع عقاقير جنسية للبحارة والسواح البيزنطيين ،وحينما سقطت وبان فخذي تعلقت بي أمرأة كانت تعرفني عندما كنت أميرا اغريقيا في اثينا.كان معلمي في القصر يحذرني من الافراط في المضاجعة لأنها تضعف !
    العقل وتشوش الفكر،صار معلمي نجارا لتوابيت الموتى وقد شهد المذبحة التي ارتكبها هانيبال في حق ألفي شخص من مناوئيه على شاطيء كروتون ...تعبر قوافل الأعراب إلى الأمصار البعيدة ..تظهر نجمة الشعرى اليمانية صباحا إيذانا بانطلاق موسم الخصوبة ...كنا في ميدان الشهداء بام درمان غب أن بانتى في السماء نجمة تتلألأ...عشت لمل كان الكلام يموت حين يقال ...رأيتهم كيف يوارون العصور تحت التراب ،ويدعونني باسم من وحل...وفي الأمسيات أقود حنطورا فرعونيافي شوارع ممفيس ،أحمل في الليل سباب المخمورين وعناءالراقصات وهمسات العشاق الممسوسين واتقاسم الأجر مع صاحب الحنطور ...يقول أبي :إن النكاح يطيل العمر ،ويكثر النسل ...كنت حمالا في مرفأ نوبي ..وفيالليل أغشى الأماكن التي تثير عواطفي ،وأسعد بأولئك الذين يخاطرون بحياتهم من أجل القضاء على مليك جائر .أقود حنطورا فرعونيا في أماسي ممفيس
    سكير
    رجل وأمرأة..
    أمرأة وطفلة تسعل ...
    قال السكير للمرأة التي تقود الطفلة:الطقس ...
    وتسرب القول :خذي الطفلة للكاهنة نيتوكريس لتتوسل لإله طيبة كي تتعافى البنت ...
    هبط السكير ،ونامت البنت وتشاغلت المرإة بالفضاء ...كانت الهمسات تتحشرج بين الرجل والمرأة.
    وحينما سقطت وبان فخذي تعلقت بي أمرأة كانت تعرفني
    وحول موقد النار أسموني باسم جدي لأبي
    تطوف حكمة هندية في رأسي
    _ يامعلمي كيف ينبغي لي أن اسلك إزاء النساء؟
    _كما لو لم تكن قد رأيتهن أبدا
    _لكن ماذا أفعل لو تحتم علي رؤيتهن؟
    لاتتحدث اليهن
    لكن ماذا أفعل إذا ماتحدثن إلي ؟
    _كن منهن على حذر فحسب...
    إلا أن فكاهات وصيفة أمي المرحة أبعدتنيعن الحذر وعن الحكمة ،لقد صارت تصبغ شعرها بشقرة محببة
    كنت حمالا في مرفأ نوبي ... وفي الليل أقود حنطورا فرعونيا يجوب شوارع ممفيس ،يلتقط أحشاء المدينة الملفوظة ،ويحمل سباب المخمورين وعناء الراقصات وهمس العشاق الممسوسين...
    قال أبي :إن وجدت الأنثى فلاتضيع الفرصة.
    تمتليء شوارع ممفيس بالعاهرات اللواتي يستوقفن الحناطير العابرة ،ويركبن دون أن يدفعن،ويمنحنأجسادهن بسخاء نظير هذه النزهة الجليلة ،ويعاشرن السواح مقابل( سسترسات) رومانية أو مراهم للوجه .تزدان وجوه الخلاسيات نعومة في المرافيء،وتفوح أجسامهن برائحة الصابون المعطر ...
    أمام المرايا الكبيرة سأل الحلاق الملك عن كيف يحب أن يقص شعره؟
    قال أبي في صمت ...
    صمت الحلاق وصمتت العصافير عن الزقزقة في الأقفاص ،وصمت المغني وران الصمت في المكان ،وظل السيف الملكي صامتا...
    كنا في ميدان الشهداء بام درمان ،غب أن بانت في السماء نجمة تتلألأ...
    جلس زهير قواد العهد القديم ...
    وجهاد مومس ذلك العهد ...
    أبابا التي صارت بغيا لكل العهود، كان وشم الصليب على جباه الأكسوميات مفزعا...
    ...يضعون أواني الشاي المعد للبيع في فرندة دكان قرب محطة الشهداء التي أنشئت بعد غياب تلك المؤسسة الضخمة بقرار من ذلك المحافظ يقضي بحظر البغاء...
    لقد مضت قافلة الشهداء ورائحة البخور الزنجباري تحوم في المكان وتطايرت اصوات منادي السيارات ...شنقيطي ...بحري ...سلالم ...نص ...
    وتبعثر الباعة الجوالون وماسحو الأحذية وحلاقو ظلال الأشجار
    وأنا _ الآن _أكتب القصص وأقرض الشعر وأمارس مهنة لاتمت إلى الكتابة بصلة
    أودع أصدقائي في المحطة وأمضي ...
    كنت حمالا في مرفأنوبي أنقل الأمتعة والعاج وقرون الخرتيت والعطور والذهب والنبيذ وأبيع عقاقير جنسية للبحارة والسواح البيزنطيين...
    وحينما سقطت مرة وبان فخذي تجلت في روح محمد خلف الله...
    كنت حمالا في مرفأ نوبي ...
    كنت أميرا اغريقيا...
    كنت ...وكنت...وكنت...
    واصبحت كاتبا مغمورا في ام درمان...
    وها أنا أهيىء روحي لرحلة جديدة....
                  

05-07-2005, 04:52 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    اواصل في نشرمجموعات قصصية لمختلف كتاب القصة

    العربية ارجو انتنال الاعجاب ولكم قصةللكاتب اامصري

    سليمان فياض بعنوان عودكبريت



    عود كبريت

    سليمان فياض



    دكان المكوجي شق كالخص في جدران من الطين، وابور الجاز يفح ناراً وصهداً، والمكوى فوقه تفح صهدا. الشارع أسفل الرصيف، غارق كالرصيف في الشمس، يفح صهدا. الولد المكوجي، ابن الأعوام الستة عشر، يمسح عرقه بالفوطة السخنة التي يمسك بها المكوى. لا صوت سوى صوت الوابور، وزن الذباب على الرصيف. وفي الشارع كلاب استلقت على جنوبها في ظلال الجدران المقابلة. انقطعت الرجل من الطريق في اليوم الحار. الولد المكوجي يدوس بالمكوى على الأقمصة البيضاء، قميصاً بعد قميص.
    الولد المكوجي، رأى ظلا على ترابيزة الكي. التفت لصاحب الصوت :
    - ولّع لي.
    الولد المكوجي شعر بالغيظ، قال له:
    - مفيش كبريت. ادخل ولع من الوابور.
    صاحب الصوت شاب من الشارع، خايب مدراس، رأى بجانب الوابور علبة كبريت بها أعواد كبريت. قال للولد المكوجي:
    - ناولني الكبريت.
    الولد المكوجي كرر:
    - مفيش كبريت.
    الشاب خايب المدارس رفع يده، فرد كفه، هوى بها على صدغ الولد المكوجي العرقان. دوت الصفعة.
    الولد المكوجي جبن.
    الشاب مد يده لمشط الكبريت وأشعل السيجارة، ثم دس مشط الكبريت في جيبه، ثم نفخ دخانا في وجه المكوجي، ثم مسح يده من أثر العرق في القميص الأبيض، ونزل عتبة الدكان إلى الرصيف.
    صاحب المحل كان قادما، رأى الولد المكوجي يبكي. سأله. عرف ما حدث. فار الدم في رأسه، كان يرتدي بدله جندي في إجازة، سحب من جيبه مطواة قرن الغزال. لحق بالشاب خايب المدارس، في الطريق، من الخلف شرط عنقه بالمطواة. انقطع العرق الذي في الرقبة، واندفع سرسوب الدم الصاعد إلى الرأس ودار في اندفاعه مع الشاب، كلما دار مترنحا حول نفسه، وسقط الشاب على الرصيف المقابل، يشخب عنقه دما على حجر الرصيف. خرج الولد المكوجي من شق الدكان، ووقف على العتبة، ينظر بفزع. الجندي صاحب المحل غطس في حارات الحي، الخوف جمد الولد المكوجي فظل واقفا، ينظر لسرسوب الدم الأحمر. المرأة العجوز، كانت عائدة من الحارة إلى الشارع، رأت سرسوب الدم فصرخت زاعقة:
    - الحقوا الراجل يا ناس.
    واندفعت نحو الشاب: جثت بجانبه رفعت رأسه، وضعته على فخذها، على ثوبها الأسود. أخذت تحاول إيقاف سرسوب الدم. الشاب في غيبوبة على ساقها. امتلأ الطريق بالناس. تحلقوا. سمعت أصواتهم، وهي ترد الدم جاهدة:
    - ما فيش فايدة دا عرق الرقبة.
    دارت أقراص التليفون وراء النوافذ، تقاطعت الأصوات الملهوفة، تطلب الإسعاف، البوليس. الدم يتدفق على الثوب الأسود. المرأة العجوز صارت جالسة في بركة مسودة، تبكي، وتنشج، كأنه ولدها.
    جاء الإسعاف بعد نصف ساعة، والبوليس في إثره، الجسد المرتجف كان قد سكن، والدم قد توقف. قال رجل الإسعاف:
    - انتهى مات.
    المرأة العجوز أنهضت ملوثة اليدين، والساقين، والثوب، بالدم. بدت ذاهلة. ضابط البوليس يسأل المرأة، والولد المكوجي، عما حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ قال الولد المكوجي:
    - عود كبريت.
                  

05-07-2005, 05:10 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    استقالة

    مي التلمساني



    أستلقي فوق صخرة عالية. عارية. طيور سابحات في الفضاء البعيد. يأتين إليّ. هذا جسدي فكلوه. شمس الصيف الحارقة ونسيم البحر الذابل. يعتريني. هذا دمي المنسلخ من ثنايا شعيراتي الدفينة. هذا شعري المتكاسل فوق نتوءات الصخر. هذه أنا التي تتحرق شوقاً للانسياب وسط تعاريج الصخر.

    وسط حنايا الريح. وسط انعطافات الموج الهادر عن كثب. هذه أنا التي نصف جسد، نصف كون وعي بالوجود.

    كان هذا حلم يقظة. حين أطفأت نور الغرفة رحل اللون. وظل شكل الأشياء في المكان كحقيقة سوداء تعلن عن كثافة الوجود. مددت يدي في حنق مقرون باللهفة تحت الوسادة. وأمسكت برباط الرأس. أحكمته فوق شعري المتناثر هنا وهناك وتركت رأسي يهوي فوق الوسادة من جديد. حدثت نفسي بصوت خفيض كي تذهب أفكاري الممسوسة. وأنصت إلى حفيف أوراق الشجر القادم من النافذة البحرية. صور متقطعة من بحرها در وسماء صافية تحوم فيها طيور شرسة وصخور تشبه انكسارات الجبال في الأزمنة الأولى. أغمضت عيني على صورتي العارية فوق الصخرة. وتمنيت أن أحلم حلماً مبهجاً. أسدلت طرف ثوبي الليلي حتى قارب أطرافي واعتدلت فوق ظهري كالصليب.

    الثالثة بعد منتصف الليل تقريباً. لم أنظر في الوقت. لكن رائحة الكون تنبئ باقتراب الفجر. لازالت صورتي العارية معلقة هناك. في الفضاء الفاصل بين الفراش والسقف. ثقلت جفوني ثانية فغفوت.وأفقت على زقزقة عصفور قريب. كانت غرفتنا تسبح في ضوء رمادي يشبه ضوء الفجر. اكتست الأشياء لوناً موحداً كصور الأفلام القديمة. أسدلت الستائر وانتبهت إلى وجودك عند طرف الفراش الآخر. أين كنت أثناء الحلم؟

    رشفة واحدة من كوب الشاي الساخن تغسل حلقي من ملح البحر. تعقبها رشفة أخرى وقضمة من كعك يشبه صخور الليل. أزدرد بسرعة كل ما يتراكم في تجويف الفم. وأعلن أني انتهيت. ترمقني بنظرة متثائبة.

    وتدعوني في غير حماس للتريث. أغلق الباب الخلفي على كلمة مقتضبة.

    نصفها يظل داخل البيت ونصفها الآخر يرحل معي. دقيقة واحدة عند أعتاب البيت ثم انطلاقة تبدو في غير محلها نحو الرصيف المقابل حيث تقبع بقايا صخور انكسارية وبحر صغير يعكس زرقة السماء وريشة طائر أسطوري هارب لتوه من التاريخ. أجفل دون أن أتوقف عن السير. تحلق فوق رأسي صورتي في شبق مكتوم. عارية إلا من شعيرات تتراكم هنا وهناك في إصرار. قبل أن أنزلق داخل سيارة الأجرة المح طرفاً من شمس الصيف الحارقة، وأصافح هواء الصبح الذابل.

    في المرآة الأمامية، عينا السائق كعيني صقر.

    في الممرات المتثائبة يمر الآخرون في حركة متمهلة. يتشممون عطري الذي رحل. ويكشفون عن أسنان ملونة كالابتسام. أو كالوعد. أضع يدي فوق مقبض الباب الممدود وأخطو خطوتين. بالداخل. أوراق قديمة متراصة هنا وهناك، يعلوها التراب ولون الصدأ. أفتح درجاً يقفز منه فأر رمادي. يتوارى خلف أكوام من الورق الجاف. أضع حقيبتي مكان الفأر وأغلق الدرج في حرص. أدير نظري في الغرفة المستطيلة مروراً بالنافذة والباب المفتوح. أتشمم رائحة ملابسي التي لا زالت تشي بعطر الأمس. أتحسس رأسي حين تباغتني فكرة أني نسيت رباط الرأس. أخرج من جيبي منديلاً أجفف به وجهي في انتظار أن يمر تيار الهواء بين النافذة والباب فيحملني بلا صوت.

    فوق مائدة الاجتماعات المستطيلة أوراق هامة ملونة. جدران الغرفة الخشبية قد حال لونها. والمكتب الكبير الذي يتصدر الحائط الأمامي يلمع في ضوء الشمس القادم من النافذة المغلقة. الهواء القادم من العلبة المعدنية يشبه هواء العلب المحفوظة بلا صوت. بلا رائحة، اسبح في الفراغ الفاصل بين الباب وبين المكتب مروراً بالمائدة المستطيلة. أخترق عقبات أخرى صغيرة وأتخطى إحساسي بالسأم. أضع فوق المكتب ورقة وحيدة ذابلة ولا أنظر إلى الرجل القصير الذي يحتمي بمقعده العالي. نتبادل كلمات قليلة قبل أن يضع إمضاء أسفل إمضائي. ألتفت إلى الهواء المحلق فوق رأسي فلا أجد أثراً لصورتي العارية.

    كان هذا حلم يقظة. حين مددت يدي في حنق مقرون باللهفة تحت الوسادة أمسكت بذيل فأر رمادي. وضعته في خفي الأسود فاستكان. وأنصت إلى حفيف أوراق الشجر القادم من النافذة. رائحة الكون تنبئ باقتراب الفجر.


                  

05-07-2005, 05:18 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    روان علي الشريف



    خرج ولم يعد


    كانت الأيام الأخيرة من هذه الصائفة أشد حرارة على الجبهة الاجتماعية والاقتصادية لم يشهد لها مثيل.تخللتها اضرابات وتوترات هنا وهناك فعمال مصنع العربات الصناعية لا يزالون في اضراب مفتوح منذ أسبوع ولم تستطع النقابة تلبية مطالبهم وافتكاك بعضا منها حتى المفاوضات مع الادارة تعطلت بسبب المواقف المتباينة.

    الحياة لم تعد تطاق،يد الأزمة طالت الكل،أحوال الغالبية العظمى ازدادت سوءا وعم التذمر من الغلاء الفاحش والندرة الشبه كلية بالمحلات والأسواق وظهرت طوابير لا نهاية لها أمام أسواق الفلاح والأروقة وبرزت معها للوجود حرف طفيلية كان لا بد لها أن تكون،وقفت عائقا بين البائع والمستهلك تخصص فيها بمهارة الشباب العاطل عن العمل أو من لفظتهم مقاعد الدراسة.

    يعتبر محمود واحد منهم.فهو شاب في مقتبل العمر اضطرته الظروف الاجتماعية أن يتوقف عن الدراسة ليكون عونا لوالده العجوز المقعد على فراش المرض منذ سنوات.أنهكه مرض الصدر المزمن الذي أصابه منذ أكثر من عقدين بمناجم الفحم بالقنادسة،لم تعد منحته تفي لا لشراء الدواء ولا لطلبات العائلة خاصة مع تدهور القدرة الشرائية بشكلها الفضيع.
    ها قد حل الخريف وها نحن في بدايته وها هي تباشيره الأولى تطل علينا لكنها ليست كالتي عهدناها والتي وأنا صغير كنت أستمع لجدي وهو يتحدث عنها وكان دائما يردد في كل بداية موسم فلاحي جيد حيث كان يقول ( العام يبان من خريفه.

    ،تباشير هذه السنة الفلاحية كانت مغايرة لكل سنين عمري.انها من نوع أخر.نوع جديد لم تأت به السماء بل أتى به الرصيف ينذر بأشياء غير معهودة قد تحدث لا محالة.فالمدينة بأكملها علمت بذلك لكن دون تحديد طبيعتها أو زمانها،قيل بأنه زلزال عنيف كالذي شهدته مدينة الأصنام منذ سنوات والذي لا تزال آثاره عالقة بالأذهان وقيل بأنه اعصار مدمر كاعصار ّ ميتش ّ الذي ضرب جزر هاواي برغم موقعنا الجغرافي وخاصية طبيعة مناخنا المعتدل الا أن الناس صدقوا الاشاعة وهناك فئة ثالثة اعتمدت على تكهناتها التي تعتبر نوعا ما منطقية واعتقدت بأنها ستنشب حرب مع طرف ثالث بسبب مشروع وحدوي مع طرف ثان.
    انتشرت حمى الدعاية كالبرق وكثرت التأويلات حتى أضحت هواجس تسيطر على تفكير الناس وسكن الخوف قلوبهم من المجهول مما دفع بالخالة سكينة تحذير محمود قبل مغادرته البيت،فاقتربت منه وبصوت منخفض،همست بأذنه بحزن عميق مرتجف ممزوج بحنان فياض :وقالت
    - محمود يا ابنى كن حذرا،لا داعي ان تتصل بجارنا رابح اليوم، فلولا نفاذ دواء والدك، لما تركتك تغادر البيت لو كان بمقدورنا شراء عدة علب مرة واحدة ما أضطررت اليوم للخروج،أرجوك ألا تتأخر.
    لم يفهم محمود لماذا اليوم بالذات تصر الخالة سكينة ان لا يتعطل بالشارع،لم تفعل ذلك من قبل،كان يغيب عن البيت أسبوعا بحاله وقتها كان يشتغل كجندي أو بالأحرى حامل حقائب الشيفون من اسطنبول،مرسيليا أو برشلونة لفائدة تجار الخفاء مقابل الفتات الذي يسد الرمق ويجنب الموت جوعا فتساءل في قرارة نفسه،هل دعاية الرصيف دخلت البيت وعشعشت في عقل العجوز أم انه مجرد احساس نابع من عاطفة أم؟
    رد محمود بانقباض مبتسما في وجه أمه بابتسامة ذابلة لعله يهديء من روعها قبل خروجه :واردف قائلا
    ستقسم القهوة والزيت وربما حتى صابون القطعة أو السميد.هذا ما أنبأني به رابح،أيرضيك أن لا أذهب لسوق الفلاح؟
    لقد اتفق معي كالمعتاد أن يجنبني جحيم الطابور مقابل الشراكة في اقتسام الفائدة عند اعادة البيع.اتريدينه أن يستبدلني بآخر؟لولا هذه الدنانير الاضافية لساءت أحوالنا من جديد.
    بالطبع لا،منحة الوالد لم تعد تكفي،الدواء ارتفعت اسعاره،التعويضات طال أمدها والمعيشة التهبت نارها.اني جد قلقة عليك يا ابني من المجهول،انك عيني الوحيدة التي أرى بها النور.
    لا تقلقي يا أماه،حقيقة أن المجهول نخشاه ولا يعلمه الا ربنا،فحياتنا كلها مبنية على المجهول لكن لو وضعنا المجهول نصب أعيننا وخشيناه لما خطونا خطوة واحدة خلف هذا الباب لأن من ورائه يكمن المجهول وكما قد يكون شرا قد يكون خيرا،ألم يكن كوكب القمر مجهولا قبل عقدين؟وها هم اليوم يفكرون في تعميره واقتسامه فيما بينهم.

    خرج محمود مودعا العجوز واضعا نصب عينيه دواء والده في المقام الأول،وبينما هو ينزل السلالم يلتقي بنورا،نورا جارتهم بالطابق السابع وبعد التحية تبتسم وتردف قائلة :
    عيد ميلاد سعيد يا محمود..
    شكرا يا نورا،يا صاحبة الذوق الرفيع،لولاك لأظلمت الدنيا في عيني،أنت أولى المعازيم بل أنت من ستشرفين على الحفل رفقة العجوز هذا المساء وبالمناسبة سأطلعك على مفاجأة.
    بالله عليك يا محمود لا تترك القلق يسيطر علي.قل لي الآن لم أعد أحتمل،اني أخشى المفاجآت خليها للمساء أثناء الاحتفال لتبقى فعلا مفاجأة،هيا الى اللقاء.
    رافقتك السلامة.

    أخيرا قرر محمود الاعلان عن خطوبته لنورا ليلة عيد ميلاده العشرين ويضع حدا لحياته التي لم يعد تحملها ووحدته القاتلة،نورا ملاك..تفيض عطفا وحنانا،عطوفة حتى البكاء،مخلصة حتى الولاء أحبها وتحبه منذ سنين من الأعماق قد رأى فيها كل مواصفات المرأة المثالية تجسدت فيها كل أحلامه وآماله وبما أنه وحيد أمه حتما ستكون لها بمثابة البنت.

    وهو في طريقه يبحث عن صيدلية رأى جموعا من الشباب أمثاله تنحصر أعمارهم بين الخامسة عشر والعشرين سنة متجمهرين بالشوارع،كانت جل المحلات مغلقة،صمت رهيب يخيم على المدينة.بعد بحث مضني وقلق متزايد وجد صيدلية مفتوحة وكم كانت فرحته كبيرة فاقت كل وصف،حين عثر بها على ما كان يبحث عنه فدفع ثمنه وانصرف.
    كانت عقارب الساعة تشير الى العاشرة صباحا حيث انزلق الوضع الأمني ومن كانوا متجمهرين بالشوارع في تجمعات محتشمة وضاحكة والتي أطلق عليها فيما بعد ّشغب عيال ّ تحولت الى مظاهرات ومشادات مع قوات حفظ الأمن.

    حدث ما لم يكن في الحسبان،ارتفعت ألسنة النيران وكسا الدخان الأسود والأبيض المدينة وحجب الرؤية وانتشرت بالأحياء رائحة الغازات المسيلة للدموع. نصبت المتاريس وأضحى الشارع ساحة لمعركة حقيقية.حرق سوق الفلاح ومعه مدخول محمود الاضافي وحرقت الأروقة،هشمت الواجهات الزجاجية لشركة الطيران وما جاورها من محلات فاخرة،عمت الفوضى والذعر، انها ريح الخريف ،ريح الجنون تعصف بالمدينة وقد فتح المجال للنهب والحرق.وجد محمود نفسه رغما عنه في مقدمة التيار الجارف الذي سيقذف به حيث لا يدري واستحال عليه التخلص من مخالب هذا الأخطبوط الذي أمسك به،في محاولة يائسة منه للتخلص يصاب بطلقات نارية عشوائية مجهولة المصدر فيصاب في صدره،
    يصقط الدواء من جيبه،تنثني رجلاه ويصقط على الرصيف،يتفجر فمه دما،تجحظ عيناه وتدوسه مئات الأقدام في غير مبالاة.نادى على أمه ثم نورا قبل أن تغمض عيناه نهائيا وتلتحق روحه ببارئها في فوضى عارمة يوم عيد ميلاده العشرين.

    انتشرت أخبار أعمال العنف بالمدينة ولم يرجع محمود ومن حين لآخر تتصل نورا بالخالة سكينة تستفسر عن رجوع محمود فتجيبها وكأنها تهذي بـ ّ خرج ولم يعد ّ،تبقى العجوز على حالها كلما استفسرها أحد عن ابنها ترد بـ ّ خرج ولم يعد ّ.لليوم السادس يطلعها جارها رابح بنبا سقوط ابنها محمود خلال اليوم الأول من أعمال الشغب وتوجد جثته بمصلحة حفظ الجثث، وسيتكفل شخصيا بمراسيم الجنازة والدفن.

    مع طلوع شمس اليوم السابع اطلع الأهالي على مخلفات أعمال الشغب يتقرير رسمي علىأمواج الاذاعة حيث قرأ المذيع بيانا مقتضبا جاء فيه ما يلي
    ّ اليوم العاشر من الشهر العاشر تعود الحياة الى مجراها الطبيعي،لقد شهدت المدينة أعمال تخريب وشغب بعيدة كل البعد عن تقاليد شعبنا العريق وقد كانت الخسائر فادحة تعد بمليلرات الدينارات وبكل أسف ننحني أمام أرواح الضحايا الذي بلغ عددهم مائة وتسعة وستون شخصا... ّ

    بينما جاءت في الصحف وعلى صفحاتها الأولى صور المنشآت التي خربت لكن عدد الضحايا قفز الى مائة وستة وسبعون شخصا..قد يكون محمود التاسع بعد المائة والستين أو السادس بعد المائة والسبعين فلا يفرق شيئا لكن هل سيكون آخر من يسقط ويحصده العنف بالمدينة ؟
    مباشرة بعد استتباب الأمن هب أعيان المدينة بتبرعاتهم لتعويض ما أتلف بغية تسليط الأضواء عليهم لعلهم سيظفرون بمناصب تأهلهم لما كانوا يصبون اليه خفية.بينما يبقى أبو محمود يصارع المرض والخالة سكينة فاقدة الوعي تردد خرج ولم يعد.وتبقى نورا تدفعها عاطفتها الانسانية فتكرس حياتها في خدمة الاثنين بغية مرضاة الله وتخليدا لذكرى من أحبته يوما.
                  

05-07-2005, 05:36 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    عـــودة زرادشت أو قبيل الجنون

    الهادي بن منصور البرغوثـي



    " ها فتّشوني
    فليس بحوزتي الآن
    إلاّ جنوني "
    ( الشّاعر جمال الصّليعي)


    سأقصّ عليكم أمر صديقي عثمان. فإنّ بي لهفة لأن أسبقه في القصّ لتكونوا على بيّنة من الأمر ولتعلموا أنّ الخطب عظيم. و صديقي عثمان به من الجلَد ما به من الخبل وله مقدرة عجيبة على البقاء. فعساه يعاود الظّهور يوما فينـزل من جبل ما ! أو يجيئكم من أقصى المدينة يسعى! فيدخل عليكم و يخطب في جمعكم ! أفإذا رأيتموه يُعمل عقلَه، أكنتم ترون العقل رهيب؟ ولعلّ صديقي عثمان يكون قد مرّ على كوخ بسفح الجبل اعتكف به ناسك فأنبأكم عثمان بجدال جرى بينهما، أفكنتم سامعين ! أو ينبري يحدّثكم عنّي فهل تكونون من المنصفين ؟. أو يأتي إليكم بحديث رجل من المفكّرين يبشّر النّاس بخلق جديد و يُقال له نيتشه ؟ أفكان يربككم هراء المجانين ؟ إنّي أُدرك أنّه سوف يستخدم كلّ ما حباه به اللّه من قول و علم ليدُكّ سكينتكم دكّا. لذلك أنا أخشى عليكم من الخبل ومن أن تفقدوا الحكمة و السّكينة التي منّ بها اللّه عليكم. و لذلك أقصّ عليكم خطب عثمان.

    كنّا في جلسة بمنزل صديقنا حسّـان. و صديقنا هذا متخصّص في علم النّفس و يعمل بمستشفى الأمراض النّفسيّة والعقليّة. كنتُ شديد التّمسّك بحضور حسّان جلساتنا لأنّـه الأقدر على فضح ما يدّعيه عثمان من معرفة فيتفطّن بشكل يبهرني إلى حقيقة ما يأتيه عثمان من قول ومن سلوك. و في المقابل فإنّ حسّان يجدني شخصيّة متوازنة، لذلك يمتلكني الحبور حين ينبري مدافعا عنّي و رادّا الصّفات السّيّئة التي ينعتني بها عثمان، مثل وصفه لي بالجهل و بالإستكانة. ولكن حسّان يصارحني حين أنفرد به بأنّ عثمان يفوقني ثقافة و عقلا وهّـاجا. ثمّ يطمئنني بأنّ ذلك لا ينفي عن عثمان حالات الاِضطراب وقربه من الخبل.

    قال عثمان منذ البدء إنّه سيتحدّث هذا اليوم طويلا. و قال إنّ الفرد منّا في حاجة إلى أصدقاء يتّصفون بالعطاء. قلتُ في نفسي إنّه يبحث عن سُلفة و قرّرتُ أن أعطيه مبلغا من النّقود بعد أن ينهي حديثه ويذكر حاجته من المال. واستمرّ في شرح حاجة الفرد إلى الصّديق. وقال كلاما لا يصدر عن عاقل. قال إنّ الفرد يتعدّد ! و أضاف :" ألم يقل زرادشت إنّ الصّديق للفرد شخص ثالث ؟" فنطّت منّي ضحكة صارخة حدّ القهقهة فسكتَ عثمان. و تخيّلتُه منشطرا نصفين فيأتي صديقٌ يجمّعه. لم يغتظ عثمان لضحكي و لكنّه حدجني بنظرة مستقرّة وانتظر صمتي ثمّ أكمل حديثه قائلا :
    -" أفقتُ بعدَ ليلة تقطّع فيها نومي. وتداعت لديّ خواطر يأس و ملل، من النّوم و من السّهر ومن التّفكير و من الخمر ومن الوظيفة و من القراءة و من النّساء و من الأكل و منكم جميعا.. شعرتُ فجأة و أنا أزيحُ الغطاء بأنّ ثمّة شيء يسكنني لا أعرف كنهه. شيء يمنعني من إدراك المكان. نهظتُ وسرتُ نحو دورة المياه. خفق قلبي حين ساورني شكّ في أنّي أسلك الاِتّجاه السّليم. وقفتُ في الممرّ وقلتُ في نفسي إنّ الشّقّة لا تحتوي على أكثر من غرفتين و دورة مياه فكيف أفقد طريقي! أغمضتُ عينيّ. سرتُ مغمض العينين فبلغتُ المكان. عجبتُ أن يبلغ المرء مبتغاه مغمض العينين. وقفتُ أمام المرآة لأحلق ذقني. نظرتُ فيها فعجبتُ مرّة أخرى : كيف استطاعت المرآة أن تعكس صورة وجهي هذا، النّاتئ من رأس في أعلى جسدي؟ وهو بالكاد يوجد. و هذه اليد غريبة الشّكل غامضة الحجم متراوحة الطّول. تنبت من كتف لم أره من قبل. وتمتدّ نحو آلة الحلاقة فلا تقدر على مسكها !

    جزعتُ لهول شعوري. و لفيتني أفقد تقدير حجم أصابعي و مدى امتداد يدي. وجدتُ الاِحتمالات رخوة. و جزعتُ أن تكون الأحجام لا قرار لها. التجأتُ إلى التّحديق في الأشياء التي حولي علّها تعطيني منطلقا. فوجدتُ تقديري لأحجامها يتوقّف على إدراكي لذاتي. ولكنّي وجدتُ هذا الجسد غريبا عنّي. و مقاييسه تهتزّ و تتمايل، تنتفخ و تتماوج. و انتبهتُ إلى أنّي أحدّق في المرآة فألمح عينيّ. قلتُ إنّه لحسن الحظ لا زلتُ ألمح وجهي، حتّى و إن كان هذا الوجه غير مألوف عندي. ماذا لو أخفيته برغوة صابون الحلاقة ؟ فرأيتُ رغوة الصّابون تغطّي الوجه فبدا أجمل. باستطاعتي الآن أن أحلم بوجه. اخرج به إلى النّاس. أنظر إلى فتاة أحبّها. أقنعها بأنّي وجدتُ وجهي. و أنّني أبحث عن الجمال. و أجعلها تنظر إليّ. إلى تقاسيم وجهي الجميل فتنزعج و تسرع إلى بيتها تغطّي وجهها بمواد التّجميل. و تهرع إلى جارها الوسيم لتقنعه بأنّها تبحث عن الجمال. و تجعله ينظر إليها فتتسارع دقّات قلبه و يجري إلى بيته يغطّي وجهه برغوة صابون الحلاقة.

    بدأت الرّغوة تنقشع. و لكنّي لم أر وجهي تحتها. حاولتُ أن أصرخ. و لكنّ الفضاء كان يرفض مرور الأصوات. فينحبس الصّراخ في حلقي. حاولتُ أن ألمس شيئا يعيدني إلى إدراك المكان. و لكنّي أفقد مواضع أطرافي. تنـزلق أطرافي في فضاء لزج. أحاول أن أحدّد رغبة ما، أن أحرّك رأسي أو أضرب المرآة ولكنّ رغبتي تنزلق في فضاء لزج تملأه رغوة بيضاء. وتزداد الرّغوة انتشارا. كنتُ أحاول أن أصيح، أن أقول " يا اللّـه". و سمعتُ صوتا. صدّقوني يا أحبّتي سمعتُ صوتا واضح النّبرات قويّها. قال :" والآن يا عثمان ! من أنتَ؟ " وتساءلتُ: حقّا من أنا؟ وكم أنا ؟ و أدركتُ لأوّل مرّة أنّ وِحدتي وهم. وأنّي أجزاء، اِلتقيتُ ببعضها فيما أجهل بعضًا منها. كيف أرتّب أجزائي ؟ ينبغي أن أعيد تركيب ذاتي. أن أفتح عينيّ وأرى. واعتراني حبور غامض. بأنّي وُلدتُ من جديد و بأنّي متجدّد. و أدركتُ أنّي لقيتُ وجهي. لقد نزعتُ عباءة السّكينة فولجتُ السّعادة. يا أحبّتي: لا تسيروا بأعين مغمضة فإنّكم سوف تبلغون مرادا زائفا. ما أصعب أن تتأمّلوا. و أن تعيدوا التّركيب. وما أسعده من فعل. فانظروا في أنفسكم. وتبيّنوا من مات ومن لازال حيّا. فلعلّكم إن فتحتم أعينكم ترون الحياة توهّجا ونورا يفضح الموت. هل عرفتم يا أحبّتي أيّ صوت سمعتُه ذاك الذي نادى و أنقذني ؟ إنّه صوت العقل الرّهيب. " هكـذا تكلّم عثمان.

    لم أفقه شيئا ممّا رواه. و لكنّ صديقي حسّان الذي كان يستمع بانتباه، ألمع إلينا بأنّ لديه ما يقول. ذلك أنّه حال انتهاء عثمان من الحديث تنحنح وفرك يديه و نظر إلى عثمان. ثمّ بسط يديه كعادته حين يُخاطب و قال : "ما قدّمتَـه، مادة دسمة يمكن أن ندرك بـها حالتك النّفسيّة. ولا تجزع إذا قلتُ لك أنت حالة تستوجب العلاج. كلّ ما قلتَـه مهمّ وخطير. كلّ كلمة قلتها، إنّما هي رمز يحيلنا إلى سجلّ في علم النّفس، علم النّفس السّريري خاصّة. و حديثك هذا، بقدر ما يثبت وجود الأعراض عندك، بقدر ما يساعد في حصص التّحليل النّفسي. إنّه التّداعي الثّمين في عمليّة التّشخيص. ما كنت أودّ لك هذا يا عثمان. و لكنّك حالة تستوجب الدّرس. لهذا أنا أنصحك بأن تبدأ في العلاج فورا. و لا يفوتني أن أذكّرك بأنّ الصّداقة التي تجمعني بك تحول بيني و بين تولّي علاجك. الأفضل أن تتوجّه إلى مختصّ آخر. دعني أتولّى توجيهك إلى زميل لي."

    ارتجف عثمان. رأيتُ عينيـه قد شخصتا. بدا لي كأنّه جُنّ. هذا إذن ما توقّعه حسّـان ! و لمحتُ في عثمان توثّبا وتهيّـأ لي أنّي لمحتُ دخانا يصّـاعد من أعلى رأسه. هبّ واقفا وقال :
    - " قل لن أصنع المبدعين صنعا. و لكنّي سوف أسير في الأرض نارا مشتعلة. لسوف أجعل مفتاح الصّداقة قبسا من لهب يحرق الأيدي و يستنفر العقل. فطوبى لمن احترقت أصابعه. طوبى لأولئك الذين تُرفض صداقتهم الملتهبة فيزداد توقّدهم. لسوف يهرب منهم كلّ مخادع خوّان. و لسوف يهرب كلّ طمّـاع جبان. و لسوف يأتي اللّـهيب على رداء السّكينة الواهي." هكذا تكلّم عثمان. ثمّ انسحب. ناداه حسّان ولم يلتفت. أيقنتُ أنّه في انهيار فامتلكني الحبور. نظرتُ إلى صديقي حسّان و قلتُ :
    - " لقد انهار حقًّـا. ألا ترى أنّه بإمكاننا أن نصرعه ؟"
    ولكنّ حسّان بدا مضطربا. حرّك رأسه يمنة و يسرة و قال بتردّد:
    - " لا.. ليس إلى هذا الحدّ..أنت لم تفهم شيئـا.. ثمّ إنّك.. سيّئ "
    أُسقط في يدي.. و شعرتُ بألم يعتصر قلبي. نظرتُ إليه أنتظر تفسيرا. طأطأ رأسه هنيهة ثمّ قال :
    - " ينبغي أن أعترف لك أنّك لا تلتقي مع عثمان في شيء." قلتُ :
    -" هذا أمر مؤكّد. لا جديد فيه. تماما كما أنت لا تلتقي في شيء معه. " سارع حسّان بالقول :
    - " لا.. لستُ مثلك.. أنت.. " وسكت. قلتُ بلهفة و قد تملّكني الجزع :
    - ".. ماذا ؟ "
    قال : -" أنت لا تُعمل الفكر. عثمان يفكّر. يفكّر بإخلاص." قلتُ محتجًّا :
    - " و مرضه ؟"

    و لكنّ صديقي حسّان لم يجب. بدا عليه الاِرتباك. صمتَ. ففهمتُ أنّ الجلسة انتهت. قمتُ و سرتُ بخطوات متثاقلة. و حين بلغتُ الباب سمعتُ حسّان يقول بصوت واهن :
    - " أرجوك،... لا تقتله. "

    ها قد حدّثتكم عن صديقي عثمان. و أدركتم بعدُ أنّ به من الخبل ما يجعلكم تحترزون. فاحترسوا أن يصيبكم في سكينتكم. أو أن يصيبكم شكّ في أنّه مريض وأنّ الشّيطان يسكنه.

    و لقد رويتُ لكم كيف بدا تأثيره على صديقي حسّان الخبير ببواطن الإنسان. و لكنّي لازلتُ وفيّا للـحكمة وللسّكينة التي منّ بها اللّـه علينا. أفيرضى عاقل أن ينبش في ذاته ليبحث عن جنون دفين؟ أرأيتم كيف بلغ الأمر بعثمان حتّى فقد وحدته. ولكن، للّـه الفضل أن سخّر عثمان مثلا أعرف به أنّ ثمّة جنون و خبل دفين يغطّيه رداء من السّكينة. و إنّي لازلتُ أمسك بردائي ذاك أستمرّ به أو يصيبني ما أصاب عثمان. فأفقد وجهي أو أسمع أصوات عقل لا وجود لها. فإذا ما عاد عثمان وخطب فيكم فليكن سماعكم تلهية. و لكن.. أرجوكم،... لا تقتلوه.
                  

05-07-2005, 05:36 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    عـــودة زرادشت أو قبيل الجنون

    الهادي بن منصور البرغوثـي



    " ها فتّشوني
    فليس بحوزتي الآن
    إلاّ جنوني "
    ( الشّاعر جمال الصّليعي)


    سأقصّ عليكم أمر صديقي عثمان. فإنّ بي لهفة لأن أسبقه في القصّ لتكونوا على بيّنة من الأمر ولتعلموا أنّ الخطب عظيم. و صديقي عثمان به من الجلَد ما به من الخبل وله مقدرة عجيبة على البقاء. فعساه يعاود الظّهور يوما فينـزل من جبل ما ! أو يجيئكم من أقصى المدينة يسعى! فيدخل عليكم و يخطب في جمعكم ! أفإذا رأيتموه يُعمل عقلَه، أكنتم ترون العقل رهيب؟ ولعلّ صديقي عثمان يكون قد مرّ على كوخ بسفح الجبل اعتكف به ناسك فأنبأكم عثمان بجدال جرى بينهما، أفكنتم سامعين ! أو ينبري يحدّثكم عنّي فهل تكونون من المنصفين ؟. أو يأتي إليكم بحديث رجل من المفكّرين يبشّر النّاس بخلق جديد و يُقال له نيتشه ؟ أفكان يربككم هراء المجانين ؟ إنّي أُدرك أنّه سوف يستخدم كلّ ما حباه به اللّه من قول و علم ليدُكّ سكينتكم دكّا. لذلك أنا أخشى عليكم من الخبل ومن أن تفقدوا الحكمة و السّكينة التي منّ بها اللّه عليكم. و لذلك أقصّ عليكم خطب عثمان.

    كنّا في جلسة بمنزل صديقنا حسّـان. و صديقنا هذا متخصّص في علم النّفس و يعمل بمستشفى الأمراض النّفسيّة والعقليّة. كنتُ شديد التّمسّك بحضور حسّان جلساتنا لأنّـه الأقدر على فضح ما يدّعيه عثمان من معرفة فيتفطّن بشكل يبهرني إلى حقيقة ما يأتيه عثمان من قول ومن سلوك. و في المقابل فإنّ حسّان يجدني شخصيّة متوازنة، لذلك يمتلكني الحبور حين ينبري مدافعا عنّي و رادّا الصّفات السّيّئة التي ينعتني بها عثمان، مثل وصفه لي بالجهل و بالإستكانة. ولكن حسّان يصارحني حين أنفرد به بأنّ عثمان يفوقني ثقافة و عقلا وهّـاجا. ثمّ يطمئنني بأنّ ذلك لا ينفي عن عثمان حالات الاِضطراب وقربه من الخبل.

    قال عثمان منذ البدء إنّه سيتحدّث هذا اليوم طويلا. و قال إنّ الفرد منّا في حاجة إلى أصدقاء يتّصفون بالعطاء. قلتُ في نفسي إنّه يبحث عن سُلفة و قرّرتُ أن أعطيه مبلغا من النّقود بعد أن ينهي حديثه ويذكر حاجته من المال. واستمرّ في شرح حاجة الفرد إلى الصّديق. وقال كلاما لا يصدر عن عاقل. قال إنّ الفرد يتعدّد ! و أضاف :" ألم يقل زرادشت إنّ الصّديق للفرد شخص ثالث ؟" فنطّت منّي ضحكة صارخة حدّ القهقهة فسكتَ عثمان. و تخيّلتُه منشطرا نصفين فيأتي صديقٌ يجمّعه. لم يغتظ عثمان لضحكي و لكنّه حدجني بنظرة مستقرّة وانتظر صمتي ثمّ أكمل حديثه قائلا :
    -" أفقتُ بعدَ ليلة تقطّع فيها نومي. وتداعت لديّ خواطر يأس و ملل، من النّوم و من السّهر ومن التّفكير و من الخمر ومن الوظيفة و من القراءة و من النّساء و من الأكل و منكم جميعا.. شعرتُ فجأة و أنا أزيحُ الغطاء بأنّ ثمّة شيء يسكنني لا أعرف كنهه. شيء يمنعني من إدراك المكان. نهظتُ وسرتُ نحو دورة المياه. خفق قلبي حين ساورني شكّ في أنّي أسلك الاِتّجاه السّليم. وقفتُ في الممرّ وقلتُ في نفسي إنّ الشّقّة لا تحتوي على أكثر من غرفتين و دورة مياه فكيف أفقد طريقي! أغمضتُ عينيّ. سرتُ مغمض العينين فبلغتُ المكان. عجبتُ أن يبلغ المرء مبتغاه مغمض العينين. وقفتُ أمام المرآة لأحلق ذقني. نظرتُ فيها فعجبتُ مرّة أخرى : كيف استطاعت المرآة أن تعكس صورة وجهي هذا، النّاتئ من رأس في أعلى جسدي؟ وهو بالكاد يوجد. و هذه اليد غريبة الشّكل غامضة الحجم متراوحة الطّول. تنبت من كتف لم أره من قبل. وتمتدّ نحو آلة الحلاقة فلا تقدر على مسكها !

    جزعتُ لهول شعوري. و لفيتني أفقد تقدير حجم أصابعي و مدى امتداد يدي. وجدتُ الاِحتمالات رخوة. و جزعتُ أن تكون الأحجام لا قرار لها. التجأتُ إلى التّحديق في الأشياء التي حولي علّها تعطيني منطلقا. فوجدتُ تقديري لأحجامها يتوقّف على إدراكي لذاتي. ولكنّي وجدتُ هذا الجسد غريبا عنّي. و مقاييسه تهتزّ و تتمايل، تنتفخ و تتماوج. و انتبهتُ إلى أنّي أحدّق في المرآة فألمح عينيّ. قلتُ إنّه لحسن الحظ لا زلتُ ألمح وجهي، حتّى و إن كان هذا الوجه غير مألوف عندي. ماذا لو أخفيته برغوة صابون الحلاقة ؟ فرأيتُ رغوة الصّابون تغطّي الوجه فبدا أجمل. باستطاعتي الآن أن أحلم بوجه. اخرج به إلى النّاس. أنظر إلى فتاة أحبّها. أقنعها بأنّي وجدتُ وجهي. و أنّني أبحث عن الجمال. و أجعلها تنظر إليّ. إلى تقاسيم وجهي الجميل فتنزعج و تسرع إلى بيتها تغطّي وجهها بمواد التّجميل. و تهرع إلى جارها الوسيم لتقنعه بأنّها تبحث عن الجمال. و تجعله ينظر إليها فتتسارع دقّات قلبه و يجري إلى بيته يغطّي وجهه برغوة صابون الحلاقة.

    بدأت الرّغوة تنقشع. و لكنّي لم أر وجهي تحتها. حاولتُ أن أصرخ. و لكنّ الفضاء كان يرفض مرور الأصوات. فينحبس الصّراخ في حلقي. حاولتُ أن ألمس شيئا يعيدني إلى إدراك المكان. و لكنّي أفقد مواضع أطرافي. تنـزلق أطرافي في فضاء لزج. أحاول أن أحدّد رغبة ما، أن أحرّك رأسي أو أضرب المرآة ولكنّ رغبتي تنزلق في فضاء لزج تملأه رغوة بيضاء. وتزداد الرّغوة انتشارا. كنتُ أحاول أن أصيح، أن أقول " يا اللّـه". و سمعتُ صوتا. صدّقوني يا أحبّتي سمعتُ صوتا واضح النّبرات قويّها. قال :" والآن يا عثمان ! من أنتَ؟ " وتساءلتُ: حقّا من أنا؟ وكم أنا ؟ و أدركتُ لأوّل مرّة أنّ وِحدتي وهم. وأنّي أجزاء، اِلتقيتُ ببعضها فيما أجهل بعضًا منها. كيف أرتّب أجزائي ؟ ينبغي أن أعيد تركيب ذاتي. أن أفتح عينيّ وأرى. واعتراني حبور غامض. بأنّي وُلدتُ من جديد و بأنّي متجدّد. و أدركتُ أنّي لقيتُ وجهي. لقد نزعتُ عباءة السّكينة فولجتُ السّعادة. يا أحبّتي: لا تسيروا بأعين مغمضة فإنّكم سوف تبلغون مرادا زائفا. ما أصعب أن تتأمّلوا. و أن تعيدوا التّركيب. وما أسعده من فعل. فانظروا في أنفسكم. وتبيّنوا من مات ومن لازال حيّا. فلعلّكم إن فتحتم أعينكم ترون الحياة توهّجا ونورا يفضح الموت. هل عرفتم يا أحبّتي أيّ صوت سمعتُه ذاك الذي نادى و أنقذني ؟ إنّه صوت العقل الرّهيب. " هكـذا تكلّم عثمان.

    لم أفقه شيئا ممّا رواه. و لكنّ صديقي حسّان الذي كان يستمع بانتباه، ألمع إلينا بأنّ لديه ما يقول. ذلك أنّه حال انتهاء عثمان من الحديث تنحنح وفرك يديه و نظر إلى عثمان. ثمّ بسط يديه كعادته حين يُخاطب و قال : "ما قدّمتَـه، مادة دسمة يمكن أن ندرك بـها حالتك النّفسيّة. ولا تجزع إذا قلتُ لك أنت حالة تستوجب العلاج. كلّ ما قلتَـه مهمّ وخطير. كلّ كلمة قلتها، إنّما هي رمز يحيلنا إلى سجلّ في علم النّفس، علم النّفس السّريري خاصّة. و حديثك هذا، بقدر ما يثبت وجود الأعراض عندك، بقدر ما يساعد في حصص التّحليل النّفسي. إنّه التّداعي الثّمين في عمليّة التّشخيص. ما كنت أودّ لك هذا يا عثمان. و لكنّك حالة تستوجب الدّرس. لهذا أنا أنصحك بأن تبدأ في العلاج فورا. و لا يفوتني أن أذكّرك بأنّ الصّداقة التي تجمعني بك تحول بيني و بين تولّي علاجك. الأفضل أن تتوجّه إلى مختصّ آخر. دعني أتولّى توجيهك إلى زميل لي."

    ارتجف عثمان. رأيتُ عينيـه قد شخصتا. بدا لي كأنّه جُنّ. هذا إذن ما توقّعه حسّـان ! و لمحتُ في عثمان توثّبا وتهيّـأ لي أنّي لمحتُ دخانا يصّـاعد من أعلى رأسه. هبّ واقفا وقال :
    - " قل لن أصنع المبدعين صنعا. و لكنّي سوف أسير في الأرض نارا مشتعلة. لسوف أجعل مفتاح الصّداقة قبسا من لهب يحرق الأيدي و يستنفر العقل. فطوبى لمن احترقت أصابعه. طوبى لأولئك الذين تُرفض صداقتهم الملتهبة فيزداد توقّدهم. لسوف يهرب منهم كلّ مخادع خوّان. و لسوف يهرب كلّ طمّـاع جبان. و لسوف يأتي اللّـهيب على رداء السّكينة الواهي." هكذا تكلّم عثمان. ثمّ انسحب. ناداه حسّان ولم يلتفت. أيقنتُ أنّه في انهيار فامتلكني الحبور. نظرتُ إلى صديقي حسّان و قلتُ :
    - " لقد انهار حقًّـا. ألا ترى أنّه بإمكاننا أن نصرعه ؟"
    ولكنّ حسّان بدا مضطربا. حرّك رأسه يمنة و يسرة و قال بتردّد:
    - " لا.. ليس إلى هذا الحدّ..أنت لم تفهم شيئـا.. ثمّ إنّك.. سيّئ "
    أُسقط في يدي.. و شعرتُ بألم يعتصر قلبي. نظرتُ إليه أنتظر تفسيرا. طأطأ رأسه هنيهة ثمّ قال :
    - " ينبغي أن أعترف لك أنّك لا تلتقي مع عثمان في شيء." قلتُ :
    -" هذا أمر مؤكّد. لا جديد فيه. تماما كما أنت لا تلتقي في شيء معه. " سارع حسّان بالقول :
    - " لا.. لستُ مثلك.. أنت.. " وسكت. قلتُ بلهفة و قد تملّكني الجزع :
    - ".. ماذا ؟ "
    قال : -" أنت لا تُعمل الفكر. عثمان يفكّر. يفكّر بإخلاص." قلتُ محتجًّا :
    - " و مرضه ؟"

    و لكنّ صديقي حسّان لم يجب. بدا عليه الاِرتباك. صمتَ. ففهمتُ أنّ الجلسة انتهت. قمتُ و سرتُ بخطوات متثاقلة. و حين بلغتُ الباب سمعتُ حسّان يقول بصوت واهن :
    - " أرجوك،... لا تقتله. "

    ها قد حدّثتكم عن صديقي عثمان. و أدركتم بعدُ أنّ به من الخبل ما يجعلكم تحترزون. فاحترسوا أن يصيبكم في سكينتكم. أو أن يصيبكم شكّ في أنّه مريض وأنّ الشّيطان يسكنه.

    و لقد رويتُ لكم كيف بدا تأثيره على صديقي حسّان الخبير ببواطن الإنسان. و لكنّي لازلتُ وفيّا للـحكمة وللسّكينة التي منّ بها اللّـه علينا. أفيرضى عاقل أن ينبش في ذاته ليبحث عن جنون دفين؟ أرأيتم كيف بلغ الأمر بعثمان حتّى فقد وحدته. ولكن، للّـه الفضل أن سخّر عثمان مثلا أعرف به أنّ ثمّة جنون و خبل دفين يغطّيه رداء من السّكينة. و إنّي لازلتُ أمسك بردائي ذاك أستمرّ به أو يصيبني ما أصاب عثمان. فأفقد وجهي أو أسمع أصوات عقل لا وجود لها. فإذا ما عاد عثمان وخطب فيكم فليكن سماعكم تلهية. و لكن.. أرجوكم،... لا تقتلوه.
                  

05-07-2005, 05:36 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    عـــودة زرادشت أو قبيل الجنون

    الهادي بن منصور البرغوثـي



    " ها فتّشوني
    فليس بحوزتي الآن
    إلاّ جنوني "
    ( الشّاعر جمال الصّليعي)


    سأقصّ عليكم أمر صديقي عثمان. فإنّ بي لهفة لأن أسبقه في القصّ لتكونوا على بيّنة من الأمر ولتعلموا أنّ الخطب عظيم. و صديقي عثمان به من الجلَد ما به من الخبل وله مقدرة عجيبة على البقاء. فعساه يعاود الظّهور يوما فينـزل من جبل ما ! أو يجيئكم من أقصى المدينة يسعى! فيدخل عليكم و يخطب في جمعكم ! أفإذا رأيتموه يُعمل عقلَه، أكنتم ترون العقل رهيب؟ ولعلّ صديقي عثمان يكون قد مرّ على كوخ بسفح الجبل اعتكف به ناسك فأنبأكم عثمان بجدال جرى بينهما، أفكنتم سامعين ! أو ينبري يحدّثكم عنّي فهل تكونون من المنصفين ؟. أو يأتي إليكم بحديث رجل من المفكّرين يبشّر النّاس بخلق جديد و يُقال له نيتشه ؟ أفكان يربككم هراء المجانين ؟ إنّي أُدرك أنّه سوف يستخدم كلّ ما حباه به اللّه من قول و علم ليدُكّ سكينتكم دكّا. لذلك أنا أخشى عليكم من الخبل ومن أن تفقدوا الحكمة و السّكينة التي منّ بها اللّه عليكم. و لذلك أقصّ عليكم خطب عثمان.

    كنّا في جلسة بمنزل صديقنا حسّـان. و صديقنا هذا متخصّص في علم النّفس و يعمل بمستشفى الأمراض النّفسيّة والعقليّة. كنتُ شديد التّمسّك بحضور حسّان جلساتنا لأنّـه الأقدر على فضح ما يدّعيه عثمان من معرفة فيتفطّن بشكل يبهرني إلى حقيقة ما يأتيه عثمان من قول ومن سلوك. و في المقابل فإنّ حسّان يجدني شخصيّة متوازنة، لذلك يمتلكني الحبور حين ينبري مدافعا عنّي و رادّا الصّفات السّيّئة التي ينعتني بها عثمان، مثل وصفه لي بالجهل و بالإستكانة. ولكن حسّان يصارحني حين أنفرد به بأنّ عثمان يفوقني ثقافة و عقلا وهّـاجا. ثمّ يطمئنني بأنّ ذلك لا ينفي عن عثمان حالات الاِضطراب وقربه من الخبل.

    قال عثمان منذ البدء إنّه سيتحدّث هذا اليوم طويلا. و قال إنّ الفرد منّا في حاجة إلى أصدقاء يتّصفون بالعطاء. قلتُ في نفسي إنّه يبحث عن سُلفة و قرّرتُ أن أعطيه مبلغا من النّقود بعد أن ينهي حديثه ويذكر حاجته من المال. واستمرّ في شرح حاجة الفرد إلى الصّديق. وقال كلاما لا يصدر عن عاقل. قال إنّ الفرد يتعدّد ! و أضاف :" ألم يقل زرادشت إنّ الصّديق للفرد شخص ثالث ؟" فنطّت منّي ضحكة صارخة حدّ القهقهة فسكتَ عثمان. و تخيّلتُه منشطرا نصفين فيأتي صديقٌ يجمّعه. لم يغتظ عثمان لضحكي و لكنّه حدجني بنظرة مستقرّة وانتظر صمتي ثمّ أكمل حديثه قائلا :
    -" أفقتُ بعدَ ليلة تقطّع فيها نومي. وتداعت لديّ خواطر يأس و ملل، من النّوم و من السّهر ومن التّفكير و من الخمر ومن الوظيفة و من القراءة و من النّساء و من الأكل و منكم جميعا.. شعرتُ فجأة و أنا أزيحُ الغطاء بأنّ ثمّة شيء يسكنني لا أعرف كنهه. شيء يمنعني من إدراك المكان. نهظتُ وسرتُ نحو دورة المياه. خفق قلبي حين ساورني شكّ في أنّي أسلك الاِتّجاه السّليم. وقفتُ في الممرّ وقلتُ في نفسي إنّ الشّقّة لا تحتوي على أكثر من غرفتين و دورة مياه فكيف أفقد طريقي! أغمضتُ عينيّ. سرتُ مغمض العينين فبلغتُ المكان. عجبتُ أن يبلغ المرء مبتغاه مغمض العينين. وقفتُ أمام المرآة لأحلق ذقني. نظرتُ فيها فعجبتُ مرّة أخرى : كيف استطاعت المرآة أن تعكس صورة وجهي هذا، النّاتئ من رأس في أعلى جسدي؟ وهو بالكاد يوجد. و هذه اليد غريبة الشّكل غامضة الحجم متراوحة الطّول. تنبت من كتف لم أره من قبل. وتمتدّ نحو آلة الحلاقة فلا تقدر على مسكها !

    جزعتُ لهول شعوري. و لفيتني أفقد تقدير حجم أصابعي و مدى امتداد يدي. وجدتُ الاِحتمالات رخوة. و جزعتُ أن تكون الأحجام لا قرار لها. التجأتُ إلى التّحديق في الأشياء التي حولي علّها تعطيني منطلقا. فوجدتُ تقديري لأحجامها يتوقّف على إدراكي لذاتي. ولكنّي وجدتُ هذا الجسد غريبا عنّي. و مقاييسه تهتزّ و تتمايل، تنتفخ و تتماوج. و انتبهتُ إلى أنّي أحدّق في المرآة فألمح عينيّ. قلتُ إنّه لحسن الحظ لا زلتُ ألمح وجهي، حتّى و إن كان هذا الوجه غير مألوف عندي. ماذا لو أخفيته برغوة صابون الحلاقة ؟ فرأيتُ رغوة الصّابون تغطّي الوجه فبدا أجمل. باستطاعتي الآن أن أحلم بوجه. اخرج به إلى النّاس. أنظر إلى فتاة أحبّها. أقنعها بأنّي وجدتُ وجهي. و أنّني أبحث عن الجمال. و أجعلها تنظر إليّ. إلى تقاسيم وجهي الجميل فتنزعج و تسرع إلى بيتها تغطّي وجهها بمواد التّجميل. و تهرع إلى جارها الوسيم لتقنعه بأنّها تبحث عن الجمال. و تجعله ينظر إليها فتتسارع دقّات قلبه و يجري إلى بيته يغطّي وجهه برغوة صابون الحلاقة.

    بدأت الرّغوة تنقشع. و لكنّي لم أر وجهي تحتها. حاولتُ أن أصرخ. و لكنّ الفضاء كان يرفض مرور الأصوات. فينحبس الصّراخ في حلقي. حاولتُ أن ألمس شيئا يعيدني إلى إدراك المكان. و لكنّي أفقد مواضع أطرافي. تنـزلق أطرافي في فضاء لزج. أحاول أن أحدّد رغبة ما، أن أحرّك رأسي أو أضرب المرآة ولكنّ رغبتي تنزلق في فضاء لزج تملأه رغوة بيضاء. وتزداد الرّغوة انتشارا. كنتُ أحاول أن أصيح، أن أقول " يا اللّـه". و سمعتُ صوتا. صدّقوني يا أحبّتي سمعتُ صوتا واضح النّبرات قويّها. قال :" والآن يا عثمان ! من أنتَ؟ " وتساءلتُ: حقّا من أنا؟ وكم أنا ؟ و أدركتُ لأوّل مرّة أنّ وِحدتي وهم. وأنّي أجزاء، اِلتقيتُ ببعضها فيما أجهل بعضًا منها. كيف أرتّب أجزائي ؟ ينبغي أن أعيد تركيب ذاتي. أن أفتح عينيّ وأرى. واعتراني حبور غامض. بأنّي وُلدتُ من جديد و بأنّي متجدّد. و أدركتُ أنّي لقيتُ وجهي. لقد نزعتُ عباءة السّكينة فولجتُ السّعادة. يا أحبّتي: لا تسيروا بأعين مغمضة فإنّكم سوف تبلغون مرادا زائفا. ما أصعب أن تتأمّلوا. و أن تعيدوا التّركيب. وما أسعده من فعل. فانظروا في أنفسكم. وتبيّنوا من مات ومن لازال حيّا. فلعلّكم إن فتحتم أعينكم ترون الحياة توهّجا ونورا يفضح الموت. هل عرفتم يا أحبّتي أيّ صوت سمعتُه ذاك الذي نادى و أنقذني ؟ إنّه صوت العقل الرّهيب. " هكـذا تكلّم عثمان.

    لم أفقه شيئا ممّا رواه. و لكنّ صديقي حسّان الذي كان يستمع بانتباه، ألمع إلينا بأنّ لديه ما يقول. ذلك أنّه حال انتهاء عثمان من الحديث تنحنح وفرك يديه و نظر إلى عثمان. ثمّ بسط يديه كعادته حين يُخاطب و قال : "ما قدّمتَـه، مادة دسمة يمكن أن ندرك بـها حالتك النّفسيّة. ولا تجزع إذا قلتُ لك أنت حالة تستوجب العلاج. كلّ ما قلتَـه مهمّ وخطير. كلّ كلمة قلتها، إنّما هي رمز يحيلنا إلى سجلّ في علم النّفس، علم النّفس السّريري خاصّة. و حديثك هذا، بقدر ما يثبت وجود الأعراض عندك، بقدر ما يساعد في حصص التّحليل النّفسي. إنّه التّداعي الثّمين في عمليّة التّشخيص. ما كنت أودّ لك هذا يا عثمان. و لكنّك حالة تستوجب الدّرس. لهذا أنا أنصحك بأن تبدأ في العلاج فورا. و لا يفوتني أن أذكّرك بأنّ الصّداقة التي تجمعني بك تحول بيني و بين تولّي علاجك. الأفضل أن تتوجّه إلى مختصّ آخر. دعني أتولّى توجيهك إلى زميل لي."

    ارتجف عثمان. رأيتُ عينيـه قد شخصتا. بدا لي كأنّه جُنّ. هذا إذن ما توقّعه حسّـان ! و لمحتُ في عثمان توثّبا وتهيّـأ لي أنّي لمحتُ دخانا يصّـاعد من أعلى رأسه. هبّ واقفا وقال :
    - " قل لن أصنع المبدعين صنعا. و لكنّي سوف أسير في الأرض نارا مشتعلة. لسوف أجعل مفتاح الصّداقة قبسا من لهب يحرق الأيدي و يستنفر العقل. فطوبى لمن احترقت أصابعه. طوبى لأولئك الذين تُرفض صداقتهم الملتهبة فيزداد توقّدهم. لسوف يهرب منهم كلّ مخادع خوّان. و لسوف يهرب كلّ طمّـاع جبان. و لسوف يأتي اللّـهيب على رداء السّكينة الواهي." هكذا تكلّم عثمان. ثمّ انسحب. ناداه حسّان ولم يلتفت. أيقنتُ أنّه في انهيار فامتلكني الحبور. نظرتُ إلى صديقي حسّان و قلتُ :
    - " لقد انهار حقًّـا. ألا ترى أنّه بإمكاننا أن نصرعه ؟"
    ولكنّ حسّان بدا مضطربا. حرّك رأسه يمنة و يسرة و قال بتردّد:
    - " لا.. ليس إلى هذا الحدّ..أنت لم تفهم شيئـا.. ثمّ إنّك.. سيّئ "
    أُسقط في يدي.. و شعرتُ بألم يعتصر قلبي. نظرتُ إليه أنتظر تفسيرا. طأطأ رأسه هنيهة ثمّ قال :
    - " ينبغي أن أعترف لك أنّك لا تلتقي مع عثمان في شيء." قلتُ :
    -" هذا أمر مؤكّد. لا جديد فيه. تماما كما أنت لا تلتقي في شيء معه. " سارع حسّان بالقول :
    - " لا.. لستُ مثلك.. أنت.. " وسكت. قلتُ بلهفة و قد تملّكني الجزع :
    - ".. ماذا ؟ "
    قال : -" أنت لا تُعمل الفكر. عثمان يفكّر. يفكّر بإخلاص." قلتُ محتجًّا :
    - " و مرضه ؟"

    و لكنّ صديقي حسّان لم يجب. بدا عليه الاِرتباك. صمتَ. ففهمتُ أنّ الجلسة انتهت. قمتُ و سرتُ بخطوات متثاقلة. و حين بلغتُ الباب سمعتُ حسّان يقول بصوت واهن :
    - " أرجوك،... لا تقتله. "

    ها قد حدّثتكم عن صديقي عثمان. و أدركتم بعدُ أنّ به من الخبل ما يجعلكم تحترزون. فاحترسوا أن يصيبكم في سكينتكم. أو أن يصيبكم شكّ في أنّه مريض وأنّ الشّيطان يسكنه.

    و لقد رويتُ لكم كيف بدا تأثيره على صديقي حسّان الخبير ببواطن الإنسان. و لكنّي لازلتُ وفيّا للـحكمة وللسّكينة التي منّ بها اللّـه علينا. أفيرضى عاقل أن ينبش في ذاته ليبحث عن جنون دفين؟ أرأيتم كيف بلغ الأمر بعثمان حتّى فقد وحدته. ولكن، للّـه الفضل أن سخّر عثمان مثلا أعرف به أنّ ثمّة جنون و خبل دفين يغطّيه رداء من السّكينة. و إنّي لازلتُ أمسك بردائي ذاك أستمرّ به أو يصيبني ما أصاب عثمان. فأفقد وجهي أو أسمع أصوات عقل لا وجود لها. فإذا ما عاد عثمان وخطب فيكم فليكن سماعكم تلهية. و لكن.. أرجوكم،... لا تقتلوه.
                  

05-07-2005, 05:46 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    شواهد شاهدة

    ألباب الخليفة



    من مجموعة (رؤوس آلام طموحة)
    مؤسسة العارف بيروت 2003


    وتطلّ ليلة الحادي عشر من أيلول / سبتمبر من ليالي 2002 في الذكرى الأولى، وهذه الليلة كسابقاتها تغزوها الخفافيش، وهي تفرّ من كهوفها المظلمة إلى مدن ٍغارقة في الظلمات مدن تلاعبت بها أصابعُ النسيان، وحاصرتها عروش آلهة الطمع..
    حتى مات الحلم فيها وهو يعرج للسماء مسموماً، وغادرتها الأقمار بكل أمتعتها في شبه نفي..
    ففرغت من العشاق، والشعراء، والأصدقاء الطيبين.. وتاهت الحروف العربية، وهي تلملم أشلاءها خلفهم...
    المدن التي تخلو من الخير، من الحب، ومن الحرف العربي ما اشد وحشتها.
    ..

    في ذات الليلة سأمت الأرض التي ما عادت تعرف وطأ قدميّ... التي تأكل من نفسها؛ لتحفر مكانا لأهلي وأحبابي وجيراني ثم ترسل ديدانها عليهم... التي استبدلت قفزات الأطفال... وهي تسرح، وتمرح على سهولها، وروابيها، على جبالها، وصحاريها.. على كل شبر فيها.. استبدلتها بأيدٍ ضخمة وطويلة ذات مخالبٍ حادة، متقوّسة.. كأنها أيدي الغيلان
    وهي ما تفتأ تقرع الأجراس، وتنفخ الغبار.. عن مدافعها.. عن.. قنابلها، و صواريخها.. إنها تحك جلدها، وتوميء بإصبعها للحرب، للموت وهي تضحك...

    أنصتُ لبكاء الليالي...
    أشفقُ على الأيام وهي تتساقط جثثاً نتنة...
    حتى يوم الحادي عشر من سبتمبر
    (الذي غيّر وجه العالم )، كما اعتدتُ أن أسمع..
    أحاول أن أعرب تلك الجملة / تستعصي عليّ
    أفتشُ في مملكة القواميس عن معنى لها...
    فإذا بها رقعة شطرنج تتحرك في كل اتجاه...
    توصدُ الأبواب بوجه من يحاول الخروج...


    بوجهي...! ! هلعُ يتسلقني...! !
    يبدأ من قاع نفسي المكبّلة بالقيود...
    أصيحُ.. بالناس... من يقدر أن يهزمها ؟ ؟
    أن ينقذنا ؟؟ أن ينقذني ؟ ؟ ..
    لا صوت سوى صوت الرياح..
    الأطلالُ عاتبة على واقفيها ... على الباكين عليها...
    أين ولوا...! !
    عنترة الذي أنشد بحماس:
    يخبرك من شهد الوقيعة أنني
    أغشى الوغى وأعف عند المغنم
    ارتدى يخته وراح في عمق البحار حتى اختفى...
    غير أن الطفل فارس
    ذا اليدين العاريتين إلا من حجر
    أمسك بصوته وصداه...
    وعاد فارس عودة...
    طاهراً متدفقاً كالنهر
    في لحظة فاصلة بين الحياة، وقطع الأنفاس...
    ارتفع حجره ببطولة نادرة
    في وجه الدبابات، ارتفع بينما.. انكمشت هي وولت هاربة...
    رفرف جسده في سماء البطولات الأسطورية
    اغتسلت بدمائه قلوب فتية
    راحت تردد صداه من جديد...

    ترتعشُ روحي كالشمعة التي تتوهج؛ لتحترق، وتمتطي فضاء الخيال، والمشهد الفلسطيني يكاد لا يفارق عينيّ.. فارس عودة، وهو يأتيني كل حين عبر شاشات التلفزة.. يقبل عليّ، يخترقني، فتدغدغ مقلتي الدموع فرحاً، فأنتشي بالسحر والدهشة... وأمنحه روحي؛ ليؤنسنها؛ ليستشهد بها ألف مرّة..
    أمنحه إيّاها وأنا أخجلُ من هشاشة الأجساد، وهي تساندُ بعضها البعض في إغفائها البارد على سررٍ من دماء..

    وأدفنُ رأسي حينما تصافحُ أيدي تلك الأجساد أيدي من يخطف منّا ماسات الإنسانية، والتاريخ، والغد المثمر... وماسات الحكايات التي تسكن صندوقنا.....

    الحكايات التي تسكن صندوقنا هي ملكٌ لنا..
    وفي صندوقي لذاك الفارس ألف حكاية وحكاية نسجتها له من صميم عاطفتي ومن وحي خيالي بعدما دخل كقطرة ندى نقيّة في قلبي...

    تقول إحدى الحكايات:
    بأنّه أحبّ أمه ولكن ليس كما يحبّ أيّ مخلوق أمه.. رائحة الجنة المنبعثة من تحت أقدامها، تجذبه إليها، تستدعيه فلا يقدر أن يقاومها... وهي ما انفكّت ترعاه، وتسهر على راحته تشدّه إليها كلما أحسّت بالخطر يقرع بابه.. تقبّل جبينه مرّة كلما همّ بالخروج، ليلعب بدراجته وتقبّله ثلاثاً.. بعد أن يعود إليها سالماً...
    حدسها ينبؤها بأنّه يختلف عن بقية الأولاد والاختلاف يبدأ من النهاية...
    تطعمه بأناملها حبات الزيتون.. يلاطفها أمي الزيتون من يديك أطعم وأشهى، و كأنّه من ثمار الجنة.

    .

    تبتسم تغريه تلك الابتسامة، فيطلبُ منها أن تزرع على قبره شجرة زيتون تغالب دمعها فلا تقدر.. تحتضنه، تتعانق نبضات قلبيهما... تقسم له أنها تفعل.. ما دام يعشق الله والحرية والعدالة...
    في اليوم التالي أشرقت الشمس... وجاء سربٌ من حمام يحمل الفارس إلى حيث اشتهى...
    وانحفرت آثار خطاه وما زالت تتألق كلما سار عليها فتى أو فتاة...

    رغم ذكرى الحادي عشر من سبتمبر المرافقة للموت، والخراب... إلا أن حالات الموت.. استوقفتني من قبل...
    .. نعم، للموت حالات كما للولادة وأسماء وتواريخ وهناك من يتشبّث بالحياة الدنيا حتى النفس الأخير وهناك من يقبل على الموت كما يقبل على أحلى اللذائذ وهناك من هو ضائع تائه لا يعرف درباً لخطواته...يقلقني هذا العالم إنّه شديد التعقيد كيف أشقّ طريقي ودروبه مليئة باللصوص وقطاع الطرق.. من البشر ومن القدر...
    هذه الابتسامة التي تذبل على شفتي وهذا الأمل المخنوق بداخلي كما تختنق العبرات، والأفكار التي تهاجمني من كل زاوية من زوايا الحياة...كل ذلك يجعلني أفرّ..
    أفرّ إلى نفسي..
    فتشدّني تلك العبارات التي ألفتها مذ كنتُ أحبو..
    الله الذي يُحي ويُميت
    أسطورة آدم وحواء
    إبليس الملعون / رداء الموت لابدّ أن يلفنا
    الأبدية في مصيرين اثنين لا ثالث لهما
    الجنة.. النار.. الخلود شيء يعبث بأعصابي
    كما يعبث الصغير بكل ما يراه
    والأزلية تقودني باستسلام كامل للجنون ..
    فأزهدُ بكلّ شيء، بكلّ ما حولي بدءاً بثيابي،
    صوري وصور عائلتي، حاجياتي،
    حتى النقود التافهة التي أملكها... كلّ تلك الأشياء أوزّعها،
    ولا يبقى لديّ إلا القليل الذي لابدّ لي من استخدامه...
    أوزّعها، وأبقى وحيدة.. منفردة..
    مع عقل أتعبه التفكير و البحث...
    و حينما أنسى.. أعود للاقتناء،
    والتقاط الصور التذكارية..........
    وأعود لاهتماماتي التي ستفنى...
    وهكذا ارحل.. بين التذكرة والنسيان..
    أحمل عقلي الذي يتصبب عرقا،
    وهو يجري في متاهات العتمة،
    يرميني في غيابة الجب، و يخرج هو
    نصف مجنون.. .
    حقا تعبت..
    وفي لحظة صفاء حافظت عليها...
    قررت هذه المرة أن أقلب المعادلة..
    فلا أتخلص من أشيائي، ولكن...
    من عقلي أتخلص..
    أخذت في ثأر لذيذ
    ظرفاً بريدياً، فتحته، ووضعتُ عقلي فيه
    وخرجتُ مسرعة إلى الشارع...
    رفعتُ يدي وقذفته بعيداً في الأفق..
    عدتُ إلى نفسي.. بعد أن أطلقت تنهيدة طويلة
    أغمضتُ عيني بخشوع.. ،
    فرأيتُ الله..
    أجل رأيتُ الله ينبضُ حياة بقلبي..
    يضيء كأبهى ما يكون النور..
    ورأيتني بحب أهفو إليه للحياة..، للناس...
    إنّ الله العظيم يتجلى أينما أولي وجهي
    وانّ إحساسي به، يغنيني عن التفكير،
    والحيرة وها أنا ببساطة حلوة...
    أخلعُ ثوب الحيرة، واشتاقُ إلى ثوب قديم....
    كنتُ ارتديه قبل أن أرحل بين التذكرة و النسيان.....
    ارتديته .. ورحت من طمأنينةٍ أطير..
    ومن راحةٍ أذوب....

    أحبّ هذه الراحة التي سكنتني وهذا الامتلاء الذي رفعني إلى السماء حيث الطفل فارس وحيث الأحرار، كل الأحرار.. يخطرُ ببالي وأنا أتقدّم من البحر شيئاً فشيئاً في الليلة ذاتها ليلة الحادي عشر من سبتمبر.. يخطرُ ببالي أن اغرف منه ما يكفي اليابسة وسكّانها وغيلانها لأطهرهم أجمعين.. لكنّ المستحيل يزجّ نفسه في حياتي ولكنّه أيضا لم يوقف رغبتي..
    اقتربُ من البحر.. انتعشُ بصوت ارتطام أمواجه بالحجر.. بعلوها، وهبوطها، بشهيقها، وزفيرها،و لونها الأزرق.. روعتها، البحر أجمل من كل ما قيل فيه...
    حتى خشونة ملحه التي بدأت تلامس قدمي وأنا أخلع نعلي، حتى رائحته وزفرتها تبدو شهية أشهى وأطيب من رائحة الطعام التي أتحسسها عندما أكون في قمة جوعي..
    أقفُ أمام هيبة البحر بهيبة الإيمان المرتسم على صدور الشهداء.. بالأمل الذي طال ثم طال في عيون الأمهات... واخرجُ ورقة لا بل أوراقاً كثيرة وضعتُها برفق على أمواجه وتوسّلتها أن تبقي على حبري، على حروفي، على كلماتي المكتوبة بالدماء، بهموم العالم الثالث، ببراعمه المغتالة، و صرخاته المذعورة.. ربما في الضفة الأخرى هناك من يقطع على نفسه وعداً بالخلاص لكلّ المعذبين، بالحرية والعدالة والإنسانية... ربما هناك من يقدر أن ينقذنا كما أنقذ يوماً محمدٌ الصادقُ الأمين.. الأرضَ والناسَ والأطفال...
    ربما هناك من لا يغمضُ له جفنٌ قبل أن يبرّ بوعده...

    وأعرف أنّ الزمان يدور
    وأنّ الخبز يُسرق، والعمر يُسرق
    وأسألُ نفسي أين البنفسج حلم الصغار
    هل ضاع حقاً لونُ البنفسج، رحيقُ البنفسج، شكل البنفسج...
    ولم يبق إلا لباس الخيانة وعفن الرياء...

    !

    العالم يضحك يكركر والطائرات الحربية / الصواريخ / القنابل
    تفتك وتدمر
    شاشات التلفزة لا تزال تبث الأخبار على مدار الساعة،
    الساعة امتلأت عقارب
    والعالم فعلٌ جامد
    إلاّ من ثملٍ حَد الغيبوبةِ
    أو يقظة ظفر مهتريء
    الإصبع.. في كفِّ الأجرب

    صهيل العدل مشغول ببحثه عن الخلود
    وعين الحياة عبثاً تخبره عن القارة البعيدة
    التي تزحف نحوه
    لتعلن الموت/ الدمار
    الناس ألفت مراسيم الحرب وهي أشبه بموسم للحصاد
    الحصاد / القتل / الفناء...
    إنهم يحصدون الشمس / الأطفال الذين يتوجهون بفرح إلى مدارسهم
    البائعة وهي تسامح طفلاً في ثمن ما ابتاعه منها ...
    النخلة وهي تطعم الفقراء حلاوة تمرها..
    الكتاب حين تتلاقفه أيدي الكبار، بمحبة مرة...
    وبإيثار مرة أخرى...
    ونفائس أخرى تعيش بينهم...
    ترتمي على أرصفتهم...
    الآن هم يقتربون، يتوعدون
    تلك الأرض التي تسطع في سمائها القباب الذهبية...
    ذلك التاريخ الذي يتقزمون أمامه.
    إنهم يتوعدون الحلم الذي يطفو على الفرات
    الروح التي تتنفس في دجلة الخير
    الحورية التي تزرع البهجة من حين لحين
    في شط العرب..
    !
    يتوعدون وملء قلوبهم حسد وحسد...

    تطوف بي الذكرى، بمشهد لا يفارقني أبداً... والمشهد هذه المرة مقبرة..
    !
    المقبرة موحشة مقفرة رقد في أحشائها مليون رفات ورفات بأيام معدودة حتى هلكت واستغاثت...
    الشواهد شاهدة على كل العذابات على الظلم الذي صبه الحاقدون على كل قدم كانت تدب حياة على تلك الأرض المشهد قبر كتب على شاهده ( وداعا أولادي الأربعة ) أربعة دونما رحمة والعالم ثملاً لا يتحرّك... تساءلت في نفسي من المتبقي الذي كتب تلك العبارة على ذلك الشاهد أم ثكلى، أب يحترق لبقائه حيا
    ومن ؟ من ؟ هؤلاء الأربعة ؟؟
    ! ربما أحمد، وحسين، وإسراء، وزهراء.. وربما كانوا أطفالا.. صغاراً حرموا من كل شيء إلا من ملعبهم، وتشابك أيديهم، وغنائهم..
    (غزالة غزلوكي بالماي دعبلوكي .... )
    في براءة طفولية جميلة تهتز لها الجدران والأرصفة أو هكذا كان يخيل لأمهم وهي متلفعة الآن بعباءتها السوداء وفي نفسها رجاء أن تسمع أصواتهم من جديد...


    تمرّ الأعوام ملتهبة لا ظلّ فيها غير الحصار... ولا حي فيها إلاّ الجوع و إلاّ أمنية للموت التي يتمناه ميتون..
    1
    وستمرّ الأيام القادمة أيام ما بعد الحادي عشر من سبتمبر... خالية إلاّ من أطفال يتراكضون من فزع وهم يسمعون صافرات الإنذار...
    لقد بادت الإنسانية... كل الإنسانية... كما بادت قوم عاد وثمود...
    وتوارت كلّ الأخلاق خلف القارة البعيدة ولم يبق إلا الحياء وإن لم يبق هو يبقى المثل العربي الذي يقول ( إن لم تستح فأفعل ما شئت)...
    أتطلع إلى الضفة الأخرى وأسأل، هل وصلت أوراقي ؟؟؟
    أرقب النجوم، وهي تنطفىء رويداً رويداً ... أتوسل إليها... لا ترحلي، قبل أن تعلقي على أرضنا تميمة، أو عيناً زرقاء...تقيها شرّ الحاسد.. فشرّ الحرب...
    تشفق علي النجوم...
    فتتلو بخشوع...

    بسم الله الرحمن الرحيم
    ( قل أعوذ برب الفلق ..........................).




                  

05-07-2005, 05:50 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    الوصية الأخيرة

    طارق البكري (د.)



    ليس الهروبُ متاحاً بعد الآن..
    فراغ الإطار من الصورة لا يعني سوى "النّهاية"..
    الأشياء الفارغة لا قيمة لها.. التماثيل الجوفاء تزول مع الزمن، وتبقى حكاياتها..
    انهيار كلّ أحلامي ما كان متوقعاً عندي.. نقيض توقُّع الآخرين..
    لتذهبْ كلُّ الأشياء الثمينة والرخيصة.. الرفيعة والوضيعة..
    ما بديل هذا غير الهروب إلى سراب.. إلى وادٍ سحيق.. حيث المجهول يختلط بحَبِ التراب الأسود.. كالقطران.. اختزالاً لمصائب السنين..
    أينَ أصبحتُ أنا اليوم؟ !
    أينَ كلُّ المدَّاحين والمطبّلين.. والملمِّعين.. وأنا لا آمن الآن على نفسي من نفسي..
    فقدت الهواء الرطب المعطَّر الذي كنتُ أتنشّقه...
    فقدت كل حاجاتي الصغيرة قبل الكبيرة..
    مضيت سالكاً طريق وحدتي، كمن أصابه وباء لا براء منه.
    لما سقطتُّ.. سقطتُّ وحيداً.. ومع سقوطي سقطتْ كلُّ الأقنعة المزيفة..
    كنتُ أُدرك ما تُخفيه.. وأخفي..
    رنينُ الذهب اللمَّاع ساحرٌ أخَّاذ.. به تطوى الحقيقة..
    عشرون عاماً وحَوْلي الطبول تدقُّ.. والمزامير تعزف.. والهاماتُ تنحني..
    لا يدخل "بلاطي" إلا من يغسل قدميه بماء الذل والطاعة والهوان..
    عشتُ هكذا؛ أتلذَّذ بماء الوجوه يلسع الوجنات، ينهمر تحت أحذيتي التي لا أكاد أعرض واحداً منها.. حتى يذوب من بعدُ في ظلام طويل، ربما لا يخرج منه مرّةً ثانيةً..
    هذا التلذّذ كان رفيق روحي.. أعشقه كما يعشق الفراش النورَ، أو كما يعشق النّسرُ الفضاء.. أوكما يهيم القطا بعشه..
    تكشَّفتْ أماميَ الحقائقُ متأخرةً..
    ذلك "المجدُ" الذي بنيته من عذابات النَّاس ما أفادني بشيء..
    نعم.. بنيت مجدي على جماجم الآخرين.. صنعتُ أبراجاً من الوهم، صِغْتُ من الظلم أساور وتيجاناً، أُزيِّن بها "جَمَالي".. ولم أعِ الحقيقة إلا بعد مضي الزمن..
    ذات مساء..
    جاءت إليَّ أمِّي زاجرة:
    "ألم أعهد إليك يا بنيّ ألاّ تمثّل الشيطان في الأرض.. ألم أحملك وليداً.. وأربّك صغيراً.. فلمَ كل هذا الظلم يا ولدي؟ ! !"..
    فما زادني ذلك إلا نفوراً..
    أمرتُ أتباعي بإخراجها من "بلاطي"..
    أبعدتها عني..
    بنيت لها مكاناً فاخراً يليق بأمّ من هم "مثلي".. رفضت المكوث في هذا المكان.. وأتباعي كانوا يمنعونها من الخروج دون إذني..
    سمعتُها مراتٍ تدعو لي..
    "الله يهديك يا بنيّ.."..
    كنت أسخر من دعواتها..
    حتى زوجتي المسكينة عاشت رعباً متواصلاً.. لم تكن جريئةمثل أمي، تعلم أننَّي مع كلِّ ما أنا فيه لا يمكن أن أؤذي أمي.. أما هي فشيء آخر.. لذا كانت تلوذ بالصّمت بينما أطعنها في قلبها.. في كرامتها..

    آتي إليها والخمرة تفوح مني.. وعطر الغواني تخبر عني..
    تبكي في سرّها..
    حتى البكاء كان ممنوعاً في "حضوري"..
    لم أشعر بكل الخطايا التي تموج في داخلي موج البحار..
    هل كنت مسحوراً.. أم عميت بصيرتي؟ !..
    ولدي الصغير "شجاع".. حاول مرة أنْ يقول لي بلطف ما لا يجرؤ أحدٌ على قوله..
    نفيتُهُ.. حرمته من كلِّ شيء.. كنتُ أريد أنْ أفعل ما هو أعظم من ذلك، لكن بقايا مشاعر الإنسان في داخلي.. منعتني، وكدت ألا أستجيب لها لولا نصح بعض المقرَّبين مني.. فوجدتْ النصيحة في نفسي هوى لها..
    ما حسبتُ أنني سأصل يوماً إلى هنا..
    أعمتني أشياء كثيرة عن الرؤية، عن التمييز والتفكير والتقرير..
    كنتُ محور نفسي.. ولا دليل لي..
    البعض من حولي يرددون كلماتي أكثر مما يرددون كلام ربهم.. وفي السرّ.. ربما، كانوا يلعنونني..
    دعوت الأدباء والشُّعراء والفنانين..
    أمرتهم.. نعم أمرتهم.. عظّموا شأني كما لم يعظَّمْ أحد قبلي..
    لاحظتُ في أعين البعض منهم سخريةً.. فظلّوا ضيوفاً عندي ولم يعودوا إلى ديارهم..
    لم يجرؤ أحد عن مجرد السؤال عنهم.. حتى أمهاتهم..
    تفننت في السقوط..
    أبدعت بشيِّ من يجرؤ على معارضتي.. كان لحم الشِّواء يمتعني..

    "فما نفع الإنسان بناظريه.. إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟"..
    فتحتُ على الحياة نافذةً من صنعي أنا لوحدي.. من أراد الوصول إلى ما يريد عليه أن ينظر إلى الحياة من خلال هذه النافذة ولا شيء سواها..
    لم تكن التفاصيل تثير اهتمامي.. العناوين العامة تسكنُ تفاصيلي "أنا".. لا تفاصيل سواي.. وليذهب الآخرون إلى الجحيم..
    كل المرايا لا تعكس غيرَ صورتي..
    غنَّى المطربون "لي"..
    أنشد الشعراء أجمل قصائدهم كرمى لعيوني.. لا لعيون ليلى ولا سلمى..
    كتب الطلاب عني أبحاثهم..
    اشتغلت المطابع والمسارح والمعاهد..
    لا شيء قبلي.. ولا شيء بعدي..
    اعتاد الناس عليَّ كما "أنا".. مثلي.. فقد اعتدت عليهم كما "هم"..
    سعادتي في تعاستهم..
    البعض من حولي ظلّوا يصفقون.. هذه حاجة لا تنقصني.
    أغدقت أموالي على هؤلاء "البعض"، والويل.. الويل لمن شذّ، فعاقبته "ناري".
    عشتُ سنوات طويلة أسير ظلمي.. أسير هواي..
    فقدت "رموش" عينيَّ وما تخليّت عن "كبريائي".
    قادني ظلمي إلى كهوفٍ ومزالق..
    انكب الناس عليّ من كل جانب.. أيقنت نهايتي.. أيقنت آخر فصولي.. لكنّي لا أنحني.. كيف أتركُ كلَّ هذا المجد الذي صنعته، وأدعه لـ "يتلذذ" به الآخرون؟ !
    هواجسي كانت تفتك بسنوات ظلمي، لن أرحل قبل أن أقضي على كل شيء.. لن أترك مكاني بسهولة..
    فيا جبال اهتزي.. ويا سماء ارعدي.. ويا أرض اخسفي.. ويا بحار تفجّري.. ويا غمام اهطلي.. ويا صواعق اقصفي..
    جننتُ.. نعم.. جننتُ.. ومازلت أسمع التصفيق حادّاً.. لكنَّ المصفقين قلّوا.. وبدأوا يتباعدون ويتشتتون كما تتباعد السحب وتتشتت في يوم ربيعي صافٍ..
    بقيتُ وحدي..
    تذكرتُ أمِّي في "سجنها"..
    تذكرتُ ولدي في "منفاه"..
    تذكرتُ.. وتذكرتُ.. وتذكرتُ.. وأي "شيء" أتذكر؟ ؟ ؟
    فما فائدة التذكّر.. وكلّ مَنْ معي ذهبوا.. وبقيت وحدي أجرُّ خذلاني ووحدتي.. ويأسي.. وعاري.. وانكساري؟ ؟ ؟..
    بعض المرتعدين مثلي ارتبطوا بمصيري.. أمسكوا بي.. كادوا يقتلونني..
    وعدتهم بأموالٍ وبنين.. ومجدٍ لا يلين.. ما صدقوا، لكنهم تبعوني..
    وفي الطريق كلٌّ هرب من جانب.. لم يمنحوني فرصة جديدة.. أرادوا الفرار بأرواحهم.. فلا أملك لهم ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً..
    فإلى أين المصير؟ !
    الشرُّ من أمامي.. والخوف من ورائي.. وما زرعتُ ينبتُ من تحت قدميَّ الحافيتين.
    صرتُ أركض كالمجنون هارباً من كل شيء.. هربت حتى من ظلِّي.. لا أريدك أيها الظل "العفن"... لا أريدك.. أنت تعرف كلَّ خفايايَ وأسراري.. انطلقْ.. ابتعد عني.. لا تلبسني.. ارتد هذا النهر أو ذاك الوادي..
    وأنتِ أيتها الشمس.. أطفئي نورك.. اخلعي نارك.. اسكني خوفي وجرمي..
    صرتُ أتقلب بين الجبال.. أمتطي جواد الفزع والجوع والتشرد.. من كهف إلى آخر..
    أصادف "الوحوش".. وحوش البراري.. تشفق عليّ فتتركني..
    أكلت أوراق الشجر، حشائشَ الأرض.. حضنتُ برودة البادية.. شربت الماء الموحل.. ارتديت خشونة التراب.. توسدت صلابة الصخر..
    وفجأة.. وجدتُ نفسي في قبضة رعاة الأرض.. وحيداً بلا تصفيق ولا تطبيل...
    حملوني.. أطعموني.. أسقوني حليب نياقهم..
    ألبسوني جلد نعاجهم..
    شعرتُ بالدفء.. وبعض الأمل والأمان..
    بعضهم عرفني.. لم يفشوا سري.. كانوا ينظرون إلى بعضهم، يعرفون أنّهم يعرفون.. لكنّهم لا يتكلمون..
    ربما كانت قلوبهم أرقّ من نسائم الربيع.. أومن أوراق الزهور..
    عرفت متأخراً.. لكن ماذا استفدت؟ !
    سمحوا لي أن أكتب على جلد نعجة وصيّتي.. آخر كلماتي..
    كانت جراحي متعفِّنة.. أطرافي متيبِّسة.. الدود يعشعش في كهوف مفاصلي.. يطل برأسه ثم يختفي..
    لم يتكلموا..
    أحضروا لي جلد نعجة.. وعوداً مقلماً..
    غرست رأس العود في جروحي.. ما شعرت..
    بللتُ طرفَ العود بدمي.. لأكتب وصيتي.. لأكتب "اعترافي..".
    ترفقوا بي.. مع أنّي قد أكونُ سببَ وجودهم في الجبال والوديان..
    حنّت عليَّ قلوبهم.. وما "حنيّت".
    مسحوا جراحي الكثيرة.. وما "شفيتُ"..
    حاولوا تبريد عروقي المحترقة.. وتحريك جوارحي المتبلدة.. وما أفلحوا..
    كانوا أكثر مني قوّة.. وكنت أكثر منهم ضعفاً..
    كتبت آخر كلماتي.. لكن لمن أكتبها؟ ؟ ؟.. لا أحد يريدها.. لا أحد يريد أن يسمع عني شيئاً.. حتى أمِّي.. ربما.. وبمَ أوصي.. لا شيءَ عندي لأوصي به..
    حتى الكفن لا أملكه..
    لا أقدر على مواصلة الكتابة..
    أشعر بثقل العود بين أصابعي.. هذه الأصابع التي فعلت.. وفعلت.. الآن لا تقوى على طرد ذبابة.. آااه.. آاااه..

    في الصباح.. اجتمع الرعاة قرب صخور بيضاء.. دعوا الله بسكون، تأمّلوا هذا القبر النائي.. الذي يحتضن صاحب "الجراح" الكثيرة بعدما لفُّوهُ بجلدِ نعجةٍ.. عليها وصيّته.. دفنوها معه.. دون أن يقرأوها.. لم يحتفظوا بها كي لا يقرأها أحد.. نظروا إلى بعضهم.. قرروا إخفاء هذه الذكرى.. أرادوا طمس معالم القبر.. اتفقوا ألا يتكلموا.. ربما "خوفاً" من "بطش" صاحب القبر.. مع أنّه ميت، أو احتراماً للموت نفسه، ساروا بصمت نحو أنعامهم..
    ساروا معاً.. يعرفون الطريق الذي يتوجهون إليه، الهدف الذي يسعون إليه، منذ سنوات طويلة.. عادوا إلى بيوتهم التي هجروها.. إلى زوجاتهم.. إلى أهلهم.. إلى أولادهم.. وأخفوا ذكرى ذلك القبر حتى لا يتحدث عنه أحد..
    ذهبَ كلٌّ منهم بأنعامه ترعى من جديد بالقرب من بيوتهم، تحفّهم الذكرى.. ويغشاهم الأمل..
    أمَّا ذلك القبر.. فقد سحقته صخور الجبال، وهبت عليه أعاصير البادية، وغطّته الرمال.. وأبادته الأحلام.. ولم يعد شاهده يدل عليه..
    أمَّا تلك الوصية.. أو "الاعتراف".. فلم تعد تنفع الآن، وجدت الديدان فيها وجبة لذيذة.. فنخرتها حتى طُمست.. ولم يبق من حروفها حرف..
    ومرَّت فوق القبر نعاج..
    ومرَّت فوق القبر خراف..
    ومرّت فوق القبر جمال..
    ما عاد لظلمه مكان..
    ولا لظلامه مصفّقون ولا مطبّلون.. ولا من "يحزنون"..

    الكويت : 16/9/2003











                  

05-08-2005, 08:48 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    uppp
                  

05-11-2005, 01:51 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سرد قصصي القاص محمدخلف الله سليمان (Re: Sabri Elshareef)

    9-
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de