حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 02:04 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-01-2005, 03:43 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني

    حمي الرواية

    مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني


    بقلم : د. هاشم ميرغني

    فجأة انتابت حمى الرواية الجميع: الشعراء الذين لم يكتبوا حرفاً في النثر، العشاق الذين انتظروا على ارصفة الصبر قرونا وهم يضبطون ساعات معاصمهم، البحارة الاشداء الذين لم يروا سوى صورتهم في المياه، موظفي الخدمة المدنية الذين افنوا زهرة شبابهم ولم يتبق في ايديهم سوى حبر الحنين، المهاجرين الممروضين بنوستالجيا العظام، المطاليق، طلاب الثانويات المداهمين برعب الحب الأول.....

    لا بصيص رغبة في المبالغة، ولكن هذا هو الحال: الاصدقاء جميعاً يكتبون الرواية.

    ايضا لا وصاية على قلم احد في خدشه الاعمى لبراءة البياض، ولكن اية كتابة لا تضيف جديداً، لا تنزاح عن السائد وما تمت كتابته آلاف المرات لا تلبث ان تؤول الى هناك: قبو النسيان.

    قبل عقود طويلة، قبل اكثر من سبعين عاماً، في 22 اكتوبر 1934 كتب معاوية محمد نور ذلك الحاضر الغائب «1909 ـ 1941م» مقاله العلامة «اصدقائي الشعراء هذا لا يجدي»، وفيه تحدث عن الشعراء ـ الشعراء الذين يعود كل منهم من رحلته الشعرية» وحقيبة وعيه ملأى بالاحاسيس المختلفة، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للاجسام والارواح، وبالذهول الذي يسمو الى طبقات السماء، وبالسحر الذي يري «القمر في امسية حب اشبه ببالون يلعب به الاطفال»، ثم كانت مطالبته الحازمة للشاعر: «نطلب منه اذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي، ان يريحنا ففي الحياة من التفاهات اليومية ما يجعلها عسيرة الاحتمال فليس بنا ثمة حاجة ان نقرأها في عالم الحبر والورق».

    ويبدو اننا بعد هذه العقود الطويلة مضطرين ان نذكر كتاب الرواية في السودان بهذه الاسطر المضيئة لمعاوية محمد نور، فمنذ بداية التسعينيات انهمر سيل من الروايات السودانية عبر دور النشر التي انفتح بابها واسعاً دون اي معايير نقدية.

    لقد انجلت اشكالية النشر التي كانت قائمة حتى سنوات قليلة مضت عن اشكالية اخطر: عدم امتلاك دور النشر الحالية ـ التي قذفت في وجوهنا بعشرات الكتب في غفلة من الزمن لأهلية النشر، اعني عدم امتلاكها لهيئات تحرير رصينة تجيز النصوص، وافتقارها لاية استراتيجية نشر واضحة المعالم، او لاية حساسية ادبية للنصوص المنشورة، بل لاية مراجعة لهذه النصوص المنشورة ولو في جانب اخطائها اللغوية الساذجة المريعة، فاذا اضفنا الى ذلك خضوع بعض دور النشر لا يديولوجية الهلام السلطوي التي تسعى الى تمريرها عبر كل المنافذ وفتح باب النشر للمحاسيب، والمؤلفة قلوبهم، فيمكن ان نرى بوضوح ساطع صورة مشهد النشر السوداني، والدأب الذي يمكن ان يمارسه الجهل النشط في تمرير نصوص ضعيفة وترويجها، بل ورفعها لصدارة المشهد.. وهكذا فاذا كنا نقول إن الادب السوداني يتكون مما لم يتم نشره بعد، فيمكن القول الآن ـ حتى بعد اتساع مجال النشر ـ انه لايزال يتكون مما لم يتم نشره بعد، لان ما نشر ـ في غالبه ـ لا يرتقي عاليا للقناديل التي لا تشبه سوى بصمة دمنا.

    لماذا استباحة الرواية اذاً؟

    لماذا الرواية تحديداً؟

    لسهولتها الخادعة؟ لأنها ترضي نزعتنا العميقة للمشافهة والتي تتسع لها الرواية باندياحها اللا محدود وتوهم افتقارها للتكثيف والاختزال؟

    للأثر الطاغي الذي مارسته في وعينا ولا وعينا شهرة الطيب صالح العريضة؟

    أم لاسباب دلالية: اتساعها لخيبة الأمل التي تغلفنا جميعاً، رسائل الحب التي لم تنشر، وارتباكات الحب التي صادرها الواقع؟

    ما المغري في الرواية الى هذا الحد؟

    فراراً من القصة القصيرة التي تفضح كاتبها فورا فهي اما جيدة او رديئة؟ سهولة تمريرها في ظل الهرجلة الثقافية التي تغلفنا منذ سنوات؟ اتساعها لتهويمات الشعر المجانية ووهم السيولة والاندياح (العاطفي) وهي سمات أضحت شبه ملازمة للكتابة؟ ندرة الارث الروائي السوداني مما يغري بالتجريب في ارض شبه خالية؟ سهولة دس السيرة الذاتية في ثنايا السرد بحيث يصعب الفصل بين الواقعي والتخييلي؟.

    لماذا استباحة الرواية تحديداً؟

    لضعف الضمير النقدي غير القادر على ترصد الاخطاء والتشوهات؟ بسبب باب النشر الذي انفتح واسعاً بلا معايير نقدية؟ بسبب الهلام الاعلامي القادر على رفع نصوص ضعيفة لذرى عالية لم يحلم بها اصحابها، والسكوت عن نصوص مغايرة لم يستطع ان يدرجها في منظومته التقليدية، أم هكذا ببساطة: لان البعض أعجبه ان يكون كاتبا روائيا في هذا الوطن المحزون؟

    هذه هي صورة المشهد: روايات تنشر، وحوارات لا تنتهي مع اصحابها، واعمدة صحفية لا يجف حبرها، ومقالات (نقدية!) هنا، وهناك، ثم ما يلبث الأمر ان يتكشف عن فقاعات تأخذ مجراها نحو مصب العابر الذي لا يثبت في ذاكرة أحد حتى صاحبه.

    وفي غبار هذا المشهد يضيع الحديث الحصيف الدقيق عن اشكاليات الرواية السودانية.

    تلك الاشكالات التي يمكن ان نجملها فيما يلي مستضيئين في بعض ذلك ببعض الاشارات المكثفة التي وردت في تقريري لجنة التحكيم لجائزة رفيعة للرواية هي (جائزة الطيب صالح للابداع الروائى) اللذين نشرا بصحيفة «الاضواء» في اكتوبر من العام الماضي 2004م وقبل الماضي 2003 مضيفين إليها العديد من الاشكاليات عبر متابعة متأنية وصبورة للمشهد الروائى:

    ü افتقار العديد من الروايات الى نعمة التكثيف والاقتصاد اللغوي، والاغراق في التفصيل القادم عبر تراث ضخم من المشافهة لم نحسن استثماره في الكتابة.

    ü تأثر بعض الاعمال برواسب التيار الرومانسي الغارب بكل ميراثه الروائي في تضخيم ذات الراوي وتزييف العالم عبر تل من التنهدات.

    ü تأتي العديد من الاعمال اجترارا لقراءات اكثر من كونها نتاجاً لذات مبدعة وحساسة ، اي ان هذه الاعمال نتاج تأثر ظاهري غير متجذر باعمال هبت علينا رياحها من هناك، وتكفلت رغبة التقليد عبر لغة ـ لم تخلو من نعمة الركاكة ـ بتسويد براءة البياض، ترى هل يمكن توصيف حالهم هكذا: لقد قبضوا قبضة من اثر قراءاتهم المرتبكة في الرواية العالمية فأخرجوا للناس «عجلا جسدا له خوار».. اذا استعرنا توصيفا للبروفيسور عبدالله الطيب ـ باستلهامه للآية الكريمة ـ في سياق حديثه عن اخذ الشريف الرضي من ابي الطيب المتنبي (انظر التماسة عزاء: 18.

    ü الضعف الواضح في تمثل تقنيات السرد الروائى، وعدم تشرب منجزاته التطبيقية والنظرية على الصعيدين المحلي والعالمي، على المستوى النظري فيبدو وكأن الروائي يسبح بعيداً عن الارث النقدي الضخم الذي شاده نقاد امثال: تودوروف وكريستيفا ولوكاتش ولوسيان غولدمان وسعيد يقطين وصبري حافظ وعبد الملك مرتاض ورجاء نعمة ويمني العيد وسيزا قاسم وعبد المحسن بدر، وعبدالله ابراهيم ومحمد عزام والسريحي.. الخ..، ولذا تبدو الروايات السودانية وكأنها تبدأ من درجة الصفر محرومة من ثمار هذا الحقل السردي بكل عطاياه البهيجة.

    ü اشكالية اللغة التي لا يعي اصحابها ان اللغة الفقيرة تنتج نصا فقيرا بالضرورة، وان اللغة المتعثرة بوحل اخطائها اللغوية والنحوية والاملائية تنتج نصا متعثرا بالضرورة اذ لا تنفصل اللغة عن الدلالة التي تحملها في قلبها.

    لقد نفض اللغويون والنقاد والادباء ايديهم من تقرير حقيقة ارتباط اللغة بالدلالة ، وبرهن دي سوسير عبر بحث لغوي شاق انه لا يمكن فصل الكلمة عن الدلالة الا اذا استطعنا ان نفصل صفحتي الورقة عن بعضهما، واقر بول فاليري ان الادب لا يمكن ان يكون الا توسيعاً لبعض خصائص اللغة واستعمالا لها، وكتب جورج اورويل في روايته «1984 انه بقدر ما يقل رصيد الانسان من مفردات اللغة يزداد عجزه عن التفكير، او عن التعبير عن الفكرة في ذهنه».

    ويقول د. محمد عبدالمطلب في كتابه القيم «البلاغة والاسلوبية» ان كل تغير في تركيب الجملة انما يرجع الى المعنى ومتطلباته، وادنى تغيير في التركيب النحوي للجملة يؤدى إلى معان ثانية تتأتي من صيغة التركيب وطبيعته، فموضوع النحو ليس قاصرا على دائرة الخطأ والصواب بل يمتد الى دائرة النسق والتركيب، وقد وجد عبد القاهر الجرجاني الامكانات النحوية قائمة في تركيب الجملة وبنيتها الداخلية فقاده ذلك الى فكرة قوية الصلة بالامكانات النحوية وهي فكرة النظم، ويخلص عبد المطلب الى ان تركيب الصيغ والعبارات شديد الالتحام بعملية الابداع فلو نظرنا للغرض او المعنى دون النظر الى العلاقات النحوية من حيث فعاليتها فاننا نبتعد عن الادراك الحقيقي لعملية الابداع... فالنحو ليس عنصراً هامشيا او جانبيا ركنيا في العملية الابداعية بل هو لحمة هذه العملية وسداها في الشعر والنثر، والنحو بامكاناته الواسعة هو الذي يقدم للمبدع احتمالات الاوضاع الكلامية التي ترتبط بعضها ببعض في وحدة من المعاني والافكار التي تتمثل في الذهن.

    فلماذا يبدو الخطاب الروائى في السودان ـ اذا استثنينا نماذجه المضيئة ـ لماذا يبدو وكأن الكاتب لا يمتلك غير تلك اللغة الفقيرة الشائعة في الاتصال اليومي، والمستهلكة على نطاق عريض عبر الصحافة والاذاعة ووسائط الاعلام المختلفة، وما الذي يقذف به بعيداً عن كثافة اللغة وغناها الذي يمكن ان يحتضن العالم؟ ولماذا تبدو اللغة عبر خطابنا الروائي السوداني وكأنها تعاني تعسراً حاداً في ولادتها؟

    من اشكاليات الخطاب الروائي السوداني يمكن ان نرصد ايضاً:

    ü تهافت الدلالة الكلية لبعض الاعمال وغياب الرؤية الكاملة التي يمكن ان تمنح العمل عالمه الكامل الموازي لعالم الواقع في غناه واتساعه.

    ü ضعف القدرة على استبطال الواقع وتعقيداته وكشف جبل الجليد العائم تحته، واقتناص الجوهري والسرمدي والباطني والمستتر الثاوي عميقا هناك كلؤلؤة والاكتفاء بمضامين الواقع القريبة والمتداولة، بمجاز عابر: لقد نقلوا لنا حجارة المنجم، وترابه، ونحاسه بدلا من النزول عميقا الى هناك: عروق الذهب.
    ü ضعف المغامرة التجريبية التي تنحو صوب التجريبي والمغاير والمختطف والاكتفاء بالنسج على نول الجاهز والمتداول.

    (نواصل الاسبوع القادم)

    نقلا عن جريدة الرأي العام السودانية
    http://www.rayaam.net/art/art5.htm
                  

04-14-2005, 09:48 AM

عصام ابو القاسم
<aعصام ابو القاسم
تاريخ التسجيل: 12-18-2004
مجموع المشاركات: 544

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني (Re: nassar elhaj)

    الجزء الثاني من مقاربة الدكتور هاشم ميرغني عن-+
    .hthttp://www.rayaam.net/art/art8.h

    حمى الرواية

    (مقاربة اولى للمشهد الروائي السوداني)

    بقلم : د. هاشم ميرغني

    في المقاربة السابقة تحدثنا عن اشكالية اللغة التي لا يعي اصحابها ان اللغة الفقيرة تنتج نصا فقيرا بالضرورة، وأن اللغة المتعثرة بوحل اخطائها اللغوية والنحوية والاملائية تنتج نصاً متعثراً بالضرورة، اذ لا تنفصل اللغة عن الدلالة التي تحملها في قلبها. وتساءلنا: لماذا يبدو الخطاب الروائي في السودان ـ اذا استثنينا نماذجه المضيئة ـ لماذا يبدو وكأن الكاتب لا يمتلك غير تلك اللغة الفقيرة الشائعة في الاتصال اليومي، والمستهلك على نطاق عريض عبر الصحافة، والاذاعة، ووسائط الاعلام المختلفة، وما الذي يقذف به بعيدا عن كثافة اللغة وغناها الذي يمكن ان يحتضن العالم؟ ولماذا تبدو اللغة عبر خطابنا الروائي السوداني وكأنها تعاني تعسراً حاداً في ولادتها؟

    تدليل على هذه الحالة المتمثلة في عدم ادراك بعض كاتبي الرواية في السودان لـ«اللغة» التي هي ألف باء الكتابة، وصلصال خلقها، اهدى مثالين للتدليل على الضمير اللغوي والفني اليقظ الذي يتعامل به غيرنا مع الكتابة، ودليلا ثالثا على الجهل اللغوي الفظ الكفيل بالاطاحة بكل البناء الروائى.

    الدليل الأول سوف نقتطفه من غارثيا ماركيز.

    في ختام روايته «الجنرال في متاهته» كتب ماركيز ما اسماه بكلمة شكر، التي قدم فيها ما يمكن ان اسميه درسا ماكرا للروائيين المتعجلين الذين يسلقون الروايات سلقا، فلكي يكتب ماركيز رواية ـ نكرر رواية ـ «الجنرال في متاهته» في سيرة الجنرال سيمون ديبوليفار، ورحلته الاخيرة في نهر مجدلينا استعان بحشد من العلماء والاصدقاء.. لا يكاد يحصرهم عد.. فمثلا: قام الجغرافي غلادستون اوليفار والفلكي خورخي بيريث دوفال من اكاديمية العلوم الكوبية بتقصي الليالي التي كان فيها القمر بدراً خلال السنوات الثلاثين الأولى من القرن قبل الماضي، ليستعين ماركيز بكل ذلك في جملة أو جملتين تردان عرضا في الرواية، أما انطونيو بوليفار غويانيس فقد راجع الاصول معه في تصيد مليمتري للتأويلات المناقضة للواقع، والتكرارات، والأخطاء المطبعية، وفي التحري الشرس للغة والإملاء حتى استنفاذ سبع صياغات للرواية.

    الدليل الثاني نجده عند كاتب روائي مثابر هو علي الرفاعي الذي يكتب بمثل هذا الضمير اللغوي والفني اليقظ، فقد انتهى من روايته «قبيلة من وراء خط الافق» في 16/12/1986م، واستمر في تنقيحها حتى فراغه من كتابتها بنفسه على الكمبيوتر 22/11/2003م، ثم استمر في ضبطها بعلامات الاعراب حتى 14/3/2004م اي انه انتظر حوالى ثماني سنوات تقريباً ـ من التدقيق اليقظ ـ ليذهب بكتابه إلى المطبعة «انظر في ذلك ص:184ص الرواية».

    هل من الضروري ان نستمر في سرد مثل هذه الامثلة؟ هل من الضروري مثلا ان نقول ان فوكنر قد كتب روايته «الصخب والعنف» خمس مرات، او نذكر بمقولة الروائي ترومان كابوت الذي كتب عن نفسه مرة انه «من الممكن ان يسيطر على الكتاب ذوي الاسلوب المتميز احساس سئ حول وضع الفاصلة، أو أهمية الفاصلة المنقوطة.. إن الافكار المتصلة من هذا النوع.. والوقت الذي ابدده في سبيلها يؤرقني فوق ما احتمل».

    هل من الضروري ان نقلب العملة على وجها الآخر، لنشهد مثالا صارخا على «كلفتة» الكتابة، وفقرها وتعثرها اللغوي والنحوي، فنقول إنه في صفحات قلائل من رواية ـ سأتناولها عشوائيا دون ترتيب مسبق من الرف ـ ولتكن مثلا «تخوم الرماد» لمنصور الصويم نستطيع ان نرصد منذ صفحاتها الأولى هذه الأخطاء الساذجة القادمة من دفتر تلميذ في الثالث الابتدائى:

    ü فاجاءهم ذات صباح ص 2 والصواب فاجأهم ذات صباح.

    ü الرجال اليقظين نيام ص 4 والصواب الرجال اليقظون نيام.

    ü «ضمور يوشي بالتلاشي» ص5، والصواب «ضمور يشي بالتلاشي».

    ü تركنا العربة ورائنا ص 6 والصواب تركنا العربة وراءنا.

    ü شربت اطنان من المريسة والبغو ص 8 والصواب شربت اطنانا.

    ü لاشتري له صنفا خاص من الشطة ص 11 والصواب صنفا خاصاً.

    ü هؤلاء الرجال جميعهم خائفين ص 14 والصواب جميعهم خائفون.

    ü وهكذا...

    والاشكالية التي يواجها النقد الحديث مع مثل هذه الاخطاء في النص السابق انه يتعامل مع النص باعتباره بنية لغوية مكتملة، ومن ثم فان اية إشارة لغوية واردة في النص يتم تناولها بجدية متناهية، اي ان اية اشارة لغوية واردة في النص يجب ان تحتضن حمولتها المعرفية والانفعالية، وادنى تغيير في هذه الاشارات (صرفياً أو نحوياً أو نسقيا) يوهم الناقد بتغيير طبيعة الدلالات التي تحملها، وما يمكن ان تقدمه في سياق الرؤية الكلية للنص.. ولكن الناقد ما يلبث ان يكتشف ان هذه التغييرات النحوية ـ سنسميها الأخطاء الآن ـ هي تغييرات خاوية من الدلالة.

    بداهة فان مثل هذه الأخطاء الساذجة لاعلاقة لها بما اصطلح على تسميته بتفجير اللغة عن طريق علاقات التضاد والتناقض والتجاور والانحراف الاسلوبي واللغوي، وخلخلة سكونها، وانزياحها عن مستوياتها الصارمة، لسبب بدهي فتفجير اللغة له علاقة وثيقة بالدلالات الجديدة التي يمكن ان يخلقها هذا الانزياح، اي ان كل انزياح لغوي يتضمن بالضرورة توسيعاً لافق الرؤية التي يمكن ان تحتجزها اللغة، فما الدلالات التي يمكن ان تكشف عنها مثل هذه الاخطاء على مستوى النص عند الصويم أو بركة أو ابكر آدم اسماعيل أو محمد هرون او بثينة خضر؟.. ولماذا يستحيل تقريباً ان نجد مثل هذه الاخطاء في نصوص كتاب امثال: ادونيس، أو محمد بنيس، أو الخراط، أو الغيطاني، او سليم بركات، أو الحسن البكري، أو محفوظ، ولماذا نفتقدها حتى في اكثر الكتابات العربية ـ وغير العربية ـ شطحاً لغوياً حيث مغامرات اللغة، وجيشانها العضوي المضطرم لايكاد يقف عند حد؟.

    هل يمكن توصيف اشكالات ذوات كاتبي الرواية السودانية على هذا النحو اذن: إنها مشكلة ذوات ساذجة وبسيطة وتحاول مجابهة هذا العالم الغني والموار والملتبس والغامض وهي غير مسلحة سوى بالقليل من الوعي، الأقل من عتاد اللغة والحدس والكثير من عمي البصيرة، ثم فيض من العاطفة المجانية التي لن تقوى قط على اقتناص شراسة العالم وكثافته، دعك من اختراقه، وتغيير نواته.

    تلك بعض اشكاليات خطابنا الروائى، ولا تتسع هذه الصفحات المحدودة عبر (الرأى العام)، في الاستفاضة في ذلك او في تحليل العديد من النماذج الروائية التي نأمل ان تنجلي محنة الواقع الضاري ـ المتمثل في عدم وجود المجلة النقدية المتخصصة التي تتحمل الأوراق النقدية المطولة ـ حتى نتمكن من نشر هذه الأوراق.

    الخطاب النقدي الروائي في السودان اذا استثنينا بعض نماذجه الناصعة لعب دوراً متواطئاً مع الرواية في بعض الاحيان عن طريق علاقات المجايلة، او الرفقة السيكولوجية أو الايديولوجية، أو غيرها، وبمثل ما خدم هؤلاء النقاد هذه النصوص الضعيفة فان هذه النصوص قد خدمتهم بتعزيز حضورهم في الساحة، بحيث يكاد يستحيل وقوفهم دون الاستناد لعكازة هذه النصوص.

    وفي ندوة عن اشكالات الرواية عقدت بمركز عبد الكريم ميرغني اواخر العام الماضي 2004م حذر الشاعر محجوب كبلو، حذر الناقد السوداني من لعب دور الناقد الوطني الذي يقتصر دوره على تشجيع «الانتاج الوطني» دون ان ينتبه لمزلق تشجيع اعمال ضعيفة، ورفعها، وترويجها تحت تأثير هذا الدافع الوطني الذي لا علاقة له بصرامة ونزاهة النقد ودوره التنويري والتحليلي والتقويمي.

    ذلك الدافع «الوطني» الذي لا يصمد طويلا امام هشاشة النصوص، فغاليا ما يكتشف القارئ الحصيف ان تلك الروايات التي اريق حولها حبر كثير لا تستطيع ان تصمد امام اية ذائقة مدربة، او امام اية حساسية جديدة، ولا تقوى على اغوائنا للدخول لعالمها. وسرعان ما يكتشف بألم ان بعض هذه الاعمال يصعب وضعها باطمئنان في رفوف اية مكتبة عربية او عالمية.

    وقد اشار الناقد مصطفى الصاوي في سياق ورقته القيمة التي قدمها عن النقد الروائى في السودان في المؤتمر الثاني للرواية السودانية بمركز عبد الكريم ميرغني في اكتوبر 2004م إلى الاشكالات العديدة التي يعاني منها هذا النقد مثل: غياب الجهد الجماعي، وضعف الصوت المنهجي، وسيادة النقد الصحفي السريع، وغياب المجلة النقدية المتخصصة على غرار مجلة مثل «فصول» في مصر، وقصور هذا النقد عن متابعة المشهد الروائى، وغياب الحوار النقدي الخلاق في مناخ صحي ديمقراطي يسمح بازدهار شجر الاسئلة.

    وما لم يشر إليه الصاوي، هو ما يمكن ان اسميه بظاهرتي الكسل النقدي، والتكريس النقدي، فقد ادى الكسل النقدي في تناول الاعمال المميزة الى ترديد اسماء بعينها حتى حافة الملل، خذ مثلاً روائياً مثل الطيب صالح الذي لا يكاد يختلف احد حول قامته السامقة في المشهد الروائى.. ما الذي حدث؟

    لقد تم ترديد اسمه حتى الابتذال، وصار مادة ثابتة للملاحق الثقافية، وللمحررين الكسالى، وتم تكريس اسمه حتى الهوس بالصورة التي كادت تختزل كتابة أمة باسرها في فرد، وتم غض الطرف عن الانجازات السردية المهمة لروائيين آخرين (ابراهيم بشير ويوسف العطا ومحمد الحسن البكري وأحمد حمد الملك وعلي الرفاعي وابراهيم سلوم «الدية» وعبد الفتاح عبد السلام وأمير تاج السر وحامد بدوي... الخ) وتم اغلاق باب الاجتهاد الروائى، وعمد (بضم العين وتشديد الميم المكسورة) الطيب صالح سقفا للرواية السودانية لا يمكن اختراقه إلى الابد.

    وتفاقمت ظاهرة الافتتان بالطيب صالح بصورة تنذر بالخطر، فاذا كان البعض يتحدث عن ظاهرة مثل الـEGYPTO MANIA اي ظاهرة الهوس بالمصريات القديمة، فيمكن لنا ان نتحدث في الصحافة السودانية عن ظاهرة الـTAYEB MANIA اي ظاهرة الهوس بالطيب صالح، ذلك الهوس الذي يمكن ان يحجب نصوصه عن النقد النزيه والخلاق والحوار الخصب حول رؤاه الغنية، كما يحجب نصوص غيره عن مثل هذا النقب، تصور مثلا لو ان النقد المصري اكتفى بالتسبيح بانجازات نجيب محفوظ ليلاً ونهاراً، هل كان لمصر ان تنجب كل ذلك الرتل من الروائيين: فتحي غانم وجمال الغيطاني وادوار الخراط وابراهيم اصلان وصنع الله ابراهيم ومحمد البساطي وخيري شلبي ويوسف القعيد ولطيفة الزيات وسلوى بكر ومجيد طوبيا وسليمان فياض وبهاء طاهر... إلى آخر هذا العقد الذهبي والذين تجاوز اكثرهم الانجاز المحفوظي؟

    لقد كتب غاستون باشلار في كتابه العلامة «جماليات المكان» عن استعارة الادراج عند برجسون في حديثه عن الذاكرة، حينما قرر ان الذاكرة لا تشبه الادراج لكي نحفظ بها ذكرياتنا.. تلك الاستعارة التي رددها حتى الاعياء كل من تحدث عن الذاكرة عند برجسون، يقول باشلار: «وقد اصبح بامكاننا حين نصغي لبعض المحاضرات ان نتنبأ بأن استعارة الدرج علي وشك الظهور».. فهل يمكن قول شئ مثل هذا عن اسم الطيب صالح: اي اننا عندما نفتح اي ملحق ثقافي، او نقرأ حواراً ادبياً.. فاننا نستطيع ان نتنبأ ان اسم الطيب صالح أو صورته علي وشك الظهور.. الا يحق للطيب صالح ان يهتف حينها: انقذونا من هذا الحب القاسي.. كما هتف محمود درويش من قبل عندما كان يتم ربط اسمه اعتسافيا مع كل حديث عن القضية الفلسطينية، بينما تنزوي فتوحات نصوصه بعيداً.

    ايضا يمكن للمتابع ان يلحظ بأسى ان كل هذا الهوس الاعلامي حول الطيب صالح لم يقربنا من عوالمه شبراً واحداً، لم يضف لمعرفتنا به سطرا، فقد ظل يردد حتى الاعياء المقولات الجاهزة التي لاكتها الاقلام منذ السبعينيات عن الصراع بين الشرق والغرب، تلك المقولات التي تلتقط الاشارات الظاهرة للنص وتلصقها بالواقع دون ان تنتبه الى ان هذه القراءة المتعجلة كفيلة بافقار النص، واختزال خصوبته وتحويله الى خطاب مضموني مباشر من الدرجة الثانية كاختزال عالم «موسم الهجرة» بتلك المقولة الجاهزة عن الصراع بين الشرق والغرب.

    ان هذه القراءة الجاهزة لموسم الهجرة تشبه مثلاً ان نقول «رواية» ذهب مع الريح «لمرجريت ميتشل» تتحدث عن الحرب الاهلية الامريكية، او ان رواية «البحر والسم» للروائى الياباني «شوساكوندو» تتحدث عن الضعف المهني الاخلاقي للاطباء، لان مقالاً واحداً مدعماً بالوثائق والاحصاءات والبراهين يمكن ان يفي بالغرض فالرواية «لا تتحدث عن»، انما «تخلق عالما» كاملاً مكثفاً غنياً يمد (بضم الياء) فيه جسر الحدس بين الباطني بعوالمه الحدسية المروعة، وافاعي فراديسه، وطمي غرائزه البدائية، واحلامه المنتهكة بضراوة واقع قاس، ورغباته المستترة بمطارق التابو..، وبين الخارجي بكل جزيئاته التي تتفلت من البصيرة الكليلة.. كل ذلك معجون بفتنة السرد وحرائقه وشهد ثماره المضيئة.. وفي ركن صغير من هذا العالم نستطيع ان نرى الاطباء في «السم والبحيرة» وهم يشرحون الاسرى الاحياء، منحدرين رويدا «لاقصى ما يمكن للمرء ان ينحدر إليه».

    لماذا استباحة الرواية اذاً؟ الرواية التي نعنيها هي تلك الرواية التي «تتحول الى فخ هائل يرقص فيه الموت، وتنوس الحياة، حين تصير حلما للمخيلة فيه ينفجر الزمان والمكان، وحيزا لافكار ابعد ما تكون عن الفكر... تبدأ كلعبة لامتلاك الزمن، وتنتهي بمرآة يبحث فيها الخاسر عن جهة خامسة، وزمن رابع، كما يقول الراوي في رواية «توقيت البنكا» لمحمد علي اليوسفي.

    هل من الضروري سرد وتحليل قائمة طويلة بتلك الروايات ليشهر اصدقاء جوبلز مسدساتهم الصدئة؟

    يظل قوس السؤال مفتوحاً.
                  

04-15-2005, 01:59 AM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني (Re: nassar elhaj)

    مقال جريء ،

    اشاطر الكاتب بصفة عامة حول الافكار الاساسية الواردة في المقال ،

    واتفق معه ان هذا الكم الهائل من التدفق الروائي لم تصاحبه جودة الا القليل النادر

    كما ان هنالك ضبابية حول مفهوم ومقومات فن الراوية عند الكثريين .

    فالتحية للاخ المبدع هاشم ميرغني علي هذا المقال القيمة

    والتحية للاخوين الكريمين نصار الحاج وعاصم ابو القاسم .

    (عدل بواسطة Agab Alfaya on 04-15-2005, 09:20 AM)

                  

04-15-2005, 09:01 AM

Alia awadelkareem

تاريخ التسجيل: 01-25-2004
مجموع المشاركات: 2099

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني (Re: Agab Alfaya)

    up
                  

04-16-2005, 12:59 PM

عصام ابو القاسم
<aعصام ابو القاسم
تاريخ التسجيل: 12-18-2004
مجموع المشاركات: 544

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني (Re: Agab Alfaya)

    شكرا" الاستاذ عبد المنعم
    شكرا" من قبل لنصار الحاج الذي امتعنا ايضا برسالته الجميلة لشقيقه محمد الصادق الحاج .
    وحول ما طرقه د.هاشم فانني ساعود اليه ببعض الاسئلة عما قريب
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de