|
إسلام الشيخ البرعي.. وإسلامهم !!
|
حين النظر في أنماط "التدين" -لا الدين بذاته- تنشأ علاقات مختلفة ولربما متباينة إلى أقصى درجة بين إسلام "سلفي" وآخر "سياسي" وثالث "شعائري" صرف ورابع "صوفي" وهكذا دواليك. وتميّز الإسلام الصوفي الفلسفي خصوصا عبر تاريخه الطويل بخصائص كانت الباعث الأول على اهتمام عدد كبير من المستشرقين وانفاقهم جهودا واضحة لتبيين مكانته. لويس ماسينون على سبيل المثال، هو وآن ماري شيميل نقحا سيرة الحلاج وأعادا النظر إلى فلسفته بشكل علمي ومعمق ما أنضج رؤية جديدة بشأنه في أوساط الباحثين المسلمين الذين لطالما خطأوه وحاكموه وفقا للدارج والشائع من الثقافة الاقصائية التي انتجتها بعض المدارس الإسلامية المتشددة. والحال ذاته ينطبق على علم آخر من أعلام الفكر هو محي الدين بن عربي الذي ربما أعسر فهم مرئياته على بعض الشيوخ الذين انحصرت اهتماماتهم في العلوم الفقهية البحتة ووقعوا في خطأ تجربة ضخمة لا يصح النظر إليها بمعزل عن إلمام لازم بالفلسفة والمنطق. هذه الخصائص التي تسم المدارس الصوفية باختلافها تتمثل في اخلاصها وصدقيتها العالية تجاه فيمة "التسامح" وافراطها في "المحبة" و"الزهد" علاوة على "الورع". ومن زاوية ثانية نشأت غالبية المدارس الصوفية التأملية في حواضر وبوادي العراق وفارس ليس بعيدا عن تيارات ومدارس الفسلفات الهندية والآسيوية القديمة القائمة على التأمل والرياضة الروحية والغذاء الفلسفي العميق. وعبر سلسلة طويلة من "العارفين" والمتأملين الكبار .. الجنيد والسهروردي والبسطامي إلى الفادني وبن عطاء إلى الشيوخ الذين سلكوا هذا الدرب في السودان، تقوم رابطة يصعب فصمها خصوصا في خطوطها العريضة المتعلقة بالملامح العامة للتصوف الإسلامي. وغض النظر عن الهنات والمأخذ على النهج الذي تسلكه "بعض" الطرق الصوفية، و"بعض" شيوخها الذين يتاجرون بالصوفية ولا يكاد الواحد منهم يعي شيئا عن تراثها الإنساني والفلسفي النبيل يصح القول بأن الصوفية تجذرت في الوعي الجمعي السوداني وتمظهرت في مناحي كثيرة من الحياة السودانية. وذاع صيت الشيخ البرعي في وقت أسيء فيه إلى الإسلام وأضحت المتاجرة به شأنا جالبا للمنافع السياسية والاقتصادية في السودان في حين تراجع الإسلام القيمي وشهد الجانب الأخلاقي انتكاسات فظيعة رشحت لـ"مجتمع جديد" تغلب عليه البراغماتية في أشد صورها بؤسا أخلاقيا وفقرا قيميا في النموذج الإسلامي المشوّه الذي أنبته إسلاميو المشروع الحضاري المخادع. لم يكن الشيخ البرعي واحدا من الشيوخ الممالئين لسلطة سياسية أو اقتصادية كما أنه لم يعن بالترويج لإسلام العنف والتسلط. أشاع الشيخ البرعي عبر أدبياته الباذخة الجمال روحا انسانية وقيما أخلاقية كادت أن تندثر. وبز أقرانه وأمثاله من الشيوخ في التحريض النبيل على الأخلاق والزهد والورع من دون ارغام أو جبر. وحبب الكثيرين في النظر إلى جوهر الدين ولب العبادات بعيدا عن القشور في زمن شاعت فيه ثقافة الفتك بالمصلين في المساجد وبعث الشباب ليلقوا حتفهم في حرب الجنوب، وفي وقت انحسر فيه "صدق الإسلام" ليتفشى نوع من "الإسلام التجاري" الذي لا يلزم إلا الانتساب لفئة سياسية بعينها مع بعض "الديكور"!! رحم الله الشيخ البرعي، فهذه الكلمات تتقاصر عن مقامه العرفاني. وبرحيله يخسر السودان ركنا من أركانه وعلما من أعلامه. رحمه الله فقد أسدى للوطن معروفا كبيرا بالتوازن الذي خلقه في الساحة التي تعج بالمتأسلمين وصغار النفوس الذين اتخذوا الإسلام "مهنة" للتكسب الرخيص، وكان هو في الطرف المقابل بمدائحه وأدبياته وسلوكه العرفاني يمثل وجها مشرقا وصادقا للرجال الصادقين في علاقتهم بالله والناس. رحم الله الشيخ البرعي فالحزن على رحيله يعمر نفوسنا، وإذ ينعيه الناعي، إنما ينعي قطعة حميمة من وعينا الجمعي وذاكرتنا الصوفية المترعة. رحم الله الشيخ البرعي فعلى مثله يتوجب الدمع.
|
|
|
|
|
|