كان ذلك فى يوليو عام 1942 ، ابان الحرب العالمية الثانية ، فى ذلك الوقت اشتد لهيب الحرب، وكانت جيوش هتلر وموسلينى بقيادة روميل تكتسح جيوش الحلفاء فى شمال افريقيا ، حتى وصلت العلمين ، واصبحت قاب قوسين او ادنى من القاهرة ، التى كانت مكفهرة الوجه ، تعج بالجنود والجواسيس من كل جنس وتهيأت جيوش روميل لدخول مصر ، بينما احتلت جيوش موسلينى كسلا والكرمك وتهيأت لاحتلات السودان.
فى مثل تلك الظروف ، كان لا بد ان يتراجع صوت الفكر ويعلو صوت السلاح ، مصداقا لقول ابى تمام " السيف اصدق انباءا من الكتب ... " عندها ضاق المفكر الكبير عباس محمود العقاد بمصر كلها وقرر ان يهجر القاهرة مؤقتا ، وهى الحبيبة الى نفسه ، وكان ان شد الرحال الى الاخوة والأشقاء فى جنوب الوادى (السودان).
كانت زيارة العقاد الى السودان فى حد ذاتها حدثا ادبيا كبيرا لم تقلل من اهميته ظروف الحرب، وقد وصف احد أدباء السودان كيف استقبل وزملاءه خبر وصول العقاد الى الخرطوم قائلا "وذات ليلة ونحن حول المذياع نرقب تطورات الحرب واخبارها ، جاء المغفور له الاستاذ عثمان شندى ، وباسلوبه المرح الضاحك ، ذف الينا خبر وصول الأستاذ عباس محمود العقاد للخرطوم ، ولم يكن هذا النبأ بأقل اهمية وخطورة مما كنا نسمع من الراديو . " حسن نجيلة - ملامح من المجتمع السودانى - الطبعة الاولى ص 235".
كانت للعقاد - مثله فى ذلك مثل الكثيرين من ابنا جيله - صلات واسعة مع الشعراء والادباء فى السودان ، حيث راسله بعضهم وعرفه البعض الاخر عن قرب ، ولم يكن معروفا فى السودان والدول العربية فحسب وانما تعدى كل ذلك للعالمية، وقد وصل العقاد الى تلك المنزلة الرفيعة بفضل علمه الغزير وثقافته العالية ومساهماته الواسعة وكتاباته القيمة فى ميادين الادب والفكر والسياسة وارائه الجريئة التى كان يرسلها فى شجاعة غير عابئ بغضب الناس عليه او رضاهم عنه.
أتاحت زيارة العقاد لأبناء السودان فرصة نادرة ، اغتنمها الادباء لتكريم ذلك العبقرى الفذ ، فتوافدوا على مكان اقامته ، وأقاموا لاستقباله العديد من الليالى والمهرجانات الشعرية. وكانت فترة اقامته فى العاصمة السودانية (نحو اربعين يوما) سلسلة متصلة من اللقاءات الادبية والفكرية. وقد وصفها احد الادباء قائلا " مضت ايام العقاد بيننا كلها اعياد ثقافة وادب" ، كيف لا وقد كانو يعتبرونه من افذاذ رواد الثقافة فى اسمى معانيها. و كان لا بد ان يترك كل ذلك اثره العميق فى نفس ذلك الاديب الكبير.
ومن اهم اللقاءات الفكرية فى تلك الفترة كانت تلك المحاضرة عن الثقافة والتى القاها العقاد فى دار الثقافة بالخرطوم ، وقد اجمع مؤرخو تلك الفترة من الرواد على ان دار الثقافة لم تشهد قبل ذلك اليوم مثل ذلك الحشد من المثقفين وعشاق المعرفة الذين حرصوا على الاستفادة من علمه الغزير. وأقام الادباء السودانيون فى نفس الدار حفلا ادبيا نادرا لتكريم الكاتب الكبير ، شمل اراء ودراسات نخبة من الادباء السودانيين فى انتاج العقاد الفكرى ، سوى كان ذلك شعرا أو نثرا. وشارك العقاد فى ذلك الحفل شارحا ومحللا وناقدا.
وفى مناسبة اخرى زار العقاد دار الخريجين بام درمان بدعوة من بعض الادباء السودانيين ليتعرف على اعضائه من الشعراء والادباء ، وجلس بينهم يتسامر معهم فى ود ويدير الحديث فى اتجاهات مختلفة باسلوب شيق ساحر، وبعد ان تشعبت بهم الاحاديث قال قائل للعقاد ان الشاعر محمود الفضلى يجيد انشاد الشعر ، فالتفت اليه العقاد وطلب منه أن ينشده شعرا ، فانطلق ينشد قصيدة العقاد (ليلة الوداع) والتى مطلعها :
أبعدا نرجى أم نرجى تلاقيا كلا البعد والقرب يهيج ما بيا اذا انا احمدت اللقاء فاننى لأحمد حينا للفراق أياديا ألا من لنا فى كل يوم بفرقة تجدد ليلات الوداع كما هيا
استرسل محمود فى انشاده الشجئ لذلك الشعر العذب السلس والعقاد متكئ على مقعده ، وقد أرهف السمع. والقوم يتطلعون الى وجهه خلسة ويرقبون تعابير ذلك الوجه ، ومضى الصوت العذب فى انشاده:
أشم شذى الأنفاس منك وفى غد سيرمى بنا البين المشت المراميا وألثمه كيما أبرد غلتى وهيهات لا تلقى مع النار راويا فقبلت كفيه ، وقبلت ثغره وقبلت خديه وما زلت صاديا كأنا نذود البين بالقرب بيننا فنشتد من خوف الفراق تدانيا
ويصف حسن نجيلة ذلك المشهد قائلا : "أخذت أمعن النظر فى العقاد ومحمود ينشد هذا الشعر السلس العذب : ان يدى العقاد ترتجفان ... وقد ارتسمت على وجهه انفعالات من يعانى ثورة نفسية حادة " . وكان العقاد يصغى بكل حواسه ومحمود لا يزال ينشد:
ولما تقضى الليل الا أقله وحان التنائى جشت بالدمع باكيا فأقبل يرعانى ويبكى ، وربما بكى الطفل للباكى وان كان لاهيا وزحزحنى عنه بكف رقيقة واسبل اهداب الجفون السواجيا واسلمت كفى كفه فأعادها وقلبى ! فهلا أرجع القلب ثانيا
(نواصل ..........)
02-18-2005, 12:10 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22501
و يستمر حسن نجيلة فى وصفه لذلك المشهد الفريد :" وهنا انهار العقاد ، و اذا بوجهه يختلج والدموع تترقرق فى عينيه ثم تنساب تباعا. وصمتنا برهة ذاهلين ، ولكن محمودا يعود فيصل انشاد ما بقى من القصيدة التى اثارت كوامن ذكريات العقاد حتى دمعت عيناه... وانتهى محمود من انشاده ، وران على مجلسنا الصمت وابصارنا عالقة بالعقاد الذى ما زال متكئا على المقعد وقد غطى وجهه بيده اليسرى كمن استغرق فى حلم طويل".
وفى رواية اخرى لنفس الحادثة ، وصف محجوب عمر باشرى ذلك المنظر المؤثر بقوله :" وبكى العقاد ونزلت دموعه ، وصاح الشاعر حيدر موسى ... لقد بكى الجبار " ( محمود عمر باشرى - رواد الفكر السودانى، ص 356).
نعم ، فى ذلك الموقف الفريد ، وعلى الرغم من كبريائه وعزة نفسه ، لم يملك العقاد - وهو العصى الدمع - الا أن يترك لدموعه العنان على مرأى من الناس ، خلافا لما فعل أبو فراس الحمدانى عندما قال:
أراك عصى الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهى عليك ولا أمر بلى ، أنا مشتاق ، وعندى لوعة ولكن مثلى لا يذاع له سر اذا الليل اضوانى بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر
بكى العقاد وهو يجد تلك الحفاوة من أشقائه فى السودان ، ويلمس اكبارهم له ولوعتهم لفراقه ، وهو يتأهب للعودة للقاهرة.
( نواصل .......)
02-18-2005, 05:07 PM
Bashasha
Bashasha
تاريخ التسجيل: 10-08-2003
مجموع المشاركات: 25803
انت اسه مافى حاجة مزعلاك فى البورد ده كلو غير البوست ده ؟ المعنى والدلالة لهذا المقال أكبر من بكاء العقاد فى الخرطوم . ولشخص لا يفهم هذه المعانى الأفضل عدم التعليق!!!
و فعلا لله فى خلقه شئون !
02-18-2005, 06:20 PM
Bashasha
Bashasha
تاريخ التسجيل: 10-08-2003
مجموع المشاركات: 25803
البوست ده لايختلف من المتداول بشكل يومي ومنذ عام 56 في بلدنا في شئ.
وبما انك شخص يفهم وامثال بشاشا من ناس قريعتي راحت لايفهون، ياخي اخد فينا صدقة او ورينا دلالة ان يبكي مصري غازي ومحتل في سنة كم واربعين لي بلادنا!
لو الليلة العقاد ده "جوعر" الزمن داك احتجاجا علي احتلال بلدو لي بلدي، لقلنا المواطن عض الكلب، وبذلك ده خبر او موضوع يستحق التغطية في ظروفنا الحالية دي!
يذكرني موقف أخي بشاشا فى مقالك هذا عن العقاد بموقف صلاح الدين عتباني من زيارة العقاد للسودان حينما وصف زيارته للسودان بأنها هروبآ من زحف ثعلب الصحراء الألماني (روميل) على مصر و ليست محبة في السودان ..
و يا عزيزي بشاشا من حق الأجيال الجديدة أن تحتفي بزيارة أديب عملاق و وكم المعرفة الهائل (العقاد) كما إحتفى به آباؤنا.. و بالمناسبة يا بشاشا هل لديك أدنى علاقة بغازي صلاح الدين عتباني .. مجرد سؤال ..
ولقد قال صلاح الدين عتباني هذه الكلمات في حضرة العقاد نفسه في ذلك الحفل التكريمي الذي أقامه الخريجون في ناديهم بأمدرمان إحتفاءآ بالزائر الكبير و أستهجنت كلماته كل القوى المتعطشة لإزالة الإحتلال البريطانى للسودان آنذاك ولى ردآ مفصلا على موضوع أخي بلة موسي حول دور الخريجين و الإلتباس الذي حدث له في تقديم بوسته دون التعمق في قراءة التاريخ الحديث للسودان مما صنف بوسته من ضمن الأفكار و ليدة الهواجس في غياب التفاكر الجمعي فيما كتب ..
أما قولك بأن هذا الذي نشره مامون هو من ضمن الخطاب و الذي أرخت له منذ عام 1956 فليس هذا صحيحآ فالخطاب الذي تقرأه فهو و ليد عام 89 و ياليتنا كنا في الخطاب الليبرالي التحرري عام 56 و الذى توج مطالب شعبنا نحو الحرية و الإستقلال إلى حقائق .. فلا مقارنة البتة بين الذين أحتفوا بالعقاد و الذين إغتالوا أباذر الغفاري و محمود محمد طه..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة