|
قلب الهرم التعليمي مفتاح للتنمية و رافد للاقتصاد الوطني
|
قلب الهرم التعليمي مفتاح للتنمية و رافد للاقتصاد الوطني
المتابع لأوضاع السودان في السنوات العشرين الأخيرة يرى تخبطا واضحا في السياسات التعليمية للدولة و نحن لسنا هنا بصدد شأن سياسي بل اقتصادي في المقام الأول.. و يكفي بنظرة بسيطة و عامة في بلد تنعدم فيه الإحصائيات الموثقة كي نخرج بملاحظات حقيقية حول تقسيم التعليم في السودان.
و نرى الجامعات تنمو في السودان و تتزايد بسرعة رهيبة و تفرخ عشرات الآلاف من الخريجين الذين لا تستوعبهم سوق العمل المحدودة أصلا، و هذا يقودنا إلى الاستنتاج البسيط الآتي إن التعليم في السودان و إن كانت مفاتيحه بيد الدولة و سياساتها فهو لا يخدم اقتصاد هذه الدولة بأية حال من الأحوال، الواقع إن التعليم يبدد ثروات بشرية حقيقية و يضيع على الأسر المحدودة الدخل في الأساس رأس مال حقيقي و هو ادخارها المستقبلي الوحيد في بلاد أصبح المعاش الشهري فيها لا يكفي أسبوعا واحدا من الاحتياجات الأساسية.
توسعت الدولة في التعليم العالي و الجامعي لأسباب سياسية حسب وجهة نظري و لتحقيق مكتسبات إعلامية غير عابئة بالحمل الثقيل الذي تكدسه على ظهرها عبر السنوات من كوادر عاطلة و غير قادرة على الخلق و الإبداع، و كان الأجدى لها أن تقيم سياسة تعليمية راشدة بعد دراسة متأنية لظروف السودان و احتياجاته و حشد الوسائل الدعائية و المادية لتفعيل و ترغيب الناشئة في خيارات عملية و تركيز مبادئ احترام قيمة العمل و الإنتاج سواء اليدوي أو الذهني مما يجعل كل الخيارات المتاحة تتمتع بالتقدير و الاحترام من جميع فئات المجتمع.
و لكي لا أسهب في التعميمات أورد هنا مقارنة بدولة هولندا كي اعكس مدى الفوارق الكبيرة بين التخطيط العلمي المدروس لطاقات المجتمع و بين عشوائية السياسات التعليمية في وطننا المأزوم هولندا دولة بها حوالي 16 مليون مواطن و تحتل رقعة جغرافية تبلغ 39 ألف كيلومترا مربعا ( السودان يساوي مساحة هولندا 64 مرة)، هذه الدولة الغنية جدا (دخلها القومي حوالي 440 مليار يورو سنويا) يبلغ عدد الجامعيين من الذين يقودون هذا النماء15 % من قواها العاملة فقط، و تتوزع البقية بين معاهد تقنية عليا 30 % (كمعهد الكليات التكنولوجية سابقا) و معاهد مهنية متوسطة 40-55% و بذلك يتحقق التوازن الوظيفي في الهرم المهني، فلو افترضنا مثلا أننا بصدد بناء برج شاهق فنحن في الغالب لن نحتاج إلا إلى بضعة مهندسين معماريين و عدة مهندسين مدنيين لوضع الخطط و مباشرة التنفيذ، بينما نحن بحاجة إلى أعداد كبيرة من الفنيين المهرة لتركيب توصيلات التبريد المعقدة و شبكات الانترنت و الهاتف ناهيك عن وصلات المياه و الإطفاء و البلاط و المخارج الاضطرارية و المصاعد... الخ، و سنحتاج إلى فنيين مهرة جدا للقيام بأعمال الصيانة اللازمة كجيش كامل لضمان التشغيل و الإصلاحات.
هذا النموذج البسيط أعلاه يوضح أهمية التعليم المهني و أساسيته في دفع عجلة الاقتصاد و يمكن ضرب عشرات الأمثلة المشابهة في مختلف المجالات مثل المستشفيات و مصافي البترول و التي نتبين منها إن الحاجة للجامعيين و حملة الشهادات النظرية ليس هو فقط الضمان اللازم للتقدم و التطور، بل إن تعويض هؤلاء أسهل بكثير من بناء قاعدة عمالية و تقنية ماهرة، حيث أن الاقتصاد الحديث يحتاج إلى جزء بسيط منهم يمكن تعويضه بالتعاقدات الأجنبية إذا دعت الضرورة بينما من الصعب استيراد قوى عاملة ماهرة لتعويض نقصها في بلد كالسودان يشكو من نقص حاد فيها، لان ذلك يعني ببساطة استيراد شعب كامل.
في العام الماضي و بالضبط في نهاية مارس 2004 أتتني دعوة لحضور حفل تخريج ضخم نظمته جامعة السودان لخريجيها من حملة الماجستير و الدكتوراة و قد هالني العدد الهائل من الحضور و حملة القلنسوات المربعة المميزة للخريجين، و بداء المنادي ينادي اسما اسماً و بعده الدرجة العلمية المصاحبة، و قبعت في كرسي ذاك أرقب و أتأمل هل يتسع اقتصاد بلادنا المتخلف لكل هذه الشهادات، و ما هو مصير هؤلاء يا ترى و هم يحملون معارف حقيقية ستذبل سريعا إذا لم تجد البيئة الملائمة لاستثمارها خاصة مع تزايد و تسارع وتيرة البحث العلمي حيث يصبح الكتاب العلمي تاريخا منذ صدوره مقارنة بما تحمله الانترنت و الإصدارات المتخصصة من علوم متطورة كل يوم بل كل ساعة.... و جاءت الطامة الكبرى عندما استعرض مدير الجامعة بزهو غير مبرر من وجهة نظري أن جامعة السودان تعتمد على نفسها في توفير 75% من احتياجاتها المادية عبر فتح الباب على مصراعيه للدبلومات لتزيد طين البلاد بلة من حملة الشهادات النظرية. و الحق يقال أن الجامعات الحكومية ليست مؤسسات ربحية بل هي مصادر لرفد البلاد بالكوادر المناسبة من احتياجاتها وفق خطط مدروسة بعناية و بتنسيق كامل بينها و بين السلطات و المؤسسات التعليمية في البلاد، حتى لا تكون عملية التعليم منفلتة العنان، و لهذا السبب بالذات تمول هذه المؤسسات من أموال دافعي الضرائب السودانيين من مزارعين و رعاة و عمال في أقاصي فيافيها و قفارها.
و لقد تعمدت مرارا أن اسأل الكثيرين ممن يعملون في مختلف المهن عبر إدارة حوارات ودودة عن مؤهلاتهم العلمية و فوجئت بالكثير من سائقي الرقشات من حملة الشهادات الجامعية، كذلك سائقي الأمجاد و غيرها من المهن التي لا تتطلب تضييع أربعة سنوات في أروقة الجامعات لممارستها، هذا ناهيك عن المبالغ الخرافية التي بذلها أهل هؤلاء في تعليمهم و كان يمكن استثمارها في وسائل إنتاج أخرى.
في رأيي إن السبب الأساسي في هذه المشكلة العويصة هو إشكال في الذهنية السودانية التي لم تتربى على احترام قيمة العمل و خاصة اليدوي منه. هذه الذهنية هي نفسها التي يحملها أولي الأمر في بلادنا الحزينة التي تغفو على أحلام وردية سرعان ما تتحول إلى كوابيس، كما أسلفنا فان ما يحمله هؤلاء الساسة هو انعكاس للوعي الجمعي للمجتمع السوداني و بدلا من أن يقوموا بأدوارهم التنويرية لتطوير المجتمع و نظرته فإنهم يرسخون للسالب من تفكيره بمجاراته في نمط التفكير الغير بناء. على الحكومات السودانية ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية أن تلتفت لهذه المعضلة و أن توليها القدر اللازم من التفكير و التخطيط و لي مقترحات عامة اذكرها لتحريك الذهن السوداني في هذا المجال و هي بالطبع قابلة جدا للزيادة و النقاش و الحذف:- - فحص الجامعات الموجودة و دمجها في جامعات محدودة و فعالة. - الاستفادة من الفائض المادي من عملية الدمج أعلاه لتمويل المدارس المهنية المتوسطة و العليا. - الشروع في الدعاية الايجابية الطويلة المدى للتعليم المهني عبر جميع وسائل الأعلام لتبديد النظرة السلبية السائدة حول العمل اليدوي و المهني و التقني. - استحداث حوافز حقيقية للتشجيع على التعليم المهني بتوفير الداخليات و مجانية السكن و الغذاء فيها لتشجيع النشء على ولوجها. - التنسيق مع الدول التي سبقتنا في هذا المجال و استقطاب الدعم اللوجستي و العلمي لهذا التعليم. - دفع مبالغ بنود العطالة لجميع خريجي هذه المدارس لمدة 6 اشهر لتشجيعها لتبني هذه الخيارات المهنية. - الاستفادة من تجارب سودانية حقيقية في مجالات تقوم الدولة بدعم منتسبيها دعما كاملا مثل كليات الشرطة و الجيش مما يشجع الشباب على التنافس للفوز بمقاعد في هذه المؤسسات. - الاستفادة من التطورات الحالية في البلاد حيث افتتحت معاهد متخصصة لعمالة البترول الماهرة، و أيضا يمكن ممارسة ضغوط على شركات البترول و الاتصالات لتتبني مشاريع تعليم تقني مقابل تسهيلات ضرائبية أو ترخيصات معينة. - الاهتمام بأن تكون اللغة الإنجليزية جزءاً أصيلا من العملية التعليمية لان ذلك يوفر مبالغ ضخمة ناتجة عن عمليات الترجمة للمناهج كما يفتح الباب على مصراعيه للكوادر السودانية كي تزيد من معارفها في حال ابتعاثها للخارج لامتلاكها مفتاح حقيقي للعلم متمثلا في لغة العلم و الانترنت في عالم اليوم، دون التعصب الأعمى للغة معينة فمثل هذا التعنت أدى لفقدان دول راسخة كفرنسا و ألمانيا للكثير من الوقت.
هذه خواطر مبعثرة حول إشكالات حقيقية في السياسة التعليمية في البلاد أتمنى أن تلفت نظر المختصين كي يدلوا فيها بدلوهم و معرفتهم بطريقة مرتبة توجه لجهات الاختصاص.
امجد إبراهيم سلمان [email protected]
|
|
|
|
|
|