|
النُّوبة بين عهدين (1985-1989م) !!
|
النُّوبة بين عهدين (1985-1989م)
"1-3" د. عمر مصطفى شركيان [email protected] "إنَّ تشاؤمي إنَّما هو تشاؤم الفكر والعقل والإدراك، لا تشاؤم الإرادة. فأنا أرى أنَّه كلما زاد استخدام العقل للتَّشاؤم، ازداد تسلُّح الإرادة بشحنة تفاؤل ثوريَّة لا تنضب".
لوكينو فيسكونتي (1906-1976م)
مقدِّمة
لا نبغي من البحث إيَّاه دراسة أنثروبولوجيَّة عن النُّوبة، لا لأننا لم نر في مثل هذه الدِّراسة من دواع لذلك، بل لأنَّ المكتبات الأكاديميَّة ودور التحصيل والمعرفة مكتظَّة بمثل هذه الدراسات اكتظاظاً ليس لنا من سبيل للإضافة أو الزيادة، لأنَّ الإضافة في مثل هذه الحالات تمسي إضعافاً، والزيادة تصبح تزيُّداً. فقد برع في هذه الدِّراسات بحَّاث كثر مسترشدين بمناهج البحث المختلفة لمعرفة سلوك وطبائع الإنسان "النُّوباوي"، ورؤيته للأشياء، وتعاملها معها. فمنهم من استعان بمنهج الأنثروبولوجيا الوصفيَّة، وكثر منهم استخدم المنهج الانقسامي. وتعني الأنثروبولوجيا الوصفيَّة (Ethnography) الكتابة عن أسلوب الحياة لمجموعة من النَّاس؛ إذ أنَّ الهدف الأساس من هذا النَّمط من البَّحث هو وصف ثقافة وأسلوب حياة لمجموعة من الأقوام بطريقة صادقة حسبما يرونها بأنفسهم لا كما يراها غيرهم. ويُشار إلى هذا المنهج كذلك ب"الدِّراسة الميدانيَّة" (Field study) أو "العمل الميداني" (Field work). وقد سلك هذا النَّهج البحثي كل من إيفانس بريتشارد في دراسته القيِّمة عن قبيلة النوير في جنوب السُّودان، ورونالد ستيفنسون عن قبائل جبال النُّوبة في جنوب كردفان. ومن البَّحاث – كذلك - من تبنَّى النظريَّة الانقساميَّة – المعروفة في اللغة الفرنسيَّة ب(La Segmentarite) - منهجاً في التَّحليل، ليصل إلى مجموعة من النتائج المسبقة؛ وتدخل ضمن مفهوم المنهج المذكور المسالك التي طبَّقها بعض الأنثروبولوجيين الأوربيين على المجتمعات القبليَّة. عليه، عندما وضع دوركهايم أسس النظريَّة الانقساميَّة في بداية القرن العشرين في شكلها العام، كان يريد بذلك أن يبحث عن مفاتيح جديدة في مجال البحث العلمي بهدف رصد أنماط الحياة في المجتمع القبلي لمعرفة نوعيَّة العلاقات السَّائدة بين أفراده، ماذا يوحِّدهم؟ وماذا يفرِّقهم؟ وقد حدَّد هذه الأنماط في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي"، الذي نجد فيه مفهوماً عاماً للنَّسق الانقسامي، قائم على أساس العشائر، نظراً للتماثل الموجود بين أفراده المتعاقبين والمترابطين في حلقات تكوِّن وحدة القبيلة، وتعطيها طبيعة متشابكة عائليَّة وسياسيَّة في الوقت نفسه، وهذا ما يجعل أعضاءها يعتبرون أنفسهم أقرباء بينما هم في الواقع تجمعهم وحدة الدَّم". ولتأكيد هذا النَّسق، يوضِّح دوركهايم الشروط الانقساميَّة التي ترتكز على التشابه بقوله: "لكي يكون التَّنظيم الانقسامي ممكناً، لا بدّ من أن تتشابه الأقسام، ودون هذا التشابه لا يمكن أن تتَّحد وأن تتباين، ودون هذا التباين والخلاف سيضيع بعضها في بعض، وتنتهي إلى التلاشي".(1)
وهكذا تتكوَّن القبيلة من وحدات متعارضة، وتتحكَّم فيها أجزاء متشابهة، يمكن أن تتَّحد عند الضرورة. وهذه الأجزاء ذاتها تنشأ فيما يخص بينها خلافات تحافظ على ديمومتها، لأنَّ التضاد الذي يسيطر على حياتها المعيشيَّة في مستوى أدنى، يمكن أن يتحوَّل إلى تحالف ودفاع مشترك في مستوى أعلى. أما على مستوى الفرد، فإنَّ صورة المجتمع الانقسامي وأجزائه تتَّحد داخل القبيلة بسبب مجموعة من الدوائر متَّحدة في المركز، يوجد الفرد في داخلها، وكل دائرة من هذه الدَّوائر تختص بنظام معين من العلاقات الاجتماعيَّة بقمَّة الهرم، تسوية النزاعات اليموميَّة الناشئة بين أفرادها، بينما الدَّائرة الموالية تعتمد على التَّوازن داخل مجتمع القبيلة، والدَّوائر التَّالية تتولى الحفاظ على المراعي والإرث الاجتماعي، وما إلى ذلك، ويجب الإشارة إلى أنَّ أكبر دائرة تتَّصل في نسبها بقمَّة الهرم. هذه هي بعض ملامح النظريَّة الانقساميَّة التي استعارها بحَّاث كثر في دراسة المجتمعات القبيليَّة في أفريقيا – بما في تلك المجتمعات النُّوباويَّة، وإنَّ الدِّراسات في هذا المجال لشتَّى، ولا سبيل إلى إحصائها. إذ أنَّ أيَّة دراسة ميدانيَّة لمجتمعات النُّوبة عامة، وفي طرف المدائن والضَّواحي خاصة، ينبغي أن تأخذ هذه الدراسة نهجاً مقارناً لمعرفة التغيُّرات الكميَّة والنوعيَّة في أحوالهم الاجتماعيَّة واللغويَّة وغيرهما في السنوات الأخيرة. وفي هذه المقالات سنحاول تحليل ونقد الواقع السياسي يومذاك، وتدعيم الأحداث بتجربة أمبريقيَّة؛ ذلكم المنهج الذي يدركه العرب والعجم، ويلتزم به بحَّاث كثر، كما يسميه فقهاء الإسلام تطابق البرهان مع العيان. وقد استخدمنا – في بحثنا هذا – ما توفَّر لنا من وثائق سياسيَّة، وأقوال وأفعال الساسة والقادة الحزبيين، وما نُشِر في الصحف السيَّارة، أو أُعلِن في التلفاز والإذاعة، دون أن نغمط النَّاس أشياءهم أو نتزيَّد على الحق.
لكن، قد يسأل سائل لم كتبنا في الكتاب عن ذينك العهدين؟ فنجيب سائلنا أن هاتين الفترتين تمثِّلان نهاية دكتاتوريَّة عسكريَّة (نظام مايو) وبداية دكتاتوريَّة عسكريَّة أخرى (نظام "الإنقاذ")؛ كذلك قد شهد العهدان المذكورين في أول الأمر بداية عهد ديمقراطي ثالث في السُّودان وشهد في نهاية الأمر ما آلت إليه هذه الدِّيمقراطيَّة من أسف وأسى بالغين انتهت بانقضاض العسكر عليها، فلم يتركوا لها باقية. والأدهى والأمر أنَّ هاتين الفترتين تخلَّلتها بداية الحرب الأهليَّة في منطقة جبال النُّوبة – أي التمرد ضد سلطان الخرطوم، لا ضد المستعربين في منطقة جبال النُّوبة، كما شُبِّه لهم، وعليه تم استغلالهم أي استغلال لقتل النفس وهلك الحرث والضرع، واضمار البغض والشنآن وسط النَّاس. ونتيجة لظهور هذا التمرُّد – أو قل نتيجة للاستغلال السئ لهذا التمرُّد - دارت على النُّوبة الدَّوائر، ونابتهم نوائب بفعل الأغيار، وألمَّت بهم خطب أي خطب من صنع الأشرار، وسُوِّموا الخسف،(2) وحُمِّلوا على ما يكرهون. وسنرى في هذا السفر، الذي أحصينا فيه كل شئ كتاباً، كيف أنَّ قتل النَّفس التي حرَّم الله قتلها قد بدأ – وبدا وحشيَّة - في جبال النُّوبة، لا تلال العرب (Arab Highlands) كما حاولت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة تعريبها في عهد لاحق. ففي هذا الرق المسطور وددنا أنَّ نصوِّر الحياة والأحاسيس، ونستعرض التَّصادم بين الأشخاص والقيم، ونشرح الشُّعور الإنساني السُّوداني لدي أهل الحكم بكل تعقيداته وتداخله الشائك في هذه الفترة التأريخيَّة من حياة شعب النُّوبة عبر تقديمنا لعلاقات إنسانيَّة تتَّسم بالنِّضال والحب الطَّاغي للحريَّة والكثير من الكراهيَّة ضد الظُّلم. إذ أنَّ التجاوزات التي اُقترفت في حق المدنيين النُّوبة من نساء وأطفال وشيوخ قد بدأت بعد سقوط نظام المشير جعفر محمد نميري العام 1985م، واستمرَّت الحال حتَّى انتهت بالوضع المأسوي الذي علمناه علم اليقين بما توفَّرت لنا من أدلَّة وبراهين، وشهدناه بعين اليقين لما آلت إليه الأوضاع الإنسانيَّة يومئذٍ، وأدركه غيرنا حق اليقين لما لقوا من عنت الحياة وظلم الحكام الطغاة. وبعد سرد الوقائع الأليمة، سيعلم الذين في قلوبهم مثقال ذرة من الإنسانيَّة أنَّ تقليبنا للرَّماد الغابر (Raking over old ashes) ما هو إلاَّ محاولة منا لنُري العالمين أنَّ الحرب الإسلامويَّة التي شنَّتها وأدارتها حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة من بعد لم تكن إلاَّ مواصلة للمشوار الذي بدأه نظام المشير عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب، وسارت على مذهبه وهديه ونهجه حكومة السيِّد الصَّادق الصدِّيق عبد الرَّحمن المهدي (1986-1989م). ومع ذلك ظل البعض يجادولوننا بغير حق أن سعادة الحال في السُّودان عائدة وراجحة بزوال الجبهويين القوميين الإسلامويين. فماذا جرى في ذينك العهدين؟
الحكومة الانتقاليَّة (1985-1986م).. الغدر بأحلام الانتفاضة الشَّعبيَّة لا مُراء أنَّ التأريخ – أي التأريخ – دائماً ما يدوِّنه المنتصرون، كما تقول الفرنجة (History is written by victors)؛ فالمنتصر هو الذي يكتب التأريخ على هواه، كما يقول الرأي الصَّائب الشَّائع. فتأريخ السُّودان – القديم والحديث – كتبه الغزاة الأتراك-المصريون أو البريطانيون-المصريُّون، وذهب في سبيلهم "المتوركون والمتمصريُّون" الجدد. فحشروه بآرائهم الخاصة وانتماءاتهم العرقيَّة وغلوهم في الدِّين وألوانهم الطائفيَّة، ورووا من الأحداث من وجهة نظرهم، لا من وجهة نظر التأريخ الموضوعي، أو من وجهة نظر فلسفة للتأريخ تنطلق من شتَّى الاحتمالات في توازٍ بينهما، ولا حتَّى من وجهة نظر فلسفيَّة للتأريخ تربط الأحداث الكبرى بالأحداث الصغيرة.. ومن هنا كان من الضروري دائماً قراءة "تأريخ السُّودان" بتحفظ أي تحفظ، لأنَّه نصَّاً سرديَّاً كتبه مفكرون ومؤرِّخون – إذا جاز لنا تسميتهم بمفكِّرين ومؤرِّخين – غلبت أيديولوجيَّتهم الشَّخصيَّة على فحوى عملهم، وطغت عواطفهم على تفسيراتهم للوثائق المهمَّة والفنيَّة، التي وقعت بين أيديهم واستخدموها .. مما جعل الكتاب التأريخي هذا في بداية البحث ونهاية الأمر "وسيلة مثلى لترويج أفكارهم السياسيَّة لدي الرأي العام". فمثلاً كتبوا - وألحوا في الكتابة - أنَّ تأريخ السُّودان قد بدأ منذ دخول العرب إلى السُّودان، وما حدث قبل ذلك من الأحداث ما هو إلاَّ همجيَّة لا تستحق تدوينها وتلقينها لتلامذة المدارس، هكذا تهوَّست قلوبهم، وفتنتهم الكراهيَّة والعنصرية أن يقوموا بهذا الأمر العظيم. وفي هذا الإيحاء الإقصائي الذي يلغي تأريخ السُّودان قبل هجرة العرب إليه إشارة دالة إلى ممالك النُّوبة المسيحيَّة في شمال ووسط السُّودان، وسلطنات الفور والمساليت والزَّغاوة في غرب السُّودان، وممالك المسبَّعات وتقلي في وسط وجنوب كردفان – على التَّوالي – وممالك الشكل والزَّاندي في جنوب السُّودان، والسُّلطنة الزرقاء (السَّوداء) في وسط السُّودان وغيرها. فدعوتنا لإعادة كتابة "تأريخ السُّودان" نابع من المبدأ الذي يتحتَّم علينا تنقية تأريخ هذا البلد إذا نحن على تنقية أدمغة الأجيال عازمون، وفي معالجة قضايا الوحدة الوطنيَّة جادون.
والحال هذه، ظلَّ السُّودانيُّون يعيشون في غفلة عن الحقائق طوال الدُّهور وخلال السنوات العجاف التي هي حكم نظام نميري. ونعزو قدرة نميري على الصمود سنوات طويلة في الحكم إلى جهاز استخبارات قوي، وليس إلى رؤية سياسيَّة وحصافة وحنكة؛ فالمستبد – مهما قال القائلون بنظريَّة المستبد العادل المستنير - لا سياسة له غير القمع، والذكي من أولئك وهؤلاء يحتاط للأمر بالطَّريقة المعروفة القائمة على مراقبة تململ النَّاس قبل أن يثوروا ويتمرَّدوا، وهكذا نرى أنَّه رغم الإيحاء بوجود رؤية سياسيَّة في بداية النِّظام إلاَّ أنَّه ظل في نهاية الأمر يعتمد على الأجهزة الأمنيَّة كملاذ أخير وأول للحكم والتحكُّم برقاب النَّاس، وردع العشرات من التَّظاهرات وحركات التمرُّد والتململ. وبعد زوال نظام "مايو" أُسدِل الستار عن مرحلة تأريخيَّة في الصراع السياسي في السُّودان، وذهب معه بعض من آثاره كصور الدكتاتور المخلوع التي كانت تغطي أماكن عامة والعملة الورقيَّة المتداولة وقتئذٍ؛ وإنَّ نميري مثله كمثل سلسلة من الطغاة الذين رأوا أنَّ من المناسب إمتاع رعيتهم بملامحهم الكريمة تطل عليهم في كل لحظة وثانية. ولا يسعنا هنا أن نتحدَّث عن النكاسات التي أصابت التطوُّر في الأوضاع الاجتماعيَّة وذهنيات النَّاس بُعيد الانتفاضة الشَّعبيَّة، متوقفاً عند الكثير من ملامح الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والشخصيَّة عند كثر من العوام، وعند الآمال التي كانت الجموع عقدتها على تلكم الثّورة الجماهيريَّة لتنيلها الحريَّة وتحمل إليها الحياة الكريمة، وذلك في ارتباط وثيق مع المعتقدات الشَّعبيَّة الرَّاسخة، وبعيداً عن شعارات الأسلمة والقوانين "السبتمبريَّة"، التي كانت سمة من سمات النِّظام المباد. فقد وجد هذا الحديث تغطيات في أمكان أخرى من هذا البحث. إنَّ الفريق أول (المشير لاحقاً) عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب – رئيس المجلس العسكري الانتقالي، والدكتور الجزولي دفع الله – رئيس وزراء الحكومة الانتقاليَّة، كلاهما من المؤمنين بأهداف التيار الإسلامي (الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة) منذ عهد دراستهما (...) غير أنَّهما لم يظهرا في الأنشطة العامة لأسباب فنيَّة إسلاميَّة مهنيَّة حتَّى توفِّرت لهما الفرصة بعد الفجوة السياسيَّة التي حدثت بعد سقوط نظام الرئيس جعفر محمد نميري. ولولا وجود هذين الرَّجلين على رأس الدَّولة والسُّلطة التَّنفيذيَّة في الحكومة الانتقاليَّة لكان التيار الإسلامي قد دُفِن بالقوانين واللَّوائح التي كان التَّجمع الوطني لإنقاذ الوطن يعدها لعزله من الحياة العامة، لأنَّهم سدنة وكهنة النِّظام "المايوي" المباد.(3)
ومن بعد هذا الاستهلال ندلف إلى منطقة جبال النُّوبة. أليس غريباً أن يكون الجهل والمرض والفقر هو الذي يسوِّي بين النَّاس في جبال النُّوبة، ويلغي ما بينهم من تفاوت الدرجة واختلاف المنزلة. متى ينقضي هذا الليل؟ ومتى يسفر عن الصبح المشرق الجميل! هذا هو الذي يدفع الإنسان، أو مجموعة من النَّاس، للإقدام على عمل غير قانوني للحصول على مكاسب سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو تحسين أحوال من يقوم، أو يقومون، بتمثيلهم في رد الحقوق المقهورة؟ على هذه السببيَّة نقول: حينما تُعرض الحكومات أو الدول عن إعارة أدنى اهتمام للحركات أو الأحزاب التي تمارس العصيان المدني – أو الجهاد المدني، في لغة السيِّد الصَّادق المهدي، أي تتوسَّل سبلاً غير عنفيَّة، فإنَّها تصادق على ما تدَّعيه الحركات والمنظَّمات السياسيَّة بأنَّ الحكومات والدول لا تُصغي ولا تتحرَّك إلاَّ تحت تهديد السِّلاح، وبذلك تكون هذه الحكومات قد فتحت الأبواب على مصاريعها للعمل العنفي. فقد مرَّت على منطقة جبال النُّوبة الجغرافيَّة ثمة أحداث جسام عبر التأريخ، مسبِّبة لهم أضراراً بشريَّة غير قليلة. فنسبة للعوامل الاقتصاديَّة والسياسيَّة التي اجتاحت العالم في القرن الماضي دفع إنسان جبال النُّوبة ثمناً باهظاً في شكل الرقيق وتشتيت النسيج الاجتماعي، فكانت الحريَّة هي التي فرَّقت بين النَّاس، فجعلت منهم الغني والفقير والقادر والعاجز والقوي والضَّعيف والسيِّد والمسود. كان هذا الظلم في أفريقيا كما كان في أوربا؛ فقد دفع هذا الاضطهاد المفكر الفرنسي فرنسوا ماري آرويه المعروف بفولتير – وهو كان الذي اشتهر في أوربا بحربه على التعصُّب والإيمان بالغيب، وكان أول داعية مستقل لحقوق الإنسان - أن يقف ويطبطب على المضطَّهدين. فقد فتح عينيه وقلبه على تعاسة من حوله قرب جنيف، ودافع عن فلاحيَّة الذين قاسوا من الضرائب الجائرة، ودعا إلى إلغاء العبوديَّة، وحين قتلت الهزة الأرضيَّة في لشبونة – حاضرة البرتغال – العام 1755م ثلاثين ألف شخص، عمل على كتابة "كانديد" التي سخرت من الإيمان السَّاذج بالعناية الإلهيَّة.(4)
الظلم الاجتماعي الذي حاق – وما زال يحيق – بالنُّوبة لم يجد كثراً من الدراسة والمعالجة، وما يدريك لعلَّهم يُنصفون. فلتجدنَّ النُّوبة يملأون السجون لا لأنَّهم مجرمين بالطبع والطبيعة، لكن لأنَّ أغلبهم قد تمّ تلفيق تهم جنائيَّة ضدهم، ولم يكن لهم من وعي وإدراك ومال لاستئجار محام يقوم بالدِّفاع عنهم؛ ثمَّ لتجدنَّهم يقومون بجميع الأعمال الهامشيَّة من صحة ونظافة الشوارع العامة والخاصة، وكخدم في المنازل وغيرها، ولعلَّ في السيرة الذَّاتيَّة لمندي ناظر ملخصاً مرعباً ومريعاً لما تتعرَّض له الفتيات "النُّوباويات" العاملات في بيوت "الأسياد"، وعكوفهن على العمل في هذه البيوت أوَّل الصباح وأكثر النهار وشطراً من الليل.(5) إذ يقومون بهذه الأعمال الوضيعة دون سواهم لأنَّ الدّولة أخفقت في أشدَّ ما يكون الإخفاق أن توفِّر لهم من سبل التَّعليم حتَّى يتأهَّلوا لتقليد مناصب حكوميَّة رفيعة، وهم – فوق ذلك - تجد الأمراض تفتك بهم في أشدَّ ما يكون الفتك، وتصاعد عدد وفيات الأطفال، وذلك لفقدان المناعة الطبيعيَّة بسبب سوء التَّغذية، وعدم توفير الدواء بأسعار زهيدة، وعدم رفع أيات الفقر عن كواهلهم. وفي أطراف المدائن تجدنَّ "النُّوباويات" وهن يتعرَّضن لهدم منازلهن المسماة عشوائيَّة، والاعتقالات والجلد والتَّشهير والسجن لأنَّهن يقمن بصناعة الخمور البلديَّة (المريسة والعرقي). والأدهى والأمر أنَّ هذه الحملات لم تقتصر عليهن بعد قوانين نميري "السبتمبريّة" العام 1983م، بل جرى تطبيق هذه اللَّوائح عليهن قبل وبعد استقلال السُّودان العام 1956م، مع العلم أنَّ الحانات كانت تتحصَّل على تراخيص لتسويق خمورها "الأفرنجيَّة" لذة وهنيئاً للشَّاربين، فكانت هناك بارات لبيع الشري، البيرة، الويسكي، الكونياك، البراندي والفودكا وهلمجرَّا. أفليس من العدالة يومئذٍ أن تُمنح النِّسوة "النُّوباويات" تراخيصاً لبيع خمورهن أسوة بالأغيار بدلاً من المطاردة والمصادرة، حيث تنتهي هذه المعروضات المصادرة – في حالة الخمر (العرقي) مثلاً – في بيوت ضباط الشرطة مع إبقاء عينة منها للعرض في محكمة الموضوع! فلم تكن هناك ثمة معاذير تحول دون منحهم تراخيص بالرَّغم من ادَّعاء السلطات أنَّ دواعي صحة المجتمع هي التي بموجبها تقرِّر الحكومة الاعتقالات والمحاكمات، بل – وفي الحق - إنَّ التَّفريط في الأخذ بسياسة الاضطهاد، والتنكيل بالفئات المغلوبة على أمرها، وانتشار الفساد هي العوامل الرئيسة التي بمفعولها تتعامل الحكومات السُّودانيَّة مع هذه الطَّبقة الكادحة. وقد لا يسعنا المجال هنا أن نورد بصورة أكثر شموليَّة كل النَّوادر ذات الطبيعة العنصريَّة والأساطير الشَّعبيَّة والحكايات الاجتماعيَّة التي تذل النُّوبة وغيرهم من أهل الجنوب ومواطني دارفور.
إنَّ القاعدة الذهبيَّة في فقه القانون تقول بأنَّ مقابل كل حق واجب، ومقابل كل سلطة مسؤوليَّة؛ وإنَّ هذه المتقابلات لا بد لها أن تكون متساوية في حجمها وإلاَّ اختلَّ الميزان. وبافتقاد هذا التعادل كان لا بد من أن نجد أنفسنا في وضع يسعى فيه الأعلى – يوم أن يجد نفسه يمارس سلطة بلا حدود – يعنف النَّاس ويشتط عليهم. إن التدني الشنيع في تجاوزات حقوق الإنسان في أواخر أيَّام نظام نميري قد دفع مجلس نقابة المحامين في أواخر العام 1984م أن يصدر مذكَّرة "حول أوضاع حقوق الإنسان في السُّودان" وأُشير فيها – فيما أشارت المذكِّرة - إلى تشكيل المحكمة التي تحاكم المواطن "فيليب عبَّاس غبوش" و207 آخرين من المواطنين، وطالبت المذكِّرة بإلغاء "أمر التشكيل واللائحة الخاصة بالإجراءات القانونيَّة بسبب الانتهاكات الدَّستوريَّة العديدة التي انطوت عليها، وتقديم المتَّهمين للمحاكمة أمام المحاكم العاديَّة"، وأضافت المذكِّرة "أنَّ لائحة إجراءات محاكمة فيليب عباس وآخرين بقصرها لحق المتَّهمين في الدِّفاع عن أنفسهم على أصدقاء بدلاً من الاستعانة بمحامين... "تشكِّل إهداراً تاماً لحق بديهي لا يجب إهداره في أيَّة محاكمة عادلة وهو أن يدافع عن المتَّهم محام"، وألاَّ يُترَك مهدداً في مصالحه ونفسه وأمواله".(6) فتنص الأعراف القانونيَّة – بما في ذلك قوانين السُّودان - على أنَّ المتَّهم برئ حتى تثبت إدانته، عليه كان ينبغي أن تتضمَّن الاتِّهام في القضية المذكورة أعلاه بالتَّحديد الجريمة – أو الجرائم – التي يمكن الادِّعاء بموجبها، على أن تتولَّى محاكم مستقلَّة تابعة للقضاء المستقل وليس لأيَّة جهة تنفيذيَّة أو حزبيَّة أو طائفيَّة؛ ومن ثمَّ التَّحديد القانوني الدَّقيق للمسؤوليَّة الفرديَّة في هذه الجرائم، لا تجريم شعب بأكمله ونعته بما لا يتَّفق مع أحكام العدالة والقضاء، مع العلم بأنَّ الطُّموح إلى السُّلطة حق مشروع لكل مواطن.
فمثلما يقوم به غيرهم من السُّودانيين، ربما حاول النُّوبة – مع سواهم – الاستحواذ على السُّلطة عن طريق الانقلاب العسكري، حتَّى باتت السُّلطات المركزيَّة تطلق عليهم اتِّهاماً وراء اتِّهام كما حدث في أيار (مايو) 1969م، أيلول (سبتمبر) 1975م، العام 1984م، أيلول (سبتمبر) 1985م وهلمجرَّاً. والحال هذه فإن القادة الشماليين لا ينبغي لهم أن يطلبوا من غيرهم التزيُّن بأخلاقيات لا يمارسونها هم بأنفسهم، فقد حكموا السُّودان دهوراً بواسطة انقلابات عسكريَّة استطاعت أن تقبض على مقاليد الحكم وأخرى فشلت فشلاً ذريعاً. هذه إحدى سمات النِّزعة البشريَّة التي قد تكون متناقضة مع نفسها في أسوأ ما يكون التَّناقض ولا سيَّما حينما يتعلَّق الأمر بالمثاليات والمنفعة الشخصيَّة، أو طلب السطان والجاه والسؤدد، أو الكنز عن المال والفضة؛ إذ ينبغي تحرير النَّفس من هذه الخصلة من أجل المصلحة العامة. هكذا ظلَّ أهل الحل والعقد يتَّهمون بعض السُّودانيين العسكريين بالتآمر على قلب أنظمة الحكم من وقتٍ لآخر إما بحجة فصلهم من القوات المسلَّحة أو إعطاء صورة غير صحيحة عن المحاولات المزعومة. ويُوصَف بعض هؤلاء الإنقلابيين بالعنصريَّة، وهم النُّوبة والجنوبيون وأهل دارفور - أي القبائل الزنجيَّة في السُّودان، التي تحب الجندية وتوجد بأعداد كبيرة في القوات المسلَّحة السُّودانيَّة والقوات النِّظامية الأخرى في الرُّتب الدنيا. وفي هذه الصَّفحات نورد وصفاً لأحوال بعض الذين اتهموا بالعنصريَّة وهم يعملون في القوات المسلَّحة في حركة عرفت وقتذاك ب"المؤامرة العنصريَّة". إذن، ماهي المؤامرة العنصريَّة حسب ما ورد في حيثيات الاتهام الرَّسمي في يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1985م؟ أعلن رئيس الوزراء الانتقالي يومئذٍ - الدكتور الجزولي دفع الله - بأن هناك مؤامرة عنصريَّة انطلقت من الجيش لقلب نظام الحكم، وقتل أعضاء الحكومة وغيرهم، وسُمِّيت المحاولة ب"المؤامرة العنصريَّة" لأنَّ أغلب الذين اتهموا هم من قبائل النُّوبة وأهل الجنوب. وعلى الفور تم اعتقال 250 ضابط وصف ضابط وجندي في صباح يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1985م من وحدات عسكريَّة مختلفة بالعاصمة القوميَّة؛ واتهموا بالمحاولة لقلب نظام الحكم، وأذاع رئيس الوزراء بياناً استنفر فيه المجموعات العربيَّة لتحمِّلها مسؤولية الدِّفاع عن الوطن والذود عن أعراضهم، ويمكن الرُّجوع إلى البيان من إرشيف جمهوريَّة السُّودان. فقد شملت الاعتقالات كل الذين تواجدوا في معسكرات القوات المسلَّحة في ذلك اليوم دون تمييز، وبالأخص العناصر الزنجيَّة - النُّوبة والجنوبيين، وصُدِرت أوامر للذين لم يُعتقلوا بعدم حمل السِّلاح. وبلغ عدد الذين حُكِم عليهم بالسجن 61 جندياً برتب مختلفة؛ حيث تراوحت الآحكام بين 30 سنة إلى 3 سنوت. استنكر عدد من قادة الوحدات مسلك اعتقال هؤلاء النفر وحضر عدد منهم وأطلقوا سراح عدداً من الجنود، بحجة أن هذا عبث لا يمكن السكوت عليه، ومنهم على سبيل المثال الفريق (معاش) حمادة عبدالعظيم حمادة الذي كان قائداً لمدرسة المشاة. أما القضاء العسكري فلم يجد نصاً في قانون القوات المسلَّحة يتكلَّم عن العنصريَّة، وأخيراً تمت محاكمتهم بمادة التَّمرُّد. حوكم اثنين من المتَّهمين بالإعدام، وظلَّوا في السَّجن لمدة طويلة في داخل زنزانة 2×2 متر مربع ومقعدين حتَّى فقد أحدهم بصره. والأثنين هما: قرنق أكوت من سلاح المخازن والمهمات الذي فقد بصره، وزكريا دينج من نفس الوحدة العسكريَّة. عندما فقد قرنق بصره أُطِلق سراحه من السَّجن، وظلَّ يعيش ضريراً في الخرطوم.
وقد استخدمت الاستحبارات العسكريَّة أحد ضباطها وهو برتبة عقيد والزَّجُّ به في السجن مع المتَّهمين الآخرين باعتباره أحد "المتآمرين العنصريين"، هكذا زعموا. وكان العقيد "الغوَّاصة" (الجاسوس) يخرج في كل عشيَّة وضحاها بحجة أنَّه يُساق إلى التَّحقيق معه؛ وفي الحق، كان يُأخذ إلى بيته لتغيير ملابسه وتناول ما طاب له من الطعام وما لذَّ له من الشراب قبل عودته إلى الحبس ليقضي فيه ليله "قرَّة عين له". فلمَّا قضى أجله ونفد غرضه جِئ بأخيه وهو برتبة صول وداوم على تكرار المسرحيَّة الملهاة، وتجسَّس على غيره في المعتقل كذلك. إذ أنَّه من المعلوم في قانون القوات المسلَّحة السُّودانيَّة أنَّ أي ضابط أو جندي يُتَّهم - حتى ولو لم يُدان – في التورُّط في أيَّة محاولة انقلابيَّة يُفصل من الخدمة العسكريَّة، إلاَّ أنَّ الأخوان خرجا ببراءة وبراعة وعادا إلى وحدتيهما، بل تدرَّج العقيد حتى خدم حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في وقت لاحق سفيراً في إحدى الدُّول الأوربيَّة. أيَّاً كان شأن "الغواصَّتين"، فبعد مرور سنين عدداً تم إطلاق سراح أغلب المتَّهمين، وذلك بعد الحملات الدَّوليَّة المسعورة للإفراج عنهم.
إنَّ السلوك العنصري البغيض الذي ران على قلوب العنصريين أنفسهم هو الذي يحثَّهم على التَّصايح جهاراً ضد الأغيار، وهذا ما أشار إليه الدكتور عشاري محمود حين كتب مقالات جياد في صحيفة "خرطوميَّة" يرد فيها على كيد ودعاوي المتصايحين ب"المؤامرة العنصريَّة" في ذلكم الزَّمان الغابر. وقد أشار المهندس محمد رحمة أبَّكر إلى هذه العنصرية بشئ من التبيان كثير حين كتب قائلاً: "إنَّ فيروس العنصريَّة أشد بطشاً في المجتمع من أي مرض آخر يصيب المجتمع؛ ففيروس العنصريَّة إما يقتل المجتمع بأكمله، أو أن يصلحه بعد الشفاء منه، كما أصلح بعض المجتمعات في إنسانيته. فالسُّودان مقتول بفيروس العنصريَّة. وبكل وضوح فإنَّ الإنسان العربي في السُّودان لا يعترف بالأفريقي كإنسان؛ هذا هو جوهر الخلاف. فكل الحروب الدائرة في السُّودان شرارة وقودها العنصريَّة وعدم الاعتراف بالآخر. فالعناصر العربيَّة توطَّدت في السُّلطة منذ عهد بعيد، وتعمل حتى الآن على طمس الهُويَّات الأفريقيَّة، وإغلاق كل الأبواب أمام القوميات الأفريقيَّة كي يثبتوا هويَّتهم ووجودهم. وإن تركوا واحداً من الأفارقة في السُّلطة ليس إلاَّ لمصلحتهم الخاصة، أو كطعم كي به يصطادون الآخرين في ادعاء الإثبات على خطابهم السياسي للمجتمع الدَّولي."(7) كان هذا الإتجاه العنصري لدي العرب القح عامة والعرب السُّودانيين خاصة هو الذي دفع رئيس "مركز بن خلدون للدِّراسات والإبحاث بالقاهرة" – سعد الدِّين إبراهيم – أن يسأل نفسه والأغيار معه هذا السؤال التَّالي: هل العرب عنصريُّون؟ ثم مضى سعدنا يجادلنا قائلاً: "يقلقني منذ سنوات السؤال الخاص بالنَّزعة العنصريَّة لدي العرب. واعترف بأنَّني كثيراً ما كتمت هذا السؤال في أعماق اللاوعي في داخلي! بل أكثر من ذلك إمعاناً في إنكار هذه الخواطر الدَّفينة، إنَّني كنت أتصدَّى لمن يتَّهمون العرب بالعنصريَّة، وأفنِّد حججهم بالنصوص القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة الشَّريفة، والنَّماذج الإنسانيَّة التي أسهمت في بناء الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، من مختلف الملل والنِّحل والأعراق. ولكن هواجسي حول عنصريَّة العرب، كانت تتجدَّد بشدة بين الحين والآخر". وذهب سعد يسعدنا بتعديد بعض الأمثلة في سبيل تثبيت صفة العنصريَّة لدي العرب، حيث "سكت (حكَّامهم) عن بعضهم البَّعض حينما ارتكبوا جرائم إنسانيَّة في حقوق شعوبهم أو الشعوب المجاورة. بل وسكت أغلبيَّة المثقَّفين العرب عن نفس الجرائم، بذريعة أنَّ "الأمة في خطر"، أو أنَّه "لا يعلو صوت فوق صوت المعركة". لقد كان من تجلِّيات هذه العنصريَّة السكوت عن استخدام الغازات السَّامة ضد الإيرانيين (المجوس)، ثم ضد الأكراد العراقيين في حلبجة (غير عرب)، ثم الفتك بالسُّودانيين في الجنوب (زنوج غير مسلمين)، ثم بأهل دارفور المسلمين في غرب السُّودان (مسلمين ولكنهم أفارقة زنوج). والغريب هو أنَّه حينما تحاول أطراف دوليَّة أن تنقذ الموقف لأسباب إنسانيَّة، مخلصة أو مغرضة، فإنَّ معظمنا كعرب، حكاماً ومحكومين، نتصايح بأنَّ هذا هو "تدخُّل أجنبي في قضايانا"، وهو "انتهاك للسيادة الوطنيَّة". لقد حان الأوان لمواجهة الذات العربيَّة الجماعيَّة العنصريَّة، توطئة للتخلُّص من تلك العنصريَّة البغيضة".(
ثمَّ، بعد ذلك، نقفز إلى المطالب الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة للنُّوبة. إذ "ليس من العنصريَّة في شئ إن قالت التَّجمُّعات لمنطقة جبال النُّوبة أنَّها ليست عربيَّة-إسلاميَّة، وإنَّ لها مشاكل وخصائص تستوجب الاعتراف بها، وترجمة ذلك الاعتراف في تركيب الإدارة المحليَّة ووسائل تطوير اللُّغات والموروث الحضاري، وبرنامج محدَّدة وملموسة تصاغ بمشاركتها للتنمية الاقتصاديَّة في اطار التَّنمية المركزيَّة للسُّودان".(9) فنجد – مثلاً – أنَّ اللغات "المحليَّة تختزن تراثاً عظيماً تجب المحافظة عليه حتَّى نحتفي بمقولة "في التَّنوع والتعدُّد توحُّد وثراء"، وبدون هذا الكم المتنوع وإتاحة الفرص المتوازنة لإظهارها والتَّعبير عنها في المنابر الجماهيريَّة المختلفة، لا يمكن القول إنَّنا لصادقون في سعينا للوحدة وتقوية النَّسيج الاجتماعي للمنطقة"،(10) ولا ضرار إذا أخذت هذه اللهجات أو اللغات المحليَّة المختلفة من اللغة العربيَّة، أو أخذت العربيَّة منها وفق "قانون التكيُّف الحضاري واللغوي"، إذ من المستحيل "تحنيط اللُّغة" وتأمينها من المؤثِّرات الخارجيَّة (It is impossible to embalm the language and secure it from corruption and decay). فلم نجد علاقة عضويَّة – أو غير عضويَّة – بين العنصريَّة وطلب النَّاس بالتَّوزيع العادل للثَّروة والخدمات، المشاركة الجهويَّة المتوازنة في السُّلطة، ضم أهل السُّودان في عهد مواطنة غير مكتوب أو مكتوب، وعلاج قضايا الشَّرائح الاجتماعيَّة المستضعفة من النساء والولدان والشيوخ والمعوقين. ولا يقدح في مواطنية أهل جنوب كردفان إن عبَّروا عن سخطهم على حالٍ لم يتبدَّل منذ الاستقلال وحتَّى يومنا هذا، وإنَّ تلك الحال لتزداد سوءاً كلَّما تهدَّمت مقومات الاقتصاد الطَّبيعي للقطاع التَّقليدي، وحماية الحكومة المركزيَّة للفئات المنتفعة من المأساة مثل كبار البيروقراطيين وشركائهم في السوق السوداء. إذن، ماهي العنصريَّة التي لازمت فئة كريمة من أهل السُّودان منذ الاستقلال؟ العنصريَّة هذه، كما قال الدِّكتور منصور خالد، "صفة يلصقها أهل الشِّمال بكل صاحب حق ينهض للمطالبة بحقِّه من عناصر السُّودان غير العربيَّة، وكلها إمَّا حقوق سياسيَّة أو اقتصاديَّة لا شأن لها بالأصل العرقي أو المنبت".(11) العنصريُّون الحقيقيُّون هم العرب الذين استرقوا غيرهم في السُّودان خاصة وأفريقيا عامة لأنَّهم أفارقة غير عرب، ولم يمتلك أحفادهم من الشجاعة والكرامة للاعتذار لأجيال الحاضر والمستقبل مما تعرَّض له أجدادهم، ومن البؤس والشقاء والتَّهميش الذي هم فيه يقبعون وله يتعرَّضون. العنصريون الحقيقيون هم الذين يطلقون سراح مدبِّري انقلاب "مايو" للعام 1969م، بعدما تربَّعوا على العرش ستة عشر عاماً،(12) ويصرُّون على بقاء مدبِّري ما يسمَّى ب"المؤامرة العنصريَّة" المزعومة - في الحكومة الانتقاليَّة - في غياهب السُّجون أعواماً مضاعفة حتى وإن لم تثبت تورُّطهم في تلك المكيدة أو لو كانوا جنود وضباط صف، مع العلم أنَّ الجنود وضباط الصف ما هم إلاَّ بيادق ومجرَّد آلات عسكريَّة صارمة لتنفيذ الأوامر دون أن يؤامروهم (يشاورهم). العنصريون الحقيقيون هم الذين يبعدون أحد كوادرهم القياديين من الاجتماع لأنَّه من النُّوبة، وإنَّهم ليريدون - في ذلك الاجتماع - مناقشة الأوضاع القائمة في منطقة جبال النُّوبة، والتداول حول خطة التعامل مع أهالي تلك المنطقة من النُّوبة.(13) وكم قرأنا أنَّ الإسلام، الذي هم له داعون، يكرم النَّاس حسب تقواهم، ولا يفرِّق بين العرب والعجم إلاَّ بمقدار التَّقوى، والتَّقوى المعنيَّة هي التي قال عنها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّ التقوى مكانها القلب؛ ويقول عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله: "يأيها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير" (الحجرات 13/49)، ويقول الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام: "لا فرق بين عربي وعجمي إلاَّ بالتَّقوى"، وصاحب هذا التَّفريق هو الله وليس البشر.
إضافة إلى الحركة الجماهيريَّة العريضة والنقابات المهنيَّة واتحادات الطلاب والزراع والصناع والنساء، فإنَّ الجَّيش في السُّودان يمثل أحد عناصر التغيير السياسي. فقد لعبت القوات المسلَّحة السُّودانيَّة دوراً رائساً في التغيير الحكومي في تشرين الأول (أكتوبر) 1964م، وفي الانتفاضة الشَّعبيَّة في آذار/نيسان (مارس/أبريل) 1985م. ففي الأول عمل التَّنظيم السري للضباط الأحرار على إقناع الفريق إبراهيم عبود وزمرته الحاكمة على التَّنحي عن السُّلطة والانحياز إلى الجماهير التي كانت تطالب بالتغيير "حين هتف الشَّعب من أعماقه التَّغيير واجب وطني"، وفي الثَّانية أجبر الضباط الصغار الفريق أول – المشير لاحقاً – عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب أن يحنث وينقلب على نظام "مايو". فلا شك أنَّ القادة السياسيين من أهل الشمال يدركون ذلك تماماً، وإنَّ وجود ضباط من النُّوبة أو الجنوب في قمة المؤسسة العسكريَّة قد يؤهِّلهم - هذا الوجود – أن يكونوا قادة التغيير السياسي في المستقبل، وإنَّ لأنجع وأنجح السُّبل للتَّخلُّص منهم هو اختلاق "مؤامرة عنصريَّة" لطردهم من الخدمة العسكريَّة وتجريدهم من رتبهم الرَّفيعة وحرمانهم من معاشاتهم في هذه الحياة الدنيا، وهذا ما كان وسوف يكون إلى أن يغيِّر السُّودانيُّون ما بأنفسهم قبل أن يقضي الله بينهم أمراً كان مفعولاً.
لا ريب أنَّ السُّودانين في حاجة ماسة لتطوير الأدوات المفهوميَّة، والسَّعي الحثيث إلى الوعي الأدق لتفسير الظواهر الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي هم صانعيها ومحركيها بأيديهم، حتَّى يستطيعون فهم الأشياء المتشابكة حولهم ومن خلفهم وتداخلها فيما بينهم، وينبغي أن يبدأ هذا السَّعي إلى البَّحث عن وسائل معرفيَّة لتحرُّر العقل من عدم الفهم إلى الفهم السَّليم، والانتقال به إلى حريَّة جديدة لاستيعاب النظام العالمي الجديد الذي يدعو إلى التكافل في الحقوق والواجبات، والتعايش السلمى في جميع مناحي الحياة المعقَّدة. إذ لم يكن هناك سر في هذا الكون الذي أضحى قرية بفضل انتشار وسائل النَّقل والاتصالات وازدهار معين التكنولوجيا والعلم. فالسر لفظ وثني احتفظنا به كما احتفظنا بغيره، وهو – على حد قول أحد الفلاسفة – إمَّا خرافة يجب أن نقضي عليها، وإمَّا صعوبة عارضة ينبغي أن نذلِّلها. فما من شئ في العالم يمكن أن يكون فوق العقل، وما من شئ يمكن أن يتعارض مع العقل.
ومن جانب آخر، لم تهدأ الحكومة الانتقاليَّة من حياكة المؤامرات في العاصمة المدعاة قوميَّة ومنطقة جبال النُّوبة لتفتيت شمل النُّوبة. فقد رصدت الحكومة الانتقاليَّة مبلغ 3 ملايين جنيه سوداني تحت ادِّعاء إنشاء جمعية لأبناء النيمانج تحت إشراف أحد الذين عملوا بالاستخبارات العسكريَّة كمحاولة لضرب قبائل النُّوبة بعضهم بعضاً. فما الذي جعل أهل الانتقال يتذكَّروننا آخر الأمر؟ وما الذي جعل قلوبهم ترقُّ وتحنو وتشفق علينا في هذا الوقت بالذَّات؟ لم يكن بمقدور أحد تصديق هذا الادَّعاء القائل إنَّ الغرض الأساس من الجمعيَّة هو تنمية منطقة النيمانج. كما حدث لاحقاً، فإنَّ المناداة بتكوين جمعيَّة أبناء النيمانج شعار ظاهره رحمة وباطنه عذاب. إن كانت السُّلطة صادقة في مسعاها، بتكوين جمعيَّة أبناء النيمانج، فلماذا منعت وعطَّلت أعمال رابطة طلاب ريفي هيبان بالجامعات والمعاهد العليا. بحظر رابطة أبناء هيبان كنا نتوقَّع ان تقوم السُّلطات بتطبيق القرار نفسه، على الرَّغم من قناعتنا بعدم صحته، على الروابط الإقليميَّة الأخرى الفعولة بالجامعات والمعاهد العليا: كرابطة أبناء دنقلا، ورابطة أبناء المحس وجمعيَّة أبناء النيمانج - قيد النُّشوء - وغيرها، حتى نشتم قليلاً من عبير العدالة الدِّكتاتوريَّة. تلك الجمعيَّة - جمعية أبناء النيمانج - كانت تعوزها التأطير التَّنظيمي فضلاً عن القصد غير الشَّريف. وفي الحق، لم تكن نيَّة الذين آمنوا من أهل السُّلطة الانتقاليَّة أن يقذفوا بمثل هذا المبلغ الضَّخم في تلك المنطقة لوجه الله أو ابتغاء مرضات النُّوبة. بيد أنَّ المعني في هذه الفتنة الكبرى هو تصويب السِّهام على قبيلة الأب فيليب عبَّاس غبُّوش، أمين بشير فلين وقسمة مكي - عضو المكتب السِّياسي للحزب القومي السُّوداني وأمينة المرأة. إذن، من هم أولئك وهؤلاء المسؤولين بالحكومة الانتقاليَّة الذين احترفوا صناعة المؤامرات والمؤامرات المضادة ضد النُّوبة؟ ذلك هو الفريق أول عبدالرَّحمن محمد الحسن سوار الدَّهب الذي أصبح لاحقاً - فيما أصبح - عضو المكتب التَّأسيسي لرابطة العالم الاسلامي ورئيس أمناء الدَّعوة الإسلاميَّة.(14) ثمَّ الدِّكتور الجزولي دفع الله الذي قيل إنَّه ذهب للتو، بعد أن أخرجته جماهير الانتفاضة في نيسان (أبريل) 1985م من سجن كوبر، للاجتماع "باخوانهم المسلمين" في منزل يس عمر الإمام قبل حضوره اجتماع النَّقابات وتتويجه أخيراً رئيس وزراء الانتفاضة.(15)
إنَّ الحُكام والولاة والطُغاة الذين قرأنا عنهم في التأريخ لمولعين بضرب الرعيَّة بعضهم بعضاً، وذلك بغرس مكائد غدَّارة وسط المجموعات الأثنيَّة المختلفة والطوائف الدَّينيَّة المتباينة والأحزاب السياسيَّة المتنازعة، حتَّى يستطيع أولئك وهؤلاء الطُغاة في نهاية الأمر البقاء في السُّلطة سنيناً عدداً. إذ يفعل الأباطرة والطُغاة هذا بلا هم ولا غم، بحيث إن جنحت طائفة للثَّورة بلَّغت عنها الطائفة الأخري، ووقفت مع النظام القائم ضد طموحات الفئة الثائرة؛ وفي خاتمة المطاف تكون هذه الفئات قد ذاقت عسف النظام بصورة أو أخرى وبين الفينة وثانية. أمَّا عن الوضع الحربي والموقف الأمني في جنوب كردفان، فقد أدرك النُّوبة باكراً وتناهى إليهم سراً بأنَّ حكومات الخرطوم – كما فعلت السُّلطات الاستعماريَّة من قبل – سوف لم ولن تقف إلى جانب مصالحهم، ولم ولن تقدم على الحياد العدلي، ولا سيَّما إنَّهم يحاربون الدّولة. فقد رأوا في الآفاق أنَّ هناك ثمة فوارق عرقيَّة ودينيَّة وسياسيَّة قد تستغلها وتستخدمها الدّولة ضدهم حتّى ولو لم يتمرَّدوا أجمعون أكتعون. وعندما نشبت الحرب الأهليَّة – التي مهما كان شأنها مريعة ومكروهة - في جنوب السُّودان لم يشأ أهل النُّوبة أن يكونوا على حياد هذه المرة، مع العلم أنَّ الحياد أدانه كتَّاب كثر منهم الكاتب المسرحي الألماني برتولت بريخت (1898-1956م) الذي استهجن الحياد في الحرب الأهليَّة الأسبانيَّة في مسرحيَّته الذائعة الصيت "بنادق الأم كرار"، حيث ظلَّ بريخت متسائلاً حائراً: "أيها الحياد أين مجدك؟" ولم نكن نستطيع أن نقول في النُّوبة والأغيار كما قال جوزيف كونراد في الأفارقة في روايته "في قلب الظلام". فقد سخر كونراد منهم حين كتب: "أنتم وأفكاركم عن الصِّدق والشجاعة والحقيقة، إنَّكم خارج المكان في هذا العصر الذي تطغي عليه الاهتمامات الماديَّة. ماذا يجلب لنا كل هذا؟ ما هي الفائدة؟ في أنبل القضايا يتدبَّر الرِّجال أمرهم في إدخال جزء من صغارتهم فيه: وأحياناً، حين أفكر فيكم بهدوء، تبدون لي مأسويين بشجاعتكم وآمالكم ومعتقداتكم، كل قضيَّة ملوَّثة... انتم الذين تدعون رغبتكم في المستحيل تستغلَّكم، وأحسدكم. ما تريدون إصلاحه ليس المؤسَّسات، بل الطبيعة الإنسانيَّة". إنَّ مثل هذا الحديث ليغرس في الإنسان اليأس والقنوط، وإنَّه ليميت الإرادة ولا سيَّما أنَّ الإرادة لا تميل إلى الرَّذيلة إلاَّ متى وهنت، ثم وإنَّه ليقتل دوافع التَّثوير ودواعي النِّضال في الإنسان. هذا ما كان من أمر النُّوبة، الذين لم يربئوا بأنفسهم عن المشاركة في هذه الحرب التي كُتِبت عليهم وهي كريهة لهم، أو هم لها كارهون، حتَّى تسامع بهم العالم، وجاءوا لإنقاذهم في آخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين كما سنرى لاحقاً.
مهما يكن من شأن، ففي هذه الصفحات لا نبغي حواراً واسعاً وجدالاً لاغطاً حول أسباب انضمام أهالي النُّوبة إلى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان؛ فلم يكن تجاوزنا عن ذلك الحديث لأنَّنا لا نرى إلى ذلك سبيلاً، بل لأنَّنا حاورنا الأغيار وجادلناهم في هذه الشأن في مكان آخر من هذا البَّحث بما وسعنا الحوار والجدال. بالرَّغم من ذلك يمكننا أن نسلِّط الأضواء على المشكل السُّوداني ووضع النُّوبة في هذه الخارطة السياسيَّة. فقد اعتبر الحكام الخرطوميُّون منطقة جبال النُّوبة – وغيرها من أقاليم السُّودان النَّائية – تجمعات ريفيَّة منعزلة؛ بمعنى أنَّها مكتفية بذاتها التَّقليدي، ومعزولة سياسيَّاً وجغرافيَّاً. وإن كانت هناك ثمة أشياء فهي أنَّها طالبت السُّلطات المركزيَّة بتمويل هذه الكفاية الذَّاتيَّة التَّقليديَّة بنصيب من الدَّولة، وفك الانعزال السياسي بالمشاركة في السُّلطة، والتَّهميش الجغرافي بالتَّنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وتشييد البنى التحتيَّة في سبيل التَّعمير والعمران. فالسُّودان دولة محاصرة بالمشاكل حيث تجدها تصارع لكي تعيش وتعيش لكي تصارع؛ وهذا البلد ما فتأ يعيش في أزمة وطنيَّة مع نفسه كنتيجة لتناقضات عدة وسياسات حكام قُساة القلوب جُفاة الطباع غلاظ الأكباد حتَّى وصل إلى ما وصل إليه من شرور أي شرور وخطوب أي خطوب؛ إذ يمكننا أن نختزل هذه التناقضات إلى ست قضايا هي:
التناقض الجغرافي بين الشمال والجنوب.
التناقض السُّلطوي بين الإسلام والدِّيانات الأخرى.
التَّناقض العنصري بين العنصر العربي والعنصر الأفريقي.
التَّناقض الثَّقافي بين الثَّقافة العربيَّة-الإسلاميَّة والثَّقافات القبيليَّة والمسيحيَّة والأرواحيَّة.
التَّناقض الاقتصادي بين مناطق الثَّروة (خصوصاً النَّفط) ومناطق الحرمان.
فإذا جمعنا هذه التَّناقضات لأمكن تشكيل برميل بارود من القوى البشريَّة المستعدة للتمرد في أيَّة لحظة. وإذا صدف وأمكن الوصول إلى اتِّفاق مع جهات معيَّنة، فإنَّ ذلك، بدلاً من أن يسهم في الاستقرار والهدوء فإنَّه يغري جهات أخرى بركوب موجة التمرُّد لدي الآخرين. وهذا هو حال جبال النُّوبة وأهل الفونج بعد أن شاهدوا أهل الجنوب وهم يتمتَّعون بحصاد اتِّفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، وهذا هو حال أهل دارفور والبجة وهم يشاهدون ويشهدون ما سوف يجنيه أهل الجنوب والنُّوبة والفونج وأبيي بعد بروتوكولات واتِّفاقات مشاكوس ونيفاشا ونيروبي. وهذا – لذلك كذلك - ما أشار إليه الصَّحافي نبيل خليفة حين كتب منتقداً أنظمة الخرطوم قائلاً: "لقد كانت حكومات السُّودان تصوِّر الأمور دائماً على أنَّها مشكلة متمرِّدين ضد الحكومة الشرعيَّة ولم تكن تنظر بعين موضوعيَّة إلى الأبعاد السياسيَّة والدِّينيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة لمثل هذه التمرُّدات. وكان الفكر المركزي الذي طبع الدَّولة العربيَّة-الإسلاميَّة منذ نشوئها يتحكَّم بجميع حكام الخرطوم، ولم يكن لديهم أي استعداد للتفكُّر في قيام دولة سودانيَّة جديدة مبنيَّة على التَّعدُّديَّة والعدالة والمساواة، دولة تأخذ في الاعتبار والاهتمام هموم المهمَّشين في مختلف أنحاء السُّودان."(16) عليه، هذه هي الخلفيَّة السياسيَّة التي بنت عليها الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان فلسفتها للتغيير في السُّودان. فما هي هذه الفلسفة الثوريَّة التي ابتنتها الحركة الشَّعبيَّة؟ دعت الحركة على هدم الأنموذج القديم للدولة السُّودانيَّة وإعادة بنائها على أسس جديدة لتحقيق العدالة والمساواة عبر عقد اجتماعي سياسي ثقافي جديد؛ ويلتزم هذا العقد الجديد نفي الواحديَّة (العربي-الإسلامي) وتوكيد التَّعدُّديَّة، وكسر الدائرة المغلقة القائلة :"وحدة الأمَّة القائمة على وحدة النَّص القائم على وحدة الحقيقة، القائمة على وحدة السُّلطة". ومثل هذه الوحدة الزَّائفة إلغاء للمعرفة والإنسان في آن واحد. إنَّ الخروج من هذه الدّاِئرة يستدعي – حكماً وقطعاً - الفصل الكامل بين المعرفة والسُّلطة؛ فالسُّلطة ليست حقَّاً إلهيَّاً، بل مهمَّة مدنيَّة خالصة. على أيَّة حال، فقد طرحت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان على قادة الحكومة الانتقاليَّة خطة من خمسة نقاط هي:
تشكيل حكومة وحدة وطنيَّة موسعة.
تكوين جيش وطني جديد.
عقد مؤتمر دستوري موسع لتمهيد الطريق لوضع دستور جديد ودائم للبلاد.
إجراء انتخابات عامة.
إلغاء قوانين الشَّريعة الإسلاميَّة.
فقد كتب الدكتور أحمد عثمان سراج أنَّ إتحاد عام جبال النُّوبة حمَّلوه رسالة شفهيَّة من الخرطوم إلى القائد يوسف كوة مكي في أديس أبابا ملخصه17)
الاتحاد يرى أنَّ جبال النُّوبة لها خصوصيتها وليست نسخة من جنوب الوطن؛ منطقة تداخل قبلي معقَّد.
الحل السياسي ممكن لقضايا الجبال بتضافر جميع أبناء المنطقة في ظل السُّلطة الدِّيمقراطيَّة.
التداخل القبلي وشراسة القبائل هناك يجعل أي صراع مسلَّح أمراً دمويَّاً ومدمِّراً.
من حق الأخ يوسف كوة أن يدرِّب أبناء الجبال ويعد جيشاً؛ المرجو عدم بدء عمل مسلَّح ما لم يفشل أبناء الجبال في تحقيق التَّنمية والعدالة وإحترام حقوق الإنسان.
رجاء بعدم إدخال مقاتلين من أبناء الدينكا في صراع المنطقة إذ أنَّ ذلك سيوغر صدور قبائل عديدة بالمنطقة ويؤجِّج الصراع الدَّموي في اتجاهات سلبيَّة جداً.
إذ نجد أنفسنا في اختلاف شديد مع ما جاء في رسالة الاتحاد الشفهيَّة إلى القائد يوسف مكي. فإذا اعتبر الاتحاد إقليم جبال النُّوبة منطقة تداخل قبلي "معقَّد" فإنَّ منطقة أبيي هي - لذلك كذلك – منطقة تداخل قبلي، ويذهب الحديث إلى منطقة بحر الغزال وربما السُّودان كافة إذ اعتدنا على وصفه ببلد تداخل أثني وثقافي وديني بين العرب في شمال أفريقيا والأفارقة في جنوب الصحراء. ثمَّ أفلم ينادي قادة النُّوبة سلميَّاً وسياسيَّاً بانصاف ذويهم وأهليهم في الجبال منذ ظهور الكتلة السَّوداء العام 1942م بقيادة الدكتور أدهم ومروراً بثلاث فترات ديمقراطيَّة – وليست ديمقراطيَّة واحدة – دون أذن صاغية وبصيرة واعية من أهل الحكم في الخرطوم؟ فقد فشلوا أكثر من مرة في تحقيق التنمية الاقتصادية ونيل الخدمات الاجتماعيَّة والعدالة والمساواة وإحترام حقوق الإنسان؛ ونجدهم – وكغيرهم من أهل الجنوب وجنوب النيل الأزرق ودارفور – قد تعرَّضوا لحملات الرق، وهم كانوا من مواطني "المناطق المقفولة"، ويفتك بهم المرض ويعتصرون جوعاً وتسودهم أمية، ويفتقدون التَّثميل السياسي والدبلوماسي والعسكري في أروقة الدَّولة ودهاليز السُّلطة. ففيم الاختلاف، إذن، بين قضايا إقليم جبال النُّوبة وجنوب السُّودان؟ وأين الخصوصيَّة فيما هو خاص بهذا الإقليم؟ هذا ادعاء غالباً ما تطلقه السُّلطات المركزيَّة دون الإتيان ببرهان مبين لبث أسباب الفرقة ومنع الوحدة بين جموع المهمَّشين أبتعين في السُّودان، لأنَّهم يدركون سلفاً أنَّ في اتحاد هؤلاء المهمَّشين قد يهدِّد مستقبلهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد.
إلى أن يخرج علينا الرَّعيل الأول من النُّوبة الذين انخرطوا باكراً في الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بسيرهم الذاتيَّة، قد لا نعلم حجم الاتصالات والمشاورات التي تمَّت بينهم وبين قادة الحركة قبيل انضمامهم إليها، وما إذا كان هذا الانضمام – إلى الحركة الشَّعبيَّة - تحالفاً استرتيجيَّاً أم تكتيكيَّاً وفق شروط معيَّنة أم انخراطاً تذويبيَّاً فيها. أيَّاً كانت نمطيَّة الانخراط، فتشير بعض المصادر أنَّه "بدأت حركات التململ بين أبناء النُّوبة في غرب السُّودان منذ العام 1973م، والقوى التي أشعلت التململ هي القوافل الثقافيَّة بين طلاب الجَّامعات والمعاهد العليا التي كانت تذهب إلى الرِّيف السُّوداني في العطلات لأهداف تتعلَّق بمحو الأميَّة (والتثقيف الصحي) وتنمية المجتمع ...إلخ". وهكذا "كان طلاب ذلك الزمان يحملون كل تفاعلات الفكر السياسي المنتشرة بينهم سواء يساريَّة كانت أم يمينيَّة." وكان ذلك التَّبشير السياسي لا يخلو من دعوة إلى نبذ الانتماء إلى الأحزاب التَّقليديَّة كالأمَّة والاتِّحادي الدِّيمقراطي بحسبان أنَّ ناشري الدَّعوة الجديدة من الطلاب إمَّا من قبائل اليسار الشيوعي أو البَّعثي أو من اليمين المنتمي إلى حركات الأخوان المسلمين. عليه، في العام 1980م تصاعدت بذور تلك الحركات فبدت تنتظم في أطر تشكيلات سريَّة تنادي بوجوب العمل العسكري كعنصر لازم ومساعد للنشاط السياسي بحسبان أنَّ مطالبهم في رفع مستويات مناطق النُّوبة لن تتأتَّى إلاَّ عبر الكفاح المسلَّح. وفي ذلك العام تدرَّبت أول مجموعة من أبناء النُّوبة على العمل العسكري في معسكرات في أثيوبيا كانت تحتوي على مجموعات من أبناء الجنوب فيما كان يسمَّى وقتئذٍ ب"أنيانيا"، ويبدو من هذا السياق أنَّ حركات أبناء جبال النُّوبة قد بدأت قبل الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بزعامة العقيد/الدِّكتور جون قرنق دي مابيور التي انطلقت العام 1983م، وكان القائد وقتها عوض الكريم كومبة الذي تزعَّم أول كتيبة من أبناء النُّوبة تحت رئاسة الدِّكتور رياك مشار. أمَّا يوسف كوة مكي، الذي تولَّى القيادة السياسيَّة والعسكريَّة بالنسبة إلى أبناء جبال النُّوبة في الحركة الشَّعبيَّة، فهو كان عضواً في مجلس الشَّعب لإقليم كردفان، وقد انضم هو الآخر إلى الحركة الشَّعبيَّة وأصبح ممثِّلها في اليمن، وأُرسِل إلى كوبا في بعثة دراسيَّة. إذ أنَّ انضمام أبناء النُّوبة إلى الحركة الشَّعبيَّة بشكل خاص، أو الحركات الجنوبيَّة بشكل عام، مرده إلى المنادة بتوفير الخدمات، والإصلاحات السياسيَّة، وتوفير قدر مطمئن من الحكم الإقليمي، والتمسك بوحدة السُّودان.(1 كانت – وما زالت - مسألة الحقوق المدنيَّة إحدى مسبِّبات الصراع السياسي في السُّودان؛ فقد مُورِس على النُّوبة – وجميع المهمَّشين في البلاد – ما سمي ب"الكشَّات"، حيث تعرَّض النَّاس لها لمجرَّد ألوانهم وسحناتهم وهم مواطنون سودانيُّون، وأنَّ هذه "الكشات" لفيها سلب لحقوق المواطنة. وحين نتحدَّث عن حقوق المواطنة أو الحقوق المدنيَّة في الكتاب، فإنَّنا لا نعني به فقط – وحسبما يُفهم عادة من هذه الكلمة – القانون المدني، لكننا نعني به أيضاً الأخلاق والحياة الأخلاقيَّة، كما أوردها جورج فلهلم فردريك هيغل (1770-1831م) في كتابه "أصول فلسفة الحق". والحق – سواء علينا الحق المجرَّد الذي ابتدعه الرومان أو الحق الطبيعي – ينبغي أن يقترن مع الإرادة الحرَّة، وفي شكل أكثر وضوحاً "الحريَّة وقد وعت بذاتها". وفي الحق المجرَّد ينبغي أن تحمي الدَّولة حقوق الأشخاص، وهذا الواجب – كما افترض لوك – هو الهدف الرئيس الوحيد للدّولة.
إذ أنَّ هذا الأسلوب العنصري، الذي يقوم على الاتِّهام متخذاً سحنات النَّاس كدليل على الخروج عن القانون، تعرَّض له غير النُّوبة في جبال النُّوبة. وقد حكى لكاتب هذه السُّطور أحد الأخوة الجمهوريين قصة له عندما كان حبيساً في سجن الأبيِّض، بعدما ألقت بهم حكومة نميري في المخافر بسبب انتقادهم اللاذع لقوانين أيلول (سبتمبر) العام 1983م. وإنَّه لفي حبسه هذا يومئذٍ، وإذا بجانبه نزيلاً من أبناء البجة من شرق السُّودان. فقال محدثي إنَّه طفق سائلاً صاحبه في السجن: يا صاحبي ما خطبك؟ فردَّ عليه: إنَّني كنت حائماً جائلاً في شِعاف جبال النُّوبة وشعابها(19) باحثاً عن أخ لنا افتقدناه حيناً من الدَّهر. فلما أعياني سفر غير قاصد(20) أويت إلى سوق من أسواق النُّوبة لأشتري منه طعاماً وأجد عنده شراباً. وفي تلك الأثناء جاء نفر من طلائع قوات الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان على مشارف القرية التي كنت فيها، وقد بلغ منهم الجهد، وأضناهم سفر غير قاصد، فقال بعضهم لبعض: نأوى إلى هذه القرية فنلم بينها ونصيب فيها حظَّاً من راحة، ونسأل أهلها معونة على ما بقي لنا من الطريق. فاستقرَّ رأيهم على أن يبعثوا برسول من القرويين ليأتيهم بطعام وشراب به يطعمون ومنه يشربون، ريثما يواصلوا سفرهم إلى حيث كانوا يرغبون، وجلسوا تحت دوحة وريقة، وأخذتهم نومة وهم لا يعلمون ماذا يخبئ لهم القضاء والقدر. فأبلغ الرسول جند الحكومة، وأتوا باحثين عن الفئة المتمرِّدة، ووجدوهم تحت شجرة ظليلة وهم نائمين، وفتحوا عليهم نيران بنادقهم، وأردوهم قتلي؛ وعندما عدوا أسلحتهم وجدوها زائدة، فقصدوا القرية التي كنت فيها باحثين عن المتمرِّد الغائب، فعثروا علىَّ في بطن السُّوق، واقتادوني أولاً إلى كادقلي ثم ثانياً إلى سجن الأبيض، ولم يفلح معهم تردادي لهم أنه لا علم لي بما تدَّعون ولا علاقة لي بالتمرًّد الذي أنتم به تتَّهمونني. هذه هي قصة البجاوي السجين، وقد لقي من التعذيب صنوفاً وأضراباً في بلد يفتقد أدنى فرص العدالة واستقلال القضاء.
لم تقتصر تجاوزات حقوق الإنسان والاعتداءات على النُّوبة في جنوب كردفان فقط، بل اتَّسعت وامتدَّت لتشمل النُّوبة في المدن حتَّى وصلت الأمور إلى أوجها في أحداث بورتسودان في شباط (فبراير) 1986م، وذلك عقب زيارة الأب فيليب عبَّاس غبُّوش إلى هذه المدينة ضمن الحملة الانتخابيَّة التي كان يقوم بها لحزبه – الحزب القومي السُّوداني. وفي إحدي الندوات التي عُقدَت في ديم سواكن وقعت أحداث دمويَّة مأسويَّة. أقفل جمهور الحزب القومي السُّوداني - بعد النَّدوة - راجعين إلى حي فيليب مشياً على الأقدام، نسبة لعدم وجود المواصلات لنقلهم إلى ديارهم. وفي طريقهم اعترضتهم مجموعة من قبيلة البني عامر، وكانوا من أنصار الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة، في دار النَّعيم التي تتوسَّط حي فيليب وبطن المدينة. وبما أن النُّوبة كانوا غير مسلَّحين، فقد سقط منهم كثرٌ من الجرحى، وهرول بعضهم إلى حي فيليب لجلب بعض الأسلحة البيضاء للدفاع عن أنفسهم وذويهم واستنفار وإخبار القوم بما جرى لهم. وما كاد إبراقهم يصل إليهم حتَّى جاء النُّوبة مسرعين في وثبة رجل واحد، واستمر القتال بين النُّوبة والبني عامر، الذين كانت تدعمهم الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ثلاثة أيامٍ حسوماً. وفي خلال هذه الأيام العصيبة اختار سكان حي فيليب - طواعياً - وخاصة الذين كانوا يعملون في القوات النِّظاميَّة، عدم الذِّهاب إلى العمل؛ وذلك لحماية أسرهم من المعارك الشرسة التي كانت تدور رحاها في سمع وبصر الحكومة. أما السلطات المركزيَّة، التي لم تكن في عجلة من أمرها لإيقاف الإقتتال، فقد تحرَّكت في اليوم الثالث عندما وصل القتال ديم كوريا الذي يقطنه الشماليون من الشايقية. وساعتئذٍ وصل قاضي المديرية وقوة من الشرطة والجيش إلى ساحة القتال، وأصدر القاضي أمراً بوقف القتال. وبعدئذٍ تم حصار حي فيليب لمدة شهرين تقريباً، وكان كل من أراد الدُّخول إليه أو الخروج منه عليه أن يتعرَّض لعمليَّة تفتيش دقيق بواسطة الجيش.
هذه هي الأحداث التي وصفها الكاتب الأديب الأريب الدكتور منصور خالد بأنَّها "استثارة من المهووسين تجافى النَّاس تسميتها باسمها. وليس أقلَّ مخاتلة من وسائل الإعلام، المسؤولون الذين يردِّدون مثل هذه الدَّعاوي السَّخيفة حول الصِّراع القبلي. فقد ظل أهل النُّوبة يعيشون قرابة الخمسين عاماً أو يزيد في شرق السُّودان كجزء لا يتجزأ من الخارطة الاجتماعيَّة، وبصرف النَّظر عن معاناتهم في ديوم بورتسودان وهي معاناة يشاركهم فيها الرقيق الاجتماعي من أهل البجة أنفسهم، فإنَّ قضيَّة الدِّين لم تكن أمراً مطروحاً بين المجموعتين، بل أنَّ فتيان النُّوبة ورجالهم ظلَّوا يهرعون إلى "حوليات" الميرغنيَّة وينشدون مع المنشدين ويطربون مع الطرابي، ويحفظون التَّرانيم منها شيئاً عن الإسلام. ويمثِّل هذا أرز الإسلام إلى قلوب أجدادهم في السُّودان الوثني القديم. ظلَّ هذا حالهم حتَّى جاءهم "إسلام" جديد يحملهم على الدِّين بالسوط، فإن لم يجد فبالقطع والبتر، فأخذوا يلوذون منه بأديان أخرى لا جلد فيها ولا قطع، ولذا أخذنا نسمع عن كنائس النُّوبة في البحر الأحمر". ومضي معلِّمنا الألمعي يقول: "ولو كان هؤلاء المهووسين، بل لو كان المسؤولون الكبار الذين يؤجِّجون المشاعر نتيجة فهم قاصر للإسلام، وفهم أكثر قصوراً لطبيعة هذا المجتمع الفسيفسائي، يدركون أن الدِّين – إسلاماً كان أم مسيحيَّة – هو دين اختلطت فيه عند النُّوبة أحكام الشَّرع بالعبادات لما اندفعوا في غلوائهم تلك، ويقيني أنَّ ذلك المسؤول الذي وقف يؤجِّج المشاعر، باسم الإسلام والعروبة المستهدفة، لو كلَّف أي واحد من علماء الاجتماع أو حتَّى الطلاب في جامعة الخرطوم وليس كادقلي لرأى العجب العُجاب. فكجور النُّوبة في العاصمة – جبريل تية – رجل مسلم يصوم ويصلِّي، وقد أدَّى فريضة الحج أربع مرات، ومع ذلك فهو الرَّجل الذي يفد إليه أهل النُّوبة ليمارس عليهم ما يعرف بالتسبير كان ذلك للعلاج من المرض، أو درء المصائب، أو جلب الخير. ويستوي فيمن يسعى إليه النُّوبي الوثني، والمسيحي، والمسلم. بل إنَّ "عيادة" الحاج جبريل هذه تستقبل بين من تستقبل رئيس الكَّنيسة الأسقفيَّة في جبال النُّوبة الأب فيليب عبَّاس غبُّوش، فالأدوار واضحة والمهام محدَّدة في أذهان هؤلاء، فأي صراع هذا بين الإسلام والمسيحيَّة الذي يتحدَّث عنه هؤلاء الملووثون؟ أولا يحق لنا أن نقول بأنَّ هؤلاء الملووثين، بعد أن عجزت عن شفائهم علوم الأولين والآخرين، هم أحق من الأب فيليب بتكجير الحاج جبريل عل الله يمن عليهم بنعمة الشِّفاء؟"(21)
مهما يكن من الأمر، فقد كوَّن سكان حي فيليب لجنة لمتابعة مجريات التَّحري. وقد طالبت اللَّجنة بتحقيق كامل لأسباب الأحداث، وتعويض المتضرِّرين؛ كذلك أرادت اللَّجنة أن تعرف لِمَ لَمْ تتدخَّل السلطات لفض النِّزاع إلا بعد ثلاث ليالٍ سوياً، وبعدما وصل الموت ديم كوريا؟ وعندما هدأت الأحوال، صرَّح قائد حامية كسلا قائلاً: "إذا حدث قتال من هذا القبيل في المستقبل، فسوف يتدخَّل الجيش للسيطرة على الموقف." وبالطَّبع، لم يسمع سكان حي فيليب عن مجريات أو نتائج التَّحري والتَّعويضات حتَّى هذه اللَّحظة. وقد وضح أنَّ أهل الحل والعقد، أي رؤساء القوم وأكابرهم - غير مستعدين لتنفيذ القانون المرسوم والشرع المسنون. إنَّ الغرض النهائي لوجود الدَّولة – كما أسلفنا الذكر - هو حماية ودعم الحقوق الطبيعيَّة للمواطنين بغض البَّصر عن انتماءاتهم العرقيَّة أو الدِّينيَّة، وذلك بناءاً على نظريات العقد الاجتماعي لهويز وروسو ومنتيكو؛ ونتيجة لهذا الفهم فإنَّ الحكومة التي تتورَّط في خرق حقوق الإنسان – بما فيها مبدأ تطبيق العدالة والمساواة – فهي بذلك تكون قد خانت الغرض الأساس من وجودها، وبالتَّالي تسقط شرعيتها.
إنَّ كلمة النِّزاع أي النِّزاع – أو الصِّراع أي الصِّراع – لتعطي مفهوماً مختلفاً عند مختلف النَّاس، وفي مناسبات مختلفة. فإنَّ النِّزاعات – أو على الأقل تباين الرؤى ووجهات النَّظر – جزء رئيس في التَّفاوض لفض النِّزاعات بصورة سلميَّة، والتَّغيير الوفاقي في العمليَّة السياسيَّة. ومهما يكن من شأن، فهناك نوعان من النِّزاع: سلبي وإيجابي. فالنِّزاع السِّلبي يعمل على تأزيم الأوضاع، وليس هو جزءاً من عمليَّة بناء التَّعاضد الاجتماعي، لأنَّه يحتوي على عنف بدني ونفسي، الذي بدوره يؤذي ويسئ إلى الأغيار، ويولِّد البغضاء والعداوة، ويعزِّز المشاكل، ويحطِّم الثِّقة بين النَّاس والعلاقات وسط المجموعات. وعلى صعيد آخر، فإنَّ النِّزاع الإيجابي ليس بذي عنف – بدني كان أم عاطفي - بالرَّغم من أنَّه يمكن أن يكون النِّزاع الإيجابي عتيداً عنيفاً. والفرق يقبع في أنَّ في حال النِّزاع الإيجابي يتم التَّعبير عن الآراء المتباينة من خلال الحوار الجهير والجدال اللاغط اللذان يساعدان في بناء الثِّقة وإيجاد الحلول للأزمات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة وهلمجراً. وهكذا يمكن أن يلعب النزِّاع الإيجابي دوراً فعيلاً في حماية المشاركين في هذا الجدال من آثار العدوان عليهم، ومن حميَّة الجَّاهليَّة. ولما كان نوع الإنسان محتاجاً إلى اجتماع آخر من بني جنسه في إقامة معاشه، والاستعداد لميعاده، وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتَّعاون، حتَّى يحفظ بالتمانع ما هو له، ويحصل بالتَّعاون ما ليس له.
عندما حكم الأتراك-المصريُّون السُّودان كانت مديريات بحر الغزال هي المنطقة التي منها جنَّدوا الرِّجال في الكتائب السُّودانيَّة، إمَّا طوعاً ورغبة أو كرهاً ورهبة. إذ أنَّ غالبيَّة القبائل التي تقيم في هذه المناطق – ونسبة للاحتكاكات الدَّاخليَّة وعدم قابليَّة الوحدة – قد تساعد، بدلاً من صد، أيَّة قوة خارجيَّة تود أن تجعل نفسها سيِّداً على هذه المديريات. وقد أدرك الخليفة عبدالله التَّعايشي (1881-1898م) أهميَّة هذه البقعة؛ وأيقن تماماً أنَّ من يستطيع السَّيطرة عليها بمقدوره حكم السُّودان، حيث أنَّ فيها من القبائل المختلفة التي لا تحمل حبَّاً ولا وداً تلقاء النخَّاسين العرب، وقد يلتفوا حول أيَّة قوة بمقدورها أن تحميهم من "غزوات الاسترقاق". كما أنَّ تجنيد أربعة أو خمسة آلاف منهم من ذوي الصفات القتاليَّة من العياري الممتاز، سوف لا يكون أمراً عسيراً؛ وفي خلال أربعة أو خمسة أعوام يمكن حشد قوة عسكريَّة قوامها 15,000-20,000 رجلاً، التي بها يمكن السيطرة ليس على دارفور وكردفان فحسب، بل على كافة السُّودان.(22) فقد قرأ الدكتور جون قرنق دي مابيور تأريخ السُّودان في القرن التَّاسع عشر جيِّداً واستوعبه أيما استيعاب، وقد صدق تقرير سلاطين باشا، إذ أنَّ التَّناحر القبلي في هذه المنطقة قد عطَّل زحف الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان صوب الخرطوم في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، كما سنرى لاحقاً. بيد أنَّ قادة الخرطوم لم يبصروا ولم ينفذوا ببصيرتهم إلى ما وراء الآفاق، ولم يظنوا أنَّ الحرب هذه الكرة قد تصل إلى جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور وشرق السُّودان، وكان مبلغ ظنِّهم أنَّ هذا التصارع الجديد ما هو إلا حرباً تقليديَّة سوف تدور رحاها في أدغال الجنوب السُّوداني. فمنذ اندلاع الحرب الأهليَّة في جنوب البلاد، للمرة الثَّانية العام 1983م، ظلَّ القادة السِّياسيون وصُنَّاع القرار يتعاملون مع هذا المشكل السياسي بأنَّه معارك بعيدة في الأدغال الاستوائيَّة. لذلك يكلِّف الحكام الخرطوميُّون أنفسهم - ما استطاعوا إليه سبيلاً - جهداً من أجل ايجاد المخرج السِّياسي لهذه الحرب الشَّعواء التي باتت تقضي على البَّشر والبيئة على السَّواء. وعندما وصلت نيران الحرب مناطق جنوب كردفان، لم تزدهم هذه المآسي إلآَّ طغياناً واستكباراً. استغلَّت الأنظمة المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم الفوارق العرقيَّة والدِّينيَّة في منطقة جبال النُّوبة وعمدت على استحباب بعض القبائل واستعداء البعض الآخر؛ وإنَّ إغداق السلاح في يد القبائل المستعربة ما هو إلاَّ أسلوباً آخراً من أساليب تقنين الفتنة. فقد التجأت الإدارة العسكريَّة الانتقاليَّة في الخرطوم إلى قبائل عربيَّة مناوئة للقبائل النوباويَّة المقيمة تأريخيَّاً في المنطقة، وسلَّحتها وأطلقت لها العنان لتفعل ما فعلت من حرق ونهب وسبي واغتصاب في مناطق الجِّبال وغيرها من مناطق النِّزاع المسلَّح. وقد تضرَّر جميع أهل القرى بجال النُّوبة من جراء هذه السياسات العنصريَّة، وهاتيك التَّجاوزات الإنسانيَّة، بيد أنَّ أكثر المناطق تأثراً بهذه التجاوزات كانت هي هيبان.
ففي شهري آب وأيلول (أغسطس وسبتمبر) 1985م أرسلت الحكومة جيشاً إلي قرية اللوبي على مشارف هيبان. وفي تمام السَّاعة السَّادسة مساءاً انقض الجنود على المواطنين العزل، وقُبِض على مواطن يدعى داؤود وهو كان بالغاً من العمر 25 سنة، وكذلك أمير جاورة (30 عاماً)، ومواطن ثالث يدعى مليتي. لم تكن هناك تهماً واضحة موجَّهة ضد هؤلاء الموقوفين، سوى أنَّ مليتي قد تلقَّى دراسته في أديس أبابا؛ وعند عودته إلي أرض الوطن أمسى يحث أهليهم على إرسال أبنائهم إلى المدارس، ولذلك اتَّهمته السلطات بالتمرًّد. أمَّا بقيَّة المعتقلين، وهم أمير جاورة، غاندي داؤود ووالده داؤود فقد اُطلِق عليهم النَّار ثمَّ تمَّ ذبحهم بالسكين، وتركوا في العراء دون دفن. أُقتيد مليتي وأُلقي به في حراسة هيبان، وعُذِّب عذاباً أليماً، وذلك بالربط بالحبال، والضَّرب على جسده في مواقعٍ مختلفة. فقد صادف اعتقاله وجود ضابط من الإقليم الجنوبي يدعى مكير. وفي تمام السَّاعة العاشرة ليلاً طلب مليتي من مكير، باللُّغة الإنجليزيَّة، أن يسمح له بالخروج للتبوُّل، حيث سمح له الضَّابط بذلك على أن يستغل الفرصة ويهرب. هرب مليتي من الشبَّاك الخلفي بمساعدة مكير؛ وبعد هنيهة اُطلِق النار من ورائه تظاهراً، وانسلَّ مليتي من محبسه، وركب رجليه وأخذ طريقه في البر هرباًً. يعتبر هروب مليتي الشرارة التي اشعلت مجزرة هيبان الأولى العام 1985م. كان يتم القبض على المواطنين بصورة عشوائيَّة، ويتحفَّظ عليهم حتَّى السَّاعة السَّادسة مساءاً؛ ومن ثم تبدأ المجزرة. كان لدي السلطات مكان مخصَّص لهذه المذابح وهو خور كبير يذبح فيه المواطنين بالسكين فقط ثمَّ ترمى بجثث المغتالين في هذا الخور ليكونوا عبرة لكل من تسوَّل له نفسه معارضة الاستبداد القائم. قام أبناء النُّوبة في الخرطوم برفع مذكِّرة إلى الحكومة الإنتقاليَّة يطالبونها بتقصِّي الحقائق حول مجزرة هيبان؛ لكن لم تعير السلطات انتباهاً لهذا الطَّلب. وفي كانون الأوَّل (ديسمبر) 1985م تحرَّكت قوة من الجَّيش الحكومي من مدينة الأبيض – حاضرة شمال كردفان - بقيادة قائد يسمَّى إبراهيم بندر؛ ومرت القوة بقرى أم نبرة ومندي واللوبي وكلكدة وكاودا. وفي قرية كلكدة قُبِض على معلم مدرسة ابتدائيَّة يسمَّى فاروقاً، وقُتِل رمياً بالرصاص، وتُرِكت جثَّته في العراء. علاوة على ذلك، أذاق الجنود المواطنين صنوفاً من العذاب، وتمَّ اغتصاب كثراً من النِّساء. كذلك، وفي نفس العام، قام كل من اللِّواء فضل الله برمة ناصر واللواء عثمان عبدالله - وزير الدِّفاع الانتقالي - بزيارة مدينة هيبان أولاً، ومدينة مندي ثانياً. ففي مندي قابلهما شيخ القرية - المك محمد رحمة. وبعد تبادل الحديث بين المك وناصر، قال الثَّاني للأول: "ناسك وسخانين، ولذلك لازم تنظِّفهم". أجاب المك بنعم، ومن هنا بدأ المك متعاوناً مع الحكومة على إبادة أبناء النُّوبة بصورة عشوائيَّة. هذه هي الكراهيَّة الطبيعيَّة التي تصدر من الشخص السئ إلى الآخر الخيِّر؛ وهي – لذلك كذلك – الكراهيَّة التي تتكوَّن نتيجة صراع ذاتي ينتهي دائماً بانتصار الإثم، وإطلاق كافة قوى الطبيعة الشرِّيرة ضد طموحات الضَّمير الخيِّرة، وهي – مع ذلك – جديرة بتحويل الأشياء الحسنة والمقدَّسة إلى الخوف والإرهاب.
لم نستطع العثور على برامج الأحزاب السياسيَّة التي خاضت الانتخابات شبه العامة العام 1986م حتى نقف على أهدافها وسبل تحقيقها وما تم منها تطبيقها، وبخاصة الأحزاب التي شاركت في الحكم وكانت لها اليد المتنفِّذة في السطة التَّنفيذيَّة والتَّشريعيَّة والقضائيَّة. بيد أنَّ أمامنا "المرتكزات الأساسيَّة في البرنامج الانتخابي للجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة" (ملحق رقم (1)). فقد انطلقت الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في معالجتها لمشكلات السُّودان من الفكرة الإسلاميَّة والسنَّة (الإسلام هو الحل). لذلك ادَّعت الجَّبهة – فيما ادَّعت – بأنَّها تسعى لإقامة الحكم الإسلامي، وتبني الاقتصاد الإسلامي، واستخدمت أسلوب التَّهديد والوعيد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من عارضهم في برنامجهم السماوي هذا؛ ولا سيَّما أولئك وهؤلاء الذين تنادوا مصبحين بإلغاء قوانين إيلول (سبتمبر) للعام 1983م. بالنَّظر والتفحيص في برنامج الجَّبهة هذا لا يخالجنا أدنى شك بأنَّه هو ذلكم البرنامج الذي لفظه عموم شعب السُّودان في الانتخابات البرلمانيَّة العام 1986م، وأقبلت ونفَّذته عليهم والسيف مسلَّط على رقابهم حين استولت على السُّلطة في انقلاب عسكري في حزيران (يونيو) 1989م، وبخاصة فيما يتعلَّق بالتَّدريب على الجنديَّة لكل المواطنين القادرين، وغرس مفاهيم الدِّفاع والجهاد والفداء في القوات المسلحَّة السُّودانيَّة والقوات النظاميَّة الأخرى وإعدادهم تربويَّاً دينيَّاً.
في المحصلة النهائيَّة يمكن أن نقول إنَّ بعد امتصاص مفاعيل الانتفاضة الشَّعبيَّة بدأ السُّودانيُّون في أمرهم محتارون؛ فالأمور لا تبدو واضحة دائماً إلاَّ من خلال نتائجها، لأنَّ المطلوب لم يكن أن يثور النَّاس، بل أن يثوروا وينتصروا ويقطفوا ثمار الانتصار. إذ لم لم يوصل موقف الفريق أول عبدالرحمن سوار الدَّهب الانحيازي إلى التيَّار الإسلامي إلى أن يتماهى تماماً مع جماهير الثَّورة الشَّعبيَّة التي أتت به إلى سدة الحكم. كما أنَّه لم يتحقق شئ واحد من شعارات الانتفاضة من إلغاء قوانين إيلول (سبمتبر) 1983م، كنس آثار مايو، العمل بدستور 1956م المعدل العام 1964م، ترميم الاقتصاد السُّوداني، إيجاد حل سلمي لمشكل الحرب الأهليَّة، التي بدأ فيها الأخوة يقتلون بعضهم بعضاً.. ولكن في سبيل بناء مجتمع جديد تسوده العدالة والمساواة. ومن هنا يكاد يكون واضحاً أنَّ الفريق أول عبدالرحمن سوار الدَّهب والدكتور الجزولي دفع الله – بعد كل شئ – قد آثرا في ذلك الحين، وعند ذلك المنعطف من تأريخ السُّودان الحديث، أن يؤديا دورهما الحزبي (الإسلامي) بإخلاص، وانعكس هذا الموقف المخزي وهناً وضعفاً على مسيرة الحياة الدِّيمقراطيَّة في البلاد والإصلاحات السياسيَّة التي كان ينشدها الجميع، والإخلال بالمعادلة الحزبيَّة كما شهدنا وشاهدنا. هذا فيما يختص بمسألة الغدر بأحلام الانتفاضة الشَّعبيَّة في السُّودان على وجه العموم؛ أمَّا فيما يختص بمسألة النُّوبة على وجه الخصوص، فقد أفرز النظام الانتقالي ما سميناه "الواقعيَّة التواصليَّة المفزعة" تحت دعاوي مكافحة التمرُّد واجتثاث أنصار الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان (الطابور الخامس). فقد ظهرت هذه الحملات بصورة مروعة في أعقاب أحداث القردود في جنوب كردفان. إذ صاحبت هذه الحادثة تفاسير وإخراجات عدّة. يا تُرى أين تكمن الحقيقة فيما جرى في القردود؟ إنَّ حادثة القردود هي واحدة من افرازات الاحتكاكات القبليَّة التي تنشأ نتيجة لنهب المواشي والتَّصارع حول حقول المراعي ومصادر المياه. فقد ظلَّت العرب في منطقة فاريانق تسرق بقر الدينكا حتَّى ظهرت الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان العام 1983م، وانخرط فيها أبناء الدينكا أفواجاً بما فيهم دينكا فاريانق، فاقتنوا السلاح النَّاري وعليه تدرَّبوا على استخدامه؛ وبعدئذٍ فرّ عدد منهم بسلاحهم وقاموا بالهجوم على قرية القردود لاسترداد أبقارهم المسلوبة، وقد تمَّ هذا الهجوم دون أمر من قيادة الحركة الشَّعبيَّة، لكن استغلَّت حكومة سوارد الدهب هذه الحادثة كذريعة لتسليح القبائل العربيَّة في جنوب كردفان، وقد ذكر للكاتب أحد أصدقائه الذين ينتمون إلى المنطقة أن مواطني القردود ليسوا بعرب كما هم يظنون وغيرهم واهمون، بل إنَّهم أفارقة كغيرهم من السُّودانيين الذين يحلو لهم الانتساب إلى العروبة دون التأهيل لذلك، وهذا جزء من مشكل الهُويَّة في السُّودان. مهما يكن من شأن القردود، فقد أمست المسألة الأمنيَّة، واحتكاكات الرعاة العرب والمزارعين، ومشاكل الأراضي – كما سنرى لاحقاً – أهم إخفاقات الحكومة الانتقاليَّة تلقاء المواطنين النُّوبة في إقليم جنوب كردفان.
ملحق رقم (1)
المرتكزات الأساسيَّة في البرنامج الانتخابي للجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة(23)
الآن يخوض السُّودان معركة الانتخابات للاتيان بمفوضي الشَّعب لصياغة الحياة السُّودانيَّة القادمة. والجبهة القوميَّة الاسلاميَّة التي تشكِّل التيَّار الإسلامي الأكثر قوة والتي يرجح أن تكون لها أيادٍ واسعة في الجمعيَّة التأسيسيَّة القادمة تقدَّمت ببرنامجها للشعب السُّوداني ليكون الاختيار على أسس حتَّى يتيسَّر الحساب في حالة النَّجاح أو الإخفاق.
وهذه هي المرتكزات الأساسيَّة للبرنامج الانتخابي للجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة وقد انبثقت من هذه الأسس تصوُّرات تفصيليَّة لمعالجة المشكلات التي تعج بها الحياة السُّودانيَّة.
إنَّ الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة تنطلق في معالجاتها لمشكلات السُّودان المذكورة سابقاً من الفكرة الإسلاميَّة والسنَّة، وعليه فإنَّ تفاصيل السياسات والبرامج التي تطرحها تقوم على مرتكزات رئيسة تمثل جماع الهدف الذي يدعو إليه الإسلام في ذلك المجال للمدى البَّعيد. لذا ينبغي توضيح تلك المرتكزات الرئيسة التي تحكم تفاصيل برامجنا الموقوتة في مجالات النِّظام السِّياسي والدَّستوري، والاقتصاد، والجنوب والحكم الإقليمي، والعلاقات الخارجيَّة، والنِّظام الاجتماعي والتَّثقيف والتَّوجيه.
(أ) النِّظام السِّياسي والدَّستوري:
تهدف الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة إلى سيادة الإسلام عقيدة وشريعة... عقيدة تجعل السياسة عبادة لله فتطهرها بالإخلاص من الصراع والطغيان وتحررها بالجدية والمسؤوليَّة من الإخفاق والفساد، وشريعة ومنهاجاً لتربية الفرد وتنظيم المجتمع وتأسيس الدَّولة.
تعمل على الانتقال بالمجتمع حتَّى يستكمل كيانه السياسي الشرعي باطراح النُّظم والقوانين المخالفة لنص الشَّريعة وروحها وتطبيق تعاليمها المعطَّلة حتَّى يعلو حكم الله في منهج الاحكام. وتسعى لإقامة الحكم الإسلامي الهادف لرعاية مقاصد الدِّين وكفاية مصالح النَّاس والمؤسسس على الشُّورى والمساواة وحق الجمهور في تقرير الشُّؤون العامة وفي اختيار ممثليهم من أهل الحل والعقد والقيادة والتَّنفيذ وفي مصارحة النَّصيحة والمحاسبة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر حتَّى تتوالى الأمَّة بحريَّة وفاعليَّة وإخلاص.
تدعو لأن يضمن الدَّستور حريَّة الاعتقاد وطلاقة التَّعبير عن الرَّأي، وجواز التَّنظيم والتَّعبئة وحريَّة الحركة والاجتماع، وحصانة الدم والمال والعرض وحرمة المنزل والحياة الخاصَّة. وتسعى لإشاعة العدل في علاقات النَّاس وتوفير المساواة أمام القانون وضمان استقلال القضاة ونزاهتهم وتيسير إجراءات ناجزة للتقاضي والتحاكم بالقسط لكل المواطنين.
تدعو لعدم تركيز السُّلطات السياسيَّة في فرد أو جهاز واحد وذلك منعاً للاستبداد والطغيان ونشداناً للاستقامة والاستقرار، وأن يتوخَّى أهلية أصحاب السُّلطة أمانة وكفاية، وتتأكَّد مسؤوليتهم عن كسبهم الشَّخصي والرَّسمي مسؤوليَّة سياسية وقضائيَّة درءاً للقصور والفساد كما يتأكَّد واجبهم في القيام بالأمر العام بإحسان وإخلاص وحقَّهم في الطَّاعة ما التزموا حدود المشروعيَّة.
تدعو لأن يتوفَّر التَّدريب على الجنديَّة لكل المواطنين القادرين حتى يتناصر الشَّعب في أداء واجب الدِّفاع والجِّهاد، وأن يحسن إعداد القوات المسلَّحة والقوات النِّظاميَّة بالتَّربية الدِّينيَّة إشاعة لروح الجِّهاد والفداء والمسؤوليَّة الوطنيَّة، وبالتَّثقيف والتَّأهيل ترقية لمستوى أفرادها، وبالعدة والعتاد المادي كفاية لحاجات أمن البلاد وطمأنينة المجتمع وتمكيناً لها من الذود عن كرامة الأمَّة وتراب الوطن وحتَّى يغدو الانتماء إليها شرفاً وفخراً، والموت بين صفوفها شهادة وفوزاً.
(ب) الاقتصاد:
تؤمن الجَّبهة بأنَّ الكون كلَّه مسخَّر لمنفعة الإنسان ليعمِّر الأرض بالعمل المتقن، وأنَّ المال لله والنَّاس مستخلفون فيه مسؤولون عن أمانته، وعلى أهل السُّودان أن يقوموا بنمط من الاقتصاد بجانب الاقتصاد المادي البَّحت وما فيه من تأزُّم وتظالم وعجز عن إسعاد الإنسان. ومن ثم فإنَّ القوامة على نظام الاقتصاد هي للمجتمع توجيهاً ومراقبة بما يحقِّق العدالة الاجتماعيَّة بسطاً للثروة بالقسط حتَّى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وترشيداً للاستهلاك حتَّى لا يكون ترف أو سفه، وتقويماً للمعاملات حتَّى لا يتفشَّى الاستغلال أو أكل الحقوق بالباطل ويستتبع ذلك أن ننتقل بنظم الاقتصاد والمال نحو ما تهدي إليه الشَّريعة الغرَّاء إبطالاً للربا والاحتكار والغرر وسائر المعاملات المخالفة للاسلام وتطويراً للبديل الإسلامي في المصارف ونظم التَّمويل والتَّأمين.
تهدف إلى أن يشعر المجتمع بالتَّضامن والأخوة وأن تكون الغاية من الإنتاج هي كفاية الحاجات الضَّروريَّة لكل المواطن من العيش الكَّريم والصحة والمأوى والتَّعليم والأمن والطمأنينة من مغبة العجز والفقر والمصيبة. ونجهد لإقالة عثرة الاقتصاد الوطني بتعبئة طاقات الشَّعب الرُّوحيَّة وقوته الجماعيَّة واستغلال موارد البلاد الماديَّة بالتَّخطيط الشَّامل وتسخير العلم والتَّقنية حتَّى تكفل مصالح المجتمع العامة ومصالح الأفراد في المستوى المعاشي المتبارك.
تعمل الجَّبهة لتوحيد حركة الاقتصاد بالتَّناسق في الأهداف والنُّظم التى يتوخاها الجهد الخاص والعام بالحكمة في توزيع العمل الاقتصادي بحيث تكون الدَّولة صاحبة الولاية على الثَّروات العامة والمشروعات الاستراتيجيَّة والمرافق الحيويَّة وتكون عليها رعاية سائر وجوه النَّشاط الاقتصادي بدعم البُّحوث والدِّراسات وتوطيد البنى الاساسيَّة، وحفز الادخار والاستثمار وإشاعة نظم التَّعاون والمشاركة وضبط علاقات المخدومين والمستخدمين بالكفاءة والعدل بحيث تتكافل قطاعات الاقتصاد وسياساته وتتفاعل بايجاب واتساق ومرونة.
تعني بوجه خاص بتطوير الزِّراعة والصِّناعة وترشيد علاقات الانتاج وحوافزه واستغلال الموارد الطَّبيعيَّة للبلاد حتى تؤمن حاجات المجتمع في الغذاء وتتبارك الطَّيبات وترقى الأحوال الماديَّة والمعنويَّة للشَّعب وحتى تتحرَّر البلاد من المجاعة وأزمات الحاجات ومن خطر التَّبعيَّة والاعتماد على الحكومات الأجنبيَّة والمؤسَّسات الدَّوليَّة. إلا أننا ندعو للتنسيق والتَّعاون الاقتصادي مع الدُّول العربيَّة والأفريقيَّة ومع سائر الدُّول الأخرى في إطار نظام اقتصادي عالمي عادل لا صراع فيه ولا استغلال ولا تبعيَّة قوامه التَّكافؤ والتَّكافل يحقق النَّهضة الانمائيَّة الأتم للإنسانيَّة ويبني عالمها الوسيع على السَّلام والعدل والمصالح المتبادلة.
وتؤمن أنَّ العمل يدويَّاً أو ذهنيَّاً هو أصل الكسب وأنَّه هو شرط لنهضة الأمة فهو واجب على كل قادر على ألاَّ تكلف نفس إلاَّ وسعها وحق لكل طالب فيما هو أهل له، وتسعى الجَّبهة لبسط القيم والآداب الإسلاميَّة في العمل وتنظيم علاقاته بما يضمن قوة دواعيه وإخلاص مقاصده اتقاناً للأداء ورقياً بالانتاج بما يكفل الحقوق المجزية والأحوال الملائمة والشُّروط العادلة للعاملين وأصحاب العمل.
(ج) الجنوب والحكم الإقليمي:
تتطلع الجَّبهة لتحقيق الوحدة الأكمل للشَّعب السُّوداني في ظل الايمان بالله والاعتصام بحبله وفي رعاية حق المواطنة لكافة الجماعات الدَّينيَّة والقوى السياسيَّة وذلك بتنظيم التَّفاعل البنَّاء بين كافة المواطنين وترقية الوعي الدِّيني والسياسي حتى يتم التَّحرُّر من التَّعصُّب الطَّائفي أو العنصري ومن ظلم الاستغلال السياسي أو التمييز الاجتماعي ومن شطط الصراع الحزبي حتى يرعى الجميع أخوة الإيمان وعهد المواطنة.
تؤمن الجَّبهة بصيانة حقوق الكيانات الدِّينيَّة غير المسلمة بما يضمن لها البر والقسط والسماحة في المعاملات الخاصة والمساواة في الحقوق الاساسيَّة والمدنيَّة وحريَّة الاعتقاد وحرمة دور العبادة واستقلال نظم الأحوال الشَّخصيَّة والتَّعليم الدِّيني.
وتسعى لترسيخ النِّظام الإقليمي في حكم البلاد حتى تدار أطرافها المترامية بفعاليَّة وحريَّة وشورى، بينما يتأكَّد كيانها القومي في عدل ووحدة الأهداف والسياسات والثَّقافة القوميَّة الجامعة. وتؤمن أن الحوار الدِّيمقراطي الحر السَّبيل الأفضل لحل الخلافات والمنازعات بين أبناء الوطن الواحد، وأنَّه لا ينبغي لجماعة أو إقليم أن يسعى لفرض إرادته على الآخرين بقوة السِّلاح.
تؤمن أنَّ الظُّلم التَّاريخي الذي حاق ببعض أقاليم السُّودان - وبخاصة الجنوب - ينبغي العمل الجَّاد على تصحيحه تأكيداً للمساواة بين أبناء الوطن وتحقيقاً لأهداف التَّنمية المتوازنة وإنَّ من حق كل إقليم أن يكون له نصيب من ثروته الطَّبيعيَّة ومشروعاته الاستثماريَّة حتى تكون حافزاً له للإنتاج والعمل.
(د) العلاقات الخارجيَّة:
تسعى الجَّبهة لاتخاذ سياسة خارجيَّة تقوم على تأمين عز البلاد ووحدتها واستقلالها عن كل نفوذ وعلى عدم الانحياز إلى محاور القوى العظمى عسكريَّاً أو سياسيَّاً أو الخضوع إلى هيمنتها الثَّقافيَّة أو الاقتصاديَّة، وعلى حفظ المواثيق الدَّوليَّة العادلة ورعاية حسن الجوار بين الشُّعوب وحل المشكلات بالحسنى وتأسيس المنظمات الدَّوليَّة والعلاقات الثنائيَّة على مبادئ العدل والتَّعاون والسَّلام.
وتعمل لدعم التَّعاون والتَّعاضد مع الدُّول والمجتمعات والهيئات العربيَّة والأفريقيَّة في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة من أجل الدِّفاع عن المستضعفين وحماية بلادهم من العدوان الصهيوني أو الشيوعي أو الغربي ومن أجل تبليغ رسالة الإسلام ونشر اللُّغة العربيَّة ودعم قوة المسلمين والعمل على تكافلهم ووحدتهم. كما تؤكِّد على التَّضامن مع دول العالم الثَّالث وسائر الشُّعوب المستضعفة من الدُّول الكبرى ومكافحة الأوضاع المؤسسة على الظُّلم والاضطهاد السياسي والتمييز العنصري ومن أجل العزة الوطنيَّة والنَّهضة بالبلاد النَّامية.
(ه) النِّظام الاجتماعي:
تسعي الجَّبهة لبث روح الدِّين وشعائره وآدابه ولتطهير أعراف التَّديُّن من البدع السيئة في أنماط السُّلوك والأوضاع الاجتماعيَّة ولإزالة الدَّواعي النفسيَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة للشقاق والعصبيَّة بين الملل والطَّوائف والقبائل، ونشر دواعي التحابب والتَّسامح والتَّراحم بين المواطنين ولحماية تماسك البنية الاجتماعيَّة من القطيعة والتناكر، ورعاية ترابط الجوار والقربى. وتدعو لترسيخ الأخلاق الفاضلة والأعراف الحميدة حتى تسود آداب الدِّين العامة ويتزكى المجتمع من الإجرام والفساد والتَّحلُّل وسائر الآفات النَّاشئة من موروث التَّخلُّف أو مجلوب الفتنة الأوربيَّة.
تهتم الجَّبهة بحفظ كيان الأسرة قواماً للمجتمع المعافى وذلك بتسهيل الزَّواج وتيسير الحياة الأسريَّة وتقوية أواصر النَّسب ورعاية الأمومة والطُّفولة وتقويم قوانين الأسرة وآدابها حتى تقوم على المعروف من الرحمة والتَّكافل وحسن المعشر. وتعني بأوضاع المرأة والنُّهوض بها ورفع الظُّلم الاجتماعي عنها وتمكينها من استشعار مسؤوليتها الدَّينيَّة ومن أداء دورها العام في بناء المجتمع المسلم ووظيفتها الخاصة في إطار الأسرة ومن ممارستها حقوقها وواجباتها الشَّرعيَّة.
وتدعو لرعاية الشَّباب وحسن إعداده لمهام النَّهضة والبناء وتربيته بمعاني التَّديُّن الواعي وبشتى وسائل التَّوجيه والرِّياضة والتَّرويح، حتَّى ينشأ على حب الحق والخير ويتعوَّد الإقدام والمبادرة وعلى العمل الطوعي والجماعي.
تعمل الجَّبهة على ترشيد السياسات وتوفير الخدمات الاجتماعيَّة بما يكفل استقرار المجتمع في ظروف حضاريَّة يسودها الأمن والطمأنينة وتكفل فيها المرافق العامة، وبما يرقى حياة الأفراد تماماً لصحة الإنسان وبيئته وتأميناً لسكنه ووسائل معاشه وتحقيقاً لليسر والسَّعد في سائر أحواله كما تعمل على بث روح التَّعاون والتَّكافل في المجتمع وتكثيف النُّظم الهادفة لعون الضَّعيف والمحتاج والعناية بالمعوقين والمرضى والشيوخ ورعاية الأيتام.
(و) التَّثقيف والتَّوجيه:
تهدف الجَّبهة إلى رفع مكانة العلم وتوقير حملته وطلبته في المجتمع، وإلى نشر الثَّقافة وبسط العلم الذي هو فريضة على العباد فتتَّسع القدرات العقليَّة تفقهاً في الدِّين وإدراكاً لسنن الله في الكون وتعرفاً لأحوال العالم حتَّى يقوم النَّاس بتكاليف العبادة المثلى لرب العالمين. وتتوخَّى ترقية مناهج التَّربية وتوجيهها على أساس من الإيمان بتوحيد الله ومن وحدة أصول المعرفة حتَّى لا ينشأ فصام بين العلم والإيمان، ولا بين العلم الشَّرعي والوضعي، ولا بين العلم النَّظري وحركة الحياة، وحتَّى يكون طلب العلم رسالة حياة شاملة من المهد إلى اللحد ويتجلَّى ذلك في سلوك المجتمع وواقعه.
وتعمل من أجل تعميم التَّعليم الأساس وتوسيع مجال التَّدريب والتَّخصص وتأهيل المعلِّم وتطوير المنهج والوسيلة ومن أجل ثورة جادة للقضاء على الأمية والجَّهل ولكي يكون التَّعليم حرَّاً متاحاً مشاعاً موصولاً بحاجات المجتمع الماديَّة وبمقاصد حياته المعنويَّة ومثله العليا.
تسعى الجَّبهة لإحداث نهضة علميَّة تبدِّل واقع التخلُّف والجَّهل بعثاً لتراث الأسلام المتجدِّد وتكييفاً لعلوم الطَّبيعة والاجتماع بالمنظور الدِّيني الرَّاشد وإشاعة لروح علميَّة خلقيَّة تدعو لحب المعرفة والتَّدبُّر ومنهجيَّة الفكر واستقلاله والصدع بالحق والعدل. وتسعى لدفع حركة التَّأليف والتَّرجمة والبحث والنَّشر وتيسير الاطلاع والمعرفة بكل الوسائل المتاحة، ولتشجيع التَّبادل الثَّقافي تعاوناً وحواراً وبلاغاً إلى الإنسانيَّة جمعاً.
تهدف لجعل العربيَّة لغة التَّعليم في كل مراحله ولغة الخطاب في كل البلد ولغة العلوم والحياة عامة، وتعمل على إحياء تراثها وترقية دراساتها الأصوليَّة لتكون أداة التَّعبير لنهضة حضاريَّة يتوَّحد فيها المسلمون كافة ويتفاعلون بإيجاب مع ثقافات العالم.
وتسعى الجَّبهة لتطوير وسائل الاتصال العام ولترشيد مادة الإعلام ووقعه، حتَّى تتأكَّد وظيفته الاجتماعيَّة فيؤدِّي دوره في التَّعليم وفي التَّربية وفي توجيه الشَّعب وتوحيد ونشر اشعاعه الثَّقافي في العالم، وحتَّى تتأكَّد مسؤوليته الأخلاقيَّة فينأى بأدائه عن الإثارة في الأخبار والزَّيف في الدِّعاية ويتوخَّى الجد الهادف والتَّرويح الطَّاهر والعرض الأمين وتعمل على تشجيع الآداب والفنون وتفجير الطَّاقات والمواهب في مجالات الابتكار والإبداع المعنوي وتوجيه الأدب والفن حتَّى يتَّصل كلاهما بمقاصد الحياة المتديِّنة ويلتزم بمناهجها فيؤدِّي دوره التَّربوي والاجتماعي والإنساني.
هوامش وإحالات
(1) صحيفة "القدس العربي"، 26/8/2004م، العدد 4746.
(2) سُوِّموا الخسف: أُذلِّوا.
(3) صحيفة "القدس العربي"، 28/11/1997م، العدد 2662.
(4) صحيفة "الحياة"، 3/9/2004م، العدد 15134.
(5) Nazer, M and Lewis, D, Slave: The True Story of a Girl’s Lost Childhood and her Right for Survival, London, 2004.
(6) الدكتور زكي البحيري، الحركة الدِّيمقراطيَّة في السُّودان (1943-1985م)، القاهرة، 1996م، صفحتي 320-321.
(7) صحيفة "الحياة"، 31/1/2004م، العدد 14919. في كانون الأول (يناير) 2004م أُعلن في القاهرة عن بدء نشاط "المنظَّمة العربيَّة للتَّمييز"، التي يترأسها الصحافي المصري البارز – إبراهيم نافع – رئيس تحرير صحيفة "الأهرام". وجاء في بيان تأسيسها أنَّها قامت لمناهضة التَّمييز ضد العرب في جميع أنحاء العالم، ولمناهضة أيَّة صورة من صور العنصريَّة والتَّمييز داخل الدول العربيَّة. وقد ركَّزت المنظَّمة مناهضتها عن التجاوزات الإسرائيليَّة، وكأنَّ إسرائيل لهي الكيان الوحيد في العالم الذي يمارس التَّمييز، والعرب هم ضحايا التمييز الوحيدون، أو هم الضحايا الذين يجدر الاهتمام بهم وحدهم، وتجاهلت المنظَّمة العبوديَّة الموجودة في السُّودان وموريتانيا، وسط غيبوبة عربيَّة شبه تامة (صحيفة "الحياة"، 31/1/2004م، العدد 14919).
( صحيفة "الحياة"، 14/9/2004م، العدد 15145.
(9) صحيفة "الميدان"، الأربعاء، 10/8/1988م.
(10) أحمد مختار حمد النيل، معاني السَّلام في الثَّقافة والتَّقاليد والفلكلور.. نموذج جبال النُّوبة، صحيفة "الرأي العام"، 13/12/2003م، العدد 2270. كرَّس الفيلسوف الألماني كريستيان توماسيوس (1655-1728م) حياته في جامعة هالي يدرِّس نظريَّة الحق، مبتدعاً - وللمرة الأولى في تأريخ التَّعليم الجامعي الألماني - مبدأ التَّدريس بالألمانيَّة المحليَّة بدلاً من التَّدريس باللاتينيَّة كما كان الأمر قبله.
(11) الدِّكتور منصور خالد، النُّخبة السُّودانيَّة وإدمان الفشل، الجزء الثَّاني، صفحة 261، القاهرة، 1993م. اعتبر الدِّكتور على الحاج محمد – نائب الأمين العام لحزب المؤتمر الشَّعبي الذي يتزعَّمه الدِّكتور حسن عبدالله التُّرابي – أنَّ ما يحصل في دارفور العام 2004م "إبادة جماعيَّة وتطهير عرقي منظَّم يتم تحت إشراف شعبة تسمى الأمن العنصري تعمل في الجنوب وجبال النُّوبة والنِّيل الأزرق ودارفور." وذكر أنَّه رغم تقلُّده مناصب وزاريَّة، كانت أجهزة أمن الدَّولة تورد اسمه مع وزير الطيران التيجاني آدم الطَّاهر وعضو مجلس قيادة الثَّورة السَّابق إبراهيم نايل إيدام في ملفات الأمن العنصري (صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 20/7/2004م، العدد 15089).
(12) كان يرى الأب فيليب عباس غبُّوش أن يتم محاكمة قادة "مايو" لا عن تهمة تدبير الانقلاب العسكري على النظام القائم يومئذٍ، بل على الجرائم التي اقترفت أيديهم من مذابح الجزيرة أبا وودنوباوي بأم درمان العام 1970م، وإعدام الضالعين في انقلاب الرائد هاشم العطا في تموز (يوليو) 1971م، ومحاولة المقدم حسن حسين عثمان في أيلول (سبتمبر) 1975م، وأحداث تموز (يوليو) 1976م وغيرها من الانقلابات والمحاولات الانقلابيَّة التي كشف – أو لم يكشف – عنها النظام يومذاك. كذلك كان يمكن محاكمة قادة "مايو" من أجل استرداد الأموال الطائلة، التي قبضوها صفقة مقابل استخدام الموارد السُّودانيَّة لتهجير اليهود الفلاشا إلى دولة إسرائيل إلى الخزينة العامة لأنَّها أموال عامة الشَّعب السُّوداني.
(13) صحيفة "الاتحادي الدَّوليَّة"، 31/5/1994م. في الحلقة الثَّامنة من مذكرات محمد سيدأحمد المطيب "قصتي مع الجَّبهة (القوميَّة) الإسلاميَّة.. وقفات وتأملات"؛ حيث تناول الكاتب معاناة صديقه وزميله السَّابق المرحوم موسى علي سليمان الذي أسرَّ له أنَّه أبعدوه من إحدى اجتماعات التَّنظيم في الجبال لأنَّه من النُّوبة. وكواحد من أبناء منطقة جبال النُّوبة المحدودين جداً المنتمين لجماعة الأخوان المسلمين كان المرحوم موسى على سليمان يعاني كثيراً لا لشئ إلاَّ لأنَّه من أبناء النُّوبة.
(14) فاز المشير (م) عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب بجائزة الملك فيصل العالميَّة لخدمة الإسلام للعام 2004م، وتشمل الجائزة 750 ألف ريال (200 ألف دولار) وميداليَّة ذهبيَّة تحمل صورة الملك فيصل بن عبدالعزيز، وشهادة لملخَّص البَّحث الذي أهَّل صاحبه لنيل الجَّائزة. وجاء في خطاب لجنة اختيار الجائزة "أنَّ اللَّجنة بعد مناقشتها واستعراضها للمرشَّحين للجَّائزة وعددهم ثلاثة عشر مرشَّحاً اختارت أن يكون الفائز بجائزة الملك فيصل العالميَّة لخدمة الإسلام لهذا العام المشير (م) عبدالرحمن سوار الدَّهب، وذلك لما له من أعمال مجيدة تفتخر بها الأمَّة الإسلاميَّة والعربيَّة (صحيفة "الحياة"، 11/2/2004م، العدد 14929)".
(15) عند تعيينهم كأعضاء في برلمان الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة في حكومة "الإنقاذ"، كشف كل من الدِّكتور الجزولي دفع الله واللواء (متقاعد) حمادة عبد العظيم حمادة والفريق (متقاعد) تاج الدِّين عبدالله فضل القناع عن وجوهم الجَّبهويَّة.
(16) صحيفة "الوسط"، 16/8/2004م، العدد 655.
(17) صحيفة "الخرطوم"، 21/9/1999م.
(1 مجلَّة "المجلَّة"، 27/6 – 3/7/1993م، العدد 698.
(19) شِعاف الجبال: أعاليها، الواحدة شعفة؛ وشعابها: ما ينفرج بينها، الواحد شِعب بالكسر.
(20) سفر غير قاصد: شاق بعيد.
(21) الدكتور منصور خالد، الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشَّريعة، دار الهلال، 1986، صفحتي 239-240.
(22) Slatin Pasha, R C, Fire and Sword in the Sudan: A Personal Narrative of Fighting and Serving the Dervishes (1879-1895), London, 1897, Pages: 304-305, 408-409.
(23) مجلَّة "الإصلاح"، أبريل 1986م، العدد 99، السنة التَّاسعة.
(منقول عن سودانيل)
دنـقس .
|
|
|
|
|
|