|
المسلمون ومعاكسة اللبرالية باوروبا للكاتب رشيد خيون
|
يربط الكثيرون بين تواجد المسلمين بأوروبا والهجرة. بمعنى أنه ليس هناك إسلام متوطن أو أصيل في بلدان هذه القارة. وربما يستثنى من هذا الرأي مسلمي ألبانيا، والقسم الأوروبي من تركيا وروسيا، والبلدان الأخرى التي خضعت للسيطرة العثمانية، التي نشأت ونمت فيها جالية مسلمة من العنصر التركي، وقلة من المواطنين الأصليين. وما يخص أوروبا الغربية فالجيوش المسلمة وقفت على تخوم فرنسا من جهة أسبانيا. وفي إحدى الطلعات الإستكشافية قتل القائد العربي عبد الرحمن الغافقي، ولم يؤخذ من فرنسا غير أربونة التي أُلحقت بالأندلس (أسبانيا) في العصر الإسلامي. وظهرت فائدة هذه المدينة فيما بعد عند طرد المسلمين من الأندلس، يوم مرت ركبانهم عبرها إلى البلدان الخاضعة للعثمانيين من أوروبا الشرقية، فتضاعفت أعدادهم هناك. بطبيعة الحال، هناك شيء من الصحة في الربط بين التواجد المسلم بأوروبا الغربية، على وجه التحديد، وبين الهجرة، يكمن ذلك في اختلاف الطباع واللغة، وصعوبة التداخل بين المسلمين والأوروبيين. فلو نظرت في أحوال الجالية الباكستانية أو الهندية ببريطانيا، أو الجالية التركية بألمانيا لوجدتها بلداناً داخل بلاد. فلم يوحد الإسلام بين هذه الأقوام، لأن المساجد موزعة حسب القوميات والدول واللغات، وموزعة أيضاً حسب المذاهب والفروع الصوفية. فللسنُّة الباكستانينن مثلاً مسجدهم، وللشيعة الباكستانيين مسجدهم الخاص أيضاً، وللطريقة القادرية تكيتها وللطريقة الشاذلية تكيتها الخاصة أيضاً. فإذا كان المسلمون بعيدين عن التآلف بين بعضهم البعض فماذا يقال عن التآلف مع الأوروبيين، وليبرالية أوروبا استوعبت العديد من الأديان والمذاهب؟ يحمل المسلمون القادمون إلى البلدان الأوروبية معهم كل تفاصيل مواطنهم القومية والدينية والاجتماعية والمذهبية، وودقائق العادات والتقاليد. ويبذلون الجهد الجهيد في سبيل الاحتفاظ بها جيلاً بعد جيل. وهكذا لو زرت (بيد فورد)، وهي مدينة تقع شمال لندن، لشعرت أنك في إسلام آباد الباكستانية. ويكفي الإطلاع على طرائق الزواج وجلب العرائس من باكستان إلى بريطانيا إشارة إلى صعوبة التآلف في المجتمع الأوروبي، وهذا ما يحصل بين الأغلبية من المسلمين العرب والإيرانيين والهنود وغيرهم. وقبل الحديث عن التواجد السياسي أو الحزبي الإسلامي بأوروبا نأتي باختصار على بدايات أو جذور الإسلام في بلدان هذه القارة، ونبدأ من الحدود التركية. نجد هناك تحول ألبانيا إلى أغلبية إسلامية بفعل السيطرة العثمانية، ساعد في ذلك الفِرقة المذهبية المسيحية هناك، وتوزع البلاد إلى دويلات، كل منها أخذ يستنجد بالدولة المسلمة الجديدة، فكان للأخيرة السيطرة مدى قرون من الزمن. كذلك الحال في وجود الإسلام بيوغسلافيا وبلغاريا ورومانيا وغيرها من بلدان شرق أوروبا، فقد دامت السيطرة العثمانية هناك خمسة قرون وحوالي نصف القرن، مثلما كان الحال بالعراق والشام. وأتذكر عند المكوث بشمالي بلغاريا العام 1979، أشار لنا مدير المعهد الدراسي إلى ما يربط بين بغداد العراقية وبين روسا البلغارية أنهما أُديرا من قبل والي عثماني واحد، هو الوالي والصدر الأعظم العثماني مدحت باشا (قُتل خنقاً في سجنه 1884)، فقد تولى أمر روسا بعد نقله من بغداد مباشرة، وكلتا المدينتين حفلتا بإصلاحاته. أما اليونان وقبرص فيذكر أن المسلمين وصلوها من الشام، ولم يمكثوا فيها فترات طويلة، بل اكتفوا بأخذ الإتاوة السنوية منها. فليس في هذه البلدان ما يشد للإقامة بها مثلما كان الحال بأسبانيا، التي سيطر عليها موسى بن نصير وطارق بن زياد السنة 93هـ (711م). ويجب أن لا ننسى أن سقوط الدولة الأموية، وملاحقة الأمويين من قبل العباسيين في المشرق دفع إلى البناء والعمارة بأسبانيا بالستفادة من المعطيات المحلية. وما بدأ العصر الذهبي الأندلسي إلا بعد وصول عبد الرحمن الداخل (ت172هـ) ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك، هرباً من الرايات السود، وبناء البيت الأموي بالأندلس (139هـ)، بعد القضاء على أميرها يوسف الفهري. وبعد حكم إسلامي طال حوالي السبعة قرون، فقد أُسر آخر ملوكها المعروف بأبي عبد الله 898 هـ (1492م)، ولم يبق من المسلمين في أسبانيا والبرتغال إلا الشتات. ووصل المسلمون مالطة السنة 256هـ بقيادة الأمير أبي الغرانيق الأغلبي. لم يستمر بالتواجد من المسلمين بأوروبا، من هذا التاريخ، إلا مَنْ تخلف من الأتراك فيها، والقلة من سكانها الأصليين الذين أحتفظوا بإسلامهم. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كل الإمبراطوريات سواء كانت مسيحية أو إسلامية حاولت فرض ديانتها، منها مباشرة مثلما فعل ملوك أسبانيا من المسيحيين، ومنها عبر الضغوط مثلما فعل الأمراء والسلاطين المسلمون. ومن تلك الضغوط دفع الجزية والتمييز في المعاملة، حسب الشروط العمرية القاسية في معاملة أهل الذمة. وهذا الفرض لا يختص به الملوك والأمراء بل أن أحزاباً إسلامية حديثة ترى في أوروبا بلاد حرب، وهي تناضل من أجل إسلامها وتحويلها إلى دار هجرة. الشاهد على هذا ما يفتي به ويبثه حزب التحرير الإسلامي بأوروبا، عبر المنشورات والملصقات والخطابات. ورد في ملصق لهذا الحزب على الأعمدة وواجهات البنايات ومواقف الباصات مطلب قيام الخلافة ببريطانيا. وحتى تكتمل الصورة أنقل ما جاء في مقابلة مع أحد المتصدين للجمع بين القومية والإسلامية، وهو محمد عمارة: "أن بريطانيا إذا أصبحت مسلمة يجب أن تكون عربية"(جريدة الشرق الأوسط). أجد بين التواجد عبر الحروب أو الاحتلالات وبين التواجد عبر المنشورات والملصقات صلة قريبة، هي الفرض بالقوة. فالمنطق واحد ولم يبق من المنطقين غير كراهية أكثر، ونفرة أعمق. وهذا ما تفعله منظمات متشددة إسلامية أخرى، متجاهلة ما قطفه الأوروبيون من ثمار الحرية والليبرالية. فلو كانت الكنيسة في الحكم، حسب منطق القرون الوسطى، ما تمكن مسلماً أو يهودياً الهجرة إلى أوروبا من دون أن يُعمد. ويطرح السؤال نفسه، لماذا يتقاطر المسلمون إلى بلدان أوروبا، من كل حدب وصوب، ويتركون بيئاتهم المناسبة؟ أليس هو الطمع في الاستفادة من مناخ الحرية، وسهولة العيش اللذين توفرهما الليبرالية السياسية؟ هذا بالنسبة لمَنْ يعيش تحت طائلة الإرهاب ببلده، وبالنسبة للاجئين لأسباب اقتصادية هو الاستفادة من القوانين الاجتماعية والبحث عن فرصة عمل والتنعم بالمساعدة الاجتماعية والسكن والتعليم المجاني. يدخل ضمن الفئة الأولى الأحزاب الإسلامية، وهي بين اللوذ من ممنوعات بلدانها وبين استغلال مناخ الحرية. تنشط تلك الأحزاب عبر تنظيمات ومؤسسات خيرية، أو اجتماعية، أودينية كإدارة المساجد والمدارس الإسلامية. وقد زادت تلك النشاطات بعد ظهور ما عُرف بأفغان العرب. ففي التسعينيات، على سبيل المثال لا الحصر، هيمنت تلك الجماعات على مساجد بالكامل، وأهمها المسجد المركزي بلندن، وأخذوا يؤذون الجنائز عندما يؤتى بها للصلاة، فحاولوا طرد جنازة الشاعر نزار قباني لأنه كتب القصيدة التي غناها عبد الحليم حافظ "قارئة الفنجان"، وركزوا بالذات على المقطع الآتي: "قد مات شهيداً يا ولدي مَنْ مات فداءً للمحبوب". ونزار قباني لم يفتِ بذلك ولم يختلق حديثاً بل أن رواة الحديث تناقلوا مثل هذا الكلام بصيغ مختلفة. منها "مَنْ عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة"(الهندي، كنز العمال 3ص372-373، رقم الحديث: 7002). و"مَنْ عشق فعفَّ فمات فهو شهيد"(ابن حزم، طوق الحمامة، ص257). أيد بشروط الغالب من الفقهاء هذه الشهادة، مثل ابن حزم الظواهري وغيره. وسكت فقهاء وكذبها آخرون. كذلك اعتدوا على جنازة هاني الفكيكي، الناشط السياسي الشيعي العراقي، وحالوا دون صلاة الإمام على جنازته لأنه من الشيعة. صلى عليه صلاة الجنازة رجل دين شيعي يعتمر العمامة السوداء، وهناك الكثير مثل هذه المشاغبات، التي طالت الأحياء والأموات. ولو أخذنا بنظر الاعتبار ممارسات هذه الأحزاب والجماعات بالبلدان الأوروبية، وما خلفته ضربات الحادي عشر من سبتمبر لناطحات السحاب بنيويورك، وبناية وزارة الدفاع بواشنطن، وانفجارات قطارات مدريد وغيرها، نجد المخاطر تحيط بالمسلمين، فأصبح المسلم في نظر الأوروبي مجرد مشروع إرهابي، لا يجيد غير القتل. يعود ذلك إلى فتاوٍ ووصايا حاول فقهاء المنظمات الإرهابية اقتباسها من النصوص الدينية. فمَنْ يطلع على صفحة "مفكرة الإسلام" الألكترونية يجد العديد من هذه الفتاوى. ويطلع على برامج تثقف بالعنف والقسوة، وتصف المسيحيين بالكفار، مع أن المسيحيين هم سكان أوروبا، ورضوا أن يشاركهم اللاجئون المسلمون ثمرات الديمقراطية والمجتمع المدني. لم يكن أمر المنظمات والأحزاب الإسلامية بالسهل، فكثيراً ما يشرف أعضاؤها على المدارس والمساجد، ويضايقون الأوربيين لأسلمتهم. أتذكر أن أحد الباحثين البريطانيين تعرض أمامي لضغط من قبل أحد أعوان هذه الجماعات، فأخذ يطارده داخل المكتبة البريطانية من أجل إقناعه بدخول الإسلام، حتى وصل الأمر أن أخبر هذا الباحث إدارة المكتبة لما حصل له من إلحاح ومضايقة. لم تكتفِ تلك الأحزاب والمنظمات، وخاصة ذات الكثافة الباكستانية، باستغلال حريتها بالطريقة الصحيحة، بل أخذت الاستعراض في صلاة الجماعة في محلات التنـزه والراحة وسط لندن، مثل الهايدبارك، وتدريجياً خلقت مثل هذه الاستعراضات والمضايقات، في مناسبة وغير مناسبة، جواً من الاحتقان لدى الأوروبيين، على الرغم من أن حرية العبادة بأوروبا مكفولة عموماً، لكن استغلال هذه الحرية بشراهة أدى إلى قلب الآية، وتمكن القائمون بها، من غير قصد، بتقديم صورة شوهاء عن الإسلام والعبادة الإسلامية. فمن حسنات الليبرالية المعتدلة أنك تعتقد بما تشاء وتمارس ما تشاء، شريطة أن لا تسيء لغيرك ولا تُخالف قانوناً. لهذا، لا يولد استغلال الأماكن العامة من أجل التبشير الديني والحزبي غير الإيذاء بما تبشر له. إن وراء ممارسات الأحزاب والمنظمات الإسلامية المتشددة عدة أمور، منها إيمانها بالإكراه في الدين، بدلاً من الآية "لا إكراه في الدين". فهم يؤمنون بنسخها بآيات السيف التي وردت في سورة "التوبة"، والتي لها أسبابها وظروفها، ويؤمنون أنهم الأكمل والأفضل، وهذه مسألة قد تشترك فيها الأديان كافة، لكن من دون استفزاز الآخرين، وإثارة حفيظتهم. ومن حقك أن تعتز بممارستك الديني، وترى عقيدتك هي الأكمل، عليك أن تعطي الحق لغيرك أن يرى عقيدته من المنظار نفسه، والأصح أن لا تسعى إلى الانتقاص من عقائد الغي، مازلت تؤمن بإله واحد، أنزل رسالته حيث شاء. وقد جاء في القرآن : "الله اعلم حيث يجعل رسالته"(سورة الانعام 124). يتصل هذا بالتربية الدينية والاجتماعية التي ينقلها هؤلاء من بلدانهم. فمن الطفولة ونحن نحفظ النصوص التي تكفر غيرنا من الأديان الأخرى. وأن فقهاء مازالوا يفتون بتحريم استعمال الزهور، أو تحية غير المسلم، أو تهنئته بعيده أو مساعدته، بل حصره إلى الحائط عند ملاقاته، حسب ما جاء في الوصايا العمرية، وتأكيدات ابن تيمية (ت 728هـ) عليها في كتابه "مسألة في الكنائس". ثم جعلها الخميني (ت 1989) جزءاً من رسالته الفقهية "تحرير الوسلية" فصل معاملة أهل الذمة. فماذا ننتظر من تلك الجماعات إذا كانت طبيبة مسلمة تعيش بلندن تستفتي على صفحة إحدى المجلات الإسلامية فقيه مذهبها أيجوز لها مساعدة الجار المسيحي أو البوذي في حالة تعرضه لطارئ صحي؟ تستفتي وهي الطبيبة، الي تعلمت على يد مسيحي أو بوذي، وما تعني هذه المهنة من مستوٍ معرفي وإنساني عاليين. عموماً، أن التشدد أو التعصب بين المسلمين بأوروبا يزداد وطأة بين أعضاء الأحزاب الإسلامية، فهم يهيمنون على مساجد أو حسينيات (بالنسبة للشيعة)، ينفذون فيها توجيهات أحزابهم، وجماعاتهم، وتراهم مختلفون كطائفة بينهم البين. وعندهم أمر مصافحة النساء يحتاج إلى فتوى من إمام أو آية الله، وأن عزل النساء عن الرجال، رغم شدة الحجاب، أمر لا تفريط فيه. ويعامل بعضهم بعضاً ككتلة صماء، ليس فيها منفذ لغيرهم. شيدوا حصنهم داخل مدن مثل لندن، واستكهولم، وكوبنهاكن وباريس. ولهذا لم يستفيدوا من الحضارة التي حولهم رغم أن إيجابيتها التي دفعتهم للجوء إليها. وبطبيعة الحال سيخلفون بعدهم أجيالاً متعبة، منفصلة عن المجتمع، لأنهم نشأوا في بيوت مغلقة ومدارس مغلقة أيضاً. الدرس الأساسي فيها هو النص الديني، وبستغلون عطلة نهاية الأسبوع في السفر الجماعي. يسمعون خلالها التراتيل والقراءات الدينية فقط، وتعليم الأولاد العلم الديني واللغة العربية فقط بالنسبة للمتشددين العرب. الموسيقى فيها ممنوعة ومشاهدة غير القنوات الدينية محرمة أيضا، والهدف الأقصى هو زواج البنت وهي في الثانية عشر أو الرابعة عشر من عمرها. وعلى الرغم من ذلك لم يتمكنوا من خلق جيل مثالي بالنسبة لهم. لذا ظلوا يعيشون في صراع داخلي، همهم التأكيد على الهوية الاجتماعية والدينية. وقد أولد سلوكهم هذا شذوذ العديد من شبابهم، فهذا الغلق المحكم لم يمنع شبابهم من تعاطي المخدرات، والإنخراط في عصابات الجريمة. ومع ذلك لم يتمكنوا من تجاهل تفوق الإنسان الأوروبي العلمي والحضاري والشعور بالنقص تجاهه. تؤكد الأحزاب الإسلامية على هذا النمط من الحياة بدافع حزبي قبل أن يكون دافعاً دينياً. يشعر الفرد منهم بالضياع إن أنفرد عن الجماعة، واقترب إلى المجتمع الذي يعيش فيه. وإن سألت أحدهم عما يخلفه لأولاده، وهم سيعيشون في هذا المجتمع، يجيبك أنها الهوية. غير أنه لا يفكر على المدى البعيد، ولا يفكر في إيجابيات هذا المجتمع، أو ما سيعيشه أولاده أو أحفاده من إزدواجية، تقود بالتالي إلى النفاق بين المحافظة على المشهد الديني والعشائري وبين متطلبات المدينة الأوروبية. وحتى تكون الصورة واضحة أضطر إلى طرح أمثلة ملموسة، حصلت عليها من الحوار مع نماذج من المشغولين في الحفاظ على الهوية، خارج سياقها الاجتماعي والحضاري. قال أحد المنتمين إلى حزب إسلامي: "إن طعام البريطانيين نجس، فلا يجوز مؤآكلتهم"! قلت: لكنك تعيش من المساعدة الاجتماعية التي تحصل عليها أسبوعياً منهم! فكيف يكون نجساً مَنْ تعيش من خيره، ومن ضريبته التي يدفعها إلى دولته؟ قال: لا نصرح لهم بذلك. لكن نتفق فيما بيننا البين على هذا الموقف. قلت: وهذا نفاق. كيف تريد لنا أن نكون منافقين، بل وجاحدين، وأنت تذهب بنقودهم إلى الحج سنوياً، وهي ضرائب من مختلف الأعمال والأطعمة، ومنها المشروبات الروحية؟ وأن القرآن قال: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم". قال المقصود بقوله الشعير والحنطة، حسب تفسير آية الله النجفي، صاحب موسوعة "جواهر الكلام" في الفقه! قلت: وهل تجد القرآن بسيطاً إلى هذا الحد، أن يقول بالبديهيات؟ فليس هناك إشكال حول الحنطة والشعير، بل الإشكال حول اللحوم وذباحتها، وليس هناك تحريمات خاصة بالنبات. ومر َّمتشدد آخر على مشرب بلندن. فقال: هذا كفر صريح، يجب أن يتأدب هؤلاء. قيل له: إنها أرضهم، ولا يمكن أن تتحول كل الأرض إلى دور عبادة؟ فقال: لا! إنها أرض الله. وبالتالي هي أرض الإسلام، وستؤخذ منهم بالسيف آجلاً أم عاجلاً؟ هذا المنطق، وإن اختلف بين إيذاء الأوروبي بتنجيس طعامه وإحراجه في عدم مؤآكلته مع الاستفادة منه في كل شيء، وبين التفكير باستخدام السيف ضده، وفي أرضه هو منطق حزبي توجهه السياسة لا الدين. أما المسلمون غير المندمجين في أحزاب سياسية فتجدهم أخف وطأة في الامتناع من الاندماج، ولم يشكلوا مشاريع مؤذية. لكنهم بفعل ما يحملون من طباع عشائرية هيمنت على الدين أولاً ثم عششت في أدمغتهم كقوالب مقدسة، تجدهم يحيون في جماعات منعزلة. ندرك خطورة هذا التقوقع على مستقبل المسلمين الأوروبيي،ن بل وعلى مستقبل الليبرالية الأوروبية. إذا نظرنا في تزايد المهاجرين باستمرار إلى القارة. فحسب الموقع الألكتروني "مفكرة الإسلام"، وكتاب "المسلمون في أوروبا وأمريكا" لعلي المنتصر الكتاني يضم الإتحاد الأوروبي حوالى سبعة آلاف جمعية ومركز إسلامي ومسجد. مع علمنا أن هناك دول أوروبية مازالت خارج هذا الإتحاد. ويعيش بدول الإتحاد حوالى ستة عشر مليون مسلم. فبإيطاليا وحدها يعيش أكثر من مليون مسلم، جلهم من جنسيات أخرى، أو لنقل من أُصول أخرى، لهم حوالي خمسمائة مسجد. وعدد المسلمين بألمانيا يتراوح بين المليونين والثلاثة ملايين مسلم، غالبيتهم من الأتراك، ولهم أسواقهم ومحلاتهم التي تشبه الغيتو الطوعي. وتشعر وأنت بين أحيائهم ودكاكينهم أنك باستانبول لا ببرلين! وببريطانيا هناك أكثر من مليوني مسلم، يصلون في ستمئة مسجد، ولا تجمع بينهم المساجد ولا المنظمات التي يصل عددها إلى مئة وخمسين منظمة، فهم ينحدرون من عشرات الدول، ويتحدثون بعشرات الألسن، ويتوزعون على عدة مذاهب وشيع. أما فرنسا فلها الحصة الكبرى في عدد المسلمين، أي يبلغ عددهم ستة ملايين مسلم، وقيل أقل من هذا بكثير، وجلهم من المغاربة. ذلك بحكم السيطرة الفرنسية على المغرب، وتونس، والجزائر، ولهم مئة وثلاثين مسجداً. لقد تزايدت أعداد المسلمين ببلدان الأوروبية، وعلى وجه الخصوص الغربية منها، بسبب الهجرة إليها في الثمانينيات والتسعينيات من العراق وإيران ودول شمال أفريقيا. وتبقى تلك الإحصائيات متحركة، فالهجرة مستمرة، والعودة إلى البلدان الأصل تكاد تكون معدومة، لما في هذه البلدان من أفضليات. لم يبرز حزب سياسي إسلامي بأوروبا مشاركاً في الحياة السياسية. لكن مسلمين قلائل جداً استطاعوا الوصول إلى البرلمانات الأوروبية، عن طريق التصويت مع الأحزاب الأخرى. وليس بالضرورة أن النائب المسلم وصل إلى البرلمان بأصوات مسلمة، فالعلمانية الليبرالية تلعب دورها في هذه البلدان، فلم يعد هناك سطوة مؤثرة للمعتقد الديني في الحياة السياسية، والأوروبيون، في الأغلب، يصوتون للبرنامج سواء قدمه سياسي مسيحي أو يهودي أو مسلم. وهنا أريد أن أميز بين العقلية الليبرالية، التي يتعامل معها الأوروبيون وبين العقلية الاستحواذية التي تعامل معها مسلمون بأسبانيا مثلاً. فقبل فترة وجيزة عُقد مؤتمر للمسلمين الأسبان، وليس بالضرورة أنه مثّلَ مسلمي البلاد كافة، فتقدم زعيم جماعة المرابطين الإسلامية إلى التحذير من الرأسمالية وطلب معارضتها بشدة. كان اقتراحه أن يُقاطع المسلمون العملات الأوروبية، مثل الجنيه الإسترليني، والفرنك، والدولار، واليورو. وأن يستخدموا عوضاً عنها الدينار الذهبي الإسلامي. قال: "إن إعادة الدينار الذهبي إلى اقتصاديات العالم سيكون أكبر حدث يوحد المسلمين في العصر الحديث"(خدمة مفكرة الإسلام الألكترونية). ومعلوم أن عودة الدينار الذهبي لا تقل شطحاً عن دعوة حزب التحرير الإسلامي إلى بعث الخلافة الإسلامية ببلاد الإنكليز. ولا من ربط المصري محمد عمارة بين إسلام بريطانيا وعروبتها! فالهدف واحد لأن الدينار الذهبي لا يعود إلا بعودة الخليفة، والخليفة عربي قرشي كما توكد شروط الإمامة. وأكثر مساهمة في تشويه صورة المسلمين ببريطانيا أن يحتفل حزب التحرير علناً عقب الحادي عشر من سبتمبر مبتهجاً بالحدث، معتبره بطولة ونصراً مبيناً! تبقى الإشارة إلى أحزاب إسلامية عديدة أخرى تعمل في الساحة الأوروبية، لكن لا شأن لها في سياسة البلد الذي تتحرك فيه، بل هي إمتداد لتنظيماتها أو جماعاتها ببلدانها. يلتف تنظيمها حول زعيم منفي أو جماعة كونت تنظيماً يستغل حرية الصحافة والنشر بلا حدود، مثل الجماعة السعودية، التي تعرف نفسها بحركة الإصلاح، والإسلاميين التونسيين. ولكل الجماعات التي نسمع بها من المتشددين ناشطون ببلدان أوروبا مثل الهجرة والتكفير، وجند الإسلام العاملة بكردستان العراق، التي يحظى رئيسها بضيافة مريحة بالنرويج، وفروع من أحزاب عراقية تركمانية وكردية إسلامية أخرى. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أخذ المجال يضيق بهؤلاء، وذلك ضمن قوانين مكافحة الإرهاب. هناك مبالغة فيما يكتب حول عداء أوروبي للإسلام والمسلمين. لكن مَنْ ينظر إلى كثرة المساجد، وتحول العديد من البنايات إلى مقرات للجمعيات الخيرية الإسلامية، وممارسة الطقوس بحرية، للسنُّة والشيعة، في مولد نبوي أو في عاشورا، أو كثرة المطبوعات والمكتبات الإسلامية، وإعانات الحكومات الأوروبية المحلية للجمعيات الإنسانية ذات الصبغة الإسلامية سيجد انفتاحاً واستفادة تامة من أجواء الليبرالية. إلا أن التشديد الأمني ومتابعة العديد من الشخصيات والمؤسسات لا علاقة له بالموقف من الإسلام كدين، بل له علاقة مباشرة بالظرف الأمني الذي خلقه مسلمون. وإن كان هناك تعصب أو تشدد ضد المسلمين فلا يكاد يكون محسوساً، فالمجتمع عموماً ليبرالي لا يميل إلى العنصرية
|
|
|
|
|
|