دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
شيخ سودانى متوفى يهدينى كتابا بعد وفاته ويناولنى إياه من البرذخ يدا بيد
|
كنت فى بداية الثمانينات أعمل فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ، وكنت وقتها ممتلئاً شباباً وحيوية ، وأعمل لدى شركة سعودية بريطانية تعمل فى مجال أجهزة معالجة الكلمات (wordprocessing) وقد كانت وقتها هذه الأجهزة جديدة فى كل العالم ، وقد بعثتنا الشركة مرتين إلى بريطانيا للتدريب ومرة إلى الكويت ، قبل أن تعرف المنطقة الحروب والتمزق ، وعدنا من هذه الدورات بسعة معرفة وزيادة خبراتنا فى هذا المجال ، وقد كان دورنا ان ندرب العملاء بعد شراء الأجهزة وكانت باهظة الثمن ، إلا أن ذلك كان فى وقت الطفرة بالمملكة حيث لا تشكل الفلوس اى عقبة لأى جهة ،
على المستوى الشخصى ، كنت اعيش حياة رغدة ، ممتلئة بالحيوية والحضارة ، وقد كنت مدخنا شرها ، أقيم حفلات الميلاد لأبنائى بحضور الخواجات زملاء العمل ، بل كنت أنا نفسى (خواجة) بكل المقاييس ، ألبس كلبسهم وأتحدث بلكنتهم ، واقارع مجالسهم ، بل كان سكنى فى وسط سكنهم ، وكانت علاقتى معهم تمتاز بالندية والمثلية ولا ارى أى إختلافاً بينى وبينهم ، ولم أكن وقتها منتظماً فى صلاتى وصومى ونسكى ، بل طغت الماديات على حياتى ووفرت لى الحياة الرغدة كل الملذات والمشهيات وكل ما تشتهيه الأنفس ،
وكان لى زميل يعمل فى نفس الشركة ، من ابناء مدينة الأبيض العريقة يدعى (أبراهيم الشيخ شبور) ، وهو من اسرة عريقة معروفة ، وكان متصوفاً راقياً كثير ذكر الله وكثير الصيام والقيام ، وبحكم أننا سودانيين زملاء نعمل فى نفس المرفق ، فكثيراً ما كان يحدثنى عن شيخه وعن طريقته ويحثنى على إقامة الصلاة والصيام ، وكنت فى كل مرة اوعده خيراً من باب (التصريف) ، أى بالعربى (ياخ فكنا بالله) ، وقد تكرر منه هذا الموقف كثيراً حتى بدأت أتضايق من كثرة مواعظه
دعانى ذات يوم أن اذهب معه بعد الدوام لمقابلة شيخه ، والتعرف عليه وحضور مجلس من مجالسه ، وقد كنت فى السابق أتهرب من مثل هذه الدعوات بحجة (أنا ما فاضى) ، ولما رأيته فى هذه المرة قد ألحّ علي كثيرا ، فقد قلت له ، يا إبراهيم إن مجلسكم هذا سوف يحرمنى من أبسط قواعد الحضارة ألا وهو (التدخين) ، بالله شوفو (قلة العقل) ، وكنت أعنى أننى عندما أجالس هذا الشيخ فإننى لن أستطيع أن أدخن فى مجلسه ، حتى إنفجر إبراهيم فى وجهى وقال لى:
ياخ إنت عوير؟؟؟؟ سجائر شنو وكلام فارغ شنو؟ ثم تحدانى وقال لى (تعال بى سجائرك) ، وأردف قائلا ، ياخ إنت شيخى دى قايلو شنو؟ فقلت له: قايلو شنو يعنى ، ما شيخ قاعد فى مصلاية وماسك سبحة ، وكانت تلك هى غاية فكرتى عن الشيوخ ، فأفاض إبراهيم أكثر وقال لى: يا سيدى شيخى يحمل درجة الدكتوراة من جامعة السربيون فى فرنسا ، وكانت رسالة الدكتورة فى (الإقتصاد) ، (يعنى حتى ليست علوم إسلامية أو ما شابه ذلك) ، وأضاف شيخى محاضر فى جامعة الملك سعود بالرياض ، أكبر جامعة فى المملكة العربية السعودية تستقدم خيرة الأساتذة ، وقال لى هو يسكن فى سكن الجامعة ، (تعال بى سجائرك)
فقبلت الدعوة شريطة أن أحمل (سجائرى) معى ، فوافق إبراهيم
ذهبت مع إبراهيم إلى سكن اساتذة الجامعة ، وهو سكن فاخر بكل المقاييس ، فاتجهنا صوب منزل الدكتور ، وكان يدعى (عمر مسعود) ولا أحد من مريديه يناديه بلقبه العملى (دكتور عمر) بل ينعتونه حتى اليوم ب (شيخ عمر)
طرقنا الباب ، وكنا آتين للتو من الشركة ونحن مرتدين البدل الفاخرة ، وفتح لنا صاحب الدار بنفسه الباب ، أنظروا ماذا وجدت؟؟؟ شاب جميل ممتلىء نورانية عالية ، وهو مرتدى بدلة سوداء فاخرة وكرافيتة متناسقة ، وإبتسم لنا إبتسامة كبيرة مرحباً بمقدمنا وقال لنا (تفضلوا)
wow
شيخ يلبس بدلة شيخ يحمل درجة الphd شيخ محاضر جامعى شيخ ذو ثقافة فرنسية شيخ بكل هذه المواصفات وهذا الجمال وهذا الهندام ،
لقد ترك ذلك فى نفسى اثرا بالغاً حتى يومنا هذا
دخلنا إلى الصالون ، حيث وجدت مجلسا نورانيا عاليا ، أناس بملابس بيضاء نظيفة ، ومن كل الجنسيات ، فكان فيهم الموريتانى والسنغالى والسعودى والمصرى ، وكلهم متأدبون غاية الأدب مع هذا الشيخ ال modern
يا الله
طبعاً إستحييت أن اشعل سيجارة فى ذاك المقام ، بل تضاءلت وأحسست بتفاهة روحى ونفسى وجسدى ، وصرت صغيرا كالفأر أمام هؤلاء العمالقة ،
كانوا يجلسون فى (الصالون) وفى كراسى فاخرة ، وليس على الأرض (حيث كنت أتصور) ، كنت أجلس فى كرسى فى قبالة (الشيخ) ، ووجدت نفسى أمام متحدث لبق ، ويحمل مخاً وفهماً راقيا وعالياً ، كانوا يتحدثون فى مواضيع شتى ، وكان الشيخ يدير دفة الحوار ، وكان حديثه ينقط عسلا ، كان مقنعا وكان سلسلا فى أفكاره وفى عرض أفكاره ، وكان يقوم بين الفينة والأخرى ليقول مثلاً أن الإمام الفلانى رأيه كذا فى المسألة الفلانية ، وقد ذكر ذلك فى كتاب كذا فى صفحة كذا ، ويقوم بسرعة متجهاً نحو مكتبته الفاخرة ويتناول كتابا ويفتح مباشرة الصفحة التى تؤيد رأيه ، وأحسست ساعتها أن هذا (المجلس) غير طبيعى ، كان فعلا مجلس تحفه الملائكة ، مجلسا نورانيا عاليا فيه كثير رحمات وبركات لم آلفها فى حياتى الحضارية الطائشة ، فأحببت الرجل ، وأعجبت به ايما إعجاب ، وقد رايت لاحقاً الكثير من الكرامات لهذا الرجل الأسطورة ، وتعجبت أكثر عندما علمت أن الرجل يعود لأثرى الأسر فى بورتسودان وعطبرة ، وأن لديهم أموالاً كثيرة وعمارات ودكاكين وعقار كثير ، وهو لا يحتاج حتى لوظيفته كمحاضر فى الجامعة ، بل آثر الدعوة والتوجه بكليته لله الواحد الأحد.
فصرت بعدها أسابق إبراهيم فى الذهاب لهذا الشيخ وحضور الحضرات والمجالس النورانية ، وقد أثر فىّ هذا الشيخ تأثيراً بالغاً
سألت إبراهيم يوماً ، وقلت له (إذا كان هذا الشيخ بهذا المستوى العالى من الفهم والإدراك والعبودية ، فكيف يكون حال شيخه؟؟؟) ثم أردفت لأبراهيم ، على من تتلمذ هذا الشيخ؟ ومن هو شيخه؟؟؟ فقال لى شيخه موجود فى السودان فى منطقة يقال لها (أم طلحة) قريباً من (المناقل) ، وله زاوية فى (مدنى) وزاوية أخرى فى أم درمان - ودنوباوى ويدعى (الشيخ يوسف بقوى) ، وأرانى يوماً صورته فأحببت الرجل (دون أن أراه قط) ، وبالفعل لم يكتب الله لى رؤية هذا الشيخ حتى توفاه الله فى آخر الثمانينات على ما أعتقد
ثم قامت الشركة البريطانية بنقلى إلى مدينة جدة مديراً للتدريب فى المنطقة الغربية ، وغادرت الرياض ، وإنقطعت صلتى تماماً بالشيخ عمر ، وبزميلى إبراهيم الذى كان قد ترك العمل معنا وإنتقل لشركة أخرى
ومرت السنوات فى جدة ، وقد عادت (حليمة) لعادتها القديمة ، ركوب سيارات فاخرة وسكن مع الخواجات ، وأعياد ميلاد وكريسماس وغفلة ما بعدها غفلة ، حتى صادفت فى طريقى مهندسا سودانيا يدعى (أبوالقاسم) ، وكان هو الآخر صوفيا كصاحبى إبراهيم ، ووجدته يتحدث عن نفس أصحابى فى الرياض وعن الشيخ الذى إنتقل فى السودان (الشيخ يوسف بقوى) ، فحكيت له حكايتى مع شيخ عمر ومع زميلى إبراهيم ، فدعانى لمجلسهم فى جدة ، وكان شيخه فى جدة رجلا فاضلا كصاحبه عمر فى الرياض ، وكان ذلك الشيخ هو القنصل العام لسفارة السنغال فى جدة ، وكان أبوه شيخا وقورا يتبعه الملايين من المريدين فى مدينة (كولخ) بالسنغال يدعى (الشيخ إراهيم إنياس الكولخى) سنغالى أسود يعود نسبه لعقبة بن نافع.
وصلت إلى قناعة تامة أن هؤلاء الناس فى نعمة كبيرة وأنهم يسيرون فى الخط الصحيح ، وأن ما سوى ذلك باطل ، فلعنت الشيطان فى داخلى وصافحتهم وأخذت طريقتهم ، ودخلت فى (دروشة) كبيرة لم ينزل الله بها من سلطان ، وما زالت آثار تلك الدروشة باقية معى حتى يومنا هذا
وجاء ذات يوم
كنت من شدة (دروشتى) ، أبحث عن أى شىء له صله بالشيخ يوسف أو الشيخ عمر أو الشيخ الكولخى ، وسألت عن الشيخ عمر فعرفت أنه قد إستقر نهائيا فى مدينة عطبرة ، وله زاوية كبيرة فى الخرطوم ، وصادقت وقتها كثير من الشيوخ فى جدة وكان معظمهم من الأفارقة تشاديين ونيجيريين وسنغال ونيجر وكميرون وغينين ومغاربة وخلافهم ، وكان لى من أبناء دارفور رفقة حسنة وحظا وافراً ، كان معظم هؤلاء يسكن (الكرنتينة) ، أحد أفقر أحياء جدة ، كنا نلتقى يوم الجمعة فى منزل السفير ، نتجاذب الحديث ونقيم الأذكار ، وتتوطد علاقتنا مع بعضنا البعض رويدا رويدا ،
قال لى أحدهم يوماً أنهم يمتلكون كتابا نادرا للشيخ يوسف بقوى ، وهو النسخة الأصلية وله غلاف أخضر ، ولما رأوا شدة تعلقى بالشيخ يوسف ، قالوا لى ، إذهب معنا الآن إلى الكرنتينة ، ونحن نعطيك الكتاب ، خذه معك وأقرأه فى ليلتك هذه وأحضره لنا غدا السبت ، فوافقت على هذا المبدأ ، ذهبت معهم وأخذت الكتاب ، وجئت إلى المنزل وقرأت الكتاب كله فى تلك الليلة ، ونمت وقد وضعت الكتاب ذات الغلاف الأخضر فى (الكمدينو) قريبا منى.
تصوروا ماذا حدث؟؟؟
رأيت الشيخ يوسف بقوى فى منامى ذاك وفى ليلتى تلك ، وكنا أنا وهو واقفين أمام القبة الخضراء ، وكانت القبة الخضراء مكسية أيضاً بكسوة خضراء زاهية ، والشيخ مبتسم لى ، فقام من مقامه ذاك وإتجه صوب القبة الخضراء وقطع قطعة كبيرة من الكسوة الخضراء التى كانت تزينها وطبقها عدة طبقات وناولنى لها ، فتناولتها منه ، وصحوت من النوم ، ووقع نظرى أول ما وقع على الكتاب ذو الغلاف الأخضر ، حتى إختلط الأمر فى عقلى لثوانى معدودة ، فقد كان يبدو لوهلة وكأنه القطعة الخضراء التى ناولنى إياها الشيخ
وإنشرحت لهذه الرؤيا كثيرا ، وفرحت بها فرحاً عظيما ، حتى أننى كنت أنتظر الصباح بفارغ الصبر للذهاب لأصدقائى الدارفوريين لأقص عليهم الرؤيا وأعيد لهم الكتاب
ذهبت إلى المكتب ذاك الصباح وقد حملت معى الكتاب لآعيده لأصحابه ، وبالفعل إستأذنت من المكتب وتوجهت صوب الكرنتينة وأنا بكامل هندامى وسيارتى الفاخرة ، ودخلت أزقة الكرنتينة حتى وقفت أمام باب بيت أصحابى ،
ويا لهول ما رايت
وجدت الباب مفتوحا على غير العادة على مصراعيه ، ورغم ذلك أوقفت سيارتى قريبا من الباب ثم دلفت داخل المنزل ، فرأيت شئياً فظيعا ، وجدت أكوام من الزبالة على كل جانب وكيمان من الكتب والجرائد والملابس القديمة متناثرة فى كل مكان ، وكان منظرا فظيعا وكانت كل الغرف مفتوحة ولم يكن يوجد أحد البتة فى المنزل ،
تقهقرت إلى الوراء حتى بلغت الباب الرئيسى ، وخرجت من المنزل (المنكوش) ، فوجدت سودانيا فى الشارع ، وقبل أن اسأله عن الحكاية قال لى منتهراً يازول الجابك هنا شنو؟؟؟؟ قلت له أنا بسأل عن الجماعة ديل ، فقال لى بلهجة حازمة ، يازول أركب عربيتك وخارج نفسك سريع ، الناس ديل جات الشرطة كشتهم من الصباح ، ومازالت الشرطة متواجدة فى كل مكان ، فأهرب بنفسك من هنا وإلا تعرضت للمساءلة
وقد كان ، قدت سيارتى مبتعداً عن المكان وأنا فى غاية الفجعة ، والكتاب فى حوزتى وذهبت إلى الشركة ، ولم أسكت على ذلك ، فقد كان ثيرمومتر الدروشة فى أعلى درجاته ، فتحدثت إلى معقب الشركة وأخبرته أن لى أقرباء قد (كشوهم) هذا الصباح ، والمعقب هو السعودى الذى ينوب عن الشركة أمام السلطات الرسمية لإنهاء الإجراءات الحكومية ، فخرجنا سوياً وبحثنا فى مراكز الشرطة ، حتى وجدناهم ، وبفضل هذا المعقب الشهم تمكنت من الوصول إلي زنزانتهم ، وكان بينى وبينهم سائج حديدى ، فسلمت عليهم ، وقمت معهم بالواجب فى مثل هذه الظروف ، وودعتهم وإنصرفت ، وبالطبع لم يكن من الممكن تسليمهم الكتاب ، خصوصا أنهم فى قبضة الدولة وأن الكتب الصوفية وقتها كانت ممنوعة بل قد تؤدى إلى كارثة لصاحبها لو وجدت بحوزته. ومن يومها لم أرهم مطلقا وصار الكتاب ملكا خاصا لى ما زلت أحتفظ به ضمن مقتنياتى الثمينة ، وقد وصلنى كهدية من صاحبه المتوفى بل ناولنى إياه من البرذخ يداً بيد.
ولى مع الصوفية حكايات وقصص يشيب لهولها الولدان ، فما أعظم هؤلاء من قوم وما أعجب زهدهم وتقواهم وحبهم لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، ولم أجد تفسيراً لهذه الحكاية سوى أن الشيخ قد أهدانى كتابه وناولنى إياه يداً بيد وهو فى برذخه ذاكا
فما رأيكم دام فضلكم؟
|
|
|
|
|
|
|
|
|