|
خواطر من غرب السودان (رجل الفولة) تحديداً
|
كنت يافعا صغيراً فى السن ، واقفاً مع والدى (يرحمه الله) ومجموعة من زملائه المدرسين وبعض أشقائى فى ميدان فسيح إعتدنا أن نلعب فيه كرة القدم ، وكان ذلك فى بلدة وديعة تسمى (رجل الفولة) بغرب السودان ، ابان الستينات من القرن الماضى
كان الوقت خريفاً ، وكان كل شىء حولك مغطى بخضرة ساحرة حبيبة تضفى على النفس فرحة وبهجة وسروراً ، وكانت قطائع البهائم تمر من امامنا سعيدة بما حباها الله من خضرة وماء وظل ظليل وأنعم عليها بكل هذا الأمان ، فعاشت مع الناس فى الفة عجيبة ، كما كانت تمر القطط والغنم والأرانب وجداد الوادى وقطيع النعام فى مثل تلكم المناظر الرائعة التى نشاهدها فى قناة (ناشيونال جيوقرافيك) أو (أنيماكس) بمعايير اليوم ، وأسراب الطيور الملونة والمهاجرة تحيط بنا من كل جانب
بنيت المبانى الحكومية كالمدارس والمجلس البلدى ومحطة السكة الحديد والمستشفى وسكن الموظفين بتخطيط سلس عجيب ، وقد بناها الإنجليز بالحجر وما زالت بعضها قائم حتى اليوم ، بينما ترامت الأحياء الشعبية وبنيت بالقش وبعضها بالطين حول هذه الدوائر الحكومية فأعطت للبلدة سمة مميزة ، وعاش أهلها فى سلام ووئام ومحبة ،
تنظر شمالاً فترى فتيات من (البقارة) يضعن (القرع) على رؤوسهن ، ويمشين فى غنج طبيعى غير متكلف وسط كل هذا الخضار ، فتحس برائحة الجنة فى انفاسهن الزكية وهن أجمل خلق الله إنسانا ، تنظر جنوباً فترى صبية يلعبون ويسمرون فترتد ضحكاتهم وصيحاتهم عبر الأودية تردد صداها أشجار التبلدى ، وترقص على اثرها الزهور والرياحين والياسمين ، فتتدفق الحياه فى شرايين ملئت بأنقى أكسجين فى الدنيا ،
تنظر غرباً فترى الخضرة على مد البصر ، فتتابع من خلالها تحركات العرب الرحل بثيرانهم وعيالهم وحريمهم وبيوتهم وهوادجهم وكلامهم المنمق الجميل ، فالجميع هنا يتخاطب بالرحمة والأدب والعفة والطهر وسجع الكلام المسيرى ذو اللكنة الحنينة الممتلىء حيوية ونضار فيدخلون البهجة والمسرة إلى قلبك دونما إستئذان
تنظر شرقاً فتتراءى أحياء بعيدة ملئت عافية وجمالا ، تنظر فوقك فتخاطبك السحب بالصور العجيبة ، وتظلك بظلها الظليل ، تنظر اسفلك فتجد الخضرة والمياه أينما ذهبت ،
يتوسط البلده مسجد عتيق ، بنى بأكمله من القش بجهود أهل البلدة ، كما كان فى وسط السوق (بار) يديره أغريقى وزوجته ، يسمى (ديمترى) وزوجته (زوخيرا) ، وبالبار يمكن أن تشترى (الجبنة المضفرة) و (الزيتون) و(البيرة الباردة) وكل أنواع المعلبات الواردة من اوروبا عبر هذا الخواجة ، ولا تنسوا أن هذا كان فى الستينات ، وكان وقتها للبار زبائنه ، وعشاقه ، كما كان للمسجد رواده ومريديه الذين يمارسون فيه طقوس عبادتهم وصلاتهم للحى الواحد الأحد
غربت شمس ذلك اليوم ، واختلطت ألوان قوس قزح بالخضرة المفروشة ، بلون الشفق ، وإحمرار مخلوط بإخضرار مخلوط بأزق سماوى مخلوط بأبيض كالسحاب ، فشق صوت الآذان عنان السماء وسمعه كل من فى البلده ، وعنت الوجوه للحى القيوم ، ونحن وقوف مع والدى (الله اكبر) ، فردد والدى بصوت خاشع (الله اكبر) ، ثم ثانية (الله اكبر) ، فردد بعدها والدى (الله أكبر) فى خشوع مهيب وهمهم الباقون (الله اكبر) فى أدب راقى
(أشهد أن لا إله إلا الله) فيهمهم والدى وزملائه الحضور بأصوات خاشعة (أشهد أن لا إله إلا الله) ، ويكرر المؤذن ، فيكرر السامعون ، ونحن الصبية نتلفت ذات اليمين وذات اليسار ، ونراقب هذه (السيمفونية) بين نداء المؤذن وهمهمة الحضور ، فنحس أن هذا الشىء الروحى ، لابد له سر عجيب ، (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فيردد الحضور بنفس الهمهمة والخشوع ، فنستدرك حضرة وعظمة النبى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فيكرر المؤذن (أشهد أن محمداً رسول الله) فيكررون ، (حى على الصلاة) فتختلف الهمهمة هنا فيقولون (لا حول ولا قوة إلا بالله) فتتحرك عقولنا الصغيرة ، لماذا إختلفت الترديدة؟ لماذا لم يقولون (حى على الصلاة) ، وقبل أن تنتهى الدهشة يكرر المؤذن (حى على الصلاة) فتتكرر (لا حول ولا قوة إلا بالله) فتزداد الدهشة ، إذ أنهم لم يكونوا مخطئون فى الأولى ، فننتظر (حى على الفلاح) فيكررون (لا حول ولا قوة إلا بالله) فنزداد عجبا ، ويكرر المؤذن (حى على الفلاح) فيقولون فى خشوع (لا حول ولا قوة إلا بالله) ويختم المؤذن بصوت قوى واضح (لا إله إلا الله) فتضج الهمهمة ب ( نعم لا إله إلا الله) ويزيدون (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيله وأبعثه اللهم مقاماً محموداً الذى وعدته) فتضج الضفادع بالنقيق ، ويزداد صوت الطيور المهاجرة ، وتخشع البلده لرب العالمين ، وتمتلىء أرواحنا بشحنة روحية عالية ، فنتوجه نحو الصلاة ، فى الوقت الذى تأتينا (أم سعيدة) باللبن إستعداداً لوجبة العشاء التى ربما تكون (الدخن باللبن) أو (المرس بالعصيدة) أو (عشاء أفرنجى من دكان الخواجة) ونغط بعدها فى نوم عميق إستعدادا لإستقبال صباح جديد ولا يفارق جمال البقارة مخيلتنا الغضة ، ويعم البلدة السلام
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: خواطر من غرب السودان (رجل الفولة) تحديداً (Re: يازولyazoalيازول)
|
كنا فى العصارى ، نخرج للسهول الخضراء ، بل المروج الزاهية بالورود والخضرة ، وندى الأزهار حتى نكاد نغسل أيدينا من نداها ، فنختار سهلا مخضراً ، ونجلس فى وسط السهل كصبية يفع يلعبون فنتنافس فى رسم البيوت والأشكال الهندسية ، ونشق الطرق ونتنفس دعاشا طيبا مباركا ، حتى أتت إلينا ذات يوم (نعامة) تاهت عن قطيعها ، فحاصرناها من كل جانب ، وتمكنا من مسكها ، فما كان من شقيقى الأصغر أبوعبيدة ، وكان ذا بنية صغيرة ، فقفز إلى ظهرها ، فجرت به النعامة جرياً شديداً ، وهو سعيد ايما سعادة ، ونحن نجرى من خلفه نضحك ونتصايح ، فسبقتنا النعامة كثيراً لخفة جسمها وطول باعها ، فقضينا العصر حتى الغروب ونحن نداعب الطبيعة فى أجمل صورها ، فقز أبوعبيدة بخفة ومهارة من على ظهرها ، وهرولت منا بعيداً لتلحق بالقطيع
أكثر ما كان يخيفنا ويحذرنا منه الأهل هو وجود الضباع والثعابين فى تلكم المنطقة ، ولكنا لم نكد نراها وربما شاهدنا بعض ثعابين ضخمة تم قتلها فى ليلة سابقة ، أى نراها ميتة ، أو نسمع صياح (المرفعين) ليلاً ، يأتينا متقطعاً بين نقيق الضفادع ، كما كنا نصيد الطيور كالقمرى والبلوم ، مستخدمين بذلك (النبلة) ، أو نقوم بصناعة (عربات) من الصفيح ، ويتفنن أبناء البقارة فى هذه الصناعة اليدوية بشكل لا يمكن أن تتصوره من شدة الدقة والجمال ،
فهل يا ترى يعود ذا الزمن؟؟؟؟
| |
|
|
|
|
|
|
|