|
أغنياتنا الحزينة يمكن أن تفرق بين الأصدقاء إلى الأبد فكيف يحدث هذا؟ (قصة واقعية)
|
عندما إغتربنا فى منتصف السبعينات ، كنا فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ، شباباً اشداء أقوياء ، نبحث عن تحسين أوضاعنا وأوضاع أسرنابالسودان ، فقمنا بإيجار منزل متواضع به العديد من الغرف ، وتكدسنا فى هذه الغرف حوالى العشرة اشخاص ، يجمعنا هدف واحد وبلد واحد إسمه السودان ، فكنا مجموعة متآلفة كان من بينهم شقيقى (أبوعبيدة) ، وشاب جميل آخر إسمه (طه بشير) ، كان طلق المحيا هاشاً باشاً ومحبوباً من جميع أفراد المنزل ، وكان ينتمى فى الأصل لمنطقة (كوبر) بالخرطوم بحرى ، وكان أكثرنا حيوية وأكثرنا إجتهادا فى تحسين وضعه ووضع اسرته الكريمة ، كان فى متوسط العشرينات من العمر ، أكمل الثانوية ببحرى ، ثم أتيحت له فرصة الإقامة بالسعودية فترك التعليم الجامعى ، وإنخرط فى سلك الإغتراب ، وجعتنا الظروف فى ذلك المنزل بالرياض
بعدما أكمل طه بشير قرابة العام فى المملكة ، قام بإعادة تخطيط مسيرة حياته ، فقدم للجامعات المصرية ، وتم قبوله فيها ، وقرر أن يسافر إلى مصر لإكمال تعليمه الجامعى ، حتى يتمكن من العودة للسعودية وهو مسلحاً بشهادة جامعية تقيه شر الملطشة ، ويكون تقييمه فى المجتمع الجديد بفرص أرحب وأوسع من أن يكون خريج ثانوى فقط
فقمنا بتأييده وموازرته فى قراره الصائب ، وحانت لحظة الفراق
أذكر أن المطار كان قريبا جداً من بيتنا الذى نسكنه ، وكنت وقتها أمتلك سيارة صغيرة ، نركب فيها صباحاً مع بعض الأخوة الذين يشاركوننا المنزل ، فأقوم بتوصيلهم إلى أماكن عملهم القريبة ثم اذهب بالتالى إلى مقر عملى ، وكان هذا جزء من الروتين اليومى المعتاد ،
إتفقت مع طه بشير أن اقوم بتوصيله إلى المطار لتقله الطائرة إلى مصر حسب قراره الأخير ، ثم أقوم بتوصيل بقية الزملاء إلى أماكن عملهم ، وهكذا خرجنا صباح ذلك اليوم سوياً وحملنا شنطة ملابسه ووضعناها فى (الضهرية) ثم ركب طه بشير فى المقعد الأمامى ، وركب أبوعبيدة فى المقعد الخلفى ويرافقنا إثنان آخران من زملاء السكن ، وتحركت العربة ، وإنطلق صوت المسجل فى العربة بلحن حزين وفى توقيت عجيب ليقول المغنى:
كان بدرى عليك تودعنى وأنا مشتاق ليك
كان بدرى عليك والوقت طويل والأنس جميل فى سكون الليل
كان بدرى عليك وعلى وداعك يا المغرى وفاتن إبداعك
وينساب ذلك اللحن الحزين بين الكلمات
فلم أتمالك نفسى ساعتها ، وأجهشت بالبكاء ، حتى أننى لم أتمكن من مواصلة قيادة السيارة ، فتوقفت تماماً ، وجاء شقيقى ابوعبيدة ليتولى القيادة بالنيابة عنى ، وبدأ طه بشير يخاطبنى فى توادد ومحنة ليقول لى ، معليش يا هشام كلها فترة بسيطة ونرجع ليكم تانى ، ويطبطب على كتفى لأتوقف عن البكاء ، فوصلنا المطار ، وودعنا طه بشير داعين له بالخير وبالتوفيق وأنا أكفكف بقية دموع خرجت غصباً عنها من محاجرها ، وإنفض سامرنا ، وفارقنا طه بشير فى سفره هذا
لم تمر أشهر عديدة ، حتى سافر طه بشير من مصر إلى السودان فى أول إجازة حصل عليها من الجامعة ، وجاءتنا الأنباء الحزينة أن طه بشير إستقل القطار من حلفا ليذهب إلى أهله ببحرى ، ووصل القطار إلى محطة الجيلى ونزل طه من القطار ليشترى شيئا فتأخر فى الرجوع وتحرك القطار ، فانطلق طه يعدو خلفه حتى يواصل رحلته وقد صارت بحرى قاب قوسين أو أدنى ، ولكن القدر كان أسرع فإنزلق طه بين عجلات القطار ، ومات طه بشير فى الحال ، وقد كان آخر عهدنا به ، تلكم الأغنية الحزينة
كان بدرى عليك تودعنى وأنا مشتاق ليك
ومن يومها لم أسمع هذه الأغنية مرة أخرى ، بل لا أحتمل سماعها ، فقد أخذت عنا أحد أعز الأصدقاء وأحب الأحباب فمات طه بشير وماتت معه كل آماله العريضة فى الحصول على الشهادة وفى الزواج وفى مساعدة أهله وعشيرته ، وبدلا عن ذلك واروه التراب ودفنوه تحت الثرى ليبقى صدى حبه فينا إلى يوم يبعثون ، حتى دون أن تكتحل عينا والديه وأشقائه برؤية إبنهم المغترب العائد
رحمة الله تتنزل على قبرك الشريف بردا وسلاما يا طه
وبالفعل بالفعل (كان بدرى عليك) ، فهل يمكن أن يموت الناس بسبب إشارات أغانينا الحزينة؟
|
|
|
|
|
|