عفوا شيخ الكاروري فالمقارنة ليست في موقعها
13/08/03م
بقلم :- محمد صالح محمود
يحفظ الشعب الإرتري الجميل الذي طوق به شعب السودان الشقيق جيده، ويثمن عاليا مواقفه المشرفة معه طوال فترة نضاله الممتدة لما يقارب لنصف قرن من الزمان، وما ظل يقدمه له من دعم ومساندة و إيوائه لأعداد كبيرة من المهاجرين الإرتريين الذين امتدت إقامتهم لأكثر من ثلاثة عقود متتالية ، كما وانه وقف إلي جانب عدالة القضية الإرترية ومشروعية نضاله الوطني منذ اللحظات الأولى وقد كان التيار الإسلامي على رأس الأحزاب السياسية السودانية التي وقفت بصلابة مع عدالة القضية وآوت ونصرت وآزرت الشعب الإرتري وان ننسى فلا ننسي مواقف السادة الأستاذ الوزير الرشيد الطاهر بكر والشيخ صادق عبد الله عبد الماجد والمحامي ميرغني النصري وغيرهم من قادة العمل الإسلامي ورموز المجتمع السوداني الذين كانوا من أوائل من ساندوا عدالة القضية الإرترية ووقفوا إلي جانب الشعب الإرتري في نضاله المشروع وثورته الوطنية التحررية ولعل وقفة التيار الإسلامي في حادثة الأسلحة الشهيرة والمعروفة( بحادثة بري) المقدمة من الشقيقة سوريا كأول هدية لشعب إرتريا وثورته الأبية التي صادرتها حكومة سر الختم الخليفة واعتقل من جرائها الوزيران المناضل محمد جبارة العوض والرشيد الطاهر بكر خير شاهد على حقيقة الوقفة الصادقة للتيار الإسلامي وقياداته في كل المراحل والعهود كما وان سقوط حكومة عبود وانتفاضة ثورة أكتوبر كان احد أسبابها المباشرة موقف حكومة عبود من القضية الإرترية والمزاودة بها والمساومة عليها وتسليم عدد من المناضلين الإرتريين الشرفاء للحكومة الإثيوبية ، ونذكر جيدا وقفة قطاعات الشعب السوداني ونصرته للقضية الإرترية والمسيرات الهادرة وتظاهرات الغضب التي انتظمت معظم المدن السودانية وجابت كل الساحات والميادين والأسواق وهي تهتف ضد الحكومة، وتلك الجمعيات التي تشكلت في كل المدن السودانية ومن مختلف قطاعات الشعب السوداني وفئاته المختلفة ،نصرة للشعب الإرتري ومؤازرة لثورته المسلحة خير شاهد على ما يربط بين الشعبين من أواصر وعلائق أزلية أبدية تستمد أبديتها من حقائق التاريخ وأواصر الدين والقربى وأزليتها من وحدة المصير والأهداف المشتركة .
ما دفعني لكتابة هذه التوطئة لاستعراض مواقف الشعب السوداني الشقيق هو مقال كتبه الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري في صحيفة أخبار اليوم الصادرة صباح يوم الأحد 3-8-2003م العدد( 315
بعنوان }قبل الجلوس للمفاوضات من جديد : ماذا كسبت إفريقيا من انفصال إرتريا { يرد به على مقال للمهندس الطيب مصطفي مدير التلفزيون السوداني السابق والذي دعا فيه إلي انفصال جنوب السودان كحل للمشكل السوداني ولو أن المقال جاء ممهورا بقلم شخص مغمور يجهل حقائق التاريخ والواقع وينتمي إلي طائفة أو كيان ليس له دور في الساحة أو لديه سوابق ومواقف سالبة تجاه القضية الإرترية لما تحمست أو بادرت إلي الرد فقد تعودنا على مثل هذه الكتابات التي تجانب الحقيقة ترد في بعض الإصدارات.لكننا كنا نغض الطرف عنها من باب:- ( وأغفر عوراء الكريم ادخاره** واعرض عن شتم اللئيم تكرما ).
أما وان الكاتب هو احد قيادات الصف الأول للحركة الإسلامية واحد الرموز الذين لهم إسهامات مقدرة في هذا البلد الطيب أهله كان لزاما على أن أرد ذودا عن حق شعبي ودفاعا عن
(2)
سيادته الوطنية وسعيا يهدف إلي تصحيح المفاهيم ولتمليك الحقيقة الجلية التي لايمكن أن يزاود عليها احد.
واحسب أن ما جاء على قلم الشيخ الكاروري سقطة كبير وزلة عظيم وكبوة عملاق وهفوة مدرك حدثت نتيجة انفعال ورد فعل غاضب أثاره موقف كاتب عبر عن رأيه وكتب عما يراه صحيحا حول موقف معين. بالطبع ليست إرتريا طرفا فيه لا في البداية ولا في النهاية ولم يتناولها د. الطيب في مقاله موضوع رد الشيخ لا من قريب ولا من بعيد .
واعتقد جازما أن ما جاء في ثنايا مقال الشيخ الكاروري ما هو إلا ارتداد في فكر الشيخ وقناعا ته –وأتمنى ألا تكون تلك قناعته تجاه إرتريا أرضا وشعبا - في حق الشعب الإرتري. إذ أن الإسلاميين في كل زمان ومكان- لاسيما الحركة الإسلامية السودانية في كل مراحلها - لم يؤثر عنها موقف كهذا كما أنها لم تساوم في يوم من الأيام بخلاف بعض الأحزاب السياسية دون أن نضطر -لذكر الأسماء- التي كانت تكتنف مواقفها الضبابية إذ أنها دوما كانت تمسك العصا من الوسط وتعتري رؤيتها للحق الإرتري غبش وتذبذب حيث كانت تنظر للقضية الإرترية على أنها مشكلة إثيوبية داخلية لا شان للسودان بها وكانت هنالك أفكارا تجنح أحيانا إلى اتجاه مقايضة ملف إرتريا بملف جنوب السودان بين النظام الإثيوبي وبعض الحكومات التي تعاقبت على السودان.
لقد أقحم الشيخ إرتريا في المقارنة بين انفصال جنوب السودان و بقائه متحدا والمقارنة ليست موفقة، فإرتريا دولة استعمرت من قبل أجنبي ليس له ثمة حق يسنده ولا مبرر يدعم موقفه والحال هنا أشبه بحال السودان الذي كان مستعمرا من قبل الإدارة البريطانية وناضل شعبه في سبيل التخلص من ذلك الاحتلال، فكذلك الشعب الإرتري خضع للاستعمار الإثيوبي دون وجه حق وناضل كغيره من الشعوب المستعمرة حتى نال حقه المشروع ولم نسمع يوما بكاتب يدعو إلي بقاء الاستعمار البريطاني في السودان أو يتحسر في نيل الشعب السوداني لاستقلاله كما قال الشيخ في مقاله.
أما جنوب السودان فهو إقليم في دولة السودان ولم يكن في يوم من الأيام دولة لها كيانها المنفصل كما وان الحركة المسلحة التي تجلس حكومة السودان على طاولة المفاوضات معها في مشاكوس أو كارن أو ضاحية ناكورو بكينيا لم ترفع شعار تحرير الجنوب واستقلاله . لم ترفع شعارا ينادي أو يدعو في عهد من العهود بالاستقلال منذ تمرد توريت في عام 1955م قبل استقلال السودان بل نادت ولا تزال تنادي بتحرير السودان كما هو واضح في اسمها وأدبياتها (الحركة الشعبية لتحرير السودان ) وليس تحرير الجنوب ولم تتبنى الحركة في يوم من الأيام المطالبة باستقلال الجنوب أو انفصاله حتى حق تقرير المصير والاستفتاء على الانفصال كان مقترح المعارضة الشمالية في مقررات مؤتمر اسمرا 1994م ولم يكن واردا حتى في اتفاقية أديس أبابا1972م في عهد حكومة مايو ولا أريد أن أخوض في هذا الأمر كثيرا فلأمر يهم في المقام الأول أصحاب الشأن ولا أريد الدخول في تفاصيل التطورات المتلاحقة لمستقبل الجنوب السياسي .
أما في حال إرتريا- ولا أظن أن الشيخ يجهل ذلك- فان الأمر يختلف تماما فهي دولة لها مقوماتها وشخصيتها المميزة وقد كانت معروفة بحدودها الدولية – ومعلوم أن مقومات الدولة في العرف الدولي هو وجود الأرض والشعب والسلطة.
فالأرض كما أسلفنا معلومة والحدود معروفة والشعب مميز بتاريخه وثقافته وتراثه وتقاليده التي تميزه عن غيره مع الاشتراك في الروابط العضوية والثقافية العادات والتقاليد مع دول الجوار
(3)
والجزيرة العربية شانه في ذلك شان كل الدول المتجاورة وهي بالطبع عنصر سلام وتعايش وجسور تواصل بين الشعوب وعامل تكامل وترابط ولا يستدعي ذلك ولا يبرر بأي حال من الأحوال أن يظل شعب تتوق نفسه للحرية والإنعتاق يرزح تحت نير استعمار بغيض إلا إذا كان للشيخ فلسفة خاصة يعرفها هو دون غيره. والمعلوم أن في إرتريا قامت أحزاب وطنية وشكلت حكومة مركزية بمؤسساتها الرسمية التشريعية والتنفيذية والقضائية وبشاراتها المخالفة للحكومة الإثيوبية وذلك بعد أن عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة جلسات لمناقشة القضية الإرترية وأقرت بحق الشعب الإرتري في إقامة دولته واجتمع مجلس الأمن الدولي وافرد جلسات خاصة بشان إرتريا وشكل عدة لجان للنظر في استقلال إرتريا وأرسل عدة بعثات لدراسة الواقع الإرتري ميدانيا ورفعت تلك اللجان والبعثات تقاريرها والتي جاءت مؤكدة لحق إرتريا في التمتع بالحرية والاستقلال وعليه فان ذلك يعني بالضرورة أن لإرتريا كان وضعاً دولياً مميزاً ومعترفاً به. بيد أن الكنيسة والدوائر الصليبية واللوبي الصهيوني قد التف على الحق الإرتري ومارس الضغوط حتى أدى ذلك لارتباط إرتريا بالتاج الإثيوبي فيدراليا قسرا دون وجه حق رغم وضوح عدالة القضية ومشروعية نيل إرتريا استقلالها بتآمر من الدوائر الغربية رعاية لمصالحها في المنطقة ، لكن شعب إرتريا لم يستسلم لذلك التغول على حقه فقد صعد نضاله وأعلن ثورته المسلحة انطلاقا من قاعدة أن ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة إذاً المقارنة يا شيخنا غير واردة أطلاقا حيث لا وجه للشبه بين الحالتين . أما ماذا استفادت إفريقيا من استقلال إرتريا؟ فهو سؤال فيه الكثير من التهكم والاستفزاز لكن رغما عن ذلك يمكن القول أن استقلال إرتريا قد أضاف إلي إفريقيا دولة ذات سيادة وعضو كامل العضوية في المنظمات الدولية وتحققت رغبة شعب ونال حقه المشروع وأقام دولته فوق تراب أرضه بعد أن طرد المستعمر بقوة السلاح بإرادة قوية وعزيمة صادقة بعد أن مهرها دماء وأشلاء وقدم في سبيلها كل غال ونفيس حقق سيادته وانتزع حقه بعد نضال وثورة مسلحة بعد جهاد يعد الأطول في القرن و القارة قدم في سبيل ذلك آلاف الشهداء وارتالا من المعاقين والجرحى وأعدادا من الأرامل واليتامى والثكالى وتحمل كل معاناة التشرد واللجوء ولم يستسلم أو يتهافت إلى فتات الحلول الجزئية ولم يرض بالضيم والاتفاقيات المذلة. وقد وقفت مع الشعب الإرتري في محنته إبان مرحلة النضال ودعمت حركته التحررية كل الشعوب المحبة للحرية والإنعتاق، وساندت عدالة قضيته شعوب العالم وفي مقدمتها الشعب السوداني الشقيق الذي تحمل العبء الأكبر فآوى ونصر وأيد ودعم وساند وشارك في كل مراحل الكفاح المسلح وتحمل مشاركة الشعب الإرتري له في اقتسام لقمة العيش الكريم والخدمات الأساسية من صحة وتعليم ، وتحمل حتى تبعات الاستفتاء على استقلال إرتريا بعد التحرير للجالية الإرترية بالسودان .أما أن السودان قد شارك واسهم في استقلال إرتريا فنعم لقد قدمت حكومة الإنقاذ الدعم اللوجستي للجبهة الشعبية حتى تتخلص من نظام منجستو هيلي ماريام الذي كان يحتضن حركة قرنق وقد كانت تحتل أجزاءاً واسعة من الجنوب وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة انطلاقا من الأراضي الإثيوبية وتتلقى المساندة والدعم المباشر من نظام الدرق وبعد استقلال إرتريا لقد راهنت حكومة السودان على دوام صداقة افورقي لها، ولم تعر انتباها لنصائح المعارضة الإرترية المتكررة وتحذيرها من التمادي في دعم افورقي المعروف بتوجهاته الصليبية وارتباطاته المشبوهة منذ إعلان انفصاله عن جبهة التحرير الإرترية رائدة الكفاح المسلح وإعلان منفستو فصيله الطائفي في مطلع السبعينات من القرن الماضي ( نحن وأهدافنا ) .لكن تمادت حكومة السودان في سياساتها وقدمت لأفورقي فرص لم يكن يحلم بها وحققت له ما طلب وما لم يطلب بل طاردت المعارضة الإرترية ولكن وبعد فترة وجيزة .
(4)
وجه افورقي السلاح إلي السودان وقلب للإنقاذ ظهر المجن وتبني شعار إسقاط حكومة الخرطوم كهدف استراتيجي واحتضن المعارضة السودانية بكل ألوانها المختلفة ورغم ذلك لم تراجع الإنقاذ حساباتها وظلت تعاود بسط حبال الوصل والاتصال مع نظام افورقي . حقا إذا كانت المقدمات مبنية على أسس غير صحيحة فطبيعي أن تأتي النتائج تبعا لها غير سليمة وغير صحيحة .والآن وبعد أن انفض الاتفاق وفضت الشراكة التي لم تبن على أسس سليمة وموضوعية وبعد أن انتهي شهر العسل نجد رجلا بحجم ومقام الشيخ الكاروري يعتب على الإنقاذ وبحسرة وندم كبيرين يكتب آسيا على استقلال إرتريا وقد تناسى مواقف الحركة الإسلامية من عدالة قضية إرتريا ومشروعية نضال شعبها تلك الحركة التي يمثل الشيخ احد رموزها ويتحدث حديث الدهماء ويقارن مقارنة مجافية للواقع وبعيدة كل البعد عن المعاني الإسلامية ومخالفة لكل حقائق التاريخ إذ تحدث الشيخ عن إرتريا بطريقة مزرية جدا واستفزازية للغاية كان الأجدر به أن يتبع أسلوبا يحفظ للآخرين حقوقهم ويحترم خياراتهم خاصة إذا كان الحديث يتعلق بمصير شعب أو يتصل بخيار امة ومجتمع له خصوصياته. لقد تناول الشيخ الكاروري الموضوع ناسيا انه يقارن قضيته بحال دولة ذات سيادة بها شعب له أحلامه وآماله وآلامه تناول الموضوع وكأنه يتحدث عن كاب الجداد أو جزيرة بدين أو رهيد البردي .إن الشعب الإرتري على خلاف مع نظام افورقي وهذه حقيقة يدركها القاصي والداني وان افورقي قد أحال البلاد إلي جحيم لا يطاق وان إرتريا في ظل حكم افورقي قد تحولت إلي بؤرة توتر ومصدر قلاقل وعنصر عدم استقرار لكن هل هذا يعطي مبررا لرجل يرجى منه التعالي فوق الجراحات والتسامي عن دعاوى الرجرجة وعامة الناس أن يستعدي شعبا بأكمله وبجرة قلم يلغي حقه لمجرد أن نظام الحكم في تلك الدولة على خلاف مع نظامه أو يناصب حكومته العداء علما بان حكومة السودان هي من راهن على اسياس ونظامه وقدم له خدمات جليلة على طبق من ذهب ما كنا نتوقع أن يصدر مثل ذلك الحديث من رجل في قامة الشيخ الكاروري ولم يكن هنالك مبرر لحشر إرتريا وإقحامها في هذا الموضوع ولكن وللأسف الشديد قد حدث ذلك .ولعل الشيخ الكاروري قد فات عليه ادارك أن نظام افورقي- حليف الأمس عدو اليوم - هو الذي يناصب الإنقاذ العداء وليس الشعب الإرتري كما وان إرتريا ليست ملكا لافورقي ونظامه فهي دولة ذات سيادة و لعلم الشيخ أنها ليست مثلث في شريط حدودي حتى يمكن تناولها بتلك الصورة السطحية وان تعاطي القضايا الدولية لا يكون بتلك الطريقة التي أوردها الشيخ الكاروري .عموما لم أكن في يوم من الأيام أتوقع أن احد الرموز الكبيرة في التيار الإسلامي الذي نكن له الاحترام والتقدير ونحفظ له جميل وقفته مع قضايانا أن ينظر للأمور بهذه البساطة ويدعو وبصريح القول إلي تقويض دولة ذات سيادة ويتحسر على انعتاق الشعب الإرتري وتحرره من ربقة الاحتلال واسر الاستعمار ويتغول على حق شعب نال استقلاله بجدارة واقتدار فبعد أن انتزع حريته بقوة السلاح جنح إلي الاستفتاء على استقلال إرتريا ليقطع بذلك تغول كل من تسول له نفسه التشكيك في إرادة الشعب فجاءت النتيجة أن وقف الشعب الإرتري كله إلي جانب الاستقلال وقد شهد ذلك العالم اجمع . تمنيت لو جاء هذا المقال بقلم رجل يتعاطى السياسة مجردة من أي ارتباط ديني فلو كان الكاتب احد الذين يؤمنون بفصل الدين عن السياسة لكان الأمر مقبولا على مضض إذ أن ما يحكم العلائق في السياسة عند أصحاب التوجهات العلمانية هي المصالح والمصالح فقط لكن في حال الحركة الإسلامية ورموزها فان الأمر يختلف كثيرا ونحسب أن الشيخ يدرك ذلك أكثر من غيره.
http://www.awna1.com/augus8a.htm