|
اتفاق دارفور.. البند الثاني في خطة تفكيك السودان..
|
اتفاق دارفور.. البند الثاني في خطة تفكيك السودان
اتفاق دارفور.. البند الثاني في خطة تفكيك السودان 09/05/2006 محمد جمال عرفة** منذ ألمح وزير الدولة للداخلية والمسئول عن ملف دارفور أحمد محمد هارون إل تغير في الخطط الأمريكية تجاه السودان من خطة كلينتون القديمة القائمة على "شد الأطراف" عبر دعم حركات التمرد السودانية في شرق وجنوب وغرب السودان لتقطيع أوصاله، إلى خطة بوش القائمة على "تفكيك النظام" عبر سلسلة اتفاقيات سلام متعددة تفكك أوصال السودان، بحيث تخدم المصالح الغربية في إفريقيا بهدوء، والخطة تسير كما هو مخطط لها بقوة الضغوط الأمريكية/ الأوروبية!.
وبعد تنفيذ البند الأول الأهم في الخطة المتعلقة بتفكيك الجنوب (أقل من ثلث السودان) جاء الدور على البند الثاني المتعلق بتفكيك أو فصل غرب السودان ومنطقة دارفور (خمس مساحة السودان)؛ لتكتمل معالم خطة حصار النفوذ العربي الإسلامي ومنع امتداده للغرب والجنوب، حيث مراكز السيطرة الغربية والتنصير، قبل أن تستأنف قريبًا مرة ثالثة في الشرق (جوار إريتريا وأثيوبيا) لإكمال حصيلة التفتيت.
وهذه الخطة، محل التنفيذ العاجل والتي يجري منذ أشهر قليلة تكثيف الضغوط على الخرطوم بشتى الوسائل كي توقع عليها، تكشف عن مراحل متقدمة لخطط "تدويل" الأزمات الداخلية العربية كما يحدث في العراق ولبنان وغيرها، بحيث أصبح التدخل سيفًا مسلطًا على أي دولة تعاني مشكلات روتينية قبلية أو عرقية أو طائفية.
ولهذا كان من الطبيعي أن يقول دبلوماسي غربي شارك في مفاوضات أبوجا لـ"رويترز": "إن الأمر كله يتوقف على صراع القوة بين واشنطن والخرطوم، وإذا كان باستطاعة الأمريكيين انتزاع تنازلات من السودانيين"، وأن ينتقد مسئولون سودانيون سرًّا عدم وقوف الدول العربية مع السودان في محنة التفتيت، والاكتفاء بالدعوة لمشاركة قوات عربية أكبر في دارفور لتفويت الفرصة على القوات الأجنبية.
أما الأهداف الغربية، فهي تبدأ من السيطرة على موارد السودان خصوصًا البترول واليورانيوم والبوكسيت (دارفور ترقد على أكبر مخزون بوكسيت في العالم)، وصنع منطقة نفوذ غربية جديدة هناك، والسعي بالتالي لتفريغ المنطقة من القوى المعادية أو إضعافها، خصوصًا التيارات الإسلامية (ومنها جبهة الإنقاذ).
بل يمكن القول إن تسريع الخطة في هذا الوقت وتوفير عناصر النجاح لها مثل القرار 1591 من مجلس الأمن، وفرض عقوبات على أربعة مسئولين سودانيين، قد يستهدف استباق خطط أخرى لتيارات جهادية -منها تنظيم القاعدة- ومعتنقي أفكارها لمواجهة النفوذ الأمريكي والغربي في القارة السمراء.
تدخل دولي باتفاق.. أفضل
والحقيقة أنه قد توافرت عدة عناصر لتسريع هذا الاتفاق والتوقيع عليه، أبرزها:
1- الضغوط المكثفة على الخرطوم، والمخاوف الداخلية من تدخل دولي في دارفور قبل إبرام اتفاق سلام، بما يجعل الإقليم منفصلاً عن الحكومة لا تابعًا لها، خصوصًا أن التدخل بحجة أصبح أمرًا لا فكاك منه. وربما تفسر موافقة الخرطوم -بعد رفضها المشدد- على استقدام قوات دولية عقب توقيع الاتفاق مع حركة التمرد هناك دليل على هذا، على اعتبار أن التدخل الدولي باتفاق يحفظ سلطة الحكومة وبموافقة الخرطوم خير من تدخل بغير اتفاق.
2- ألقت الخرطوم بكل ثقلها السياسي في جولة المفاوضات الأخيرة وأرسلت نائب رئيس الجمهورية علي عثمان طه ومعه صفوة من أعمدة الحكومة والحزب والنواب والحركة الشعبية ورموز أهل دارفور إلى أبوجا؛ لتشجيع المتمردين على توقيع الاتفاق. وأسهم هذا في خلخلة مواقف المعارضة، كما أن مبادرة الخرطوم بالتوقيع من طرف واحد ألقت الكرة في ملعب حركات التمرد، وأنهت الضغوط على الخرطوم بما عجّل بتوقيع كبرى حركات التمرد.
3- أدت المعارك التي اندلعت على الحدود التشادية مع السودان بين قوات إنجامينا وقوات متمردة تسعى لإسقاط حكم الرئيس التشادي -سواء كان ذلك بتخطيط من الخرطوم أم لا- لنقص حاد في السلاح الذي كانت تحصل عليه قوات حركات التمرد في دارفور، وشغل هذا حكومة تشاد بنفسها وأصبح بقاؤها في السلطة أهم من مساندة حركات التمرد السودانية، فضلاً عن قيام عازل بشري من المعارضة التشادية المسلحة في مناطق تشاد الشرقية والجنوبية الملاصقة لدارفور، وشل يد تشاد عن اللعب في أرض دارفور.
4- دارفور -عكس جنوب السودان- لا تعاني مشكلة "تقرير مصير وانفصال"، ولكنها تعاني مشكلة "تنمية وقسمة الوظائف السياسية والثروة". وبالتالي فالهدف من التمرد كان تحقيق إنجازات تتعلق بتنمية غرب السودان وليس استمرار الحرب، خصوصًا بعد تقديم الخرطوم التزامات محددة في اتفاق السلام. وربما يعلم أهل دارفور أن المخططات الغربية بالتدخل في السودان يضرهم قبل الخرطوم؛ ولهذا اضطرت حركة تحرير السودان المعارضة لتوقيع الاتفاق باعتباره إنجازًا؛ لأن أهل دارفور يريدون إنجازًا سريعًا بعدما أرهقتهم ثلاث سنوات من الحرب. "الاتفاق" ليس هو الحل
رئيس وفد الحكومة السودانية وقائد جيش التمرد في دارفور يتصافحان عقب توقيع اتفاق السلام إذا كانت حرب التمرد في دارفور قد ظهرت في صورة قوى تطالب بحقوق سياسية واقتصادية وتنموية في مواجهة الحكومة، فالحرب الحقيقية قامت على أكتاف ثلاث حركات تمرد ذات طبيعة إفريقية، وفي مواجهة قوات حكومية أو قبلية أخرى تنتمي في أصولها لقبائل عربية، كما أن الصراع -رغم أنه بين مسلمين ومسلمين- اتخذ طابعًا قبليًّا وعرقيًّا؛ ولذا من المتوقع أن يؤدي توقيع اتفاق السلام لتهدئة وتيرة الحرب وأعمال العنف هناك مؤقتًا، ولكن تظل هناك حاجة لخطوات أخرى لتبريد نيران الفتن القبلية والعرقية.
بعبارة أخرى، فإن توقيع اتفاق السلام في دارفور وفي ظل وجود قوى أجنبية وجماعات تنصيرية ليس هو الحل الذي سينهي كل الأزمة، ولكنه سيكون مجرد مسكِّن مؤقت للحرب؛ وهو ما يتطلب جهودًا حكومية سودانية كبرى لرأب الصدع بين القبائل السودانية خصوصًا القبائل العربية (الرحل) مثل: "أبالة" و"زيلات" و"محاميد" و"مهريه" و"بني حسين" و"الرزيقات" و"المعالية" من جهة، والقبائل الإفريقية (المستقرة) مثل: "الفور" و"المساليت" و"الزغاوة"، و"الداجو" و"التنجر" و"التامة" من جهة أخرى.
صحيح أن نص الاتفاق على التوزيع العادل للسلطة والثروة قد يوفر قدرًا من التنمية للإقليم يقلل من المشاحنات حول الموارد القليلة المتوفرة، ولكن حقيقة أن الصراع هناك يدور حول الأرض والموارد بين مكونات سكان دارفور يتطلب اتفاقًا من نوع آخر بين السكان أنفسهم ومؤتمرات دينية وشعبية ومواثيق إخاء وتصالح بين سكان دارفور. وبغير هذا فسوف يبقى الرماد مشتعلاً ينتظر أن تنفخ فيه الأيادي الأجنبية التي وضعت أقدامها بالفعل هناك، وليس من مصلحتها انتهاء هذه العداوة بين الطرفين وإلا انتفت حجة وجود قوات دولية في الإقليم.
ويبدو أن الخرطوم تدرك هذا الهدف الغربي جيدًا وتدرك أن نية التدخل الأمريكي -تحت مسمى (الدولي)- موجودة سواء باتفاق أو بدون اتفاق؛ لأن الهدف إستراتيجي يتعلق بتحويلها إلى منطقة نفوذ أجنبية أمريكية وأوروبية، خصوصًا أنها أضحت كذلك بفعل الحرب، كما أن هناك إصرارًا ظهر على لسان المسئولين الأمريكيين على نقل قوات أجنبية للإقليم حتى بعد توقيع الاتفاق.
ولهذا تصرفت حكومة الخرطوم مع خطة التدخل على طريقة "أقل الخسائر"، وأبدت مرونة في التوقيع رغم التحفظات، وسعت في الوقت نفسه لحشد الموقف العربي والاستفادة من السلام في توحيد القوى السياسية في دارفور كي ترفض بدورها التدخل الدولي باعتبار أن السلام قد حلّ ولا داعي سوى لمراقبين لاتفاق السلام؛ أي تعاملت بحنكة مع نزاع دارفور وفق شهادات دبلوماسيين ومراقبين دوليين.
إجهاض التدخل الدولي
ومن ثَم يبدو المكسب الأهم لحكومة الخرطوم من وراء توقيع اتفاق دارفور -رغم بقاء فكرة التدخل- يتمثل في تعليق وإجهاض التدخل الدولي على الأقل مؤقتًا، وتأكيد أن التدخل يجب ألا يتم فقط بشروط وموافقة الحكومة السودانية، بل إنه لم يَعُد له ضرورة.
صحيح أن الحكومة السودانية تراجعت ضمنًا (عقب إعلان سابق لرئيسها البشير يؤكد فيه رفضها القاطع لهذه القوات الدولية)، في صورة تصريح لنائب الرئيس السوداني علي عثمان محمد طه، قال فيه إن السودان "يمكن أن يقبل وجود قوات دولية بعد اتفاق السلام"، إلا أن طه عاد وأوضح هذه النقطة بصورة أوضح في مؤتمر صحفي بالخرطوم، مؤكدًا "أن الإقرار بقبول دور الأمم المتحدة في دارفور بعد السلام ليس معناه إعطاء موافقة مسبقة" واستخدم عبارة "ليس كرت بلانش" مسبق لهذه القوات الدولية حتى تأتي عقب السلام مباشرة.
بعبارة أخرى استفادت الخرطوم من الاتفاق في تعزيز رفضها استقبال القوات الدولية، وتأكيد حقها في السماح بهذا أم لا حتى إنها عرقلت السماح لبعض مسئولي الأمم المتحدة إلى دارفور (إيان برونيك) لتثبت هذا المعنى، خصوصًا أن المنظمة الدولية أقرت من قبل بأن إدخال قوات إلى دارفور يستلزم الحصول على موافقة صريحة من الحكومة السودانية.
وقد أكد هذا جمال إبراهيم المتحدث باسم الخارجية السودانية بقوله: "الحكومة ستقيم إذا ما كانت ستحتاج إلى مساعدة القوات الأجنبية وربما تقرر طلب نشر قوات دولية"، إلا أنه استدرك قائلاً: "مثل هذا القرار هو من حق الحكومة.. والأمر الأكيد أنه لن تحضر أي قوات أجنبية إلى السودان من دون موافقة الحكومة".
ويعني هذا أن الخرطوم لم تتراجع عن موقفها بشأن التدخل الدولي؛ لأن تحذير الرئيس السوداني عمر البشير في نهاية فبراير 2006 من أن دارفور ستكون "مقبرة" لأي قوات أجنبية ترسل إلى هناك بدون موافقة الحكومة، ارتبط بشرط الموافقة الحكومية.
ومع هذا فالخطر لا يزال قائمًا. فإذا كان مبرر التدخل الدولي سابقًا هو أسلحة الدمار الشامل وغيرها، فقد أصبح المبرر الجديد هو "الإغاثة" وإنقاذ الإنسانية المعذبة التي تصنع قدرًا أكبر من التعاطف وتعطي مبررًا على التدخل؛ وهو ما يعني أن مبرر التدخل سيظل موجودًا ما لم تنجح القوى الداخلية في دارفور في التوحد ونبذ الخلافات عقب توقيع اتفاق السلام، وتنهي كل مظاهر الحرب والاقتتال؛ لأن الهدف النهائي للغرب "إستراتيجي" يتعلق بإيجاد منطقة نفوذ غربية في إفريقيا محورها السودان، ومن الصعب التخلي عنه.
"الاتفاق" ليس هو الحل..
|
|
|
|
|
|