|
مسارات مخالفة لأدونيس-محمد خلف-النص الاصلي الذي أوردت الحياة ملخصا له
|
بسم الله الرحمن الرحيم * * * * * يقول أدونيس: "خُذْ سَهْمكَ، وافعَلْ كما فعل ابن رشد"؛ أما أنا فأقول: "اتصل بنبع صافٍ، وتدفق كما يتدفق نهر دائم التجدد"؛ أو بعبارة أكثر وضوحاً: "استمسك بعروة وثقى لا انفصام لها، وتدلّى من بعدُ إلى غمار الحداثة بلا تردد". مسار مخالف لمدارات علي أحمد سعيد (أدونيس) - على أمل أن يتم محاورته في ضوء جديد
* * * * * محمد خلف الله عبد الله كاتب سوداني مقيم بمدينة لندن [email protected] في رحاب عيد الأضحى المبارك، وفي أعقاب تدافع الحجيج الذي راح ضحيته مئات المسلمين، يجمل بالأمة الإسلامية جمعاء أن تأخذ نفساً عميقاً استعداداً لتأمل جلال هذه المناسبة بعيداً عن التوترات أو المنقصات التي تحف بها راهناً؛ وأن تترحم على الموتى، وأن توصل العزاء لذويهم وأقاربهم؛ وأن تُكثر مجدداً من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لتؤكد، مرة أخرى، اندحار سلطة (الكهانة)؛ وأن تُحسن، فوق ذلك كله، الرمي، من على بعد، بجمرات ثلاث: جمرة (للسحر)، وجمرة (للشعر)، وواحدة أخرى (للجنون). فهي تحتاج إلى رمي جمرة على (الجنون) لكي تستعيد سلطان العقل؛ وتحتاج إلى رمي أخرى على (السحر) لتؤسس دولة العلم؛ وتحتاج قبل كل ذلك إلى أن ترمي كبرى جمراتها على (الشعر) لكي يصبح القرءان مقروءاً في أفق الحق بعيداً عن أجواء الفتنة التي توقظها التأثيرات المغالية لأنشطة المؤولين. ونميز هنا بين الشعر بوصفه صنعة لغوية مُنْتِجَةً للصور الفنية ومتخذةً إياها وسيلةً ذهنية موازية لإنتاج المعرفة، وبين الشعر بوصفه إبداعاً تلقائياً للقصائد التي تأتي وفق نسق معين، أكان ذلك وفقاً لأبحر الخليل المعروفة أو كان بغيرها مما تحقق بالفعل أو ما يمكن أن يتحقق بالقوة. الشعر بصفته الأولى هذه: شيطان مريد، مناقض للحق ولا مناص من محاربته وإخراجه عنوةً من حرم المعرفة إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. والشعر بصفته الثانية: غريزة لغوية فطرية لا يمكن دفعها لأنها في أساس اللغة الطبيعية التي تتوسط بين الفكر والعالم. هذه التفرقة ضرورية لأن الدفاع الذي سبق أن قدمه الجرجاني عن الشعر قد استند، دون انتباه كافٍ منه، على هذه الصفة الثانية؛ بينما جاء هجوم القرءان على الشعراء ومنع النبي من قول الشعر وفقاً للصفة الأولى، أي خشيةً من اختلاطه بالحق وتشويشه عليه؛ وهذا الموقف من الشعر بصفته هذه يوازي في بعضٍ من جوانبه الموقف الذي وقفه كثير من الفلاسفة والعلماء، بدءاً من أفلاطون وانتهاءً بأوستن؛ بينما صدر الموقف منه بصفته تلك، أي موقف الجرجاني الإيجابي منه، عبر الاختراقات المنظمة التي أحدثتها الفلسفات الأوروبية في جسد التراث الفلسفي اللغوي الأنجلوأميريكي، سواءً حدث ذلك في عقر داره بواسطة كل من فريغه وفيتجنشتاين الثاني وأوستن نفسه، أو كان ذلك بواسطة التيارات الفلسفية القارية المتلاحقة؛ من ظاهراتية، ووجودية، وبنيوية، وتفكيكية، وانتهاءً بالأفق الأكثر اتساعاً الذي فتحه تيار ما بعد الحداثة بقسميه الرئيسيين: المشاغب إلى أقصى درجات المهاترة والنسبية، والجاد الذي يعكف باستمرار على مساءلة الأحداث الرئيسية بقصد توليد معرفة جديدة بالتاريخ والإنسان والمجتمع. وإذا كانت تيارات الحداثة العربية تحتفي بالجرجاني لسبقه البلاغي ببعجه لعلمي البيان والمعاني، فإن هذا الاحتفاء يصبح خاوياً في غياب المؤسسات المنتجة للعبارة العلمية التي هي الآن في أساس هذه الثورة المعرفية والمنهجية التي تنتظم العالم من حولنا. ومع ذلك، فإن البدء بالجرجاني وإعادة الروح لمساهماته القيمة هي أوفق بكثير من تركها نهباً للمآل الذي كان يشتكي منه طه حسين، أي استحالتها إلى ملخصات بائسة لا تبرئ جرحاً ولا تنعش روحاً. وأول ما يمكننا فعله بصدد هذه المناقشة التي نحاول إرساءها مع أدونيس هو تبني تعريف الجرجاني للنظم واتخاذ حرية التصرف فيه دليلاً على الإعجاز القرءاني. بمعنى آخر، إذا كانت العرب تقسم الكلام إلى شعر ونثر، وتقسم النثر إلى مرسل ومسجوع؛ فيمكن أيضاً تقسيم الشعر إلى مرسل وموزون؛ وبهذا يصبح الكلام نفسه نظماً، بفساده أو إعوجاجه يبطل المعنى أو يختل؛ وبما أن الفساد والإعوجاج يغشيان النثر مرسله ومسجوعه، كما يغشيان الشعر مرسله وموزونه فإنه لا يصح أن يُقال على القرءان إنه نثر أو شعر، بل هو نظم ومعجزته الكبرى أنه لا عوج فيه ولا فساد. التقسيم الذي أشار إليه أدونيس في "سياسة الشعر"، لا يخلو من وجاهة منظوراً إليه من الزاوية التي يرى منها، إلا أنه لا يفي بغرضنا هنا وهو إيجاد تعريف موافق للقرءان. فهو يقول إن هناك "من الناحية الكمية، طريقتين في التعبير الأدبي: الوزن والنثر، ومن الناحية النوعية أربع طرق: أ- التعبير نثرياً بالنثر (ويمثل لذلك بفقرة من أكثم بن صيفي). ب- التعبير نثرياً بالوزن (ويمثل لذلك بأبيات من زهير والمتنبي). ج- التعبير شعرياً بالنثر (ويمثل لذلك بفقرة من أمين نخلة/أوراق مسافر). د- التعبير شعرياً بالوزن (ويمثل لذلك بأبيات من أبي تمام والشريف الرضي وامرئ القيس والشريف العقيلي). فهذا التقسيم على وجاهته المنطقية، يبدو مثل سرير بروكست عندما نحاول أن نضع فيه ما هو سابق للتقسيم المنطقي نفسه، أي الكلام الإلهي. وتلك هي نفس المعضلة التي واجهت في الماضي ممثلو النخبة القرشية حينما حاولوا قسره على البنية المنطقية للنظام المعرفي السائد آنذاك، فلم يستطيعوا درجه ضمن سجع كاهن أو نفثات ساحر أو رجز شاعر أو تخليط مجنون. لذلك فإننا نتبنى تعريف الجرجاني مطمئنين، ونقبله كما قبله من قبل طه حسين، حيث قال لا يصح أن يُقال إنه نثر أو إنه شعر فهو لا يتقيد بقيود الشعراء وأفضل ما يُقال إنه قرءان. أدونيس هو أحد رواد الحداثة العربية الذين غيّروا شكل اللغة وأسلوبيتها السائدة خلال العقود الخمسة الماضية. وخلافنا معه لا يمس هذا الجانب، فقد خرجنا كلنا، بصورة أو بأخرى من معطفه؛ لكنه يمس محتوى الحداثة وجوهرها، ومن هنا تكمن أهمية الخروج عليه في هذا المنعطف بالذات؛ حيث تشتد الحاجة إلى كسر حدة الاستقطابات، ورأب الصدع، وايجاد القواسم المشتركة والحدود الدنيا من الاتفاقات لمجابهة تحديات الحداثة التي أنفق أدونيس أجمل أيام عمره في الدفاع عنها ونقدها والتبشير ببسط سلطانها. وتنبع أهمية هذا الموقف من أدونيس ليس بوصفه فرداً عادياً تتفق معه أو تختلف، وإنما بوصفه شخصية محورية داخل الثقافة العربية. ففي غياب "المثقف" في صورته الكلاسيكية، وليس التقنية التي طورها غرامشي، نهض "الشاعر" قبل غيره بأعباء ملء الفراغ. وعندما نقول كلاسيكياً يتبادر إلى الذهن شخصيات محورية في قامة بيرتراند رسل وجان بول سارتر ونعوم تشومسكي وإدوارد سعيد؛ وعندما نقول تقنياً تتوافد إلى المخيلة جموع العلماء والأطباء والمهندسين وعشرات المهن التي لا ينهض مجتمع حديث من غير مساهماتها. ومع الإقرار بوجود مئات الكتب والدراسات التي تُعنى بتوصيف العلاقة بين المثقف والسلطة في المنطقة العربية، إلا أن الغائب عن مجتمعاتنا حقاً هو ذلك التشديد الضروري على الأهمية المحورية التي تكتسبها شخصية "الشاعر" فيها، هذا إذا أردنا بالفعل استكناه علاقاته المشتبكة أو الملتبسة مع السلطان. وإذا كان الشعر، بوصفه صنعة لغوية، واحداً من المداخل التي اعتمدها الفكر النقدي الحديث - بدءاً من هايدجر وانتهاءً بجاك ديريدا – لتليين بنية الفكر الأوروبي وإعادة تركيبها أو تفكيكها، فإن ذلك المدخل كان مناسباً له تماماً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تمسكه بالوظيفة المرجعية للغة وتضييقه على الشعر وطرده له من ساحة الفكر؛ أما اعتماد هذا المدخل نفسه داخل الثقافة العربية فلم يكن سوى دفع للأبواب المفتوحة أصلاً، فالشعر لم يكن محارباً أو مطروداً بل كان هو سيد الموقف في معظم فترات التاريخ العربي المعروفة، ولم يلق التجاهل أو يعرف التناسي سوى فترة العهد النبوي التي تشاغل الناس فيها عنه بالقرءان. ولكنه سرعان ما عاد قوياً موفور العنفوان تحت مظلة استقراء اللغة العربية توطئة لتقعيدها وطرد أقيستها، الأمر الذي نصبه أصلاً لغوياً موازياً. بمعنى آخر، إذا كان "الشعري" عند هايدجر (أو "الأدبي" عند ديريدا أو "الروائي" و "الفيلمي" عند رولان بارت) هو وسيلة نقدية فعالة لإضعاف مؤسسات الحداثة التي غزت العالم واستعمرت شعوبه ونشرت الدمار في أوروبا عبر حربين عالميتين فتاكتين، فإن "الشعري" عند أدونيس قد استهدف، تحت مقولة "الثابت"، مؤسساتٍ تقليدية قادت وما زالت تقود معارك الكرامة ضد التدخل الأجنبي، كما حافظت وما زالت تحافظ على المجتمع من خطر الذوبان الكامل في ثقافة الآخر. هذه المؤسسات تحتاج إلى التقويم المتأني الذي يبرز نقاط القوة ويسلط الضوء على المناحي التي تستحمل التطوير أو الجوانب التي تقبل الإسقاط، بدلاً من حملة الإضعاف العدمية التي تحاكي الآخر وتسكت عن مواطن ضعفه البنيوية. وإذا كانت بعض مؤسسات الحداثة، كالمؤسسات الطبية والعلاجية والصناعية والعسكرية والزراعية، على سبيل المثال، قد صادفت نجاحاً نسبياً في مجتمعاتنا، فإن نجاحها النسبي هذا يُعزى بدرجة أساسية لضعف المؤسسات المحلية التقليدية وعدم قدرتها على التنافس مع الوافد الأجنبي؛ أما المؤسسات التي ارتبطت باللغة القومية، كالمؤسسات التعليمية التقليدية والمجمعات اللغوية والفقهية والعلوم التي ترتبط بها من نحو وبلاغة ونقد أدبي وتصوف وتفسير وفقه ومنطق وعلم كلام، فقد تسمرت في مكانها لغياب المنافس الأجنبي وضعف المنافس المحلي. هذه المؤسسات اللغوية المحلية هي التي وجه إليها أدونيس سهامه النقدية، مع إن عبء التغيير يقع في الأساس على "الإبداعية" العربية التي تنشد ترتيباً جديداً للخارطة الثقافية، وليس على المؤسسات التقليدية التي تدافع ببسالة عن حقها الطبيعي في البقاء. أما الفلسفة، فإذا ما تم حصرها في الحدود الضيقة لفرع المعرفة المحدد، فإننا يمكن أن نتفق مع الجابري في تقييمه المجحف لنسختها الإسلامية باعتبارها توظيفاً أيديولوجياً لمحتوى فلسفي أجنبي هو الفلسفة الإغريقية؛ ولكن إذا ما نظرنا إلى تأثيرها من خلال آلتها المنطقية على العلوم العربية التي نشأت في القرون الهجرية الأولى، فإننا نجد أنها قد اخترقتها من أقصاها إلى أقصاها. اعتراضياً، يمكن أن يُقال نفس الشيء عن أدونيس؛ فلو انحصرت كتاباته في ذلك النوع الجديد من الكتابة الشعرية لربما لم يحفل به أحد أو ربما اندغم صوته ضمن هذه الفوضى اللفظية التي ما زالت تثيرها من حولنا قصيدة النثر؛ ولكن كتاباته، هي الأخرى، قد اخترقت التراث العربي من أقصاه إلى أقصاه. وإذا طلب منا أدونيس اليوم أن نفعل كما فعل ابن رشد، فإنه يطلب منا دون انتباه كافٍ منه أن ندخل إلى عالم "الثابت" الذي يرفضه من باب خلفي؛ فأوروبا لم تنجز حداثتها إلا بعد أن وجدت طريقة ملائمة لتجاوز الإرث المنطقي الأرسطي، بدءاً من ديكارت الذي مهد للثورة العلمية وانتهاءً بفريغه ورسل اللذان أنتجا البدائل الكمية التي مهدت للثورة الرقمية التي نشهدها اليوم. ومن ناحية أخرى، إذا كانت قراءة ابن رشد لأرسطو قد أفادت الفكر الأوروبي ومهدت، إلى جانب مساهمات أخرى، إلى إرساء مبدأ فصل الدين عن الدولة الذي يشكل أحد الدعامات الأساسية التي استندت إليها الحداثة الأوروبية، فإن إيجاد طريقة ملائمة لتجاوز القراءة الرشدية نفسها ربما يشكل الخطوة الأولى نحو تأسيس حداثة عربية تستند إلى مبدأ استقلالية أجهزة الدولة والقضاء في إطار الهيمنة الفوقية لعامل الدين الذي يمكن أن يتمثل في شخص مقبول أو هيئة تشريعية منتخبة. بمعنى آخر، يمكن الانتقال من مبدأ "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" إلى مبدأ "أنتم أدرى بشئون دنياكم". وفي رأينا، أن المفتاح الرئيسي للتغيير، أو كلمة سره الرقمي إن شئت، لا يمكن التعرف عليها إلا من داخل؛ فعلى سبيل المثال، لولا الفتوحات التي أحدثها السياب وصحبه من داخل المؤسسة الشعرية التقليدية بإيجاد طريقة ملائمة للتعامل مع ثابتها البنيوي، لما وجد أدونيس الطريق ممهداً لإحداث ثورته اللغوية، ناهيك عن ربيبته قصيدة النثر التي كان من الممكن أن تموت بجلطة الدماغ أو السكتة القلبية. المؤسسات العلمية، كما يفيدنا توماس كون، تعمل هي الأخرى بنفس هذه الكيفية، حيث يعمل العلماء الطبيعيون الاعتياديون داخل منظومة مفاهيم متفق عليها ويُعض عليها من قبل المجمع العلمي بالنواجذ؛ ووفقاً لذلك، فهم لا يتزحزحون عن معتقداتهم العلمية مهما كثرت من حولهم الحالات التي تخرق مفاهيمهم، لكنهم يتراجعون فقط حينما يتمكن العلماء المبدعون بينهم من إنشاء نظرية جديدة تكون لها قدرة أكبر على التفسير. وفي هذا الخصوص، قد اشتكى توماس كون مرّ الشكوى في حياته، وفي الكتاب الذي صدر بعد موته، من الذين ينقلون نموذجه إلى العلوم الإنسانية مركزين على جوانب "الإبداع" في تناسٍ تام لفعالية "الإتباع". ولا يخفى على القارئ المتابع أنه من الممكن وصل هذا الموضوع الشيق بالرجوع إلى كارل بوبر وديفيد هيوم أو بالقفز أماماً إلى بول فيرباند وجان فرانسوا ليوتارد، ولكن ما يهمنا هنا هو وصله بالمقولات الأدونيسية الرئيسية ومن هنا جاءت إعادة صياغة مفاهيم توماس كون لتتناسب مع الموضوع الذي نحن بصدده الآن، وهو توفير مادة معرفية صالحة للعمل كأساس للتحاور المفيد مع أدونيس. خلافنا مع أدونيس كما أشرنا إلى ذلك سابقاً لا يرتبط بمقولة الشكل وإنما يمس محتوى الحداثة نفسها، لذلك لا بد لنا من فحص التعريفات التي أوردها في تقديمه لمصطلحي "الثابت" و "المتحول"، ولمفهومي "الإبداع" و "الإتباع" وذلك حتى يتركز خلافنا على جوهر المشروع الأساسي الذي تبناه علي أحمد سعيد منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي. ولكن هناك بعض الملاحظات التمهيدية التي يمكن أن تسهل مهمة الفحص: فإذا كانت تلك الفترة الباكرة تتزامن مع مناخ الاستقطابات العالمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فإن الأمة الإسلامية بأجمعها تجد نفسها اليوم، من غير إرادتها، مستقطبة بإزاء الآخر الغربي الذي ظلت الحداثة العربية تعتمده، إلى جانب التراث، بوصفه واحداً من طرفي المعادلة الضرورية التي من المفترض أن تقود، في النهاية، إلى "النهضة" أو "التنمية" أو "التقدم" أو ما شئت. كما يمكن أن نلاحظ أن أدونيس قد أنجز سفره النقدي الضخم: "الثابت والمتحول" تحت عدة ضغوط: منها الأكاديمي، ومنها الأيديولوجي، ومنها السياسي؛ وقد شكلت هذه الضغوط مجتمعة عائقاً معرفياً ضخماً أمام هدفه الرئيسي وهو مساءلة الأصول التراثية. على الصعيد الأكاديمي، لم يكن الوقت المخصص لإنجاز رسالة الدكتوراة أو ضخامة المادة المراد وصفها وتحليلها بكافيين للتوقف طويلاً أمام عبارة تراثية مربكة أو موقف تاريخي محير أو مفكر يستعصي على التصنيف السهل. وموقفه من الطبري يمكن أن يشهد بذلك؛ فمؤلف "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" لا يُبحث له عن كيفية، ناهيك عن كيفيات، اعتمدها في تغليب وجهة نظره وتمريرها وسط ذلك الكم الهائل من الشروح والتأويلات التي حفل بها سفره، وإنما يتم تلخيصه في مقتطف وحيد، توطئةً لصرفه في تعليق موجز مفاده أن "كلام الطبري واضح لا يحتاج إلى تأويل"؛ بل يتم وضعه في سلة واحدة مع ابن حزم وابن تيمية تحت ديباجة "الثابت"؛ ولو تأنى الباحث قليلاً في فحص هذه السلة عينها للمس بيديه حركية معرفية يغار من شدتها وعنفوانها أكثر عناصر "التحول" حركةً وحيوية. على الصعيد الأيديولوجي، لم يكن من الممكن، في أجواء الهيمنة الماركسية على حركة اليسار العربي آنذاك، إنجاز دراسة عن التراث (البنية الفوقية) بمعزل عن الاقتصاد (البنية التحتية) أو تقديمها بدون إبراز الحجج المناسبة في الدفاع عن إغفاله؛ وبما أن الباحث كان يحاول في تلك الفترة الباكرة، التوفيقَ، على حد زعمه، بين "الحلاج ولينين"، فقد كان لا بد له أن يقدم لأتباع الأخير، على الأقل، بياناً مقنعاً بجدوى هذا التوفيق، وذلك الإغفال. على الصعيد السياسي، لم يكن من الممكن لأدونيس في مناخ الاستقطاب السياسي السائد آنذاك إلا أن ينحاز لمعسكر "الثبات" أو "التحول"، بدلاً من التمتع بحيادية الباحث وصبره ومثابرته وقدرته الفذة على النفاذ إلى التداخلات والفروق الخفية التي تستعصي على التناول المتعجل؛ هذا إضافة إلى أن هذا الانحياز ينتزع، بالضرورة، المبادرة من الباحث ويفقده القدرة على التجميع ولم الشمل، وبالتالي يجرجره إلى الانخراط في صراعات الماضي وبالتالي ارتكاب الخطيئة العربية المعرفية الأصلية مجدداً، أي تلك التي نتجت بسبب "رمي السهم الأرسطي" ذاته، على حد تعبير أدونيس نفسه، على قلب اللغة والتي انقصم من جرائه الاستدلال النحوي إلى شقين: بطين بصري استند إلى استقراء ناقص وآخر كوفي اعتمد على حالات فردية لم تقو على زعزعة شمولية القياس أو ضعضعة المبادئ التأسيسية للنحو البصري؛ ومع ذلك يعلن أدونيس انحيازه إلى النحو الكوفي، وكان الأجدر، إن لم يكن من الانخراط بد، أن يقف موقف ابن جني المراوح بين الشقين أو أن يقضي وقتاً قصيراً معه في مسائلة معاناته وحيرته أمام السؤال اللساني الأساسي حول أصل اللغة: هل هي مواضعة بتوقيف أم باصطلاح؟ وربما بسبب من تلك الضغوط المجحفة، فإن أبرز ما يمكن أن يُقال حول المصطلحات والمفاهيم الأدونيسية الرئيسية هي أنها، أولاً: أفقية، لا تكترث كثيراً لبعد العمق؛ وهي ثانياً: آنية، تهدر سياق التاريخ؛ وهي ثالثاً: مثالية، تكتفي بترميز الوقائع والأحداث عوضاً عن الوقوف المتأمل عندها توطئةً لاستقاء الدروس المناسبة بخصوصها. وهي كلها، كما تلاحظ، مزايا منهجية مناسبة مع مزاج الشعراء، ولكنها غير كافية في ذاتها لاستنباط الحقائق والعبر. ونعني بأفقية، أنها قائمة على حد الثنائية الشاملة التي لا تقيم وزناً كبيراً للتداخلات المتعددة المستويات والتي تعكر صفو المفاهيم وتشكك في نقائها وجدوى اعتمادها كأداة بحثية لا يرقى إليها الشك، خصوصاً إذا كانت المادة المراد بحثها بحجم تراث أمة كاملة. ونعني بآنية، أنها تعدل منعرجات التاريخ لتصل بسرعة إلى صيغة قابلة للكشف دون تعريضها نفسها إلى الاستقصاء المتأني. صحيح أن أدونيس قد ذكر في مقدمة الطبعة المنقحة في عام 1990م لكتاب "الثابت والمتحول" أنه "تاريخياً، لم يكن الثابت ثابتاً دائماً، ولم يكن المتحول متحولاً دائماً"، ولكن سياق البحث لا يبرز إجرائية المصطلحات أو يشدد على جانبها الوصفي، وإنما يؤكد على العكس منحاها التقويمي؛ ليس في زمن الدراسة فقط، وإنما منقولاً إلى الوقت الحاضر كما تشهد بذلك محاضرته الأخيرة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ونعني بمثالية، أنها تسقط المفاهيم على الواقع بدلاً من اتخاذ الحدث وسيلة لفهم الواقع. وقد يبدو أدونيس محقاً في هجومه على النتاج الشعري الذي "يتمحور حول واقع الحدث" بدلاً من تحويل الحدث إلى رمز، كما بيّن ذلك في "سياسة الشعر"؛ ولكن وجاهة هذا القول تسقط عند نقل آلية الترميز من الشعر إلى البحث في التراث. هذه النقطة الأخيرة، هي في أساس المتاعب التي تواجهها ثقافة الأمة التي عهدت بقسم خطير من مهمة إنتاج المعرفة داخلها إلى الشعراء الذين اعتادت على تدليلهم، بدلاً من مواجهتهم ومقارعتهم الحجة بالحجة عندما يهاجر القول من حيز الشعر إلى مجال المعرفة؛ أو حينما يتزحزح القول من الشعر بصفته الثانية التلقائية إلى الشعر بصفته الأولى المناهضة للحق. من حق أدونيس بوصفه شاعراً أن يحيا داخل اللغة وأن يوازي شعرياً بينها وبين العالم، لكننا بإزاء موقفه من التراث لا نجد أمامنا من خيار سوى أن نقيمه بمعيار الحق. فهو عندما يتوصل إلى نتيجة ما فإننا نريد أن نستيقن من أنها تستلزم من المقدمات التي طرحها؛ على سبيل المثال، حينما يقول: "أعرف الثابت، في إطار الثقافة العربية، بأنه الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو، فهماً وتقويماً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص، وبوصفه، استناداً إلى ذلك، سلطة معرفية"؛ أو حينما يقول: "أعرف المتحول بأنه، إما الفكر الذي ينهض، هو أيضاً، على النص، لكن بتأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده، وإما أنه الفكر الذي لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد أساساً على العقل لا على النقل"؛ حينما يقول ذلك فإننا لا نتوقع أن يقود كل ذلك منطقياً إلى "إمكانية التعرف، بشكل أكثر دقة وموضوعية"، كما زعم، "على حركة الثقافة العربية-الإسلامية" (التشديد من عندنا)؛ لأنه ببساطة، إضافة إلى أن النتيجة لا تستلزم من المقدمات التي ضمنها في التعريفين فإن الباحث قد يحتاج إلى رسالة دكتوراة منفصلة لمساءلة الفاصلة القائمة بين النعتين المضافين إلى "حركة الثقافة". كما أننا نتساءل ما هو الخطأ المنطقي الذي ارتكبه الطبري حين توصل إلى النتيجة التي مفادها أن "القائل في دين الله بالظن، قائل على الله ما لم يعلم"؛ خصوصاً وأنها تتطابق مع الحديث المأثور: "من قال بالقرءان برأيه فأصاب، فقد أخطا"؟ ما الخطأ في هذا الفهم حتى يستنتج أدونيس من ذلك "أن بنية المعرفة في الإسلام (دين ودنيا؟)، بحسب الطبري، هي بنية نبوية نقلية، وليست بنية بحث وتساؤل عقليين"؟ (التشديد والأقواس في هذه الفقرة من عندنا). أخيراً، فإننا نتساءل ألم يكن من الأجدى لأدونيس، بوصفه باحثاً، الوقوف طويلاً عند تنازع الصحابة في حضرة النبي أو عند احتضاره بدلاً عن إحالة أخباره إلى الهوامش؟ وألم يكن من الأجدى له، بوصفه شاعراً، تأمل تلك اللحظات المفعمة بأقصى درجات التأجج العاطفي والروحي، بدلاً من السعي مسرعاً إلى اجتماع السقيفة والانخراط مع المتصارعين في جدلهم الذي كرّس، تاريخياً، بصورة جنينية انقسام الأمة إلى نيف وسبعين فرقة؟ بل أليس من الأجدى، في الحقيقة، للأمة جمعاء أن ترجع الآن، في هذا المنعطف بالذات، إلى تلك اللحظة الروحية المشحونة، وأن توجه اللوم لنفسها متحدةً، ومتجاوزةً لما أسماه ابن عباس بالرزية، ومشرئبةً من بعدها إلى كلمة سواء مع الآخرين، شاكرةً لهم حفاظهم، في زمان تيهها وانقسامها، على مشعل الحداثة؛ ومتمثلةً قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "يا حسان أشكرُ الناس للناس أشكرهم لله تعالى"، بدلاً من اختزال حضارة كاملة في أخطاء دولة مستكبرة أو حكومة منتخبة قابلة سلمياً وديمقراطياً للتغيير. في الختام، لا يسعني إلا أن أشكر أدونيس، نفسه، على لغته الممتعة وعلى طاقته الإبداعية المتجددة، وعلى توفيره لمادة معرفية حية ومحرضة على التفكير. كما أشعر إزاءه بنوع من الحرج خشيةً من ظلمه أو التجني عليه، فقد ركزت نقدي، بصورة رئيسية، على المقدمة التي كتبها للطبعة المنقحة لكتابه "الثابت والمتحول" في عام 1990م؛ لا لأنها، من حيث هي مقدمة، تكشف بطبعها عن مواطن الضعف الأساسية للنص أو مواضع تفكيكه، كما يقول بذلك جاك ديريدا؛ بل لأنها كانت مجدِدةً لبحث كُتب في أوائل السبعينات، ولأنها توفر في حجمها الصغير نسخةً قابلةً للتحاور عبر الصحف السيّارة؛ ومع ذلك، تظل الخشية قائمة، لكن عزائي أن تثير هذه المداخلة شهوة التحاور وأن تقود إلى الإطلاع على السفر الأدونيسي الأساسي أو إعادة قراءته والاهتمام الجاد بآرائه الثاقبة وبمساهماته الفكرية القوية.
|
|
|
|
|
|
|
|
حول التراث والأصالة\احمد محمود (Re: Masoud)
|
الأخ\ مسعود شكرا على هذا التصدير لمثل هذه الكتابة التى تحاور العقل وتفتح مجالات عدة للتساؤل المعرفى الخلاق. وفى تقديرى فأن ادونيس ، اختلفنا أو اتفقنا معه يحمد له اشتغاله المعرفى فى اللا مفكر به وحفره الأركولوجى فى التراث العربى. وتعلم ان الأشكالية الحقيقية فى الواقع العربى ترتبط بضرورة الوعى بجدلتى الأصالة والمعاصرة، وحول هذه الجدلية تكمن معادلة التقدم والتخلف. واذا كان أدونيس قد تحدث عن الثابت والمتحول فانه يشتغل على هذه الأشكالية بوعى مختلف وجرىء، واقصد اشكالية التراث والمعاصرة. لأنه وضمن الوعى النقدى لظاهرة التخلف فى المجتمعات العربية والأسلامية لا بد ان نعترف بأن الأتكاء السلبى على التراث يشكل الحالة التى يعيشها المسلمون عبر هذا العصر.لا أقول ان الدين هو سبب التخلف لكن اقول ان الفهم الذى يحاول ان يتمسك به البعض منشدا الى التراث بوعى استاتيكى هو سبب التخلف الراهن.فاذا أردنا النهوض حقا فان نبش التراث ومن ثم الأشتغال على المتحول يبدو ضروريا. ولكن ما يقابل الذين يعملون على نبش التراث ونقده هو التخويف وهدر الروح وهذا ما يعمل بصصده العقل الثابت الذى يقف عند الماضى ليحاكم به المستقبل.ان معادلة التقدم والتخلف تحتاج الى غربلة الماضى غربلة علمية وموضوعية، فنفى التراث كلية يناقض المفهوم العلمى كما القبول به وبشكل ميكانيكى يناقض العقل ذاته. اذن ما نعيشه راهنا فى مجتمعاتنا من انزواء وتخلف حضارى سببه عقل الثبات والى الآن لم نشتغل على العقل المتحول بما هو كاف من أجل الأمساك بالتطور والعمل على اقامة مشروع نهضوى حقيقى يرتبط بأرضية الأمة بدلا من استيراد منتجات العصر الذى نعيشه دون ان نتعامل مع العقل الذى انتج هذه المنتوجات وهذه هى الكارثة. فأروبا لم تستطع ان ترتبط بالعصر معرفيا الا بعد ان تخلصت من تراث الأديان السلبى الواقف ضد العقلانية والمعلى من الكهنوت. واليوم نحن فى حاجة ان نشتغل اكتر على جدلية الثابت والمتحول ونعلى من المتحول وهذا يعنى ان التحول هو الأصل والثبات هو الزيف عينه.وتعلم فان فى الثقافة العربية التراثية يقبع تياران مهمان هما البرهانى والبيانى، وقد مثل البرهانى(العقلى) ابن رشد ومثل البيانى(الفقهى) ابو حامد الغزالى. فما أحوجنا عبر هذا العصر لأستعادة ابن رشد على حساب كاتب المنقذ من الضلال،الغزالى. وهذه التيارات فى الثقافة العربية لمست الثابت والمتحول وما صراعات المعتزلة والأشعرية الا جزء من هذا الصراع لكن داخل المنظومة الواحدة.نخلص الا ان أدونيس قد اجتهد كثيرا ويرجع له الفضل فى وضع الحداثة امام هذا التحدى، تحدى الجمود العربى وتحدى تيار الثبات فى الثقافة العربية. هذه مداخلة مبسطة قصدت منها اعلاء هذا الأسهام الذى تقوم به فى نقل هكذا كتابة، اذ اتابع ما تنقله وهو فى المحصلة النهائية يشتغل ضد ثقافة التبسيط والتسطيح التى يشهدها هذا المنبر احيانا، ويجب ان ننصرف عبر هذه المرحلة الى الكتابة الجدية لأنها وحدها تهزم عقل الثبات وترتبط بالمتحول. لك شكرى\ أحمد محمود
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حول التراث والأصالة\احمد محمود (Re: سعدية عبد الرحيم الخليفة)
|
مسعود ياموزع الواح المعرفة
كامل التقدير لك وللصديق محمد خلف
اعادنى هذا الكلام الى مقاربة دونيس بين الصوفية والسريالية ووحدت المدار
هذا الذى لم يقال لم يقال 000000000
لكن هل محمد خلف نفسه خرج من ثابت تبعيته الادراكية حين ثبت ماثبت وحول ماحول
الموضوع عميق وداير قعده كماقال ود الشيخ وترقدو عافية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حول التراث والأصالة\احمد محمود (Re: بدر الدين الأمير)
|
أن تتقاطع مع أدونيس فهذا يعني أنك تمتلك ألمعرفة ومن يمتلك ألمعرفة يستطيع ومن دون وجل أن يساهم في إضاءة هذه ألعتمة ألتي تعيشها ألأمة
ألعربية وألإسلامية[إنظر للجدل ألقائم ألآن بالسودان حول فتاوي ألترابي
محمد خلف يمتلك تلك ألمعرفة
سأعود مناقدا هذه ألمعرفة
| |
|
|
|
|
|
|
|