لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 04:35 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-21-2006, 08:55 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية

    لا وطن في الحنين..



    رواية(في أجزاء)

    الجزء الأول : المخطوطة السرية ...

    أحمد ضحية

    إهداء:

    إلى كل الذين أحبهم أحمد



    (القسم الأول : حواشي المخطوطة السرية)



    إذا كان تاريخ شعوب البلاد الكبيرة هو تاريخ جلابي ود عربي..

    فان تاريخ جلابي ود عربي: آلاف السنين ..



    مدخل :

    اقتربت العربة النقل الكبيرة مني بسرعة أكثر فأكثر .. كأنني أسمعها تصرخ وهي تهاجمني :"سأدهسك .. سأدهسك يا علي .. سأدهسك .." . كانت سرعتها تجاهي مدهشة , وأنا مسمّر على الأرض من فرط الخوف , لا أقوى على رفع قدمي , لأركض وأنجو بنفسي , كانت أطرافي قد تثلجت , وقلبي قد توقف عن النبض , والعربة تقترب أكثر فأكثر .. وفي اللحظة التي صدمتني فيها , وأصبحت تحت عجلاتها , صحوت من نومي مفزوعا ..

    تلفت حولي في الغرفة المظلمة . نهضت . أضأت النور . مضيت الى المطبخ . فتحت الثلاجة وأخرجت زجاجة مياه معدنية . بللت حلقي الجاف , وأخذت أجول ببصري بين علب البيرة " هانكن" و" وستيلا" والزبيبة والبراندي (خمور مصرية رديئة الصنع) , في الصالة , التي لا تزال بقايا دخان السجاير عالقة في أرجائها كأنها دخنت للتو ..

    يا لهذا الكابوس المرعب الغريب . أكاد أجن , فهذه الأحلام التي تلاحقني كلما نمت ,تجعلني لا أقوى على التمييز بينها, وبين الواقع الفعلي الذي أعيشه . ما عدت أعرف هل أنا هو أنا حقا أم أنا صدى لذكرى بعيدة , ربما تتمثل في مملكة ساورا البائدة , أو مملكة الجوار أو الحلفاء أو مملكة الجبل والوادي , أو جلابي ود عربي هذه البلدة التي عشت فيها عددا من اللحظات , التي تبدو لي الآن لا متناهية .. هل أنا صدى لذكرى تتمثل في هذه الأماكن السحيقة أو القريبة فحسب أم لي وجود فعلي , هو هذا الوجود الراهن الذي صحى من الحلم مفزوعا وأضاء النور وفتح الثلاجة وجال ببصره في أنحاء الشقة و..

    بالأمس حلمت بأنني في ساورا البائدة , أتنقل كروح هائمة بين مشاعر وأحاسيس شعب الوادي لمئات السنوات .. قطعت معهم كل هذه المسيرة الطويلة , حتى لحظة المبارزة بين ملكتهم "اياباسي" : الأخت القوية كيرا وسولونق الفتى الشجاع من عامة الشعب(والذي قاد ثورة استرداد دالي لملكه كما تزعم المخطوطة السرية) .. كان قلبي يخفق بشدة كلما تلقى سولونق بسيفه ضربة من ضربات سيف الكيرا ..

    قبلها كنت قد حلمت أنني في جلابي ود عربي, تلك البلدة التي رأيتها آخر مرة قبل أكثر من عقد من الزمان , أجوب حواريها وزقاقاتها , متسللا حكاياها وأخبارها , وعندما صحوت وجدت الحلم قد رمى بي مرة أخرى الى خاطر شعب الوادي !.. وهكذا بين خاطر شعب الوادي وجلابي ود عربي, ظللت أراوح محاولا الأفلات الى اللحظة الراهنة, التي أشك فيها هي الأخرى ,أن تكون تمثيلا لوجودي الحقيقي في الزمن والمكان .

    حدقت من نافذة الصالة أحاول أن أخترق بنظري ضباب الفجر , الذي يحيط بالأهرامات التي تبدو بعيدة من هنا , رددت بصري أحاول الوصول الى نهاية شارع الهرّم , وحاولت مقاومة النعاس, الذي لا يزال متواطئا مع خمر البارحة, التي لا تزال تسري., في رأسي وعروقي . نمت أمام النافذة واقفا. وجدت نفسي أعود الى "مملكة ساورا" التي كانت في هذا المكان نفسه, الذي نهضت فيه بلدة "جلابي ود عربي " بعد عشرات المئات من السنين ( وربما آلآف) .. رأيتني جزء من ذاكرة " سورنق " أبن كاهن " ساورا " الراعي العجوز "دورة " لم أعد أشعر بذات الرعب الذي كان يحدث معي , في البدايات , عندما أخذت هذه الاحلام تنطلق بي لتجوب بي التاريخ والأماكن , مختزلة الزمن والجغرافيا .

    عندما أفقت من اغمائي وجدت نفسي في حاضرة البلاد الكبيرة , مطاردا من قبل أجهزة أمن أبو لكيلك الجنجويدي ( لا أذكر أنها أعتقلتني , لكن لا أستطيع أن أنسى أنه أغمى علي أثناء التعذيب ) وعندما أفقت من أغمائي , وجدت نفسي في المدينة الريفية (وآثار التعذيب على جسدي ووجهي) سألتني سارة شقيقة صديقي القديم حسن : - يبدو أنك تعرضت للضرب ! مع من تعاركت ؟ وأين أختفيت كل هذه الأيام ؟..

    - كنت معتقلا ..

    أرتفع حاجباها في دهشة . ساد الصمت بيننا لفترة , ثم خرج صوتها على نحو مباغت , مهيمنا على فضاء المكان .. هكذا دون سابق انزار أخذت تحكي لي عن جلابي ود عربي وناسها .

    خرجت سارة قبل منتصف الليل . أوصلتها قريبا من منزلها . عدت الى البيت الذي نشأت فيه . كنت منهكا , وما أن أسلمت نفسي للنوم حتى وجدتني في القاهرة !! بصحبة الميرم كلتوم !! .. أكاد أجن .. !!...

    لا أعرف هل هذه أحلام , أم هي واقع حقيقي أعيشه , عبر ظاهرة خارقة تختزل جسمي وتختزل الزمن والمكان , فتستعيد فىّ كل تلك العوالم المفقودة ؟!..

    المفقودة ؟؟!!.. لا أدري أيها هو المفقود , والى اي عالم من هذه العوالم أنتمي حقا !..

    هل أنتمي الى المدينة الريفية وجلابي في واقع الأمر , حيث تلك هي اللحظة الحاضرة لحياتي الفعلية , وما عدا ذلك هو محض أحلام , أثارتها وغذتها الوقائع والأحداث التي قرأتها في " المخطوطة السرية " ؟! أم ان العكس صحيح : بمعنى أنني جزء من المخطوطة السرية , كواحد من موضوعاتها التي تناولتها !!..

    ربما يكون ذلك استنتاجا متسرعا , اذ يبدو لي (ليس بصورة قطعية ) أن لحظتي الحاضرة الفعلية , التي اعيشها هي في ساورا , وأنني باعتباري " سورنق : سيد الأرض أو دالي ابن آري " , أحلم بأن في هذه الرقعة من الأرض ستنشأ ذات يوم بلدة أسمها "جلابي ود عربي " . وأن شابا اسمه علي (أي أنا ) يسكن المدينة الريفية , سيتردد عليها كثيرا , ليحل محل والده أثناء غيابه في متجره الصغير, الذي أنشأه بهذه البلدة "جلابي" , وربما يتعرض للاعتقال في حاضرة البلاد الكبيرة , فيهرب الى مصر ويسكن في الجيزة , في شارع الهرّم تحديدا . ويلتقي هناك الميرم كلتوم , التي أختفت من المدينة الريفية, عندما كان هو صبيا بعد , دون سن المراهقة..

    لا أدري الآن اي شيء هو الحقيقي , وأي شيء هو الوهم .. أو الظلال لهذا الحقيقي , او تمثلاته (الحقيقي) البعيدة .. كل ما ادركه الآن هو أنني يجب الا أنام, حتى لا أحلم وأجد نفسي فعلا في مكان آخر عندما أصحو (مثل كل مرة ) ..

    (*)

    كانت الحياة قد عادت الى طبيعتها ,في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي . بعد أن دهستني عربة النقل الكبيرة , وساوتني مع أسفلت الشارع .. ففي هذه اللحظة القصيرة , التي تفصل بين الحياة والموت , مرّ على خاطري كل ذلك العالم المنسي ل(جلابي ودعربي) : تلك "الحلة أو الحي أو المدينة الريفية العجيبة , التي انهكت المؤرخين ,بما طرحته من أسئلة عجيبة ,حول جذور سلطتها , وممارسات ابو لكيلك الجنجويدي ومن سبقوه : كيف تمظهرت السلطة في البلاد الكبيرة .. هكذا مغايرة لكل أشكال ممارسة السلطة ,في العالم الواسع .. لابد أن مظهرها البائس , يتعلق بمصدر انتاجها , وهكذا .. كنموذج بدأوا (المؤرخون وعلماء الآثار ) بدراسة جلابي ود عربي , في بناها الاجتماعية , وحكايا ناسها , التي تكشف عن شيء من ذاكرة اسلافهم المجهولين.. وبالنتيجة تم اكتشاف : أن كل البلاد الكبيرة , نهضت على أساس نموذج جلابي ود عربي , أو جلابي ود دينكاوي , أو جلابي ود نوباوي ..الى آخره .. لكن ظلت هذه الاستنتاجات التي توصل اليها المؤرخون وعلماء الآثار , مجرد مخطوطة لم يكتب لها النشر ككتاب لوقت طويل , وعندما تمت طباعتها حدث ما حدث!!..

    حول جلابي ود عربي صدرت كثير من الدراسات والمقالات والكتب ,التي حاولت الاجابة عن تاريخ جلابي ودعربي . ولكن كل ما كتب عن جلابي ود عربي , لم يكن محققا , كما أن فرضياته أنطلقت من أسئلة غير صحيحة .. هذه المقدمات الخاطئة ترتبت عليها نتائج خاطئة , ولذلك من دون كل ما كتب , وجدت المخطوطة السرية (التي لم يقرأها أحد) حظا وافرا من الشهرة , وذلك بسبب الاجابات الصحيحة التي توصلت اليها , بطرحها للاسئلة الصحيحة , تمثل جوهر المسألة حول تاريخ جلابي ود عربي , الذي نشأت فيه فكرة السلطة , وتشكلت في أنحاء البلاد الكبيرة ..

    النظام الاداري الأهلي في جلابي ود عربي , كان من الأمور اللافتة للنظر .. كان هيكلا عجيبا , فيه تراتبية مدهشة , لم يجد له أهالي البلاد الكبيرة تفسيرا , فشكل حافزا لكل الاسئلة , التي لم يتمكنوا من الاجابة عليها الا بعد الكشف الأثري, على الرغم من طرد السلطات مبكرا للبعثة الأثرية الألمانية , واعلان (جلابي ودعربي) منطقة عسكرية : ممنوع الاقتراب والتصوير !! .. بالطبع لم يعرف أحد بعد ذلك ماذا يدور داخل هذه المنطقة المغلقة , الا أن بعض الشائعات زعمت : أن بن لادن , اشترى جلابي ود عربي , لأغراض علميةانتاج اسلحة بيولوجية ونووّية)!!..

    وكانت قصة اعلان جلابي ود عربي كمنطقة أثرية في البدء , قد بدأت بعد الحريق الكبير الذي شب في جلابي واحرقها من بدايتها الى نهايتها , وأصبح الأهالي يقيمون في العراء .. فأكتشف أحدهم عن طريق الصدفة, بعض التماثيل والأواني أثناء حفره , لنصب أعمدة خشبية( لكوخ صغير , يقيم فيه بعد حريق منزله ), فاستوقفه ذلك .. ومضى يحفر فأكتشف انه في مدخل معبد .. وهنا تدخل موظفي تنظيم القرى ومعالجة السكن الاضطراري , فاشرعوا الباب واسعا لهيئة الآثار التي اكتشفت : ان المعبد الذي اكتشفه الرجل ,هو في أطراف مدينة بائدة وعندما توغلوا في الحفريات , بمساعدة البعثة الالمانية فوجئوا بعالم أثري مبهر : كانت المدينة الأسطورية (ساورا) " بشحمها ولحمها" تنهض أمام الجميع من قلب التاريخ المنسي , ومن أعماق الذاكرة الشعبية لجلابي ود عربي ..
                  

03-21-2006, 08:56 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    على جدران هذه المدينة البائدة , اكتشف علماء الآثار, وشوم للقبائل التي سكنت ساورا , وتاريخ الممالك القديمة المتنازعة ,كما وجدوا نوعا غريبا من الورق, فشلت كل اجهزتهم المتقدمة في التعرف على نوعه او مكوناته , مكتوب عليه بما بدا واضحا انها حروف خاصة , ليست مطروحة للعامة من شعب (ساورا) , ويتم التعامل بها فقط في دوائر الكهنة ,حتى لا تتسرب اسرار علومهم , لكن كان واضحا أن حروف اللغة: مزيج من الحروف اللاتينية القديمة وحروف لغة الفور والنوبا , وعلى هذا الاساس جرت محاولات فك اسرار هذه اللغة ..

    ذهلوا مما وجدوه : تاريخ للوقائع والأحداث التي شكلت مملكة ساورا , وأدت الى انهيارها , الأمر الذي طرح تساؤلات عدة عن علاقة ذلك بجلابي والمدينة الريفية .. وهل قادت الصدفة النازحين لانشاء جلابي , أم هو الحنين الغامض لمملكة أسلافهم .. ودودو أو بولدين(الجد الأكبر) لمملكة الجوار أو الحلفاء هل هوأبو لكيلك الجنجويدي أو حسان جداد بعد مئات السنين ؟.. ولاروي شقيقة دودو : أليس من الممكن أن تكون هي السرّة , والحلفاء وساورا ليسا أكثر من المدينة الريفية أو جلابي؟؟!...

    هذا العالم القديم بمثابة المركز الذي تنعكس على مرآته ظلال جلابي وامتداداتها , مثلما أن الممالك المعاصرة لساورا(الحلفاء والجوار والجبل والوادي) مجرد صدى للصوت الأساس الذي تمثله ساورا (جلابي الآن)..

    صفوّة الحواشي:

    عندما صدرت (المخطوطة السرية لجلابي ودعربي) ,التي تمتعت من دون كل مناطق البلاد الكبيرة , بنوع من الحكم الذاتي , في المراحل المختلفة, لحكومات الاستعمار المحلي الجنجويدية المتعاقبة (منذ خروج الاستعمار الانجليزي ) ..أصيبت الأجهزة الرسمية في البلاد الكبيرة( على أتساعها ) بالهلع والخوف , فداهمت المطبعة التي طبعت المخطوطة , وأستولت على كل الكميات التي وجدتها , وأعتقلت أصحاب دور النشر , التي وصلتها المخطوطة , وقامت بمصادرة كل الكميات التي تسربت الى المكتبات .

    .. أخذت أقلب الشذرات التي بعث بها اليّ صديقي حسن ,والتي قال أنها مجتزأت( منتزعة في عجلة ) من أصل المخطوطة , بعد أن تمت طباعتها ككتاب (زعم حسن أنه أستطاع التسلل الى مكتبة ود الخزين , زاعما أنه في طريقه الى المطبخ ,لاحضار المزيد من الويسكي .. وصف حسن عملية الانتزاع العشوائي لعدد من الصفحات , بأسطورية لصوصية يحسده عليها أرسين لوبين ) كان من الواضح أن هذه الشذرات غير متناسقة وعشوائية , لكنها (مع ذلك) تعطي فكرة ضئيلة عن موضوعها .. وقد تمنيت مرارا أن يحضر حسن وعبده الخال اليّ هنا .. في هذه البلاد البعيدة , فقد شكيا من سؤ احوالهما في البلاد الكبيرة , حيث تركتهما هناك متخذا قراري بالهجرة , ليصلا الى نفس القرار بعد عدة سنوات كما تقول رسائلهما .. لكن يبدو أنهما بعد لم يحسما هذا الخيار المؤجل ..

    لو كتب لهما الحضور , وألتقينا ربما يكون بحوزتهما, الكثير والمثير عن تداعيات الامور حول مخطوطة جلابي ود عربي وتاريخها المجيد ..

    ما أستوقفني في بعض الشذرات (التي بدا من الواضح أنها ترجمت من احدى لغات البلاد الكبيرة الميتة, المزيج من عدة لغات (كما زعم حسن , دون أن يحدد هذه اللغة او المجموعة التي تتكلمها الآن ) هو انسيابيتها في الحكي (بالطبع هذا , بعد أن قمت بترتيب الشذرات على نحو منطقي تراءى لي – لكن في واقع الأمر أشك أن ذاك هو التسلسل الصحيح ) ..

    كانت أخبار طباعة المخطوطة السرية قد تسربت (كما قال حسن) في اللحظات الآخيرة , بعد أن تمكنت المطبعة والناشر السري , من طباعة عدد كبير منها .

    ولكن ما أن تسرب هذا الخبر , بطريقة ظلت غير معروفة حتى الآن , تحركت الأجهزة الأمنية بضراوة للسيطرة على تسرب المخطوطة . ورغم أنها حققت نجاحا كبيرا , الا أن بعض الشائعات ,أكدت تسرب سبعة نسخ لعدد من الشخصيات التاريخية في مجالات مختلفة . فاحد هذه الشخصيات هو عالم لغوي كبير , والذي ما أن وصلته المخطوطة , حتى سافر بها وأودعها في خزينة أحد البنوك الدولية (لندن) والاخر محام اسلامي شهير صاحب تاريخ يساري تمكن من سرقة النسخة الوحيدة التي كانت قد وصلت (دار الوثائق القومية ) في ظروف بالغة السرية , عبر سلسلة معقدة من الوسطاء .

    النسخة الثالثة والرابعة والخامسة , حصل عليها ثلاثة من قادة أحزاب تاريخية ( وفقا للشائعات المكتومة التي خرجت للعلن ) أما النسختين المتبقيتين , فلا أحد يدري أين أختفتا !..أو ما هو مصيرهما ؟!..

    ردة الفعل العنيفة من قبل الأجهزة الرسمية تجاه المخطوطة , قسمت الرأي العام الى اتجاهات وتيارات متباينة , عبرت عنها المنشورات والبيانات ,التي قامت بتوزيعها الاحزاب السياسية (المحظورة), والاتحادات والنقابات والروابط والجمعيات الطلابية والاقليمية والأكاديمية (المحلولة) ,ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة والموالية ..

    فبينما كانت اتجاهات الرأي العام: وفقا لمؤسسات المجتمع المدني , تستنكر ما أسمته : السلوك الهمجي للأجهزة الأمنية , ومصادرتها حرية النشر ..

    وقفت القوى السياسية المتوالية في ندواتها ,التي أقامتها تحت رعاية واشراف وزارة الداخلية , موقفا معضدا لما أتخذته الأجهزة الرسمية , من اجراءات (في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ أمتنا..) بينما القوى السياسية( المنحلة وفقا للتعبير الرسمي لحكومة أبو لكيلك),أشارت في بياناتها التي غلب عليها طابع الانشاء, والخيال الرومانسي والاحتفاء باللغة (بكرة التجمع جاي + زي غضبة الهبباي... و .. سوف نخرج للشوارع + شاهرين هتافنا + ولسوف تلقانا الشوارع ب..) : القوى السياسية هذه قالت :أنها تدين وتستنكر تزييف الحقائق . ولم يفهم أحد ممن قرأو المنشورات :هل المعني بهذا التزييف المؤرخين والآثاريين , الذين قاموا بكتابة المخطوطة , أم السلوك الذي انتهجته الدولة ؟!..

    كانت الاتحادات والنقابات (خاصة نقابة المزارعين خارج التخطيط واتحاد الرعاة ) أكثر شجاعة , اذ ادانو ما أطلقوا عليه( السلوك البدوي الاجرامي غير المتحضر) لحكومة الجمهورية الأولى , وطالبوا بحرية الزراعة والرعي والتعبير والتفكير واطلاق سراح المعتقلين . وتحدث البعض في الشارع العام عن قضاء عادل ومحاكمة حقيقية , الخ ..

    لكن الطلاب العلمانيين في الجامعات والمعاهد العليا , مضوا الى خطوة ابعد من ذلك , اذ أتخذوا من قضية المخطوطة السرية, شعارا للمطالبة بمراجعة عقود النفط ,مع الشركات الأجنبية , والافراج عن المعلومات الخاصة بالنفط ,والثروات في باطن الأرض وظاهرها , وأطلاق سراح تاريخ الشعب (وقد بدت للمراقبين جميعهم, مسألة"أطلاق سراح تاريخ الشعب" من أكثر المطالب غموضا ) .

    أتخذ الطلاب العلمانيون من قضية المخطوطة السرية, لجلابي ود عربي . شعارا للمطالبة بالحريات والحقوق الاساسية, واتسع سقف المطالب ليشمل كل الحقوق المدنية حتى أوضاع المثليين في الدولة الجنجويدية!!...

    في أوج هذه البلبلة التي أعترت البلاد الكبيرة من أقصاها الى أدناها, أتصل عدد من مراكز الأبحاث think tanks والجامعات الأمريكية والأوروبية, بذلك العالم اللغوي الكبير , وقدموا له عرضا مغريا لشراء نسخته , التي كان قد أودعها الخزينة المنيعة في لندن , وكخيار ثان عرضوا عليه شراء صورة منها , اذا تعذر بيع الأصل ..

    للأسف كان البروف عالم اللغة وقتها شبه الميت سريريا , اذ تعطلت وظائفه الحيوية , وفقد القدرة على النطق . ولم تمض سوى أيام معدودة على ذلك, حتى قضى نحبه مأسوفا عليه .

    ما ألم بالبروف الكبير كان مريبا , الأمر الذي جعل الخيال الشعبي , واللاشعور السياسي يلتقيان في نقطة واحدة : مؤامرة من الأجهزة الأمنية , لأغتيال كل من يملك نسخة من المخطوطة السرية لجلابي ود عربي !!..

    كما أن الأوامر التي صدرت الى مكاتب المعلومات والاستخبارات, في كل أنحاء المنطقة والعالم , تلخصت في عبارة واضحة : الحصول على المخطوطة أو صورة منها بأي ثمن !!..

    فشهدت منطقو جلابي ود عربي تحركات محمومة, من قبل سياح خواجات وأفارقة وعرب , ترتب على ذلك ازدهارا كبيرا في الأقتصاد الناشيء( لكن القوي) لجلابي ود عربي . وكانت حتى ذلك الحين ردود الأفعال لا تزال في توال مستمر ..

    اذ تخلى بعض أئمة المساجد وعلماء اللغة وأصول الدين عن وظائفهم , واتجهوا لأول مرة في حياتهم لدراسة التاريخ , فألفوا في غضون أسابيع قليلة, العديد من الكتب لدحض الوقائع والأحداث التي حملتها المخطوطة السرية , التي لم يقرأها أحد منهم أو من سواهم , وقد سجل أحد كتبهم الموسوم ب(الجام العوام عن الكلام في شأن جلابي ودعربي ومن والاها من أقزام) مبيعات مذهلة في أفغانستان والسعودية والعراق والبوسنة , الأمر الذي لم يجد له احد من النقاد او المراقبين تفسيرا مقبولا ..

    وازاء هذا التعدي المهني على علماء التاريخ, ترك المؤرخون عملهم , وأنسحبوا في صمت مريب , لم يستطع أحد أن يفسره لصالحهم أو ضدهم .

    أكد بعض خبثاء المدينة(في محاولة لتبرير انسحاب المؤرخين) انه رأى أكثر من مؤرخ, لديهم استثمارات صغيرة في قلب السوق العربي , فبعضهم يعمل في دكانه الخاص ببيع "التمباك", وآخرين اتجهوا للمرطبات والوجبات السريعة ..

    وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها عن المخطوطة السرية لجلابي ود عربي (قال حسن) لم أتمكن من العثور عليها لتحقيقها ..

    كل ما وصل الى علمي من صديقي حسن أو سواه ,هو مجرد حواشي وبعض الشذرات , التي سأستعرضها لاحقا , على أمل أن أتمكن يوما من تحقيقها .. فما هي طبيعة هذه الحواشي والشذرات ؟!..

    أنها تبدأ بوصف جغرافي محض لساورا المملكة القديمة , ويتضح أن هذا الوصف الجغرافي ينطبق على جغرافية جلابي ود عربي , ما يعني أن ساورا البائدة ,هي الموقع الجغرافي ذاته لجلابي ود عربي ..

    (*)

    (جلابي ود عربي) , الآن ليست هي "الحّلة" التي أنشأها الأسلاف النازحين ..

    "جلابي" اصبحت الىن من أحياء الدرجة الأولى , التي تتمتع بكافة الخدمات . فمنذ الحريق الكبير الذي قضى على كل شيء في جلابي ودعربي , حدثت تحولات مدهشة : اذ أعيد انشاء المدينة من جديد , وبدلا عن أولئك الفقراء البؤساء , الذين كانت تعج بهم جلابي ودعربي , حل شعب كامل من المتأنقين في "جلاليبهم" البيضاء الناصعة , وبذلاتهم الزاهية ..

    أصبحت جلابي ودعربي رسميا " مدينة الفردوس الفاضلة" ..

    وهذه المدنة رفيعة المستوى , أصبحت هي الحلم عسير المنال, لرجال الأعمال والسياسة والفنون والرياضيين والمهنيين الكبار, وصفوة المجتمع بصورة عامة ..

    جميعهم يحلمون بالسكنى فيها .. السكنى في الفردوس الذي كان أسمه ذات يوم (جلابي ود عربي) ..

    ثمة علامات فاصلة يؤرخ بها لجلابي ود عربي مثل : النزوح الآخير , اغاثة الأب رونالد ريغان وزوجته المصونة اميركا ( التي أنقذت أهالي جلابي ودعربي من الانقراض ) .. وحريق بيت أم التيمان , الى آخره من الأحداث الكبرى , التي مثلت فواصل أو مراحل انتقالية في حياة جلابي ود عربي ..

    " شخصيات حميمة تخطر على ذاكرتي الآن " قال صديقي حسن .. فأجبت :

    - ماذا تعني , ومن تقصد؟!..
                  

03-21-2006, 08:57 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    ماذا تعني , ومن تقصد؟!..

    - سأجيب على أحد السؤالين .. أقصد أم التيمان , التي توهمت منذ مراهقتها الباكرة , عاشقا كقبض الريح . فظلت تستدعيه من نبض الحروف , في رسائله العاطفية القديمة اليها ..

    أم التيمان أختفت في ظروف غامضة , أورثتني الندم , اذ لم أستجب لرفضها اقامة علاقة معي (في ذلك اليوم العجيب ) قرنت خروجها من حياتي , بمصير رغبتي في التحقق أو التراجع .. لكن لم أتراجع , فقبلت بشرطها .. فخرجت من حياتي ,كما خرجت سلمى خير الله التي لم أنجح في هزيمة تسلطها , ونجحت بعد فشل لازمني لوقت طويل.. قبل أن أتمكن من قمعها داخلي .

    أطياف عديدة لأناس عرفتهم ذات يوم في لحظات انسانية مختلفة , تتراوح بين الضعف والقوّة , يمرون على الخاطر الآن , خارجين من قلب الذاكرة : تمضي ست البنات العشمانة .. تمضي ثريا .. يمضي أدروب .. حسان جداد حسان جد .. جداد : هذا رجل عجيب وغريب , كادت أن تفتك أفكاره المتطرفة بجلابي ود عربي . فبعد مجيئه من الأراضي المقدسة (يبدو أن العرافين الذين طردوه ذات يوم أعادوه مرة أخرى ) وتعبيرا عن ولاءه وتقديره لهذه العودة أخذ يقيم الندوات في مسجد جلابي , ولا يكتفي بخطبة الجمعة .. كان يتحدث عن فرقته الناجية , ويعمم أحكام التحريم , منكلا بتاركي الصلاة :

    " نكاحهم باطل , ذبيحتهم ومؤاكلتهم حرام , لا يدخلون مكة, لا ميراث لهم أحياء أم أموات , لا يغسلون ويكفنون , ولا يصلى عليهم , ولا يدفنون مع المسلمين ..(يتنحنح)عباد الله , اتقوا الله .. أستغفروا الله ان كنتم مؤمنين .. أستووا يرحمكم اللّه" ..

    هذا التصعيد العاطفي شديد التركيز لمنظومة الترغيب والترهيب , التي شهدها خطاب حسان جداد , أصاب أهالي جلابي ود عربي البسطاء بالزعر والقلق والتوتر , فأصبح مزاجهم عكرا وأخلاقهم ضيقة ! ينفجرون لأي سبب , وبدون سبب .. فالرجل أعتمد في تدمير معنوياتهم ,على الكلمات ذات الوقع الرمزي الثقيل في اللا وعي الجماعي ..

    وهكذا بين ليلة وضحاها , وعلى نحو مباغت ,نصّب حسان جداد نفسه خليفة لله على الأرض , ووسيطا بين النّص المقدس وأهالي جلابي ودعربي المرّوعين ..

    لم يترك جداد شاردو أو واردة, تمس حياة أهالي جلابي ود عربي ,الا وألتمس لها حكما تحريميا صارما , فتدخل بصورة مباشرة في حياتهم .. تفاصيلهم الدقيقة , التي يصعب التماس ربط لها في النّص الديني العمومي جدا !!.. قائلا بأهمية أغلاق باب الفتنة , معتمدا على لغة الخطر الدائم , المحدق بأهالي جلابي ود عربي المغلوبين على أمرهم , وبمبالغاته الهزيانية أعتقد بعض البسطاء : أن جداد هو الناطق الرسمي باسم الله , و أنما النصوص التي يستشهد بها ,قد نزلت في حقهم وحدهم , وأختصت بها جلابي ود عربي, دونا عن سائر مخلوقات اللّه واراضي كونه الواسع !!..

    ولولا أن ثلاثة من أهالي جلابي ود عربي , ربضوا له ذات ليلة غاب فيها البدر , وأبرحوه ضربا , لأصاب الرجل أهالي جلابي ود عربي بالجنون ..

    خرجت الشائعات بأن الثلاثة الذين أبرحوا حسان جداد ضربا هم : كسبان الضّاوي وجمال الحلّة و عبد الرحمن العوير .. لكن لم يكن ثمّة ما يؤكد هذه الشائعات , رغم التحريات الواسعة, التي قامت بها الشرطة ..

    الا أن" العلقة " الساخنة التي تلقاها جداد في ذلك "الكمين" من قبل المجهولين الثلاثة (أقام أهالي جلابي ود عربي فيما بعد, نصبا تذكاريا لهؤلاء الثلاثة, اسموه بنصب: الجندي المجهول) جعلته شيئا فشيئا يخفف من ترويعاته للناس , وتدخلاته في حياتهم , خاصة أن الأهالي للثأر منه حاصروه بشائعات مذهلة , جنحت بعضها للزعم, بأن جداد أغتصب ثريا بنت السّرّة في اول مراهقتها . وكادت هذه الشائعة بالتحديد تصيب جداد بالجنون !!.. فقد أسودّ وجهه وتهدل جفناه , وكان واضحا أن الرجل لم يغمض له جفن, منذ وقت أطول من الوقت, الذي قضّاه أهل الكهف وهم نيام !..

    ويبدو أن هذه الشائعة المتقنة بالتحديد , هي التي نجحت في تحجيم نفوذ جداد, الى أقصى درجة ممكنة . فقد تقلص خطاب ارعابه للأهالي البسطاء في جلابي ود عربي , وأوقف حملاته الى أن تهدأ الاحوال .. لكن يبدو ان خطابه الأرهابي تمكن من بعض النفوس ( فحتى صديقي حسن كما علمت لاحقا انضم لفترة محدودة الى العرافين جماعة جداد) التي أستطاع توليف قلوبها بسخاء مريب !!..

    أخبرتني سارة بعد مضي وقت طويل, من انضمام شقيقها حسن الى العرافين , أن حسن في ذلك الوقت تحول الى كائن مزعج , اذ أخذ يحلّل ويحرم كما يعن له , فحطم التلفزيون الملّوّن الذي أقتنوه بعد جهد جهيد وأحرق الملاءات الجديدة لأنها ملوّنة , وألحق بها الصّور الفوتغرافية , بدعوى أن كل ذلك حرام . الأمر الذي دفع والدته (حاجة بخيتة) الى طرده من البيت . وبعد مضي بعض الوقت أدرك حسن خطأه , فوّسط سارة لدى أمه, وأخوانه فسمحوا له بالاقامة الجبرية , ريثما يتأكدون أن اللّه رد له صوابه .. تذلل حسن وطلب السماح فسامحته أمه " قلب الوالد شفوق!".. عاد حسن لكن لم يعد لديهم تلفزيون او ملاءات ملونّة !!..

    في ذلك اليوم الذي جاء فيه حسن طالبا السماح , فرح أشقاؤه وأحتفوا به باقامة بارتي party صغير, دعوا له الجيران والأحباب الذين كانوا يتسآلون :

    - ما المناسبة ؟!..

    - لقد عاد حسن ..

    كانت فرحة الحي بعودة حسن لا تقابلها فرحة , احتفى به الجميع حتى أن خلاّنه من شلّة عبده الخال ,عزموه على كأس من عرقي الجوافة البكر , فشرب حسن في ذلك اليوم, كما لم يشرب من قبل , وغني " سامحني" حتى الصّباح ..

    كان عبده الخال أكثر افراد الشلّة سعادة , فهو صديق طفولة حسن وصباه وزميل دراسته , وشريك مغامراته العجيبة .. كما أنه من أكثر الذين تضرروا من تلك التحولات " الجدادية" التي أعترت حياة حسن (قال له مازحا وهو يمد له كأس عرق الجوافة الثالث:

    - البيباري الجداد بيوديهو الكوشة,

    فضحك حسن دون أن يعلق ) اذ لم يعد يأكل معه في صحن واحد , بدعوى أن مؤاكلته حرام !!.. الأمر الذي أضطر عبدة الخال الى طرده في نهاية الامر, وتحذيره من زيارته مرة أخرى ..

    الحاشية الثانية :

    المجتزأ الثاني من المخطوطة السرية :

    بسم اللّه الرحمن الرحيم – ربنا آتنا في الدنيا حسنة , تباركت ربنا خالق النّور ومبدأ الوجود أرزقنا سوق لقياك والصعود الى جناب كبرياك , وأجعل ذواتنا من الطاهرات الكاملات , فالفارقات العابدات . اليك أنك ولي الأبد وصاحب الطول العظيم . أما بعد هذا هو خبر ما جرى في جلابي ود نوبة , منذ نشأتها الاولى , الى أن أخذها السيل , ورّوعت أهاليها القرنتية . أعلم أن ...(ممزق) ..

    ما قالته الميرم كلتوم لسلمى خير اللّه , عندما جاءتها لتفتح لها الكتاب , لم يختلف كثيرا عما قاله لها أبكر المعراقي بعد ذلك بوقت طويل . قالت لها الميرم :" : (ستخرجين من عتمتك الى اشراق , يملؤك بالنور . فلا ترين سوى دربا اخضر , وجدر تسلقتها نباتات الخريف, وبين بين نهرين من اللبن والخمر , على ضفافيهما تنهض أشجار المانجو , التى تغرد بين تلافيفها الطيور الملونه , وتجلس تحتها الطواويس والغزلان ..
    ستخرجين من عتمتك الى بوح ندى , يخاطبك الناس بالشعر , فتتكلمين بلغة العصافير , وتدركين أول الانبياء(دالي)وتخرجين من كتابه كما خرج علي .. تحكى له عن طيّ الزمن , والمسافات , والوجوه المغبرة , وعكرة خلفتها وراءك . فيبادلك الحكمة , ويبتسم ثم يسجد وتنتظرينه وتنتظرينه , لكنه لا يرفع عن السجود, اذ يغادر الي الاشراق..)

    خرجت سلمى خير الله من الغرفة المعتمة , دون ان تعيرالصّبي الصغير , المتكىء على مواربة الباب , التفاته . مضت فى الدرب الملتوى , تتجنب المستنقعات والبرك الصغيرة , فى الزقاق المظلم . وتخشى ان تهاجمها كلاب الحي على حين غرة ..
    وهى تخلع ثيابها حائلة اللون , لترتدى قميص نومها الداكن الخشن (وقتها كانت سلمى تخطط للأغتراب بعد أن خلفّت وفاة والدها المبكرة أوضاع بالغة السؤ) .. عندما دخلت سألتها أمها بلامبالاة :
    - أين تأخرت كل هذا الوقت ؟!..
    فأجابت باقتضاب وهى تستلقى على سريرها :
    - أخذتنى سارّة الى العرّافة ..
    كانت صديقتها الوحيدة سارّة , قد ألحت عليها , بالذهاب معها الى الميرم كلتوم العرّافة , ذات المهارات المتعددة __ ( فهى تخط الودع , تقرا الكّف , تضرب الرّمل وتفتح الكتاب .. بعد أن تضع أعواد البخور , على المباخر العديدة المنتشرة فى الغرفة الضيقة , الصغيرة , بضؤها الكابى , الموّحى .. ليتصاعد الدّخان السحرى , محيلا الرؤية الى ضبابية , متقشعة . مسربا الخدّر , والاحساس بالوجع اللذيذ . الخفى . فى كل شىء ..حتى قطع الأثاث العتيقّة ..
    كانت سارّة دهشة للسؤال الذى يطرحه حال سلمى , فهجسّت بالاجابة عن هذا السؤال . باحضارها الى الميرم كلتوم , ولية الله الصالحة , التى ولدت مختونه(كما أشاع عنها عبد الرّحمن العوير عند رحيله الى جلابي) , وعزفت عن طلب الرّجال( كما يحكي التاريخ القرّيب لجلابي ود عرّبي والمدينة الريفية ).. , ماء شبابها يتجدد كل يوم(كأنه لا يغيض ) فهي نضرّة لا يغشاها غضّن ,أو يخطّ عليها شيب .. وعندما حدثت سارّة الميرم كلتّوم عن سلمى خير الله . تبسمت الميرم عن اسنانها النّاصعة , المكتملة , ولم تنبث ببنت شفة ...)__ فى البدء رفضت سلمى الذهاب , ثم لانّت . كأن قوة خفية نهضت فجأة , لتدفعها دفعا .. وعندما خرجت من غرفة الميرّم , كانت سارّة قد أختفت من الصالة , حيث تركتها قبل أن تدخل على الميرّم , التى مضت بها فى دروب ذلك العالم البرزخى , تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه , الى أن توقفت عند شجرة ( اللأ لوب) فى المنتهى .. فتركت سلمى تسير وحدها , كطيف سابح فى بحر من النور الكّلي ..
    لم تبحث خديجة عن مريم , وغادرت بيت الميرّم فى عجلة , وهى تتعثر فى قطع الأثاث بطريقها . دون أن تشعر بها . الى أن لفحها تيار هواء بارد , فادركت أنها بمنتصف الزّقاق المفضّي الى الشارع الرئيسي ..
    كانت سلمى منذ طفولتها كغزالة نافرّة . فعندما تبدأ الفتيات فى لعبة ( الحجلّة أو عريس وعروسة , الخ ..) تقصى نفسها ك ( وزينه ) على ضفاف بحيرة شاسعة . لا تريد التوغل .. تتركهم يمرحون وحدهم . وتراقبهم وهى تنشد :
    ( الزّارعينا فى كبد البوصة .. نّي , نّي .. مونجيض +
    الطير كلّي البرسوسه...
    الزّارعينا فى كبد الغابة .. نّي , نّي .. مونجيض +
    الطير كلّي الورّتابه .. )
    وظلت هذه الأنشودة , تعزّية وحدتها . منذ ذلك الوقت . وكانت حين ترغب فى فصل نفسها عن العالم الذي أخذ يتهشم حولها بعد أن فضحهم حسّان شقيقها الكبير في الحي ونكّس رؤوسهم , تتوغل متسحبه الى داخلها وتدخل فى حالة لا شعورية , وتبدأ فى ترديد أنشودتها المحببة , بصوت عميق , ملؤه الأسى واللّوعه . كأن طقسا بكامله , تؤديه جوقه من الرّهبان .. الى أن يخترق صوت سارّة كالمعتاد , فى كل مرّة عالمها الطقسي :
    ( الناس عرسو .. انا فى النميم يا يابّا ... )
    هكذا تشرخ سارّة عالمها فى كل مرة , فلا تملك سوّى أن تنظر اليها بمحبة , وتمسح حبات العرّق من وجهها , وتبتسم دون تعليق ..
    تقول لها سارّة :
                  

03-21-2006, 08:58 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    تقول لها سارّة :

    - جاني عريس.

    - مبروك ..

    - وأنت ؟..

    - مالي أنا ؟!..

    - يجب أن تتزوجي ..

    - الا ترين كيف هو الحال في أسرتي , سأغترب ..
    سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة , كتسحب الشمس شيئا فشيئا , قبل أن تغيب . وطفل سارة الذى أرسلت لها صورته - فى السنة الأولى لولادته - يكبر . يصير صبيا , وسيما . تطل شقاوة أمه من عينيه . تبتسم سلمى عند هذا الخاطر , وتدخل آخر الصّور -التى أرسلتها لها سارّة قبل شهر , للصّبي أليف الملامح , صّبوح الوجه - فى اطار مذّهب حذاء التسريحة ..
    فى غربتها المترّفه تنفتح حياتها على بوح قديم , ظنّت أنها خلّفته وراءها .. بوح يطل برأسه من رّحم الماضي , بين آونة وأخرى .. يخزّ رغباتها الغامضة (التى ليست لديها فكرة واضحة عنها , فقط محض رغبة فى التلظى والتشظى ).. تخرج منها, الى صلوات سرّية طويلة , تختمها بتلك الأنشودة التى تحبها , دون أن يخترق صّوت سارّة عالمها الطقوسى ويشرّخه ...
    تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض , تعرفه ولا تعرفه . يجيء بملامحه المبهمة , من خلف ضبّاب المغيب , لحظة ما قبل الفجر الغامضة ...
    يصبح كيانها كله مشدودا كوتر كمان , عميق الجرّح والآهة , أسيان كنّدى فجر شاحب .. يخرج ابن سارّة من الصّورة , يعزف حتى تكّل يداه من العزف المنفرد , فيتوقف عن العزف , وتخرج سارّة , من سطور الخطاب .. تشد الوتر ( وجدان سلمى ) وتعزف نغما مألوفا , عن الشجن والترقب , فتهتف فيها بكل التحفز العميق :

    - ( انه هو ) !..

    فتتوقف عن العزف .. تستند الى ساق النّخل , كالمنهارة . تدخل فيه .. تتلاشى !!.. وعبثا يطول انتظارها لخروج سارّة .. (التي كانت قد أحتضنت ابنها , وغابت فى سطور الخطاب ...

    تعيد سلمى الصّورة الى التسريحة , تلوكها الهواجس والظنون , فتحترّق بنيران الاسئلة , الى ان يأخذها النّوم , وتمضي بها الأحلام الى عالم مضيء .. تتلّفت حولها لترى مصدر الضؤ , وعبثا تبحث .. فاضاته من اللا مكان : لا شرق . لا غرب , لا شمال أو جنوب ..تتسلق حائطا أخضر . يبدو لها ناعما . وتسبح بعده فى نهر الخمر . تتشرب مسامها بالخدّر . وتتسع رؤاها ورؤيتها . , فتدرك الضّفة الاخرى منهكة .. وهى بين الصّحو والنّوم , تحط على كتفها يمامة , وتقترب غزالة , لتجلس اليها فى حنو . تحكي لها عن الذى وجدته ملقى على شاطىء البحر , وحيدا , ينضّح بالعذاب . فسقته من ثديها..

    - كان ينضّح بالعذاب ! ..

    تؤكد , فتقول اليمامة :

    - العذاب غسول الصالحين ..

    وتحلّق , تحلّق .. لتجد سلمى نفسها بين منزلتين ...

    لطالما حلمت فى تلك النهارات البعيدة , بوجهه غجري الملامح . يأخذها من قلب حلقة ( الذّكر ) , ويمضى بها فى مسارات غائظة بالتوجس , مشحونّه بالمغامرة , بين احتمال موت جدير بحياتيهما , وحياة لا تدركها تلك الهواجس والظنّون , التى عانتها فى أسى والتياع , بانتظاره المضن !!!...
    كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وازقته وحواريه , فى مدنه المدفونه . وعندما ألتقت (علي) تصورته في البداية هو .. لكنها ما أن توغلّت في عالمه وأكتشفت علاقاته المعقّدة بأم التيمان وست البنات العشمانة وثريا وكل الحكّايا التي عرفتها عنه (ولم تلمّح له ابدا بأنها عرفتها ) .. أصيبت بانقباض خفّي.

    لطالما حاولت التخلّص من علاقتها غير المسماة به, وكثيرا ما كانت تعزّي نفسها بمحاولة ايجاد المزيد من الاجابات لرفضها له . فتقول " على كل حال علي يصغرني كثيرا " .. ظلّت تقاوّم سطوته عليها, حتى اختفى من حياتها تماما, بعد أداءه الخدمة الوطنية ..
    طاقة تتفجر هكذا , كبركان . تجتاح حممه كل شىء . لتدفعها دفعا لارتياد عوالم لا تدركها . فقط تحسها . وتكاد تتلمسها . بانأملها التى ترى ما لا يرى !!!.. ..
    حاولت أن تغلق قلبها دونه , لكنه ينفتح على شبح وجهه , غامض الملامح . وجهه المحزون , بخزلان حوارييه , وخيانة حسن الصديق القريب(مع ثريا) .
    وجهه المندفع من عالم سرمدي , بعيد , بعيد . لا تدركه الأبصار . .. فتهتز سلمى كنخلة , فى مهب الرّيح , يحاصرها "التساب" .فى غمرة الادراك لوجودها غير المدرك .. وتمضي فى رحاب عالم تصّله ولا تصّله . واذ تصّلّه لا تجده . وهو فيها . وهى فيه . يتماهيان . فلا يصبحان واحدا . بل صفرا . مركزا للواحد . . وواحدا على هامش الصفر .. ( تتوحد ) فيه , ليتلاشيا , معا . ولا يعود لهما وجود : ( صفر ) .. وخز شفيف وشقّي , يجبرها على طرد هذا الخاطر , وخز يتكون كدمل . يتحفز للانفتاح على نافذة مترّبة . بتعاقب الفصول . ..
    لثمة خفية تنزعها من مكانها , تتلّفت حولها , وتستكين . خدّر , بلسم يهديء صّبوتها .. عذّابها الجرّح .. فتترقب وجهه أكثر , وجهه الغامض يلوّح من "شفق" المغيب , فجأة , كما صعد فجأة , تاركا صالبيه : حيارى , وهم مروعين مما شبه لهم , فى ذلك الفجر الذى ينذر بالمخاوف - .. يمضي بها , يقلق أحلامها , ويعزف على الكمان , أغنية الانتظار - للتى طال انتظارها.. الجرّح العذّاب - لمخّلصها من عذّابات الوصول (العذّاب .. العذّاب , غسول الصّالحين ..) .. تضج بأنين الشجن , وتأوهاته , ألم الغربه , القاحلة وأحتراقاتها .. هذا الموت الذي يدّنو منها , ليقودها الى ( الفناء ) , مبددا تصّوراتها ..
    ذاك الوّجه الغامض , الذى يتبدى عن أوتار الكمان , وتلافيف الشجن عصي البّوح .. يقلق وحدتها .. تتشظى به , فيمضي أكثر لوعه وألتياع , ويمضي ولا يجيء .. يغيب فى سرمديته ...
    وتحت وطء الانتظار تغوص , فى أرخبيل شائك . يدفعها الشوق . تعبره ملأى بالجرّوح المتقيحة , تتمدد تحت نبات( اليقطين ) .. تتشكّل معهما ( هوّية واحدة ) : - محض نّور .. فيطّل وجه المدينة الريفية, وجلابي ود عربي خارجة لتوها من قلب التاريخ .. تطّل الوجوه التي عرفتها ولم تعرفها أبدا , يطّل وجه أم التيمان ذلك اليوم, وقد قررت أن تغادر جلابي ود عربي الى الأبد .. دون أن تفصح عن السبب "كرهت هذا المكان" .. يطل وجه (علي – آري – سورنق – دالي) وذلك الشعور بالذنب في عينيه, كلما جاءت سيرة أم التيمان(أو لنقي , أو سابا سليلة الجنيات ) بينهما عرضا ..
    اطل وجه الميرم , كانت منتصبة . تتقدم تجاه سلمى ببطء , تعبر اليها من مكان بلا ملامح , حيث تقف فى الغياب .. تبدل وجه العرافة , حل محله وجه ابن سارّة شابا فتيا , متلفعا ببردة الكتّان , الناصعة ذاتها .. تقدم منها فاتحا ذراعيه .. لحظتها كانت احلامها ( هى سارة) قد غلب عليها الغموض و الألق ..
    كان قد أقترب منها .. أستحالا الى لا شيء . تبددا فى الضؤ , الذي يغمر أسقف البيوت الواطئة , الشجر , أوكار الطّيور , جحور القوارض , حظائر الحيوانات الأليفة , ووجوه المارّة .. عابري السبيل ...
    تتلاشى ذكرياتها القديمة , لتتشكّل اللاذكريات . يتلاشى الحنين الى الحنين . ذكريات الطفولة , شارع البيت , اشجار الحوش الكبير , قهوة منتصف النهار , الطرّيق الى محطة المواصلات وعاصمة بلادها الملبدة بالحذّر .. حنينها لأسرتها , لعالمها ذاك .. النّاس والأشياء .. يتلاشى كل شيء .. يتشكّل فقط وجه الحبيب , فى بردته الكتّان , الناصعه . يقترب شيئا فشيئا الى سطح عالم الحنين المنهار .. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسّها .. يلعبان اللعبة ذاتها : يكر فتفر . تفر فيكر .. ويدهمها ليلا ليخطف منامها , ويقطف ورّدة جرّحها , ليغذي الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة , التى ربما عاشاها أو لم يعيشاها معا أو عاشتها سلمى لوحدها !.. فقط تشعر سلمى بسارة , تتقمصها , وابنها يحتضنها حتى تئن ضلوع سلمى . ويغلبها التمزّق والارهاق , فتغرّق فى النّوم ...
    أحلامهما ( هى وسارّة ) غلّب عليها الغموض والتوجع , المستمد من أعماق غربتهما , ركاميهما , البلى الذي حاصرهما , وكل التخثر الذي حاولتا تمزيق أغشيته , للافلات من تبدد الزّمن والمكان , والشروع فى الحلّم ...
    تكلم معها (علي) كثيرا عن سارة
                  

03-21-2006, 08:59 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    تكلم معها (علي) كثيرا عن سارة :

    - يجب أن تتكلمي معها , فقد أصبحت سيرتها على كل لسان .. الشباب يستغلون كونها مطلقة..

    - لا أستطيع ...

    - لماذا.. أنت صديقتها ؟!..

    - وأنت كذلك ..

    - غير ممكن. وأنت تعلمين ذلك جيدا ..

    - هل تشتهيها مثلهم ؟.

    - انها بالنسبة لي : أخت .. أخت صديقي حسن .

    فتهز رأسها وتزّم شفتيها , تنهي الحوار دون أن يلوح في عينيها أنها اقتنعت بشيء من كلامه ..

    عندما عاد شقيقها حسّان من الأراضي المقدسة ,عمل على تغيير موقع الجامع في جلابي ود عربي وبناه بتصميم مختلف دون مئذنة أو قبة . في هذا الوقت كانت ثمة ظاهرة لم تألفها جلابي ود عربي من قبل قد بدأت بالبروز , هي ظاهرة " الرباطيّة" (الذين يقطعون الطريق على النّاس) ليلا في الخلاء الواسع الذي يفصل بين جلابي ود عرّبي والمدينة الريفية , فيجردون هؤلاء (المارّة من والى جلابي) تحت تهديد السلاح الأبيض أو النّاري من نقودهم القليلة !!..وهكذا أصبح الخروج او الدخول الى جلابي ليلا من الأمور التي تحتاج للتسلّح بالشجاعة والهراوات الغليظة, أو الاسلحة البيضاء أو النارية ..

    ولأن جلابي ود عربي لم تدخلها شبكة المواسير بعد (لأنها خارج التخطيط) كان الناس يلجأون لشراء المياه من عربات الكارو البرّميل , وبعد أن تمكن حسّان جداد من حفر بئر داخل صّحن المسجد , حدث انفراج في أزمة المياه الى حد معقول .. فاحيانا لا تزور عربات الكارو البرميل "حلّة" جلابي ود عربي , لأعطال تصيب البوابير التي تعمل بالجاز عند الشاطيء لضّخ مياه النيل في براميل الكارو , فيلجأ أهالي جلابي ود عربي في مثل هذه الحالات الى بئر المسجد , محتملين التوترات التي يصيبهم بها جداد ,في سبيل " باغة" أو "جردل" من مياه البئر (وتعبيرا عن رفض ست البنات العشمانّة لابتزازات حسّان جداد لهم في مثل هذه الحالات, كانت قدأوقفت هي وجاراتها, ثلاث عربات من الكارّو البرّميل وقالت لأصحابها, أن امام المسجد يقول لهم أن يفرغوا المياه في بيوت زوجاته (ست البنات وجاراتها) وعندما ذهب أصحاب الكارو الى جداد,يتقاضونه ثمن المياه كان الرجل دهشا . فنفى لهم أنه أمر بشيء من هذا القبيل , وأنكرت ست البنات وجاراتها:

    - نحن لم نفعل ذلك .. ربما تكون تعني نساء آخريات ..

    وفي الحقيقة أن أصحاب عربات الكارّو, لم يركزوا في الوّجوه ,ولم يستطيعوا لذلك الاصّرار على مطالبة ست البنات وجاراتها(فأهالي جلابي كلهم يتشابهون) وربما يكونون قد أفرغوا مياههم في بيوت أخرى .. ولادراك جداد أن ثمة اشاعات قادمة ينذّر بها الجو ( فقد تكوّنت للرّجل خبرة كافية بأهل جلابي )أضطر أن يدفع ثمن المياه لأصحاب الكارّو البرّميل , قاطعا الطّريق على أي محاولة لنسج حكايات وروايات من هذا الحدث العرضي . الذي أدرك منذ البداية أنه " من عمايل ست البنات") ..

    حاول أهالي جلاّبي ود عرّبي عن طريق العون الذاتي , أن يحفروا لأنفسهم بئرا أو بئرين , وبعد اختبارهم لعدة مواقع, اكتشفوا أن الموقع الوحيد, الذي يحتوي على أحتياطي جوفي , هو ذلك الذي نقل اليه حسّان جداد الجامع , فأنطلقت الشائعات أن : جداد كان يعرف سلفا أن المكان الوحيد, الذي به احتياطي جوفي هو هذا الموقع , الذّي شيّد عليه المسجد ..ولذلك نقل المسجد الى هذا الموقع عن عمد دون استشارة أحد !..

    في هذه الفترة كانت حكومة ابو لكيلك الجنجويدي , قد أصدرت فرمانا بأن تدفع المساجد فواتير المياه والكهرباء وعوائد الأرض الى آخره من نظام المكوّس و الجبايات والرّيع (الذي أشتهرت به حكومة الجنجويدي) أسوة بكل العقارات في البلاد الكبيرة . .

    أصاب هذا الفرمان عددا مقدرا من مواطني البلاد الكبيرة( وجداد شخصيا) بصدمة كبيرة .ولكن جلابي لم تأبه للأمر كثيرا , فجلابي ود عربي لم تدخلها المياه او الكهرباء الحكومية , لحظة صدور هذا الفرمان , كما أنها خارج التخطيط, بالتالي ليست عليها عوائد على الأرض .. كما ان أعمال مواطنيها خارج دائرة المظلة الاقتصادية . زبدة القول أن جلابي كأنها ليست جزء من جغرافيا وتاريخ البلاد الكبيرة .

    ومع ذلك العلمانيون( بالتحديد) في جلاّبي ودعرّبي (كنوع من التضامن الانساني) مع أحياء المدينة الريفية داخل التخطيط تصدوا لما حمله هذا الفرمان , بالكتابة على الصّحف الحائطية, التي كانو يعلقونها في دكاكين وكناتين جلابي ود عربي , وأكدوا أن المساجد التي يرتادها عامة الشعب (ما أطلقوا عليه السواد الأعظم ) , يجب على الحكومة رعايتها .. لكن تلك التي تتبع للعرّافين أو أي من الجماعات الدينية , يجب أن تدفع الفواتير والضرائب (ينبغي أن تتحمل الفئات الناجية تبعاتها المالية كاملة ) ولا ينبغي أن يتحمل السوّاد الأعظم (الذي لن ينجو وسيمضي الى الجحيم قدما ) من عرقه عبء دفع الفواتير عنها .. فيخسر ماله بعد أن خسر آخرته (كما يزعم العرافين= من ليس معنا في حزّب الله فهو مع حزّب الشيطان) ..

    أعتبر عدد من المراقبين المتنّورين أن خطاب العلمانيين في جلابي ,يعتبر فتحا مميزا في مجال الفتاوى التي تعني بالتراث وقضايا العصر . وعندما علم علمانيي جلابي بهذا التقرّيظ أعجبهم كثيرا رغم انه كان غامضا بالنسبة اليهم وغير مفهوم ..

    وجد خطاب العلمانيين في جلابي قبولا منقطع النظير, في المدينة الريفية والأحياء المجاورّة . بل تطور الأمر الى أن نقلته" رويترز" وعنها نقلته وكالة الانباء الفرنسية و" صوت كولونيا " والاذاعة السويسرية , وعدد من وكالات الانباء الدولية الأخرى .. وتعاطفت معه ردود فعل عالمية مقدرة , فقد تحركت على اثر ما أذاعته رويترز, منظمة الدفاع عن حقوق الحيوان الصحراوي, وجمعية الجاحظية الاقليمية , ورابطة ابن المقفع الدولية , واصدقاء الجراد , والعفو الدولية , والأزمات الدولية وحقوق الانسان وكهرباء بلا حدود , والرابطة العالمية للسكن العشوائي .. وقد أوردت اذاعة" سوا سوا" الموجهة في سياق نشرتها حديثا مفخما ومفخخا , يعبر عن وجهات نظر لم تسمع بها جلابي, التي ليس لديها ناطق رسمي لديه كل هذه القدرة على التحليل , وكانت سوا سوا تستهل تحليلاتها الاخبارية عن ردود الفعل, حول وجهة نظر علماني جلابي ود عربي ب :" وقد قال العلمانيون في جلابي ود عربي .." وفي واقع الامر ان علمانيي جلابي ود عربي (ان وجدوا) فهم ليسوا علمانيين بالمعنى الذي تحدثت عنه هذه الاذاعات , فهم أناس بسطاء من الممكن ان يقض مضجعهم أي خطاب عاطفي , والحكمة تأتيهم" طيف طايف" مع تهاوّيم "البنقو والحشيش" , أو تجليات "عرقي البلح البكر" .. هذا هو كل ما في الأمر ببساطة ..

    وقتها كان أبكر المعراقي (الذي كان أسمه ذات يوم آدمو ) قد وفد حديثا الى جلابي ود عرّبي من مكان ما (كان حريصا على التخلص من شخصيته الحقيقية مستكينا للعزلة) ..

    حياة أبكر المعراقي في شخصيته التي تخلص منها (شخصية آدمو القائد الثوري) قبل أن يلجأ الى جلابي ود عربي منتحلا شخصية أبكر المعراقي .. كانت غريبة لغير المقربين منه , وغامضة , في آن !. تنهض في قدرته على تسريب تلك المشاعر المتناقضة للاخرين : التوبة , القدر , الثورة, التراجيديا , القلق , الشغف و الموت .
    وكلما أقتربت منه اكثر , أكتشفت أن هذه المشاعر المتناقضة , هي الاختصار لمعنى الحب والقضية ( الوطن ) عند آدمو !..
    لطالما حاول ادمو السيطّرة على أبو لكيلك الجنجويدى , مدفوعا بهذه المشاعر المتناقضة . ولم يجن سوى المقاومة , التى كادت ان تودي بحياته , لأكثر من مرة . لولا نفوذه وتراجعه عن الاستمرار , فى محاولة التاثير على أبو لكيلك ...
    كان آدمو رجلا استثنائيا , لا تنقصه الشجاعه ويدرك أن أصعب شيء لمن كان مثله , الابتعاد عن الشّر , وظل أبو لكيلك هو التجسيد الحي لما يطلق عليه , آدمو ( شرا ) ..
    حبيبته حليمة" الوّرتابة " تكرر مرارا , بخفوت :
                  

03-21-2006, 09:01 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    نظراتك تخيفني لكأنها تثقبني , من اين جئت بهذه العيون ؟ !..

    وكعادته عند تلقف يدها , لا يعلم ما هو أفضل شيء ممكن قوله لها الآن !..
    لا يزال آدمو رغم مرور سنوات طويلة , يتذكر فى قيلولته المتكاسلة , كل ما مر بحياته . من مرارات واسى , والتياع . كأن كل شىء حدث البارحة فقط ... وبين كل ذكرى وذكرى , يتوقف ليحاسب نفسه ( لو كنت صمت واغلقت فمي لما جرى الذى جرى , ولما تورطت في شخصية أبكر المعراقي . هذه الشخصية الكريهة الى نفسي..)
    يتأوه آدمو فى وحدته , متكئا على بقايا من ذكريات, تشظت فى هجير السنوات العجاف ..
    كثيرا ما يرى الحيرّة , تأكل عيني حليمة الواسعتين .. حيرّتها منذ أول لقاء لهما فى سني حياتهما الباكرة . حين أخترقا عالميهما , غائبين فى غلالة برزّخية تقاطع فيها الألم مع القسوّة والنيران التلظي , معلنان مواجدهما الوليدة للوادي . وأشجار القمبيل . وشجر القنا , و ...

    منذها بقدر ما اقتربا من بعضهما اذدادت المسافة بينهما اتساعا ..فقد أدرك آدمو أنها لا تنتمى الى عالمه .. ذلك الحس الاسطورى , الذى يهيمن عليه ويتغلغل فى روحه وجسده ! ..
    ولكن ظل مخلصا لها .. وظلت وفية له .. كانت سعيدة بسيطرته عليها , وكان يفهم دخيلتها ..
    ظل آدمو لسنوات طويلة يشعر بالحاجة للحب , فى كل ما هو حوله .لا يحتمل كلّس الحياة . يعانى آلامه وحده , دون ان تصدر عنه آهة واحدة ..
    منذ ميلاده , ولدى دخوله الخلوى أخذ يفكر فى كوّن اللّغة .. اللّغة التى يحفظ بها سوّر الكتاب المقدس , ولغة قبيلته المختلفة عنها .. وفى هذين الكوّنين أخذ يتحرك, لاستكناه هذا السّر الذي يبدأ من هنا وهناك بين تلافيف الآيات , ومتوّن الأحاديث . وحواشي سيرّة النّبي العربي .. كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله, لينفتق عن ضباب يفضي الى ضباب آخر !..
    قدر خفى ذلك الذى قاد آدمو الى المدرسة الابتدائية , دونا عن أقرانه , فى القرية الصغيرة الرابضة على ضفّة الوادي . حذاء دغل القمبيل ..
    وبين مرحلة واخرى كانت هويته تتمزّق لتلتئم وتلتئم لتتمزّق . هويته التى صاغها أبواه . وأهل قريته . بأسحارهم , وطقوسهم وطبيعة الوادى الناهض أسفل الجبّل .. كانت لغته الأم تبتعد , لتحل العربية , التى ألتهمها ذكاءه الحاد محيطا أسرارها , وأطماعها وهيمنتها على لغته الأم ..

    تعرف آدمو على التاريخ الانسانى وهو يودع اخر مراحله الدراسية ..أدرك صراع الانسان فى محاولاته الدائمة للسيطرة على قوى الطبيعة .. ولم يستطع تفادي رؤية تاريخ قريته يتحول الى اشلاء بين معان تاريخ اوروبا , والعالم وبلاده الكبيرة , التى يشقها النيل كفلقتين لنّواة نصّفها متغضّن , كالعرجوّن القديم ..

    المعارف المتناقضة والمتصادمة فتحت وعي آدمو , على أسئلته الحارقة .. تناهشته الأسئلة ففتح كيانه على مصراعيه , متوغلا فى عزلة عميقة , لم يخرّج منها الا وهو حاملا السلاح ضد أبو لكيلك الجنجويدى ..
    قبل سنوات طويلة من اتخاذ آدمو لقرار الثورة المسلحة , دهمت حليمة غربته ووحدته القاسية ..

    على شفة الوادى جلست , دون أن تستاذنه .. التفت اليها ووجهها يلتف بوجهه .. كان صفير الرّيح يتخلل الوادي الوادع , فغابت فى مسام الريح .. تبعها آدمو , مكتفيا بأن يجذبها الى مركز الريح , غارقين فى أنينها ولوعتها وهى تحتك "بقش القطاطى وصريف الحيشان" , المزروبة بعيدان الدّخن ..
    كان آدمو يدرك أن حليمة تعلقت به منذ الصغر , لأنه المحسوس أمامها . تنظر لقصتهما معا , كقصة حب حالمة , وهما يتسللان خلسة من (خلوة الفكى ابراهيم شطة) , الى الدّغل فى ضفة الوادى , أو الغابة حيث( صندل الردوم , والدروت , اعلا قوز السمسم) ..
    كان هدوء حليمة , يضفي على جنوحه , طابع المغامرة التى يحب , وبشعائرهما المقدسة , عند لقاءاتهما تنفتح بوابات السحر , ونوافذ الشجن الريفي, كأنشودات أثرية لم تكتشف ..غموض آدمو هو ما يدفع بقلق حليمه الى أقصى الحدود : عندما يغيب دون رسائل , عندما يعود دون ترقب .. تتمنى ألايسافر مرة اخرى أبدا .. هكذا ظلت حليمة تعاني توجداتها منذ سنوات دراسته الأولى فى المدينه, حتى لحظة دخوله في تلك العزلة البديعة التي خرج منها ثائرا يحمل السلاح , معلنا تمرده على أبو لكيلك الجنجويدي .. كثيرا ما كان حرص حليمة على لفت أنظار الآخرين يقلقه , ويفجر داخله كل كوامن التوتر الأزلي , لروحه الملتفة فى "دمور" أبيض يحاصره فى أحلامه النادرة !.. جمال حليمة , جاذبيتها وسحرها الذى يشبه تلك الاحساسات المتسرّبة من بوح آلهة المعابد الغابرة .. كل شيء يخص حليمة يدفعه اليها دفعا , وتتسع المسافة بينهما أيضا فى الآن نفسه ؟!..
    بعد محاورات عديده,ووعد ومواعيد فاشلة ,في اطار من السّرية المتسربلة بسلسلة معقدة من الاتصالات والوسطاء. بعد كل هذه المحاولات نجح آدمو في لقاء مندوب (اليانكي)..
    تحدّث آدمو عن آلام شعبه وأمجاد أسلافه وجهودهم الدبلوماسية ,قبل هيمنة (الجنجويد)علي البلاد الكبيره .. تحدّث عن البعد الانساني لقضيته وواجب الأسره الدولية . وكان مندوب (اليانكي) يبتسم في خبث ودهاء والكلمات الآخيرة لرئيسه لا تزال ترن في فضاء أذنه :

    - تذكر أنك يانكي..
    في تلك الظهيرة الغائظة التي ألتقي فيها آدمو اليانكي,كان مشحونا بانفعالات الأرض حليمه.. ومشاهد الرّفاق الذين سقطوا في غارات الجنجويد ,علي القرى والحلاّل...جاءت صورة أمه العجوز(خاطرّة) وهي تحترّق داخل قطيتها ,المحاصرة بالجنجويد,جاءته صورة أبيه (لأول مرة يراه يبكي ).. كان مقطّب الجبين,يتكلم بصمت,وفي عينيه تمتزج مشاعر شتى..
    أدرك آدمو أن الجنجويدي أبو لكيلك أختطف حليمة للضغط عليه...التاع ,هاجّت دواخله .. كانت ذكريات الذين لطالما أحبهم بعمق, وترسخ وفاؤه لهم في وجدانه,تداهمه كألف عقرب تتصارع في زجاجة مغلقة؟!...
    أنفض اجتماع آدمو باليانكي ,فتوجه الي أتباعه وحواريه.. ضغط علي مشاعره الذاتيه. تغلب علي ألمه والتياعه .. خطب فيهم عن حالهم ومآلهم,حتي سالت من عيونهم دموع الدّم,تبلل أرض المعسكر,المخفي بعناية,في قلب الجبال .ومضي آدمو ينظم صفوفه معلنا حربه الضاريه على الجنجويد وجيش ابو لكيلك الجنجويدي...ومع أشتداد المعارك,والهزائم المتوالية لجيش أبو لكيلك,انتشر الفزع ,في أوساط العالمين ببواطن الأمور,من صفوة سنار الجديدة
    بينما كانت العامة,تمضي بايقاعها ذاته ,لا تعرف شيئا عما يجري في الحدود البعيدة ,فأجهزة اعلام أبو لكيلك ,عتمّت علي غارات الجنجويد, وهزائم جيش أبو لكبلك ,وأكثرت من بث تلك الأغنيات ,التي تكرر(الجرّيف واللوبيا,التومات,زولي هوي,شقيش قولي مرّوح وأنت يا الابيض ضميرك) ولم تنس بث أغنيات( الجبجبه؟!).. دون أن تشير بين فواصلها للقتل الجماعي والأغتصاب وحرّق القرى,حيث غارات الجنجويد لم تبق ولم تزر..
    كان الجميع يتساءلون كيف لآدمو الذي طالما شدا,بثوابت أبو لكيلك العجيبة,وتغنى بأمجاده,كآخر خلفاء النبي العراف ,ذو البدلة البيجية ,عالم القانون واللّغات ,وفتاوى النّكّاح الشرعي ,وحيض النساء النفساوات ..

    كيف لآدمو هذا ,أن يشق عصا الطاعه علي سيده المهيب الركن,ويعلن الثورة علي سعادته,بكل هذا الجنون؟!..
    وبالطبع سقط هذا السؤال في قصف الأنتينوف والهيليكوبترات والمدفعية الثقيلة,على الفلاحين والبسطاء ,الذين كانوا ينظرون لآدمو(المنقذ ,المخلص الذي سيملأ أرضهم عدلا ,بعد ان ملئت جورا ) بعيون ملؤها الأسى والالتياع
                  

03-21-2006, 09:04 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لا وطن في الحنين../رواية(في أجزاء//أحمد ضحية (Re: Sabri Elshareef)

    قال عباس ود الخزين:

    - لا بد من القضاء علي قطاع الطرق,وزعيمهم آدمو ,المارق المرتد..
    كان ود الخزّين لحظتها يؤكد.علي صدق النزّوع النفسي لأبولكيلك في شهوة القتل,وعشق الدّم والاستباحه.. ففي اليوم الذي سبق اليوم الذي أستولي فيه أبولكيلك علي السلطة ,في سنار الجديدة. كان قد أفتتح انقلابه علي الأمراء العنّج,بقتل عشرة من الفلاحين,وثلاث غنمايات وحمارّين ليتأكد من كفاءة بندقيته , فشدّ كبير العرّافين على كتفه بوّد , مستحسنا فعلته ...
    من دون كل المقربين منه , كانت علاقة أبو لكيلك بآدمو , مميزة ( من دون كل علاقاته بالعرافين الذين يملأون قصره ) على الرغم من احساسه الدائم , بأن التفاهم مع آدمو , من الأمور التي تصعب عليه , الا أنه وجد نفسه منجذبا اليه على الدوام .. ربما لأن آدمو لم يكن , يكترث للتفسيرات العقلانية , لسلوك أبو لكيلك , هذه التفسيرات التي , لوطرحها لوجد أبو لكيلك , حرجا شديدا فى تبرير وجوده واستمراريته ...
    أشد ما كان يزعج أبو لكيلك . هو خوفه الدائم , من شيء غامض لا يدري كنهه بالضبط . هذا الخوف الذي يطارده منذ الطفولة الباكرة , جعله لا يستطيع , احتمال العلاقات المستقرة بالآخرين , ووقف خلف تعذيبه فى الصّغر , للزواحف والعصافير , والتسلّي (عندما بلغ مرحلة الشباب) بقتل الكلاب والفئران والقطط ..

    سبب أبو لكيلك , بسلوكه العدواني مع اقرانه لأسرته , توترا وقلقا عظيمين , وازعاجا لا حد له .
    كان أبو لكيلك , على الرّغم من الخوف العظيم الذي يسكنه , يشعر بانه عظيم ونبيل , ولا احد يدري كيف تكوّن فى دخيلته مثل هذا الشعور الزائف .
    ظلت علاقة أبو لكيلك بكل من حوله عاصفة , لا تفتأ بين كل آن وآخر , تقتلع أمامها كل ما هو جميل , يربط بينه والآخرين ..أخضع أبو لكيلك كل من حوله (الوحيد الذي لم يتمكن من اخضاعه , هو آدمو ) كثيرا ما كان يشعر , أن علاقته بآدمو أشبه باختبار القوة .. كان الهتاف باسم أبو لكيلك , والتصفيق له من أحب الأغنيات التي يشتهي سماعها فى كل لحظة .. لا يذكر أبو لكيلك فى حياته العامرة بالمعارك , أنه أحب فتاة قط .

    كل الفتيات اللائي ربطته بهن علاقة عابرة , أسقطهن من حياته , بمجرد انتهاء رغبته فى الاستمرار , جميعهن كنّ جميلات , خاضعات . يتباهى بهنّ أمام أصدقائه , بفخر واعزّاز .. ولطالما حلم بنوع من الحب الاسطوري , كذاك الذي في ألف ليلة وليلة .ولا زال ينتظر مثل هذا الحب الكبير, على الرّغم من أنه يملأ وقت فراغه بالزّواج من الأرامل (زوجات قادته الذين أسقط طائراتهم في أحراش البلاد الكبيرة ) الغرّيب أن أبو لكيلك ليس هو رئيس البلاد فهو( مجرد) القائم بأعمال القصر , لكنّه من هذا الموقع أصبح عمليا الرّجل الأول في البلاد الكبيرة , فكل الأموال والأجهزة الحساسة مفاتيحها في يدّه .. ويبدو أنه عندما تآمر مع العرّافين ضد جداد كان ذلك لخشيتهم أن يمضي جداد في الأتجاه ذاته الذي سبقه اليه آدمو.
    العلاقة بين أبو لكيلك وكبير العرّافين ظلّت غامضة حتى لحظة دخول اليانكي, فى مؤخرة طلائع مليشيات آدمو , فكبير العرّافين شخص من ذلك النّوع الذي تنسج حوله الحكايات التى يصعب تصديقها , فالى جانب أنه كائن فطر على التكاثر اللا جنسي( كما يطيب لوّد الخزّين التعبير ) كان مولعا بالابتسامات الشبقة التى يمنحها لأتباعه وحواريه بسخاء ..
    فكبير العرّافين ظل طوال عمره فى حالة حب دائم , كعاشق ولهان , ومغرم بفتيات سنار . وما يشعنّه من عالم بهيج ..
    عاشق لتلك الترّانيم التى يسمعها فى اللّيل فتملؤه حبورا , وتجعله يسير آلآف الفراسخ في طريق لم يمض فيه أحد من قبل . يتبع تلك الهواتف المضيئة (كما يزعم)التي تقوده من ظلمات الى اضاءة خافتة , فشعور بالخدر اللّذيذ .. حيث يشعر بالتحرر الكامل , كان يدرك أنه حصل على الحرّية بعد أن دفع ثمنها من عزلته لعشرات السنوات ..

    على الرّغم من النجاح الباهر الذي حققته ثورة آدمو المسلحة , الا أن أبو لكيلك أستطاع تطويقها فيما بعد بطريقة ما (بتنفيذ مؤامرة داخلية ضد آدمو – اذ انقلب عليه بعض قادة ثورته , فوجد نفسه مضطرا للهرب ) أصبح آدمو بين مطرقة الثورة التي صنعها وسندان أبو لكيلك الجنجويدي , فلم يعد يثق بأحد أبدا , الى أن أنتقل الى الحياة الآخرة بطريقة غامضة ..
    قالت التّاية زوجة أبو لكيلك لجارتها محاسن زوجة وزير الدفاع خلف الله الجنجويدي :

    - أبو لكيلك مسكين وغلبّان , ما قادر يتفكك من سيطرة الزّول ده عليهو .. يقولو شمال يمشى شمال يقولو يمين يمشي يمين !؟.

    سالت محاسن بتردد:

    - دحين يعني ما عندو شخصية ؟!.

    فرمقتها التاية بنظرة غاضبة , جعلتها تتراجع وتضيف :

    - برّي يا أختى راجلك منّو الزّيو ..هيبة وسلطان ..

    وعندما أبتسمت التاية , هدأت اضطرابات محاسن وانفعالاتها التي كادت تشرخ الجدار . ووجدتها فرصة مناسبة , لتسر للتايه :

    - كل ما يشاع عن انقسام العرّافين , ومناوأة أحد القسمين لأبو لكيلك محض اختراع لزّر الرّماد فى العيون , فكّل ما حدّث ويحدّث , هو من بنات أفكار كبير العرّافين , لغرّض لا يعلمه الا هو , بسرّه الباتع وأبو لكيلك شخصيا !..

    فابتسمت التاية فى رضا , وهمست محاسن فى سرها : ( سجّم خشّم أمو ) !!...
    وقتها كانت سنار , قد أفاقت من بوّح غفوتها الغامضة على تأوهات أبو لكيلك الجنجويدي التى أهتز لها القصر المتآكل , وفى الوّقت نفسه كان آدمو لا يزال يستعيد فى خاطره ذكريّات الصّبا والطفولة .
    أفاق أبو لكيلك من الكابوس , الذي رأى فيه نفسه مخنوقا , ينظر الى رأسه وهو يتدلى من السقف . تحيط به أنشوطة طرّفها ثابت فى السقف . فتأوه تلك الآهات العميقة التى سمعها كل من في القصر من حاشية وأتباع .
    من أعمق أعماق بوتقة سنار , تلفت أبو لكيلك في فرّاغ الغرّفة ذاتها . التي خرجت منها أخطر القرارات , لأكثر من عقد من الزمان, تلك القرارات التي قذفت بشعبه الى حالة من اليأس والبؤس الفرّيد , والقلّق والتّوتر العظيمين , وغيرّت من مصيره , باتجاه آخرأكثر غموضا , من آهاته الملتاعه .
    عندما تولى أبو لكيلك زمام الأمور فى سنار الجديدة , كان مدفوعا من العرّافين , الذين أوهموه بأنه رجل ذو شأن عظيم فقدّر ثم قدّر , ورأى أن من الحكمة أن يفعل بشعبه كل ما يشير به العرّافين . وعندما حدّثه عبد الجوّاد ود الباهي, نقلا عن أحد العارفين بأسرار العرّافين , الذين أحكموا الحصّار حول أبو لكيلك , لم يصدّق عبد الجوّاد بل وأنتهره , فخرج الآخير غاضبا , ومضى أبو لكيلك الى كبير العرّافين يسرّب اليه شكوك ود الباهي ولم تمض سوى أيام قليلة , حتى مات ود الباهي او( قتل) وتكرًّرت حالات الموت فى ظرّوف غامضة , لكل من تشكّك فى عرّافين أبو لكيلك . وأصبحت منذَّها مقولات العرّافين من ثوابت أبو لكيلك التي يصرَّ عليها فى خطاباته الجماهيرية أكثر من العرَّافين أنفسهم , حتى شاع فى سنار الجديدة القوَّل فى سخرّية ( التركي ولا المتورّك ) كناية عن المأزق الوجودي لأبو لكيلك فى تبني أمور غريبة نيابة عن أصحاب هذه الأمور .
    ظهر ذلك اليوّم ,الذي أفاق فيه أبولكيلك محاصرا بكوابيس اليقظة التي أخترقت أحلام سنار ,استعاد في ذاكرته عمليات السحق والتنكيل التي قام بها ضد الجمعيات السرّيه (التي كانت علنيه قبل توليه الحكم ,انقلابا علبها) حتي لم يبق لهم صدي.
    كانت تقارير مخبريه مؤخرا,تؤكد أن زعماء الجمعيات السرية الهاربون ,شمتانون في أبو لكيلك وليس لديهم استعداد في اقاله عثرته ,وتطييب خاطره في محنته الكبري ..
    ظهر ذلك اليوم هتف أبولكيلك (بعد اطلاعه علي آخر التقارير) بحاشيته التي كانت تتساءل باحساس ملؤه الزّعر والخوف والترقب....
    سميّ ابولكيلك وصليّ ,وأستهل بثوابته المعتادة ,التي طالما حوّلت حنين أهل سنار الي أسي,وذكرّيات أسلافهم بكل الحكايّا القديمة الي حرب ضارية ,انتزعها أبولكيلك من قلب التأريخ ليزرعها في حاضر حاضرّة البلاد الكبيرة. فأستحالت تلك الثوابت الي كوابيس ,أقلقت مضاجع عمال "القصّب- الكتكو,والفحامّة" والفلاحين البسطاء في أقاصي البلاد ودوانيها, وأؤلئك الذين يعيشون على جنّي الثمار, ومطارده الأرانب ب "السفاريك"...
    كان كل من في القصر, يتصبب عرّقا ,عندما ختّم أبولكيلك خطابه :

    - من أراد العودة فليغتسل ,بماء البحر ومن أراد السلطة, فليحمل السلاح لقتالنا ..

    عباس السنجك همس لود القرّاي :

    - أبولكيلك ما ناوي يجيبها الّبر!!..

    فهز الاخير رأسه
    وصمت مطرقا بعيداً عن وجه آدمو ,الذي غضّنته الأوجاع التي صنّعها أبولكبلك وجنجويده في قومه
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de