يدرك من يتابع تطورات السياسة والحياة العامة في هذا الوطن بسهولة، ان هذا الوطن قد فقد البوصلة التي توجه الدولة والمجتمع والفرد. وتعتبر التطورات الاخيرة الخاصة بدارفور دليلاً ناصعاً على مدى التخبط والارتباك. اذ ادخلنا النظام عمداً وبسبق الاصرار داخل مصيدة فئران يلهث داخلها النظام قبل غيره بحثاً عن مخرج، واظهر هذا الوضع الانقسام الكامل بين ابناء الوطن الواحد حول التدخل الدولي. وتحول الوطن الى معسكرين او فسطاطين لم تنفع اية اتهامات او دعوات للتقارب تحت شعارات الوطنية او الخيانة او الخطر الخارجي. ان فقدان البوصلة يعني غياب الاتجاه والتوجه، والاهم الاهداف والغايات الواضحة التي لا تقبل الجدل والاختلاف. ويلتف حولها الجميع بلا اية اعتبارات اخرى مثل الانحياز الحزبي او المعتقد او الانتماءات القبلية او الجهوية، وهذا يعني غياب المشترك الاعظم الذي نجده في كل الارقام التي تصنف ما نسميهم سودانيين. ويعتبر هذا العام او المشترك هو ما يسمى روح الامة «ethos» الذي قامت وتقوم عليه الامم والدولة الوطنية. وفي القرن التاسع عشر بحث الاوروبيون عن المشترك او القومية التي كانت أساس قيام الدولة الوطنية. وكانت الوحدة الألمانية والايطالية أبرز الأحداث التاريخية التي دشنت هذا البحث عن القومي او الوطني، لذلك عندما يفتقد شعب ما هذه الروح التي يلتف حولها جميع المواطنين او التي تجمع المواطنين، يستحيل الحديث عن دولة حديثة او تقليدية. قد توجد حكومات او ادارات، ولكن ليست دولة ينصهر الجميع داخلها مدافعين عن الوطن ثم يختلفون ما شاؤا حول ما دون ذلك. هذا ما ظل السودانيون يفتقدونه منذ الاستقلال او حتى قبل ذلك. أكد النظام السوداني خلال الاحداث الاخيرة انه يعيش بالفعل رزق اليوم باليوم -كما يقال: اذ كان واضحاً عدم وجود استراتيجية وهي بعض هذه البوصلة التي نقصد. اذ من المعروف ان اي نظام لابد ان يحدد استراتيجيات ويقسمها الى خطوات او مراحل اي تكتيكات، فهذا نظام دخل في مشكلة دارفور منذ سنوات، ودخل في مفاوضات ووساطات ولقاءات، الم يكن يتوقع ان تقود خطواته الى احتمال التدخل الاجنبي او الأممي؟ وذلك لاسباب عديدة من اهمها اعتماد نظام الانقاذ من البداية، عندما كان يفتقد التأييد الداخلي، فاستعان بالاجنبي حين فتح حدود السودان للاسلامويين وحتى الثوريين الذين ظنهم متعاطفين. وقد عرف السودان أسماءً شهيرة ومهجورة مثل بن لادن وكارلوس والغنوشي وغيرهم، وكانت الأممية الاسلامية على نمط الكومنترن الشيوعي الذي اقامه ستالين. واعني بذلك تأسيس الشيخ حسن الترابي للمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي تداعت له كل التنظيمات والحركات المرتبطة بالاسلام السياسي. كانت الاستعانة الاخطر بالاجنبي تتمثل في الاصرار على حل مشكلة الجنوب من قبل الخارج سواء اقليمياً او دولياً، لذلك جاءت المبادرة من دول ويقف خلفها اصدقاء الايقاد في الغرب، وقد كان الهدف هو إبعاد المعارضة «التجمع الوطني الديمقراطي بالذات» وحرمانه من الجلوس في المفاوضات وبالتالي الاعتراف به. لذلك فضل نظام الانقاذ ابعاد خصومه على حساب التوجه القومي او الوطني. وبالتالي يصبح من العبث الاستغاثة بهذا الكيان الوطني المبعد عن المشاركة. ومن الصعب أن يقف مع نظام يصر باستمرار على الاقصاء والتهميش. ولا تجدي اية اتهامات بالخيانة وهي لن تتعدى الديماغوغية والتهريج والصراخ. فقد ابتعد النظام عن البوصلة القومية التي كان يمكن أن تساعده في رؤية مصالح الوطن وليس مصالح الحزب جيداً. وكان من الطبيعي أن تظهر تناقضات النظام، وقد كانت تصريحات المسؤولين مضحكة وغير متسقة، اذ كان نائب رئيس الجمهورية يغني بلسان في بروكسل ويغني على كرتي وزير الدولة للخارجية بلسان آخر، أما وزير الخارجية لام أكول ومستشار رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية فهما تنويعات خاصة. يمكن أن نعدد الكثير من الأفعال التي تؤكد أن عملية صنع واتخاذ القرار السياسي او الاقتصادي او الثقافي او التعليمي، لم تعد خاضعة لاي منطق، وبالتالي تشاور ودراسة. وهذا أمر يعود الى غياب البوصلة القومية، لأن مصلحة الوطن لابد أن تكون متفقاً عليها او حتى مجمعاً عليها. وهذا يقود الى جوهر المشكلة: لا يتم الاتفاق او الاجماع الا من خلال الديمقراطية والمشاركة. وكان من الطبيعي ألا تستجيب القوى السياسية لنداء النظام للوقوف في مشكلة يرون انها من صنعه ويتهمونه بالتباطؤ في حلها. لذلك لابد من أن يستمر الانشقاق والاختلاف. وبمرور الزمن يصبح الخطان متوازيي،ن ولن يلتقيا ابداً حتى ولو كانت الدعوة الخطر على الوطن. وهذا واضح في تصريحات المعارضين للنظام والذين لا يمكن اتهامهم -ببساطة- بالخيانة. لان النظام يصر على ان يكون وجودهم في الوطن مجرد وجود جغرافي خالٍ من الحقوق والشعور بالانتماء الحقيقي. فالوطن الآن، وطنان احدهما يحتكره النظام وفيه الامتيازات لدرجة الاستباحة، والآخر يستمر فيه التضييق والحرمان والإبعاد. نتحدث عن الوحدة الجاذبة مع الجنوب، اليس الشماليون اولى بالبحث عن وحدة جاذبة بين الشماليين أنفسهم، تقدم نموذجاً مقنعاً للجنوبيين بأن هذه دولة او امة يستحق التعاون معها؟ يصعب على المرء ان يجد ما هو المشترك بين الشماليين، وهذا التشرذم يزداد باستمرار افقياً ورأسياً. اذ ننقسم جزئياً وأيديولوجياً ثم عرقياً واثنياً ثم طبقياً واجتماعياً وهكذا. وقد لازمت هذه الحالة الوطن منذ البداية. ولم تكن فترات الاتفاق والاجماع طويلة خلال التاريخ ما بعد الاستقلال، والدليل على ذلك سقوط الوزارات والانقلابات العسكرية، ثم انقاسامات الاحزاب وصراعات منظمات المجتمع لمدني. والآن لا يوجد أي حزب سوداني مطلقاً لم يتعرض للانقسام حتى أنصار السنة!! ولكن صنعه سوداني التي ينسبون اليها تجعل الانقسام والاختلاف العدائي حتمية سودانية. إن فقدان البوصلة القومية يقذف بنا في التيه ويجعل السودان وطناً بلا مستقبل. ونحن الآن في حاجة ملحة ومصيرية إلى اتفاق حول حد أدنى من القضايا وحلولها. ومن الغريب أن مثل هذه الدعوة تفسر حزبياً وترفض، خاصة حين يكون الحديث عن مؤتمر قومي شامل. والمشكلة ليست في التسمية، ولكن السؤال اليس الاتفاق حول قضايا مشتركة ضرورة تقتضيها هذه المرحلة؟ أو تقتضيها ظروف قيام دولة وطنية حديثة؟ هناك تشكيك في كل شيء: الدستور، النظام السياسي، الاتفاقيات، وعود الحكومة بتحسين الاوضاع الاقتصادية، عدم قطع التيار الكهربائي، رفع المصاريف المدرسية.. الخ، فالناس لا يصدقون - في غالبيتهم - ما تقول الحكومة، ومن المعروف أن أية شرعية تنبع من المصداقية، واعتقد أن على النظام وحزبه الحاكم ان يخرجا من مصيدة الفئران، إلى هواء قومي صحي يوصلنا إلى بوصلة قومية تحدد الطريق الى الوحدة والتقدم، وأكرر المقولة المفضلة: ان يصدقوا وكفى..!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة