|
|
 عبدالباري عطــــوان...يكتب من دهاليز النخوة العربيـــة
|
ريتشيل كوري فتاة امريكية شقراء في مطلع العشرين من عمرها، لا تجري في عروقها أي دماء عربية أو هندية او عالمثالثية، عيونها في زرقة المحيط الاطلنطي.
ريتشيل تحلم مثل اي فتاة في عمرها بخطيب وحبيب وسقف هانئ، واطفال يملأونه شقاوة وضوضاء، ولكنها اجلت هذا الحلم، وذهبت الي مخيمات اللجوء والكرامة والمقاومة في قطاع غزة، لتعيش المأساة العربية في فلسطين، وتشارك ابناء الانتفاضة حلمهم في الشهادة في معارك الشرف والكرامة.
كان يمكن ان تذهب الي المراقص وتتمايل علي انغام موسيقي الشاب خالد او عمرو دياب او مصطفي قمر، ولكنها اختارت ان ترقص رقصة البطولة امام جرافة اسرائيلية انقضت علي احد البيوت في مدينة رفح الصامدة، فطحنت عظامها واختلطت دماؤها مع تراب فلسطين الطاهرة.
استشهاد هذه المواطنة الامريكية مر مرور الكرام، ولم يحرك ساكناً لدي الرئيس الامريكي جورج بوش، او وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، فطالما ان القاتل هو شارون فهوية القتيل غير مهمة، حتي لو كان امريكيا. الادارة الامريكية لم تفتح تحقيقاً في الجريمة، ولم ترسل فريقاً من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي لجمع المعلومات، والمدعي العام الامريكي لم يطالب بتسليم الجندي الاسرائيلي المجرم والارهابي الذي مارس القتل بهذه الطريقة البشعة في حق مواطنة امريكية لكي يحاكم امام العدالة الامريكية!
الرئيس بوش لم يقل انه سينتقم لهذه الجريمة، ولم يضع الجيش الاسرائيلي علي قائمة الارهاب، ولم يطرد السفير الاسرائيلي من واشنطن، بل ربما لا يعرف حتي هذه اللحظة ان جريمة كهذه وقعت فعلا، ولا نستبعد ان تكون عصابة انصار اسرائيل الذين يتحكمون بالقرار الامريكي من امثال ريتشارد بيرل وابرامز وفيث ابلغت الرئيس بوش ان قاتل هذه الفتاة هو ارهابي فلسطيني.
نكتب بغضب لاننا مازلنا نذكر جيدا كيف وضعت الادارة الامريكية تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة ابو العباس علي قائمة الارهاب، لأن احد افراد التنظيم قتل امريكيا مقعدا اثناء اختطاف السفينة اكيلي لورو، مثلما نذكر كيف حوّل اليهود الامريكيون هذه الحادثة الي اسطورة سينمائية تدين الفلسطينيين والعرب جميعا، وتصورهم كأرهابيين غلاظ القلوب ومتعطشين للدماء.
نكتب بحرقة لاننا مازلنا نعيش مأساة الدكتور سامي العريان الذي يقبع حاليا خلف القضبان وهو الاكاديمي الفلسطيني المعتدل، بتهمة الانتماء الي حركة الجهاد الارهابية المسؤولة عن مقتل امريكيين اثناء تنفيذ احدي خلاياها عملية استشهادية في مقصف الجامعة العبرية في تل ابيب.
هذه هي العدالة الامريكية في ابشع صورها. انها عدالة معادية لكل ما هو عربي ومسلم، ومساندة لكل ما هو اسرائيلي صهيوني.
الشهيدة ريتشيل لم تكن مقاتلة في صفوف المقاومة، وانما داعية سلام، شاهدت الظلم الاسرائيلي بعينها، شاهدت كيف تهدم البيوت فوق رؤوس اصحابها، وبكت تلك الشهيدة الحامل التي جاءها المخاض في الوقت الذي بدأت الجرافة تهدم منزلها فاستشهدت ووليدها تحت الانقاض في مخيم البريج جنوب غزة.
الرئيس بوش يعد الفلسطينيين بـ نشر خريطة الطريق بمجرد ان يتم تعيين رئيس وزراء فلسطيني بصلاحيات كاملة تؤهله التنازل عن حق العودة، ونصف القدس، وثمانين في المئة من ارض فلسطين التاريخية.
خريطة طريق مقابل تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من ابنائه، وتنصيب شمعون بيريس امينا عاما لجامعة الدول العربية، ووضع عوائد النفط العراقي في صندوق خاص تتولي الاشراف عليه ادارة مالية اسرائيلية بواجهة امريكية.
استشهاد ريتشـــيل بسكــين الجرافـــة الاسرائيلية لن يفتح اعين الرئيس بوش وادارته علي ما يجري للفلسطينـــيين علي ايدي حليفهم الأوثق شارون وقـــواته المجرمـــة. كما انه لن يحرك الرأي العام الامريكي، الذي يمـــول هذا الارهاب الاسرائيلي من امواله.
ريتشيل قتلت باموال دافعي الضرائب الامريكيين، ودخلت تاريخ الشعب الفلسطيني كأول شهيدة امريكية تستشهد دفاعا عن الحق ورفعاً للظلم، استشهدت بينما تستعد قوات بلادها لاطلاق ثلاثة آلاف صاروخ علي بغداد لقتل الآلاف من اطفال العراق!
ستظل ريتشيل رمزا مشرقا للوجه الامريكي الجميل الذي نحبه، بينما سيظل جورج بوش نموذجاً للوجه القبيح الذي يرمز للظلم والاستكبار والعدوان، ويستجلب كره العالم بأسره.
انها وجه للخير في اجمل معانيه، وهو وجه للشر في ابشع معانيه، فتحية لها، ومرحباً بها في اعلي قوائم الشرف والكرامة التي يعتز بها كل انسان عربي مسيحيا كان او مسلما.
قرار الرئيس جورج بوش بالذهاب الي الحرب، دون قرار من مجلس الأمن الدولي، يضعه في خانة زعماء المافيا، الذين يأخذون القانون بأيديهم، ويتصرفون دون وازع أخلاقي، ويعيثون في الأرض فسادا وجريمة.
سحب مشروع القرار الامريكي ـ البريطاني ـ الاسباني من التصويت في مجلس الأمن الدولي هزيمة دبلوماسية لمحور الشر الثلاثي هذا، ودليل علي انحياز العالم الي جانب الحق في مواجهة نزعات العدوان والاستكبار، وبداية النهاية للامبراطورية الامريكية، بعد ان كشفت عن نواياها الاستعمارية في احتلال العراق والسيطرة علي ثرواته، واعادة ترسيم المنطقة، وفق المصالح الامريكية ـ الاسرائيلية.
تحية حارة نبعثها الي الدول الفقيرة المعدمة في افريقيا وامريكا اللاتينية، تلك الدول التي رفضت ان تبيع ذممها وقيمها الاخلاقية والانسانية مقابل المليارات الامريكية، وصمدت في الوقت نفسه في مواجهة التهديدات الانتقامية. فهذه المواقف الشجاعة من دول مثل الكاميرون وانغولا وغينيا والمكسيك وتشيلي هي التي ألحقت هذه الهزيمة الدبلوماسية المهينة بمحور الشر الثلاثي في مجلس الأمن الدولي، ودفعته الي سحب مشروع قراره الثاني بطريقة مذلة.
مواقف هذه الدول الشجاعة والتاريخية تقدم درسا في الكرامة والاخلاق للزعماء العرب، الذين باعوا شرفهم ودينهم وعرضهم، وتواطأوا مع العدوان الامريكي علي بلد مسلم شقيق طمعا في حفنة من الفضة الامريكية او خوفا من سيف بوش.
ہ ہ ہ
المكسيك علي بعد خطوات من الحدود الامريكية، وتشيلي في حاجة ماسة الي المساعدات الامريكية، اما غينيا فتعاني الفقر والفاقة، ومع ذلك رفض زعماء هذه الدول ان يصوتوا الي جانب القرار الثاني في مجلس الأمن، وهم ليسوا عربا ولا مسلمين، بينما الزعماء العرب و المسلمون فتحوا القواعد للعدوان، وحاولوا ارسال الوفود الي بغداد للضغط علي رئيسها من اجل الاستقالة، وتسليم بلاده للاحتلال الامريكي دون مقاومة.
الغالبية الساحقة من زعماء العالم وشعوبه يتحركون في اطار الوازع الاخلاقي، ويرفضون العدوان، ويرتقون الي اعلي درجات التضحية، ويصبحون عربا اكثر من العرب، بينما يتواري زعماؤنا عن الانظار، وتتظاهر شعوبنا داخل اقفاص في استاد القاهرة او داخل اسوار جامعاتها، ويتحول معظم كتاب الصحف الي وعاظ السلاطين ، يلقون باللوم علي القيادة العراقية، ولا يوجهون كلمة لوم واحدة الي الولايات المتحدة.
لم نعد نتمني ان يكون جاك شيراك عربيا، بل تواضعت امانينا لدرجة اننا بتنا نتمني ان يكون لدينا زعيم عربي في اخلاق وصلابة ورجولة رئيس غينيا او المكسيك او تشيلي.
ہ ہ ہ
لا نعتقد ان الرئيس العراقي سيستجيب لانذار بوش، ويتنحي عن الحكم، ويخرج الزعماء العرب من أزمتهم، ويسلم بغداد عاصمة الرشيد الي الغزاة الجدد. فربما يكون ديكتاتورا ظالما، وسجل نظامه هو الأسوأ في مجال احترام حقوق الانسان، ولكنه قطعا ليس جبانا، او عميلا، مثلما يحلو للبعض وصفه. فلو كان عميلا وجبانا لما صمد في وجه كل هذه المؤامرات التي تستهدفه.
انها الحرب اذن، ولكننا لا نراها حربا سريعة تنتهي باستسلام العراق في غضون ساعات او ايام. فهذا الشعب العراقي العظيم، وان عاني من ظلم حكامه، لن يستسلم للغزو الاجنبي، وان استسلم لفترة زمنية محدودة، ينتفض بعدها دفاعا عن ترابه وكرامته الوطنية وتاريخه الحضاري المشرف.
قد يختلف العراقيون حول زعيمهم ونظامهم، ولكنهم لن يختلفوا في كرههم للغازي الامريكي، ورغبتهم في التصدي لعدوانه، وانهاء احتلاله، فنسل حمورابي وصلاح الدين، ونبوخذنصر، والمعتصم، لن يقبلوا قيادة الجنرال تومي فرانكس او من يعينهم من العراقيين المستوردين من لندن او واشنطن.
ہ ہ ہ
بقي ان نقول بأن الشعب الفلسطيني الذي ينتفض من اجل العراق ومصر وسورية والجزائر والمغرب واليمن، من اجل العرب والمسلمين جميعا، ويقدم آلاف الشهداء دفاعا عن المقدسات الاسلامية وكرامتها، هذا الشعب لن يقبل دولة فلسطينية علي انقاض بغداد ودماء شهدائها.
خريطة الطريق الامريكية التي يقدمها بوش كرشوة لشراء صمت الفلسطينيين، هي خريطة تقود الشعب الفلسطيني الي الهاوية، هاوية التفريط بحقوقه الاساسية في العودة وتقرير المصير. ورئيس الوزراء الذي سيكون عنوانا لتطبيقها سيحمل لقب اول كرزاي يحكم دويلة هزيلة رخوية علي ارض فلسطين، دويلة بدون حق عودة واجزاء مزورة من القدس المحتلة، وتعيش علي اجهزة الاوكسجين في غرفة العناية المركزة الاسرائيلية.
صلة الربط بين فلسطين والعراق هي صلة البناء والتلاحم والوشائج العربية والاسلامية الاصيلة في مقاومة المستعمر، اما صلة الدمار والهدم وقتل الملايين بالصواريخ الامريكية فهي صلة مرفوضة ومنبوذة من كل انسان شريف.
نقولها للمرة المليون: ان دولة فلسطينية مستقلة تقوم علي اشلاء شعب العراق واطفاله، دولة مسمومة لا تشرفنا ولا تشرف شهداءنا ونضال امتنا، دولة بهذه المواصفات لا نريدها، ولن يقبل بها إلا من باعوا شرفهم وكرامتهم
___
|
|
 
|
|
|
|
garjah
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست