|
بوش.. طغيان الحماس الديني على البصيرة السياسية
|
* بقلم / محمد بن المختار الشنقيطي
كثرت الكتابة في الصحافة الأمريكية هذه الأيام عن الخلفية الدينية المؤطرة لتفكير الرئيس بوش. فقد أعدت مجلة "نيوزويك" الأمريكية ملفا في عددها الأخير (10/03/2003) عن الاعتقادات الدينية التي تدفع جورج بوش إلى سلوكه السياسي والعسكري الحالي. وكيف ركب بوش موجة الأصولية البروتستنتية الصاعدة، وهو أحد أبنائها، ليقود أمريكا في مغامرات يطغى فيها الحماس الديني على البصيرة السياسية.
يتألف الملف من ثلاثة مقالات، أحدها – وهو الأطول والأعمق – بعنوان "بوش والرب"، بقلم "هاوارد فاينمان"، أحد كتاب المجلة، والثاني بعنوان : "خطيئة التكبر" بقلم البروفسور "مارتن مارتي" وهو قسيس وأستاذ بجامعة شيكاغو ترأس "الجمعية التاريخية الكاثولية في أمريكا" سابقا، أما المقال الثالث فهو بعنوان: "البيت الأبيض: إنجيل على نهر البوتوماك" ، وهو بقلم كينيث وودوارد من كتاب نيوزويك. كما نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" عن الموضوع من قبل مقالا بعنوان: "بالنسبة لبوش.. إنه الإحساس بالتاريخ والمصير" يوم 09/03/2003 وآخر بعنوان: "عن الرب والإنسان في المكتب البيضاوي" بقلم القسيس "فريتس ريتسش" يوم 02/03/2003 وهو مقال تحليلي عميق تناول المنطق الداخلي لفلسفة بوش الدينية، وآثارها السلبية على أمريكا بلدا، وعلىالمسيحية دينا.
وإذا كان العديد من الأمريكيين بدأوا يدركون المخاطر المترتبة على سياسات الرئيس بوش التي تأطرها رؤية دينية متحمسة، دون اعتبار للمصالح البعيدة المدى للأمة الأمريكية، أولمطالب الضمائر الإنسانية في كل مكان، فإن الإنسان العربي والمسلم أولى بالاطلاع على خلفيات هذه السياسات التي تُرسم بدمه، وعلى وجه صحرائه النقي.
من مقارعة الخمر إلى الأصولية المسيحية
ولد جورج دابليو بوش لأبوين متدينين هما جورج بوش الأب وباربارا بوش في ولاية كونكتيكت الأمريكية عام 1946، وانتقل به أبواه وهو صبي إلى ولاية تكساس التي أصبحت موطنه ومكان صعود نجمه السياسي. لكن بوش الشاب لم يسر في البداية على خطى أبويه المتدينيْن، بل كان مدمنا علىالخمر حتى سبب أكثر من إزعاج لزوجته "لورا". وقد كانت لورا صاحبة الفضل في إقناعه بالكف عن الشراب، والأخذ بيده إلى الكنيسة التي اعتادت الذهاب إليها. لكن الرجل الذي أثر في حياة جورج بوش الدينية ونقله نقلة جذرية من حياة الإدمان إلى حياة الأصولية المسيحية هو القسيس "بيلي غراهام", وقد أثنى بوش على شيخه "بيلي غراهام" مرة فقال: "إنه الرجل الذي قادني إلى الرب". وبيل غراهام - لمن لا يعرفه - هو أبرز وجوه اليمين المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة اليوم. وكان ابنه "فرانكلين" هو الذي قدم الصلوات في تدشين رئاسة جورج بوش. وقد سمع العرب والمسلمون عبر العالم الكثير عن بيل غراهام وعن ابنه فرانكلين السنة الفارطة بسبب تهجماتهما على الدين الإسلامي، ووصفه بشتى الأوصاف المشينة. وقد ذكر بوش في حملة الانتخابات الرئاسية الماضية أنه يبدأ حياته كل يوم بقراءة في الإنجيل، أو على الأصح في "الكتاب المقدس" الذي يشمل الإنجيل والتوراة العبرانية. ومن كتبه المفضلة التي يقرأها يوميا في البيت الأبيض – طبقا لنيوزويك – كتاب للقسيس "أوزوالد شامبرز" الذي مات في مصر عام 1917 وهو يعظ الجنود البريطانيين والأستراليين هناك بالزحف على القدس وانتزاعها من المسلمين.
لكن ما يهمنا هنا أكثر هو التعبير السياسي لهذه الخلفية الدينية. وفي هذا السياق تحسن الإشارة إلى أن امتزاج الدين والسياسة في شخصية الرئيس بوش لم يسفر عن وجهه إلا في العام 1988، حينما بدأ بوش المشاركة في حملة أبيه الانتخابية الرئاسية، وقد أوكل إليه أبوه تولي ملف العلاقات بالقسس والوعاظ المسيحيين وتعبئتهم للتوصيت له. فكانت هذه أول مرة اكتشف فيها بوش الشاب القوة الدينية اليمينية الصاعدة، خصوصا في الجنوب الأمريكي. وكانت فراسة بوش في أولئك اليمينيين المسيحيين فراسة صائبة، فقد سيطرت تلك المجموعات فيما بعد على الحزب الجمهوري، وتحولت إلى قوة سياسية ضاربة، استفاد منها بوش في تقلد منصب حاكم ولاية تكساس، ثم في انتخابه رئيسا فيما بعد.
مكانة بوش على الخريطة الدينية الأميركية وتتسم الخريطة الدينية للولايات المتحدة بشيء من التعقيد، فلا يمكن رسم حدودها واضحة وبيان مكانة بوش فيها بشكل مفصل في هذا المقال، لكن يمكن القول إجمالا إن أنصار بوش هم في الغالب الأعم من البيض البروتستنت، وممن ينتمون للكنيسة المعمدانيةBabtist أو الكنيسة المنهجية Methodist التي ينتمي إليها بوش، أما الكنيسة الكاثوليكية التي يقدر أتباعها بحوالي 60 مليون شخصا، فلا تربطها علاقة ود بالرئيس بوش، لأسباب سياسية ودينية وتاريخية كثيرة. لكن أغلب اليهود الأمريكيين بمختلف طوائفهم المتدينة والليبرالية يؤيدونه بقوة في سياساته في فلسطين وفي العراق، بل يمكن القول بدون مبالغة إنهم صاغة تلك السياسة ومخططوها.
وقد تحدث كثيرون عن مجموعة "ريتشارد بيرل" وزملائه في "معهد الاسراتيجيات المتقدمة والدراسات السياسية" الذين هم أصل فكرة غزو العراق. فقد أعد ريتشارد بيرل منذ أعوام ضمن فريق ترأسه من مثقفي اليهود الأمريكيين دراسة عن "الاستراتيجية الإسرائيلية إلى العام 2000" قدموها إلى بنيامين نتنياهو فور نجاحه في الانتخابات الإسرائيلية، ودعوا فيها إلى دفع أمريكا إلى غزو العراق باعتبار ذلك جزءا محوريا من الاستراتيجية الإسرائيلية لاستمرار التفوق العسكري والاستراتيجي في الأمد المنظور. كما دعوا إلى انتهاج سياسة هجومية عدائية ضد الفلسطينيين، والتخلي عن فكرة "السلام الشامل" لصالح فكرة "السلام القائم على ميزان القوى". وقد رأينا كيف بدأت هذه الاستراتيجية في التعاطي مع الفلسطينيين، والآن يبدو أن البند المتعلق بالعراق من تلك الوثيقة قد أوشك على دخول حيز التطبيق.
وقد ورد في سيرة حياة ريتشارد بيرل الذي ترأس فريق الدراسة آنذاك، أنه عمل عضوا في مجلس إدارة "المعهد اليهودي لدراسات الأمن القومي" ومديرا لصحيفة "الجروسالم بوست" الإسرائيلية. لكن الأهم والأغرب أنه اليوم يترأس "مجلس سياسات الدفاع" في الولايات المتحدة، ويعمل مستشارا لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، مع العديد من اليهود الأمريكيين المحيطين بوزير الدفاع الأمريكي، وليس أقلهم شأنا نائب الوزير "بول ولفويتز".
وقد قدمت قناة "سي أن أن" منذ أيام ريتشارد بيرل في مقابلة معه، على أنه "الرجل الذي ينظر إليه باعتباره صاحب فكرة غزو العراق".. ولا يترك "أفرايم كام" الباحث في "مركز جافي للدراسات الاستراتيجية" بجامعة تل أبيب شكا في أن إسرائيل هي صاحبة المصلحة الأولى والأخيرة في غزو العراق، وذلك في دراسة له منشورة الشهر المنصرم بعنوان: "صبيحة ما بعد صدام".
لكن ما هي علاقة كل ذلك بتدين جورج بوش؟ الحق أن العلاقة وطيدة، لأن اليمين المسيحي الذي ينتمي إليه جورج بوش يؤمن بأن إسرائيل مشروع إلهي، ومحطة تاريخية لازمة لعودة المسيح. وكل رجال الدين الأقوياء الذين يقفون وراء بوش ويمثلون القاعدة الانتخابية للحزب الجمهوي معروفون بولائهم لإسرائيل في عقائدهم ومشاعرهم. وهذا المعتقد الديني الراسخ هو الذي يجعل رجلا مثل بوش يتبنى الخطة الإسرائيلية لغزو العراق، حتى ولو عنى ذلك إشعال الحرب مع العالم الإسلامي وانهيار العلاقات التاريخية بأوربا.
------------------------------------------------------ *كاتب موريتاني مقيم في الولايات المتحدة
المصدر : الجزيرة نت http://www.aljazeera.net/cases_analysis/2003/3/3-11-1.htm#L1
|
|
|
|
|
|
|
|
|