%%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%%

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 01:07 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2002م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-23-2003, 05:57 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
%%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%%


    { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
    سورة البقرة الآية (31)


    الإسلام دين الرحمة والعدالة والإخاء دين أنزل من لدن حكيم خبير لخير الجنس البشري والرقي به في مدارج السعد درجة درجة، وتطهيره من أدران الرجس تطهيراً يسمو بروحه السماوية ويحلق بها في سماوات الرحمة، ومنذ أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإقرأ في غار حراء، والكون في تجلي متواتر دائب مشرق مع كل شروق ولا يغيب مع المغيب، وخلاصة هذا الدين العظيم، ومغازيه ومعانيه كما تبدو من زاوية غير مألوفة، إحقاقاً للحق وإثباتاً، ونفياً لكل باطل وإنكاراً، ومحاولة جاهدة لجعلها مخلصة لتنقيته من كل شائبة تشوبه من معدن غير معدنه، وعنصر من غير عنصره.

    .

    (عدل بواسطة ود شاموق on 08-28-2003, 11:02 AM)









                  

01-23-2003, 06:00 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)


    (1) مقدمة ..



    بسم الله وكفى، وصلاة وسلام النبي المصطفى، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطه المستقيم، وبعد ..

    الإسلام دين الرحمة والعدالة والإخاء، دينٌ أنزل من لدن حكيم خبير لخير الجنس البشري والرقي به في مدارج السعد درجةً درجةً، وتطهيره من أدران الرجس تطهيراً يسمو بروحه السماوية ويحلق بها في سماوات الرحمة، ومنذ أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإقرأ في غار حراء، والكون في تجلي متواتر دائب، مشرق مع كل شروق، ولا يغيب مع المغيب، وخلاصة ما أود أن أتحدث عنه في جهدي التالي هذا، تلخيص لرسالة هذا الدين العظيم، ومغازيه ومعانيه كما بدت لي نتاجاً لنظرة جديدة من زاوية غير مألوفة، إحقاقاً للحق وإثباتاً، ونفياً لكل باطل وإنكاراً، ومحاولة جاهدت لجعلها مخلصة لتنقيته من كل شائبة تشوبه من معدن غير معدنه، وعنصر من غير عنصره.

    ظهر الإسلام ############ سماوية في منتصف القرن السابع الميلادي نتيجة لمشاكل تواجه البشرية، ويخطئ من يظن أن الله يرسل رسله لمعالجة المشاكل الدينية فقط دون غيرها، فنحن نرى أن نبي الله شعيب أرسل إلى أهل مدين برسالة دينية واقتصادية في ذات الوقت، دينية تتمثل في الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة واقتصادية في النهي عن الغش التجاري وتطفيف الميزان الذي كان سائداً بينهم، وهذا يدل عليه نص القرآن في سورة العنكبوت في الآية الخامسة والثلاثين ..

    {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}

    وكذلك بعث الله موسى إلى فرعون برسالة دينية واجتماعية في ذات الوقت، الدينية منها كانت في نفي الألوهية عن فرعون وإثباتها لله رب العالمين، والاجتماعية كانت تتلخص في المساواة بين البشر وإلغاء العبودية والطبقية التي كان يمارسها فرعون ضد شعب إسرائيل، قال تعالى في سورة القصص الآية الثالثة ..

    {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

    وقوم لوط حين شاع الفساد الأخلاقي والشذوذ الجنسي أرسل لهم رسول من الله لينهاهم عن فعلتهم هذه ويحثهم على اتباع الصراط القويم والرجوع إلى سنة الله في الأرض، ومع هذه الدعوة كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون عبادة ما سواه من معبودات، قال الله تعالى في سورة الأعراف ..

    {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ . إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ . وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}

    فالله سبحانه وتعالى، لم يرسل موسى لقوم لوط، ولا لوطاً إلى مدين، ولم يرسل شعيباً لفرعون، لا نعني الرسل ولكن نعني الرسالات، فرسالة موسى قطعاً لم تكن لتصلح لدعوة قوم لوط، إذ أن محور رسالة موسى العدالة الاجتماعية التي ربما كانت متوفرة لدى قوم لوط، وكذلك رسالة لوط لم تكن لتصلح لأهل مدين، إذ ربما كانوا لا يعانون من المشاكل الأخلاقية التي كان يعاني منها قوم لوط، ورسالة شعيب لم تكن تصلح لقوم موسى فربما لم يكونوا يعانون من المشكلة الاقتصادية بقدرما كانوا يعانون من المشكلة الاجتماعية التي قامت رسالة موسى بحلها لهم.


    وكذلك كانت رسالات الله لرسله أجمعين علاجاً لمشاكل وعلل مختلفة تعاني منها مجتمعاتهم ولم تكن قط رسالات لتقويم الانحراف الديني بمعناه المتواتر في الأذهان، وإنما كانت الرسالات السماوية عبارة عن مناهج علاجية شمولية لمشاكل المجتمع بدءً من المشاكل الصغيرة منها وانتهاءً بالمستفحل العصي.

    رسالة الإسلام أتت شاملة من جميع النواحي، حينما نتحدث عن الإسلام فإننا نقول أنه أتى ليخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، رغم أن جميع الرسالات أتت لتفعل ذلك، فهذا ليس سراً للتميز، ولكن تميزها هو في أنها أتت علاجاً لجميع مشاكل المجتمع الذي كان يعاني من انعدام العدالة الاجتماعية متمثلة في الرق والتمايز الطبقي، وعالجت المشاكل الاقتصادية التي كان يعاني منها المجتمع الجاهلي من ربا وميسر وما إليه من آفات وعادات ذميمة، وعالجت كذلك المشاكل الأخلاقية المتمثلة في الزنا و المجون وما إليها من مساوئ الأخلاق التي كانت في المجتمع العربي الجاهلي.

    وتدرج الإسلام في علاج مشاكل المجتمع الجاهلي فقوم الاعوجاج الذي كان يتسم به ذاك المجتمع، ليسير به نحو بناء مجتمع جديد مثالي خالي من آفات المجتمع القديم، فأتت الشريعة كدستور لهذا المجتمع الجديد حينما كان المجتمع لا يعرف دستوراً، وجاءت هذه الشريعة مقسمة بين قرآن سماوي منزل من عند الله، وسنة قامت بتفصيل هذا التنزيل وتأويله على أرض الواقع حياةً معاشةً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.


    (2) أركان الإسلام ..

    تطبيق الإسلام في حياة الفرد وصولاً إلى تطبيقه في حياة الأمة هو إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أنه هو الوحيد الذي عاش الإسلام بكل تفاصيله دون خلاف على ذلك، أما ما عداه من المسلمين فإنهم يتفاوتون في مقدار التطبيق لهذا الإسلام، ولكن الخلاف الحقيقي هو في تعريف هذه السنة وسبب الاختلاف على تعريف هذه السنة، أن من يعرّفها ينظر إليها من منظوره هو فقط ولا ينظر إليها من بقية المناظير، فهناك الشخص السلمي الذي يناظر إلى الجانب المسالم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك الفكري الذي يرى السنة من منظور الفكر، وهناك الصُوري الذي يرى السنة على شكل مناظر وصور، وهناك المقاتل الذي لا يرى في السنة سوى القتال والحروب، وهناك الكثير من التعريفات التي تنطلق من قناعات من يؤمن بها.

    والحقيقة أن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي حياة وسط بين هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، فهو نبي الرحمة كما يراه الكثيرون، وهو نبي الملحمة كما يراه غيرهم، وهو المتمم لمكارم الأخلاق، وهو بسام ضحوك قدرما هو فارس شجاع، وهو كما انه المحب للناس، فهو أيضاً المحب لله، فكل يراه حسب المنظور الذي ينظر منه، ومقدار الاستعداد النفسي لهذه الرؤية.

    والإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الحق عز وجل، مبني على أربعة أركان معلومة وركن أول حجر زاوية لهذا البناء، الركن الأول هو الشهادتين، تليه الزكاة والصيام والصلاة والحج إلى بيت الله الحرام.

    (3-1) لماذا شهادة أن "لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" ؟

    "لا" هي نفي، "إله" معبود، "إلا" استثناء، "الله" لفظ الجلالة مستثنى، وجملة الجملة "لا إله إلا الله" تعني لا معبود بحقٍ سوى الله. أما الشطر الثاني، "محمد" اسم علم يدل على الرسول صلى الله عليه وسلم، "رسول" حاملٌ لرسالة، "الله" لفظ الجلالة المُرسِل، وجملة الجملة تعني محمدُ حاملُ رسالة الله. ومعنى الشهادتين عموماً، إقرار الفرد بأنه لا معبود بحق سوى الله، وإقرار بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول مُرسَل من لدن الله الذي لا معبود بحق سواه.

    لولا الشطر الأول من الشهادة، لما آمن أحد بالشطر الثاني، فمن لا يؤمن بوجود الله لن يؤمن برسالته على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يشك في أحقيته في إفراد العبادة له، فلن يؤمن بوجوب التصديق بالرسالة. لذا جاءت الشهادتين فاتحة للدرب ومطهرة للنفس من أدران الشك، فلا يعقل أن يقوم عاقل بأداء بقية الأركان دون أن يقر بالشهادتين، ولا يعقل قبل ذلك في المقام الأول أن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من لا يؤمن بوجود الله أولاً ووحدانيته ثانياً.

    والشهادتان مثل الميزان الذي لا يتزن إلا بوجود ثقل إيجابي يقابله ثقل سلبي يعادله، فأتى ذكر الله أولاً ممثلاً الجانب السماوي النوراني في الحياة، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ممثلاً الجانب الأرضي، وجاء ذكر الباطل في الآلهة، وذكر الحق وهو الله، وجاء النفي لهذه الآلهة، والإثبات لله، وجاء ذكر المُستقبِل وهو محمد صلى الله عليه وسلم والمُرسِل وهو الله سبحانه وتعالى.

    فالشهادتان كما أتتا تحويان (السماوية، والحق، والإثبات، والإرسال) حوتا أيضاً (الأرضية، والباطل، والنفي، والاستقبال)، وحول هذه المعاني تدور أركان الإسلام، فبقية الأركان الأربعة تدور في رحى هذه المبادئ سمواً وإحقاقاً وإثباتاً وإرسالاً ودنواً وبطلاناً ونفياً واستقبالاً.

    (3-2) لماذا الزكاة والصيام ؟

    الإنسان مكون من مركب أرضي هو الصلصال، ومركب سماوي هو الروح، ومزيج هذين الاثنين هو الإنسان الذي خلقه الله ليكون بين النورانية التي استمدها من روح الله الموروثة من أبينا آدم، والحيوانية التي يتركب منها جسده الأرضي، ورسالة الإسلام أتت لتسمو بهذه الروح قبل أن يُسمى بها وترتقي بها قبل أن يُرتقى بها عنوة دون اختيار، ففي لحظة الموت تسمو الروح وتفارق الصلصال لتواجه مصيرها منفردة فإن كان الإنسان في حياته مهتماً بهذه الروح، فإنها تعرج من علياء إلى علياء، وإن كان الإنسان مهملاً لها ولم يعودها السمو فإنها تصبح مثل الطفل الذي فُطم قبل الأوان أو اجبر على المشي وهو بالحبو غير جدير.

    ما يسمو بالروح هو الروحانية وما يدنو بالجسد هو الحيوانية، فللإنسان رغائب روحية سنتحدث عنها في حينها عند الحديث عن الصلاة والحج، وحوائج حيوانية تتلخص في المال وملحقاته وشهوات الجسد وتوابعها، وكلما حاول الإنسان إشباع شهواته الحيوانية دنت به هذه الشهوات نحو الصلصال مصدرها، فحينما يكنز الإنسان المال فإنه يرضي نزعة الأنانية وحب الذات وشهوة حيوانية دفينة بداخله، فالحيوان لا يعرف معنى البذل والعطاء لذا كان البخل من سمات الحيوان، فهو يقاتل حتى لا يأخذ منه أحد شيئاً مملوكاً له، كذلك الإنسان الذي يصغي إلى نداء الصلصال فإنه يؤثر أن يكنز المال دون هدف إلا المال نفسه ويستمتع بالمال شاء أم أبلى.

    جاء الإسلام وركن من أركانه يهدم هذه الشهوة، شهوة المال، فالزكاة هي المعول الرئيس والصدقة معول مساعد لها، وكلما مر حول على الإنسان أتاه اختبار سنوي من مرحلة واحدة، هل سيقبل طوعاً أن يتخلى عن جزء من هذا المال الذي يملكه ليخفف طوعاً من أحماله الأرضية مخففاً على روحه المثقلة أم لا ؟ ويمر الاختبار فينجح من نجح ويسقط الساقطون. أما الصدقة فهي اختيارية وهي معول هدم مساعد لهذه الشهوات شرعها الإسلام لمن يريد أن يسرّع في عملية الهدم لبناء الصلصال.

    والصيام كذلك مثله مثل الزكاة معول هدم لبناء الصلصال، وهو معول رئيس يعينه معول مساعد يدعى النوافل، وهو مثل الزكاة أيضاً اختبار سنوي من ثلاثين مرحلة، وكلما مر حول على الإنسان وقف أمام الاختبار المتجدد، هل يهدم شهوة الطعام والفرج الحيوانيتين أم يواصل في إرضاء هذا الجسد على حساب تلك الروح المرهقة ؟ وبعد نهاية الاختبار يكون قد اجتاز المحك السنوي ليعيش في انتظار المحك المقبل في بعد عام من صيامه لرمضان. أما النوافل فهي مسنونة لمن يريد هدماً أكثر مما تهدمه الفرائض، فمن يريد أن يزيد من وتيرة هدم الحيوان الرابض بداخله فإن باب الصيام مفتوح أمامه ليزيد من تهذيب وحشية هذا البند وترويضه حتى لا يتغول على بند الروح.

    هذان الركنان هما معولا هدم لهذه الرغبات الحيوانية، ولكن أين البناء ؟ فالإنسان حين يهدم أو يجرّف أرضاً فإنه يريد إقامة بديل لها، وهذان الركنان الزكاة والصيام هدمتا بناءً قائماً على ركائز أرضية فما هو الشيء الذي سيحل محل الفراغ الناجم عن هدم هذا البناء ؟

    (3-3) لماذا الصلاة والحج ؟

    بينما الإنسان يهدم في خراب الجسد فإنه يتوجب عليه أن يبني مقابله بنياناً آخر بديلاً لهذا البناء في داخله، فيأتي هنا دور الصلاة والحج، اللتان تنميا نبات الروح، حيث أن التقرب إلى الله يعني البعد عن الجسد، لأن روح الإنسان هي من روح الله لقوله تعالى في سورة الحجر في الآية الثامنة والعشرون ..

    {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}

    بينما الجسد جزء من الأرض لأنه الجسد مخلوق من صلصال أي من طين، وذلك لقوله تعالى في الآية الثالثة عشر من سورة الرحمن ..

    {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}

    فالله خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه، فإن آتى الزكاة وصام عن الشهوات الصلصالية، صار هذا الصلصال هشاً ضعيفاً، ثم بعد أن أضعفه قام بتقوية تلك الروح بالصلاة والصيام صارت الروح قوية، لذا حينما تأتي لحظة الموت تفارق روح المؤمن جسده بكل سهولة لقوتها بينما تنزع نزعاً من جسد غير المؤمن لضعفها.

    والصلاة لبنة بناءٍ يومية من خمس محطات تساعدها لبنات بناءٍ تدعى النوافل، والحج لبنة بناءٍ دهرية من محطة واحدة تساعدها لبنة بناء مساندة تدعى العمرة أو الحج التطوعي، وكلما زاد الإنسان من الصلوات سمت روحه نحو عليين، وكذلك الحج، لأنهما عبادتان روحانيتان تساعدان في عمار الروح، ولا تشملان أي جانب أرضي مثل الزكاة التي ارتبطت بالمال والصيام المرتبط بالشهوات الأرضية. وكلما زاد الإنسان في النوافل والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة زاد في عمار هذه الروح باقترابه من خالقها.

    بالزكاة والصيام يهدم الإسلام الأرضية، وبالصلاة والحج يبني السماوية، وبعد القيام ببناء هذه الأركان يصل الإنسان إلى مرحلة بناء الإسلام، فهو حتى هذه اللحظة لم يقدم عطاءً سوى لنفسه، للفوز في الآخرة، ولكن كيف يفوز الإنسان ويكافأ على مكافأة نفسه، فهو بقيامه بهذه الأركان يكون قد بدء في التحول من كائن ظلامي إلى كائن نوراني، أي أنه قد غسل نفسه من أدرانها كمن يستعد للصلاة وهذا بالضبط ما يبحث عنه الإسلام في الإنسان، وها هو الإسلام قد وجد ضالته فما هو العمل المطلوب من هذه الضالة، وما هو شكل هذه الصلاة المطلوبة منه ..



    (4) ما هو الإسلام ؟

    لكل شيء في هذا الوجود صورة، فنحن حين ننظر إلى أي شيء أو ندركه عقلياً، باعتبار العقل حاسة، فإننا لا نراه حقيقة ولا ندركه ولكننا نرى وندرك صورة له تترجمها الحواس إلى معلومة لنا، لا نعني بكلمة صورة المعنى المطروق (vision) بل نعني بها كل ما تدركه الحواس من انعكاسات للحقيقة، ذلك لا يعني أن كل ما لا تدركه الحواس هو غير موجود، فالحواس البشرية محدودة القدرات لها سقف أعلى وحد أدنى للإدراك، بمعنى أن ما ينخفض عن الحد الأدنى لا يدرك وما يزيد على السقف الأعلى لا يدرك أيضاً. كذلك لكل صورة عين صورة لها ولكل صورةٍ صورةُ صورةٍ لها في حلقة مستديرة من الصور، ولكن الحواس تدرك وتعقل الصورة الأولى فقط وتعي وجود الصورة الثانية بينما لا تستطيع أن تحيط بالصورة الثالثة لبعدها عن مجال الحواس والوعي. الصورة الأخيرة في حلقة الصور هي عين الحقيقة مثلما عين الحقيقة هي الصورة الأخيرة، وهذا يعني أن تتابع هذه الصور لا يمتد في خط مستقيم بل ينحني في خط دائري يعود من حيث بدأ. يمكننا أن نلاحظ هذا الخط المستدير في كل شيء في الحياة حولنا، فالإنسان يبدأ من التراب ليعود مرة أخرى إليه، ونحن إن أدركنا عين الحقيقة في وجود البشر فإننا لا نستطيع أن نرى صورة هذا البشري وهو يستحيل إلى تراب بل نراه بشراً سوياً ثم يمكننا أن نراه بعد ذلك تراباً، أما ما بين هاتين الحالتين من صور فيستحيل على الحواس أن تدركه، هذا الخط المستدير يمكننا أن نرى وصفه في الآية الثامنة عشر من سورة العنكبوت ..

    {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}

    يُبدئ الله الخلق حقيقة ثم يعيده حقيقة، وبين البدء والإعادة مراحل طويلة لا تراها العين البشرية، ولكن البدء معاين والإعادة معاينة لأنهما صور أولية للحقيقة، وما بينهما صور لهذه الصورة الأولية، وهكذا هي الحياة بدء ثم بدء، ولكن العجز البشري عن استيعاب البدء الأخير يجعله يطلق عليه ما نسميه مجازاً نهاية، في حين انه لا توجد نهاية بل هو بدءٌ جديد كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وبين البدء والبدء تدور رحى الحياة والممات أما ما قبل البدء الأول وبعد البدء الأخير فهو حلقة لا نرى سوى أطرافها الظاهرة للعيان، مخفية عنا بحجب الغيب وأستاره الغليظة.

    ما علاقة كل ما سبق بالإسلام ؟

    الإسلام تعريفه هو أن يسلم الإنسان وجهه خالصاً لله، وهو ديانة سماوية تنزلت من لدن العزيز الحكيم على النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وهو آخر الأديان نزولاً وخاتمها وفيه تجلت المعاني الربانية وتنزه من كل العيوب الأرضية، فخاطب الصغير والكبير، والجاهل والمستنير، والغني والفقير، كل خاطبه بلسانه وأعجزه ببيانه فكان خير ختام للرسالات وأودع الله فيه كل ما أراد أن يوصله إلى عباده، لأنه آخر الرسائل منه لهم، فكان رسالة الوداع لينظر كيف يعمل العاملون.

    والإسلام هو صورة أولية لذات أعلى لا تستطيع الحواس لها إدراكاً، وهو تجسيد للسلوك الإلهي السامي بصورة عملية قابلة للتدوير والاستعمال في واقع الحياة، فمثلاً الإنسان لا يستطيع أن يرى الرحمة بعينيه ولا أن يسمعها بأذنيه ولا يستطيع لها لمساً بيديه أو تذوقاً بلسانه ولكنه يدرك أن هناك رحمة موجودة بصورة ما، لا تدركها الحواس البشرية، ولو كان مجال إدراك الحواس أكبر من هذا المجال المعطى لنا من الله، فلربما استطاعت الحواس أن تدرك الرحمة عياناً بياناً أو سماعاً أو إحساساً، فنحن لا ندري هل الرحمة طويلة أم قصيرة، ثقيلة أم خفيفة، باردة هي أو حارة، ولكننا ندرك فقط أنها شيء جيد وندرك أيضاً أننا نستطيع فعلها إن شئنا، يمكننا القياس على مثال الرحمة في كل شيء.

    كذلك الإسلام، نحن لا نستطيع أن نصفه بصفات حسية لأنه ليس حقيقة، بل هو صورة لحقيقة لا تدركها الحواس، مثلما سقنا مثال الرحمة على أنها صورة لشيء لا ندركه ولكننا نستطيع أن نحس بوجود صورة له لا تستطيع الحواس تمييزها، فكذلك الإسلام هو صورة خارج نطاق الحواس البشرية، فإن كانت الصورة خارج نطاق الحواس فكيف تكون حقيقة هذه الصورة ؟ لكن يمكننا من خلال الإشارات التي تبعثها هذه الصورة أن نتخيلها، ومن الصعوبة بمكان أن نتخيل حقيقتها، فنحن نستطيع أن نقول عن تعاليم الإسلام أنها جميلة، إذن هذه الإشارة "التعاليم" استطاعت أن تحصل لنفسها على وصف، ويمكننا أن نسوق هذا الوصف على الإسلام فنقول أنه بما أن تعاليمه جميلة فإنه لا شك سيكون جميلاً، وبالتالي يمكننا أن نتصور حقيقة هذا الإسلام بقولنا بما أن تعاليم الإسلام جميلة فالإسلام (الصورة) جميل والحقيقة (الأصل) التي يعكسها هذا الإسلام أيضاً ستكون لا شك أجمل، وذلك أننا رأينا الجمال في الصورة الثانية له، وهي صورة ضبابية لا شك أنها فقدت الكثير من الرونق والبريق بفعل النسخ، فكيف الأصل سيكون.

    وصلنا هنا إلى معرفة أن هناك ثلاثة مستويات هي (الأصل) وصورته (الإسلام) وصورة صورته (التعاليم)، يمكننا أن نقول أيضاً، كمثال مكمل لما سبق، أن تشريعات الإسلام حكيمة، وبالتالي فإن الإسلام حكيم وما يمثله الإسلام سيكون أيضاً من الحكمة بمكان. وهكذا دواليك يمكننا أن ننظر إلى جميع جوانب هذا الدين كصور له وأكرر صور لا تعني (vision) بل تعني كل ما تدركه الحواس والعقل الواعي من أشياء، المهم أن جميع هذه الصور تسهم في خلق صورة متكاملة ومترابطة لحقيقة ما تعكسه، وهذا لا يعني إدراكنا له، ولكن إدراكنا لانعكاساته يؤدي إلى إدراك جزئي للصورة التي تبعث هذه الانعكاسات وبصورة أقل للأصل الذي تصوره هذه الصور.

    لا شك أن للذات أو الأصل الذي يصوره لنا الإسلام صورٌ أخرى ولا شك أن لهذه الصور انعكاسات ربما لا ندركها أو ندركها ولا نعلم أنها انعكاسات لصورةٍ شقيقةٍ لهذه الصورة التي نرى انعاكساتها، ولكن عملية عكس هذه الصور تمت في ظروف مغايرة للصور المنعكسة عن الإسلام، وأوضح مثال لهذه الصور وانعكاساتها هي الأديان السماوية الأخرى، فاليهودية والمسيحية هي صور لنفس الأصل الذي يصوره الإسلام، ولكنها صور أخرى، ونعلم أنها أخرى وليست مثيلة، ليس لرؤيتنا لها على حقيقتها ولكن بسبب رؤيتنا لانعكاساتها في الواقع الملموس بالحواس.

    (عدل بواسطة ود شاموق on 01-23-2003, 06:01 PM)

                  

01-23-2003, 06:03 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)



    حين يؤمن شخص ما بالإسلام كطريق قويم ومخرج له من الظلمات، فإنه يكون بذلك قد أسلم وجهه لله، أي صار مسلماً، وهذا ليس مقصد الإسلام، فالديانات الأخرى أيضاً مخارج، ولكن تميز الإسلام عليها انه ليس مخرجاً فقط بل هو منهج متكامل قبل ذلك، وتكتل متزن لجميع الاحتياجات الروحية التي يحتاجها السالك في دروب النور، فهو يبدأ بهدم الجسد هدماً رقيقاً لا يقتله، وينتهي بإعمار الروح عماراً لا تخرب بعده أبداً، ومقصد الإسلام من هذه العملية هو خلق ذلك المجتمع الملائكي الذي يحق لله سبحانه وتعالى أن يفاخر به ملائكته، وتحقيقاً للسر الأعظم الذي جعله الله في الإنسان حين قال للملائكة إني أعلم ما لا تعلمون متمثلاً في الإرادة الحرة التي تجعل هذا البشري إن شاء شيطاناً وإن شاء صار ملاكاً.

    فالملائكة مخلوقات نورانية، أي أنها بطبعها روحانية، لا تمتلكها شهوات أرضية حيوانية مثل البشر، ولا تنازعها رغائب أخرى غير رغائب الروح، قال تعالى في الآية التاسعة والعشرون من سورة البقرة ..

    {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

    فهذا المجتمع الملائكي خلقه الله بإرادته وجعله ملائكياً بنزعه للعنصر الأرضي منه، ولكن المجتمع الأرضي هو مجتمع بشري مخلوق من مزيج بين هذا وذاك، والملائكة حين سألت الله كيف يجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء مقارنة بهم هم العابدون له والمسبحون بحمده والمقدسون، لم يكن سؤالاً بقدرما كان استغراباً لعلمهم بمحبة الله لما تفعله الملائكة وكرهه لما سوف يفعله البشر، فكان الإسلام هو الحل ..

    الإسلام يحمل في داخله العناصر التي تجعله يحيل هذا الإنسان العاصي المفسد في الأرض وسافك الدماء، إلى مخلوق نوراني أقرب ما يكون إلى الملائكة، وهذا دائب الأديان كلها، إذ أن الإنسان لا يدخل الجنة وفيه بقايا طينية بل أن كل من تحل به لحظة الموت وفيه بقايا منها يذهب به إلى الجحيم لتطهيره من هذا الصدأ وتخليص الروح من هذه الحيوانية قبل أن يدخل الجنة.

    أما نظرة الإسلام الشاملة فهي تنظر إلى هذا الموضوع بشكل أكبر من النظرة الضيقة التي تتلخص في جنة المثوبة ونار العقوبة، حيث أن الثواب والعقاب خلقا ليكونا حافزاً مادياً للمجتهدين في بناء مجتمع الفضيلة اللا مادي كما أراده الله، وهذا هو الغرض من نزول آدم إلى الأرض، حيث أن مجتمع الفضيلة في السماء قائم، ولكن انعدام هذا المجتمع على كوكب الأرض هو السر في خلق البشر. ومجتمع الفضيلة هذا هو مجتمع قريب من مجتمع الملائكة لا يعصى فيه الله أبداً، وهو ما عبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله أن الإسلام سيبلغ من الأرض ما بلغ الليل والنهار، أي أن هذه الرسالة الخالدة ستعم الأرض بأجمعها، ولم يكن يعني به انعكاس الإسلام من تعاليم وتشريعات وما إلى ذلك، بل كان يعني حقيقة الإسلام التي خلقت الأرض من أجله، ولا يعني هذا انتفاء الانعكاسات أو انعدامها بل يعني أن هذه الانعكاسات ستكون طبقت تطبيقاً كاملاً بحيث أنها صارت تجري في دماء البشر بكل تفاصيلها وأنهم صاروا في تلك اللحظة مؤهلين لرؤية الصورة لا انعكاساتها.

    قطعاً سيتفوق مجتمع الفضيلة هذا على المجتمع الملائكي، والسر في ذلك يكمن في الاختلاف النوعي بين الملاك والإنسان فالإنسان مجبول على المعصية بينما الملاك مجبول على الطاعة وحين يتحول الملاك المجبول على الطاعة إلى عاصي فإن ذنبه سيكون أكبر من ذنب البشري، فالبشري حين يعصي الله فإن لا يؤاخذ كالملاك، أما الملاك فإنه يطرد من رحمة الله كما طرد إبليس، وكذلك بنفس المستوى فإن الملاك حين يطيع الله فإنه لا يؤجر على طاعته لأنه مجبول على ذلك ولا خيار له في الطاعة، أما البشري فيؤتى أجره مرتين حين يطيع الله مرة لانتصاره على السلبية ومرة أخرى لدفعه الإيجابية.

    وفي ذلك المجتمع ستختفي الحيوانية حتى من الحيوانات نفسها دعك من البشر، فالذئب فيه ذاك المجتمع سيرعى مع الشاة والجمال مع الأسود، وستخرج الأرض خيراتها وكنوزها حتى أن الرمانة يستظل بقحفها في ذلك العهد الرهط من الناس، لأن مجتمع الفضيلة سيكون حقق أقصى درجات الفضيلة التي يحث عليها الإسلام، ويختفي النصب والتعب بوجهه القبيح من حياة البشر ليتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم ..

    {لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما ترزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً}




    (5) كيف نحقق الإسلام ..

    تحقيق الإسلام غاية لا تدرك، فهو تحقيق للكمال الذي عجزت وتعجز عنه النفس البشرية كل العجز، وهو رقيّ في معارج الملكوت يفوق القدرة الإنسانية على الاحتمال والجلد، لذا كان التمايز بين البشر في مقدار الشوط الذي يقطعونه نحو قمة هذا الهرم، فكل من ينطق بالشهادتين قولاً أو فعلاً يكون قد ابتدأ السباق بين الروح والجسد، وكل من صلى ركعة لله خطى خطوة نحو الأمام وصار بهذه الخطوة سابقاً لمن لم يخطو مثلها.

    الإسلام قبل أن يكون دين شعارات ومظاهر، هو دين سريرة قبل كل شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه عمر بن الخطاب ..

    {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}

    فشرط قبول العمل، صلاح النية، وكذلك الإسلام، شرط قبول الإسلام إخلاص النية، فللإسلام، كما لكل شيء، ظواهر وبواطن، باطنه الإيمان وظاهره العمل، وكل ظاهر دليل على الباطن، فحين يكون الظاهر قبيحاً، فإنه يدل على قبح السرائر، وحين يكون جميلاً فإن العكس يكون، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المضعَّف ..

    {إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد، فأشهدوا له بالإيمان}

    فظواهر الأشياء دلائل على بواطنها، وارتياد المساجد ظاهر طيب، فهو لذا يدل على باطن أطيب، وحيث أن كثرة ارتياد المساجد دليلٌ على ظاهرة إيمانية لا تتوفر لدى غير المؤمن، كانت الشهادة للفاعل بالإيمان.

    والعمل ظاهر الإسلام، كما أن الإيمان باطنه، ودون العمل لا يصح الإسلام أبداً، فلذا نجد الإسلام حث على العمل بكل السبل الممكنة، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمل، ويحث على العمل، بل أنه أفرد للعمل اليدوي حيزاً دون غيره من الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم ..

    {ما أكل احد طعاماً أطيب من أن يأكل من عمل يده}

    وفي نفس السياق نجد أن جميع الأنبياء كانوا عمالاً بصورة أو بأخرى، فهذا نوحٌ عليه السلام كان نجاراً، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وموسى عليه السلام عمل ثمان سنوات راعياً في مدين، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عمل راعياً وتاجراً صلوات ربي وسلامه عليه.

    وكما أن لكل شيء ظاهر وباطن فإن لكل شيء روحانية وصلصالية، فروحانية الإسلام الإيمان وصلصاليته العمل، لذا نجد الإيمان يسعى لسعادة الروح لذا تؤمن الروح ولا يؤمن الجسد، بينما العمل سعي لسعادة الجسد لذا يعمل الجسد ولا تعمل الروح.

    (5-1) لماذا الإيمان ؟

    الإيمان هو التسليم المطلق بالغيبيات والاعتقاد الجازم بوجودها حتى وإن لم ترها العين، وتعريفه في الإسلام، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان بستة معتقدات هي الأصل في الإيمان، وهذه المعتقدات الستة هي الله والملائكة والكتب السماوية والرسل واليوم الآخر والقدر، تنحصر في هذه الأشياء الستة جملة الإيمان، ويندرج تحت كل واحد من هذه الحقائق الإيمانية، تفاصيل ..

    فالإيمان بوجود الله يستلزم الإيمان بوحدته إذ لا يجزي الإيمان بالله مع وجود شريك له، كما لا يجزي الإيمان به مع الانتقاص من قدرته، كما جاءت في المصادر، ولا يجزي الإيمان بالملائكة مع الانتقاص من قدرهم، كما لا يجزي الإيمان بالكتب السماوية مع إهانتها بأي صورة كانت، إلى آخر ما هنالك من نواقض لهذا الإيمان، وما سبق لم يكن وافياً ولكنها كانت أمثلة لما يمكن أن ينافي هذا الإيمان.

    والإيمان هو مرساة للمسلم تشده دائماً نحو بر النجاة، فهذا الإنسان منذ عهد سيدنا آدم وحتى آخر الأزمان، يحتاج إلى الإيمان بشدة كحوجته إلى الطعام والشراب، لأن الإيمان غذاء الروح مثلما الطعام غذاء الجسد، وجميعنا يعلم أن انعدام الطعام يقتل الجسد ولكنه لا يمس الروح التي تنطلق متحررة من هذا الجسد حين يصبح أضعف من أن يحتملها بين جنباته، لا نشعر بها ولكنها لا تموت بسبب نقص في طعام أو شراب، كذلك وبنفس المقدار فإن الإيمان غذاء للروح تموت بغيره دون أن يشعر بها أحد ويظل الجسد حياً، لذا نجد السيد المسيح يقول، في انجيل لوقا، لحواريّه سمعان حين أراد أن يستأذنه في دفن والده : "دع الموتى يدفنون موتاهم"، وكان بها يقصد دع موتى الروح يدفنون موتى الجسد أما أنت فانطلق معي نحو آفاق أرحب من هذه التي تحلق فيها، كان هذا مقصد السيد المسيح عليه السلام.

    والإيمان عطية إلهية، إذا لا يوجد لها سند في المنطق، وهبها الله للبشر ليستطيعوا العيش بسلام مع أنفسهم، وحائط كبير يتكئ عليه المتعبون فيسند أحمالهم المُرهقة دون أن يكل أو يشكو، وحين وصف كارل ماركس الدين بأنه أفيون الشعوب، كان يقصد هذه الراحة التي يجدها المؤمنون نتيجة لإيمانهم والتي لا يستطيع أن يجد، تفسيره المادي الضيق للوجود والتاريخ، لها تعليلاً.

    والإيمان بوجود الله سبب من أسباب الحياة المطمئنة، فمن يعلم أن له أباً ليس كاليتيم الذي لا أب له، ومن يدرك أن هناك من يحنو عليه ليس كمن يواجه قسوة الدهر دون سند، ومن يعلم تمام العلم أنه ينتمي إلى شيء عظيم وطن، منظمة، حزب فإنه سيكون مطمئناً لأنه سيكون واثقاً أن كل ما سيثقل عليه حَمله سيُحمل عنه، حتى وإن لم يُحمل عنه يوماً فإن هذا الإيمان يعينه على أداء رسالته على أكمل وجه، وهذا من أسباب الطمأنينة في الحياة الدنيا. فما بالك بمن يؤمن أن له رباً هو أكبر وأعظم وأقوى من كل ما يجمعون، وأن هذا الرب وعده بالنصر وإجابة الدعوة كما قال تعالى في سورة البقرة الآية رقم مئة وخمسة ثمانون ..

    {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}

    كيف سيكون حال هذا المؤمن مقارنة بملحد لا يرجوا لله وقاراً يصادم الحياة يعركها وتعركه لوحده دون سند أو نصير ؟ يعيش حياته المادية الصلصالية كأسوأ ما تكون الحياة.

    أما الإيمان بالملائكة فله مذاق عجيب ومزاج غريب، فحين يعلم أن لربه الذي آمن به عباداً غيره لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأن الله كرمه وفضله عليهم تفضيلاً، فإن هذا مدعاة للسرور وطعم خاص للإيمان الإيجابي الذي يزيد ثقة العارف بربه، ويهل على جدب الأرواح المقفرة بالخير العميم الذي تعجز العقول غير المؤمنة أن تستوعبه أو تجد له شبيهاً في خيالها.

    وللإيمان فوائد غير الراحة النفسية، فهذا الإنسان ينظر إلى الكون حوله فيجده خالداً ينظر إلى جدار بناه ملك قبل آلاف القرون لا يزال على حالته خالداً رغم فناء الملك الذي بناه، وينظر إلى السماء فوقه خالدة والأرض تحته خالدة والكون حوله خالد، ولا نعني بالخلود هنا الخلود المطلق، ولكنه الخلود النسبي، فالذي يعيش ألف سنة هو خالد بالنسبة لمن لا يعيش أكثر من أربعين، المهم في هذه النقطة أن الإيمان يغير هذا المفهوم في حياة الإنسان، فالإيمان باليوم الآخر يجعل الإنسان يعيش في هذه الدنيا كضيف زائر حين يعلم أن هذا اليوم الآخر لوحده يساوي خمسين ألف سنة أرضية، لذا يجعله هذا الإيمان يحس أنه خالد أكثر من هذه الظواهر التي يراها أمامه، فهو يعلم أن هذه السموات ستطوى ذات يوم كطي السجل، أما هو فلن يطوى، وأن البحار ستسجر ولن يسجر هو، وأن الأرض ستكور ولن يكور معها، إلى آخر مناظر يوم القيامة، في هذه الأحداث العصيبة التي يسدل فيها الستار على الكون الذي يظنه كثيرون خالداً، يكون المؤمن بهذه القناعة آمناً في سربه معافاً في بدنه واثقاً ومقتنعاً بأن خط هذه الحياة لا يسير في خط مستقيم، بل هو خط مستدير يعيد الحياة بعد الحياة والممات بعد الممات لغاية يعلمها الله، خلاصتها انه خالد غير فان، وأن بعد كل ممات حياة وبعد كل حياةِ مماتٌ تعقبه حياة.

    والإيمان بعد هذا وذاك سريرة إن صلحت صلح ما بعدها من العمل وإن فسدت فسد ما دونها من العمل، فكل شيء في الإسلام قابل للرياء إلا الإيمان فهو مقترن بالنية، وكلاهما مستور في أعماق النفس البشرية، لذا كان المنافقون مسلمين ولكنهم لم يكونوا مؤمنين، وذلك لسهولة إظهار الإسلام وصعوبة الإيمان، قال الله تعالى في سورة الحجرات الآية الثالثة عشر محدثاً عن نوعٍ من المنافقين ..

    {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

    والإيمان حتى يكتمل يستلزم شيئين اثنين، أولهما العبودية (الأرضية) التي تعني الانصياع التام لأوامر الله والاجتناب التام لنواهيه التي نهى عنها، وتعني ضمناً وتجريداً اتباع كل حميدٍ واجتناب كل قبيح، فالله حين أنزل رسالته إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت الرسالة تسامياً بالروح البشرية فوق أدران الصلصالية ولا يتحقق ذلك إلا بالسعي نحو الصفات الإلهية، فمثلاً نحن نعلم تمام العلم ونؤمن كل الإيمان بأن الله لا يكذب، فينبغي علينا إن أردنا القرب من الله أن نتصف بصفات إلهية مثل الصدق، ونعلم أن الله هو الرحمن الرحيم، فينبغي علينا أن نسعى نحو الرحمة بكل ما أوتينا من قوة، لا نقول أن يصبح البشر آلهة ولكن نقول أن يتصفوا بالصفات الإلهية، لن يستطيع الإنسان أن يكون صادقاً مثل الله لأنه يكذب حتى على نفسه في كثير من الأحيان، ولكن باب المحاولة وأجرها موجودان، وكلما زاد الإنسان في الاتصاف بهذه الصفات الحميدة، كلما تحقق معنى العبودية أكثر، وحين يصل إلى مرحلة أعلى في العبودية، فإنه يكون قد تسامى عن الصلصالية وأقترب من منبع النورانية، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ..

    {ما تقرب مني عبدي شبراً إلا تقربت منه ذراعاً}

    فالقرب من الله هو عملية تبادلية، إذا أن اقتراب الإنسان من الله يعني اقتراب الله من الإنسان، والعكس صحيح، فالعلاقة بينهما طردية في الحالتين اقتراباً وابتعاداً، مع اختلاف في الكم والكيف ناجم عن اختلاف في الطبيعة.

    وثاني الأشياء التي يلزمها اكتمال الإيمان بعد العبودية هو النقاء (السماوي)، ونعني به المصطلح الرنان الذي شاع في عصرنا والذي هو شقيق لمعنى النقاء، هذا المصطلح هو "الشفافية" بلغة اليوم، فالمسلم ينبغي عليه أن يكون شفافاً نقياً بمعنى أن يكون ظاهره مثل باطنه، والنقاء هنا وسيلة وليست غاية، وسيلة لتجميل الدواخل لتصبح مشرِّفة للظواهر، فالإنسان حين يعلم أن منزله قبلة للزائرين سيحاول أن يجعله في أبهى الحُلل، وله في ذلك طريقين، إما أن يزينه لحظة قدوم الزائرين ثم يرجعه بعد انصرافهم إلى قبحه القديم، وهذا سلوك جدُ مشين، أو أن يجعله طوال العام جميلاً، وهذا هو السلوك النقي الذي ينشده الإسلام من المسلم، فالمسلم غير النقي يخبئ أشياء لو كانت حسنة لما خشي عليها ولكنها قبيحة لذا يحرص أشد الحرص على إخفائها، عكس من يملك دواخلاً نظيفة، نجد قلبه ولسانه سواء. النقاء عموماً مطلب إنساني مع كونه ديني، ولكن الدين شدد عليه، واعتبر العتامية نوعاً من الإثم، فقد قال صلى الله عليه وسلم ..

    {الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع الناس عليه}

    فكل ما حاك في النفس وكره الإنسان إطلاع الناس عليه هو نوع من الإثم، يتفاوت في الدرجات صعوداً وهبوطاً في الكم لا في الكيف، لذا كان النقاء أحد الآليات الناجحة في القضاء على هذه الآفة وإجبار المسلم على تنظيف دواخله تنظيفاً ذاتياً حتى تكون مشرفة له حين يراها الآخرون، وذلك بإجباره على ذاتية الصدق دون وجود الدافع لذلك الصدق وهذا يتمثل في النقاء بصورة حسنة.

    والنقاء عموماً هو ارتقاء من السلوك الصلصالي إلى السلوك النوراني، فالإنسان لا يخفي شيئاً إلا بدافع الخوف، والخوف كما نعلم هو سلوك غريزي حيواني، إذا أن الخوف هو رد فعل على فعل مخيف، لذا نجد أن الميراث الحضاري الإنساني كان ولا زال يمتدح الشجاعة لأنها سلوك سماوي في نظر البشر، والنقاء أو الشفافية هي قمة هذا السلوك ويمكننا أن نعبر عنها بمصطلح نسميه "الصدق الإيجابي"، كتعبير عن هذه الحالة، والذي يعني أن يكون الإنسان صادقاً حتى وإن لم يطلب منه الصدق، أي أن يكون صادقاً بدافع ذاتي لا خارجي، وهذا النوع من الصدق هو قمته، إذ لا يقارن بـ "الصدق السلبي" الذي يكون بعد السؤال عن حقيقة مغيَّبة، وعمومُ الصدق جيد، إلا أن بعضه أجود من بعض.

    (5-2) لماذا العمل ؟

    العمل هو سنة الله لعباده في الأرض، به يحيون الأرض بعد مواتها ويعمرونها بعد خرابها، وحين جاء الإسلام جاء مؤكداً على هذه السنة الكونية التي تحارب البطالة والتقاعس بدعاوى كثيرة، حتى أن الصحابة رضوان الله عليهم حين جاؤا إلى سيدنا محمد يمدحون له أحدهم وأنه يصوم النهار ويقوم الليل لا ينقطع عن العبادة، فسألهم عمن يصرف عليه، فقيل له أخوه، فقل : {أخوه خيرٌ منه}، وهذا تأكيد على قداسة العمل وأنه يفوق العبادة بمراحل، بل أن العمل يفوق أجراً حتى العلم، قال صلى الله عليه وسلم ..

    {فضل العامل على العابد كفضلي على سائر الأنبياء}

    وهذا الحديث لا يدل على عدم فضل العلم، كما لا يدل الحديث الذي قبله على عدم فضل العبادة، ولكنه حيث على اقترانها ببعضها البعض.

    وحيث أن الإسلام كمنهاج للبشر جاء متكاملاً ليلبي جميع حوائجهم المادية منها والمعنوية، فإنه كما اهتم بالروح حيث حث على إعمار العلاقة مع الله، فإنه حث كذلك على العمل كواجب دنيوي مقدس. والعمل أنواع شتى، جميعها تصب في بوتقة واحدة، هي بوتقة إصلاح البشرية، وقد حث عليه معلم البشرية ودعى الناس إليه، وهذا جزء من شمولية المنهج الإسلامي الذي أتى لإصلاح علل المجتمع علة فعلة.

    ولعل أسمى أنواع العمل الدنيوي بعد المهنة، العمل الأخروي الذي يشمله لفظ "الجهاد" وهو اللازمة الأولى للعمل (أرضي)، ولا نعني بالجهاد ذلك الجزء الضيق المتعلق بالحرب كما يتوارد إلى الأفهام، فالجهاد مدرسة إسلامية قائمة بذاتها وهو مشتق من الجهد، وهو التعب والمثابرة على عليه، لأنه يفيد التكرار وليس المحاولة مرة واحدة.

    ولجهاد النفس سبق في هذا الحيز، فهو يسمى الجهاد الأكبر، لأن الإصلاح الذي هو ديدن الإسلام يبدأ من الداخل والتغيير لا يكون من الخارج بقدرما يعتمد التغيير على تغيير الدواخل، قال تعالى في سورة الرعد الآية العاشرة ..

    {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

    وهذا دليل قاطع على أن الإصلاح الداخلي هو غاية المبتغى، وهي الذي يؤدي إلى الإصلاح الخارجي، فإن صلحت البواطن كان ذلك صلاحاً لجميع الظواهر، لأن هذه الظواهر إنما هي مرايا للدواخل، تعكس ما تجده فيها. وفي نفس السياق حث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، لن الذي لا يجاهد نفسه، فهو بجهاد الغير غير جدير، فالطبيب حين يكون مريضاً فإن قدرته على علاج المرضى تكون أقل بكثير من الطبيب السليم، لذا يتوجب على الطبيب أن يعالج نفسه أولاً ثم يقوم بعلاج الغير.

    والجهاد الأصغر وهو القتال ذوداً عن حياض الإسلام، له مؤشرات تدل عليه، ويعتقد الكثيرون أن شرط الجهاد الوحيد هو إيذاء المسلمين في أي مكان لتنطلق بعده شرارات الجهاد من كل حدب وصوب، وهذا الكلام العاطفي جميل، ولكنه حقيقة لا يجدي كثيراً، وربما يعتقد الناس أن الله سينصرهم بمجرد أن ينصروه، وهذا هو عين الحقيقة، ولكن الخلاف حول معنى نصرة الله.

    نصرة الله تعني طاعته في المقام الأول والتي تتحقق بالعبودية التي ذكرنها في حديثنا عن الإيمان، ونصرته تعني نصرة النفس وتعني التغيير الداخلي الذي ذكرناه آنفاً، وتعني المقدرة وهي مقسمة إلى مراحل.

    الغرض الرئيس من الجهاد هو رفعة كلمة التوحيد لا اله الله محمد رسول الله، والوسيلة الوحيدة لهذه الرفعة هي الجهاد، ولكن الجهاد يتغير بتغير الساحة، فالذي يحارب عدواً طائراً لا بد أن يطير ليقاتله، والذي يحارب عدواً سابحاً لابد أن يسبح ليحاربه، والذي يحارب عدواً راجلاً لابد أن يترجل ليحاربه، وكذلك الذي يحارب عدواً قوياً لابد ان يكون قوياً ليحاربه، وهكذا، ولا يعني ذلك إغفال نصر الله ومدده، فنحن موعودن بهما ونصدق ونؤمن بالنصر من عند الله، ولكن الأخذ بالأسباب مهم.

    والجهاد لا يعني القتال بأي حال من الأحوال، فإن استطاع المسلم أن يرفع شأن لا اله إلا الله بالدعوة، فهو مجاهد والدعوة جهاد، وإن استطاع بماله أن يرفع شان لا اله إلا الله فهو مجاهد، والبذل جهاد، وإن استطاع أن يرفع شأنها بالعلم فهو مجاهد والعلم جهاد، وإن استطاع أن يرفع شأن لا اله إلا الله بالخلق الحسن فهو مجاهد وله أجر الجهاد.

    نسمع في عالم اليوم بالغزو الثقافي، وهو غزو حقيقي للديار الإسلامية وتيار ساحق لكل من يقف في وجهه، فماذا أعددنا له ؟ محاربة الغزو الثقافي ينبغي أن يكون بغزو ثقافي مضاد، ولكن أين هي بضاعتنا وأين هو سلاحنا الذي سنواجه به ذلك السلاح ؟ الغزو الاقتصادي والاستعمار المالي ضارب بأطنابه في المجتمع المسلم فأين السلاح المضاد لهذا السلاح المتمثل في النقد، وأين إعداد العدة، قال تعالى في سورة الانفال في الآية التاسعة والخمسون ..

    {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}

    فالقوة ورباط الخيل لا تعني القوة العسكرية والخيل بمعناها القريب من الأذهان، بل أن كل ما يرهب عدو الأمة المسلمة أمرنا بإعداده، حتى تكون الأمة المسلمة في مأمن من أعدائها إن وجد لها عدو، وإن لم يوجد.

    المسلمون الأوائل واجهوا غزواً عسكرياً لديارهم فكان الرد بفرض الجهاد العسكري على المسلمين، واليوم المسلمون يواجهون من الغزو أنواعاً شتى، منها العسكري والثقافي والصناعي والعلمي والفكري والاقتصادي إلى آخره، فما هو نوع الجهاد المطلوب منا اليوم ؟ هل الجهاد بمعناه العسكري يكفي لمجابهة سيول الغزو هذه، أم أننا بحاجة إلى تطوير مفهوم الجهاد والاجتهاد للوصول إلى الغاية التي فرض الجهاد من اجلها.

    أما اللازمة الثانية لاكتمال العمل فهي الإخلاص (سماوي)، ونعني به عدم انتظار المكافأة المادية أو المعنوية مقابل العمل الذي نعمله، ويشمل الإخلاص في أحد معانيه "الإحسان" فالإحسان كما جاء تعريفه في الحديث الصحيح {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، وهذا مغزى الإحسان بمعناه السماوي والإخلاص بمعناه الكلي.

    والعمل باعتباره شقيق الإيمان، وجب الإخلاص فيه، ونعني بالإخلاص أن تعمل عملك كأن هناك من يراقبك، فإن لم يكن هناك من يراقبك فأعلم أن نفسك تراقبك، ومن هذا المنطلق يكون الإخلاص دافعاً ذاتياً للعمل الإيجابي الفعال، وهو سلوك يتسامى مثله - مثل النقاء اللازم للإيمان – بالبشر فوق طبيعتهم الصلصالية، فالبشر بطبعهم مدلّسون وغشاشون والإخلاص ينافي التدليس والغش اللذان يلازمان السلوك الصلصالي للبشر، فيسمو بأرواحهم فوق هذه الأدران ويجعلهم أقرب إلى الملائكة منهم إلى الواقع البشري.

    وللإخلاص فوائد كثيرة، أبسطها أنه يؤدي إلى لا مركزية حقيقة لإدارة الأعمال، فالشخص غير المخلص يحتاج إلى شخص يجبره ويحمله حملاً على الإخلاص مقابل ما يحصل عليه من فوائد مادية مقابل عمله، ولكن بتوفر الإخلاص تنتفي الحوجة إلى الرقابة الخارجية، وتتبدل الرقابة الخارجية برقابة داخلية فعالة.

    وهكذا نجد أن العمل يتكون من لازمتين متلازمتين هما الجهاد والإخلاص لتحقيق الغاية منه، والإيمان يحتاج إلى متلازمتين هما العبودية والنقاء، وكلا الاثنين – الإيمان والعمل- هما الأساس لتحقيق مبدأ خلافة المنشودة للإنسان في الأرض، والذي يتحقق بتحقق الإسلام في النفوس مبدئياً ثم تحقيقها في المجتمع كغاية نهائية للإسلام.

                  

01-23-2003, 06:03 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)


    (6) خاتمة ..

    قد يقول كثيرون أن هذا المبحث أهمل جوانب كثيرة من جوانب الإسلام، ولكن الحق يقال، أن هذه المبادئ كلها لخصت في هذه الوريقات، وخلاصة القول أن الإسلام لم يأت ليحقق المظاهر الكاذبة، بل جاء لتحقيق النقاء الداخلي والسمو بالبشر فوق طبيعتهم الصلصالية ليرتقي بهم في معارج الملكوت الإلهي والحياة الأبدية.

    فأركان الإسلام هي الأساس لبناء الإسلام، وبانتفاء هذه الأركان ينتفي الإسلام جملة وتفصيلاً، حتى وإن تحقق ما بعده من محققات، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ..

    {بني الإسلام على خمس}

    فهو مبني وهذه هي أسسه، أما تحقيق الإسلام نفسه فهو شيئين اثنين أولهما الإيمان الذي يستلزم لتحقيقه العبودية الخالصة لله والنقاء، وهذا الإيمان هو السبب في السعادة الدنيوية والأخروية، لقوله تعالى في سورة الأعراف في الآية الخامسة والتسعون ..

    {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}

    والشيء الثاني المساعد في تحقيق الإسلام في حياة البشر، فهو العمل الذي يتكون من الجهاد والإخلاص، الذي به تعمر الدنيا والآخرة، ويؤدي إلى الارتقاء بهذه النفس البشرية من ملذاتها ورغائبها المتمثلة في الدعة والراحة إلى مطالب أكبر وغايات أسمى، ولولاه لما استطاع أحد تحقيق الإسلام بالإيمان لوحده، قال تعالى في سورة الأنفال ..

    {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }

    المؤمنون هم الذين تحققت فيهم العبودية {إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} والنقاء {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} والعمل {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} والإخلاص {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}.

    (عدل بواسطة ود شاموق on 08-28-2003, 11:02 AM)

                  

01-25-2003, 03:50 AM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)

    فوق
                  

01-25-2003, 04:43 AM

omdurmani

تاريخ التسجيل: 06-22-2002
مجموع المشاركات: 1245

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)

    يا علاء اخوي
    والله اتفسحت في موضوعاتك...ورؤية اخري للاسلام....جميل جدا....ولكن لماذا ختمت ....هنالك الكثير...من المواضيع المرتبطة بالاسلام...فلعلنا نحاول جهدا ان نلقي الضوء عليها
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de