|
%%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%%
|
{ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} سورة البقرة الآية (31)
الإسلام دين الرحمة والعدالة والإخاء دين أنزل من لدن حكيم خبير لخير الجنس البشري والرقي به في مدارج السعد درجة درجة، وتطهيره من أدران الرجس تطهيراً يسمو بروحه السماوية ويحلق بها في سماوات الرحمة، ومنذ أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإقرأ في غار حراء، والكون في تجلي متواتر دائب مشرق مع كل شروق ولا يغيب مع المغيب، وخلاصة هذا الدين العظيم، ومغازيه ومعانيه كما تبدو من زاوية غير مألوفة، إحقاقاً للحق وإثباتاً، ونفياً لكل باطل وإنكاراً، ومحاولة جاهدة لجعلها مخلصة لتنقيته من كل شائبة تشوبه من معدن غير معدنه، وعنصر من غير عنصره.
.
(عدل بواسطة ود شاموق on 08-28-2003, 11:02 AM)
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)
|
(1) مقدمة ..
بسم الله وكفى، وصلاة وسلام النبي المصطفى، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطه المستقيم، وبعد ..
الإسلام دين الرحمة والعدالة والإخاء، دينٌ أنزل من لدن حكيم خبير لخير الجنس البشري والرقي به في مدارج السعد درجةً درجةً، وتطهيره من أدران الرجس تطهيراً يسمو بروحه السماوية ويحلق بها في سماوات الرحمة، ومنذ أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإقرأ في غار حراء، والكون في تجلي متواتر دائب، مشرق مع كل شروق، ولا يغيب مع المغيب، وخلاصة ما أود أن أتحدث عنه في جهدي التالي هذا، تلخيص لرسالة هذا الدين العظيم، ومغازيه ومعانيه كما بدت لي نتاجاً لنظرة جديدة من زاوية غير مألوفة، إحقاقاً للحق وإثباتاً، ونفياً لكل باطل وإنكاراً، ومحاولة جاهدت لجعلها مخلصة لتنقيته من كل شائبة تشوبه من معدن غير معدنه، وعنصر من غير عنصره.
ظهر الإسلام ############ سماوية في منتصف القرن السابع الميلادي نتيجة لمشاكل تواجه البشرية، ويخطئ من يظن أن الله يرسل رسله لمعالجة المشاكل الدينية فقط دون غيرها، فنحن نرى أن نبي الله شعيب أرسل إلى أهل مدين برسالة دينية واقتصادية في ذات الوقت، دينية تتمثل في الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة واقتصادية في النهي عن الغش التجاري وتطفيف الميزان الذي كان سائداً بينهم، وهذا يدل عليه نص القرآن في سورة العنكبوت في الآية الخامسة والثلاثين ..
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}
وكذلك بعث الله موسى إلى فرعون برسالة دينية واجتماعية في ذات الوقت، الدينية منها كانت في نفي الألوهية عن فرعون وإثباتها لله رب العالمين، والاجتماعية كانت تتلخص في المساواة بين البشر وإلغاء العبودية والطبقية التي كان يمارسها فرعون ضد شعب إسرائيل، قال تعالى في سورة القصص الآية الثالثة ..
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
وقوم لوط حين شاع الفساد الأخلاقي والشذوذ الجنسي أرسل لهم رسول من الله لينهاهم عن فعلتهم هذه ويحثهم على اتباع الصراط القويم والرجوع إلى سنة الله في الأرض، ومع هذه الدعوة كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون عبادة ما سواه من معبودات، قال الله تعالى في سورة الأعراف ..
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ . إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ . وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
فالله سبحانه وتعالى، لم يرسل موسى لقوم لوط، ولا لوطاً إلى مدين، ولم يرسل شعيباً لفرعون، لا نعني الرسل ولكن نعني الرسالات، فرسالة موسى قطعاً لم تكن لتصلح لدعوة قوم لوط، إذ أن محور رسالة موسى العدالة الاجتماعية التي ربما كانت متوفرة لدى قوم لوط، وكذلك رسالة لوط لم تكن لتصلح لأهل مدين، إذ ربما كانوا لا يعانون من المشاكل الأخلاقية التي كان يعاني منها قوم لوط، ورسالة شعيب لم تكن تصلح لقوم موسى فربما لم يكونوا يعانون من المشكلة الاقتصادية بقدرما كانوا يعانون من المشكلة الاجتماعية التي قامت رسالة موسى بحلها لهم.
وكذلك كانت رسالات الله لرسله أجمعين علاجاً لمشاكل وعلل مختلفة تعاني منها مجتمعاتهم ولم تكن قط رسالات لتقويم الانحراف الديني بمعناه المتواتر في الأذهان، وإنما كانت الرسالات السماوية عبارة عن مناهج علاجية شمولية لمشاكل المجتمع بدءً من المشاكل الصغيرة منها وانتهاءً بالمستفحل العصي.
رسالة الإسلام أتت شاملة من جميع النواحي، حينما نتحدث عن الإسلام فإننا نقول أنه أتى ليخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، رغم أن جميع الرسالات أتت لتفعل ذلك، فهذا ليس سراً للتميز، ولكن تميزها هو في أنها أتت علاجاً لجميع مشاكل المجتمع الذي كان يعاني من انعدام العدالة الاجتماعية متمثلة في الرق والتمايز الطبقي، وعالجت المشاكل الاقتصادية التي كان يعاني منها المجتمع الجاهلي من ربا وميسر وما إليه من آفات وعادات ذميمة، وعالجت كذلك المشاكل الأخلاقية المتمثلة في الزنا و المجون وما إليها من مساوئ الأخلاق التي كانت في المجتمع العربي الجاهلي.
وتدرج الإسلام في علاج مشاكل المجتمع الجاهلي فقوم الاعوجاج الذي كان يتسم به ذاك المجتمع، ليسير به نحو بناء مجتمع جديد مثالي خالي من آفات المجتمع القديم، فأتت الشريعة كدستور لهذا المجتمع الجديد حينما كان المجتمع لا يعرف دستوراً، وجاءت هذه الشريعة مقسمة بين قرآن سماوي منزل من عند الله، وسنة قامت بتفصيل هذا التنزيل وتأويله على أرض الواقع حياةً معاشةً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(2) أركان الإسلام ..
تطبيق الإسلام في حياة الفرد وصولاً إلى تطبيقه في حياة الأمة هو إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أنه هو الوحيد الذي عاش الإسلام بكل تفاصيله دون خلاف على ذلك، أما ما عداه من المسلمين فإنهم يتفاوتون في مقدار التطبيق لهذا الإسلام، ولكن الخلاف الحقيقي هو في تعريف هذه السنة وسبب الاختلاف على تعريف هذه السنة، أن من يعرّفها ينظر إليها من منظوره هو فقط ولا ينظر إليها من بقية المناظير، فهناك الشخص السلمي الذي يناظر إلى الجانب المسالم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك الفكري الذي يرى السنة من منظور الفكر، وهناك الصُوري الذي يرى السنة على شكل مناظر وصور، وهناك المقاتل الذي لا يرى في السنة سوى القتال والحروب، وهناك الكثير من التعريفات التي تنطلق من قناعات من يؤمن بها.
والحقيقة أن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هي حياة وسط بين هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، فهو نبي الرحمة كما يراه الكثيرون، وهو نبي الملحمة كما يراه غيرهم، وهو المتمم لمكارم الأخلاق، وهو بسام ضحوك قدرما هو فارس شجاع، وهو كما انه المحب للناس، فهو أيضاً المحب لله، فكل يراه حسب المنظور الذي ينظر منه، ومقدار الاستعداد النفسي لهذه الرؤية.
والإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الحق عز وجل، مبني على أربعة أركان معلومة وركن أول حجر زاوية لهذا البناء، الركن الأول هو الشهادتين، تليه الزكاة والصيام والصلاة والحج إلى بيت الله الحرام.
(3-1) لماذا شهادة أن "لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" ؟
"لا" هي نفي، "إله" معبود، "إلا" استثناء، "الله" لفظ الجلالة مستثنى، وجملة الجملة "لا إله إلا الله" تعني لا معبود بحقٍ سوى الله. أما الشطر الثاني، "محمد" اسم علم يدل على الرسول صلى الله عليه وسلم، "رسول" حاملٌ لرسالة، "الله" لفظ الجلالة المُرسِل، وجملة الجملة تعني محمدُ حاملُ رسالة الله. ومعنى الشهادتين عموماً، إقرار الفرد بأنه لا معبود بحق سوى الله، وإقرار بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول مُرسَل من لدن الله الذي لا معبود بحق سواه.
لولا الشطر الأول من الشهادة، لما آمن أحد بالشطر الثاني، فمن لا يؤمن بوجود الله لن يؤمن برسالته على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يشك في أحقيته في إفراد العبادة له، فلن يؤمن بوجوب التصديق بالرسالة. لذا جاءت الشهادتين فاتحة للدرب ومطهرة للنفس من أدران الشك، فلا يعقل أن يقوم عاقل بأداء بقية الأركان دون أن يقر بالشهادتين، ولا يعقل قبل ذلك في المقام الأول أن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من لا يؤمن بوجود الله أولاً ووحدانيته ثانياً.
والشهادتان مثل الميزان الذي لا يتزن إلا بوجود ثقل إيجابي يقابله ثقل سلبي يعادله، فأتى ذكر الله أولاً ممثلاً الجانب السماوي النوراني في الحياة، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ممثلاً الجانب الأرضي، وجاء ذكر الباطل في الآلهة، وذكر الحق وهو الله، وجاء النفي لهذه الآلهة، والإثبات لله، وجاء ذكر المُستقبِل وهو محمد صلى الله عليه وسلم والمُرسِل وهو الله سبحانه وتعالى.
فالشهادتان كما أتتا تحويان (السماوية، والحق، والإثبات، والإرسال) حوتا أيضاً (الأرضية، والباطل، والنفي، والاستقبال)، وحول هذه المعاني تدور أركان الإسلام، فبقية الأركان الأربعة تدور في رحى هذه المبادئ سمواً وإحقاقاً وإثباتاً وإرسالاً ودنواً وبطلاناً ونفياً واستقبالاً.
(3-2) لماذا الزكاة والصيام ؟
الإنسان مكون من مركب أرضي هو الصلصال، ومركب سماوي هو الروح، ومزيج هذين الاثنين هو الإنسان الذي خلقه الله ليكون بين النورانية التي استمدها من روح الله الموروثة من أبينا آدم، والحيوانية التي يتركب منها جسده الأرضي، ورسالة الإسلام أتت لتسمو بهذه الروح قبل أن يُسمى بها وترتقي بها قبل أن يُرتقى بها عنوة دون اختيار، ففي لحظة الموت تسمو الروح وتفارق الصلصال لتواجه مصيرها منفردة فإن كان الإنسان في حياته مهتماً بهذه الروح، فإنها تعرج من علياء إلى علياء، وإن كان الإنسان مهملاً لها ولم يعودها السمو فإنها تصبح مثل الطفل الذي فُطم قبل الأوان أو اجبر على المشي وهو بالحبو غير جدير.
ما يسمو بالروح هو الروحانية وما يدنو بالجسد هو الحيوانية، فللإنسان رغائب روحية سنتحدث عنها في حينها عند الحديث عن الصلاة والحج، وحوائج حيوانية تتلخص في المال وملحقاته وشهوات الجسد وتوابعها، وكلما حاول الإنسان إشباع شهواته الحيوانية دنت به هذه الشهوات نحو الصلصال مصدرها، فحينما يكنز الإنسان المال فإنه يرضي نزعة الأنانية وحب الذات وشهوة حيوانية دفينة بداخله، فالحيوان لا يعرف معنى البذل والعطاء لذا كان البخل من سمات الحيوان، فهو يقاتل حتى لا يأخذ منه أحد شيئاً مملوكاً له، كذلك الإنسان الذي يصغي إلى نداء الصلصال فإنه يؤثر أن يكنز المال دون هدف إلا المال نفسه ويستمتع بالمال شاء أم أبلى.
جاء الإسلام وركن من أركانه يهدم هذه الشهوة، شهوة المال، فالزكاة هي المعول الرئيس والصدقة معول مساعد لها، وكلما مر حول على الإنسان أتاه اختبار سنوي من مرحلة واحدة، هل سيقبل طوعاً أن يتخلى عن جزء من هذا المال الذي يملكه ليخفف طوعاً من أحماله الأرضية مخففاً على روحه المثقلة أم لا ؟ ويمر الاختبار فينجح من نجح ويسقط الساقطون. أما الصدقة فهي اختيارية وهي معول هدم مساعد لهذه الشهوات شرعها الإسلام لمن يريد أن يسرّع في عملية الهدم لبناء الصلصال.
والصيام كذلك مثله مثل الزكاة معول هدم لبناء الصلصال، وهو معول رئيس يعينه معول مساعد يدعى النوافل، وهو مثل الزكاة أيضاً اختبار سنوي من ثلاثين مرحلة، وكلما مر حول على الإنسان وقف أمام الاختبار المتجدد، هل يهدم شهوة الطعام والفرج الحيوانيتين أم يواصل في إرضاء هذا الجسد على حساب تلك الروح المرهقة ؟ وبعد نهاية الاختبار يكون قد اجتاز المحك السنوي ليعيش في انتظار المحك المقبل في بعد عام من صيامه لرمضان. أما النوافل فهي مسنونة لمن يريد هدماً أكثر مما تهدمه الفرائض، فمن يريد أن يزيد من وتيرة هدم الحيوان الرابض بداخله فإن باب الصيام مفتوح أمامه ليزيد من تهذيب وحشية هذا البند وترويضه حتى لا يتغول على بند الروح.
هذان الركنان هما معولا هدم لهذه الرغبات الحيوانية، ولكن أين البناء ؟ فالإنسان حين يهدم أو يجرّف أرضاً فإنه يريد إقامة بديل لها، وهذان الركنان الزكاة والصيام هدمتا بناءً قائماً على ركائز أرضية فما هو الشيء الذي سيحل محل الفراغ الناجم عن هدم هذا البناء ؟
(3-3) لماذا الصلاة والحج ؟
بينما الإنسان يهدم في خراب الجسد فإنه يتوجب عليه أن يبني مقابله بنياناً آخر بديلاً لهذا البناء في داخله، فيأتي هنا دور الصلاة والحج، اللتان تنميا نبات الروح، حيث أن التقرب إلى الله يعني البعد عن الجسد، لأن روح الإنسان هي من روح الله لقوله تعالى في سورة الحجر في الآية الثامنة والعشرون ..
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}
بينما الجسد جزء من الأرض لأنه الجسد مخلوق من صلصال أي من طين، وذلك لقوله تعالى في الآية الثالثة عشر من سورة الرحمن ..
{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}
فالله خلق الإنسان من صلصال كالفخار، ونفخ فيه من روحه، فإن آتى الزكاة وصام عن الشهوات الصلصالية، صار هذا الصلصال هشاً ضعيفاً، ثم بعد أن أضعفه قام بتقوية تلك الروح بالصلاة والصيام صارت الروح قوية، لذا حينما تأتي لحظة الموت تفارق روح المؤمن جسده بكل سهولة لقوتها بينما تنزع نزعاً من جسد غير المؤمن لضعفها.
والصلاة لبنة بناءٍ يومية من خمس محطات تساعدها لبنات بناءٍ تدعى النوافل، والحج لبنة بناءٍ دهرية من محطة واحدة تساعدها لبنة بناء مساندة تدعى العمرة أو الحج التطوعي، وكلما زاد الإنسان من الصلوات سمت روحه نحو عليين، وكذلك الحج، لأنهما عبادتان روحانيتان تساعدان في عمار الروح، ولا تشملان أي جانب أرضي مثل الزكاة التي ارتبطت بالمال والصيام المرتبط بالشهوات الأرضية. وكلما زاد الإنسان في النوافل والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة زاد في عمار هذه الروح باقترابه من خالقها.
بالزكاة والصيام يهدم الإسلام الأرضية، وبالصلاة والحج يبني السماوية، وبعد القيام ببناء هذه الأركان يصل الإنسان إلى مرحلة بناء الإسلام، فهو حتى هذه اللحظة لم يقدم عطاءً سوى لنفسه، للفوز في الآخرة، ولكن كيف يفوز الإنسان ويكافأ على مكافأة نفسه، فهو بقيامه بهذه الأركان يكون قد بدء في التحول من كائن ظلامي إلى كائن نوراني، أي أنه قد غسل نفسه من أدرانها كمن يستعد للصلاة وهذا بالضبط ما يبحث عنه الإسلام في الإنسان، وها هو الإسلام قد وجد ضالته فما هو العمل المطلوب من هذه الضالة، وما هو شكل هذه الصلاة المطلوبة منه ..
(4) ما هو الإسلام ؟
لكل شيء في هذا الوجود صورة، فنحن حين ننظر إلى أي شيء أو ندركه عقلياً، باعتبار العقل حاسة، فإننا لا نراه حقيقة ولا ندركه ولكننا نرى وندرك صورة له تترجمها الحواس إلى معلومة لنا، لا نعني بكلمة صورة المعنى المطروق (vision) بل نعني بها كل ما تدركه الحواس من انعكاسات للحقيقة، ذلك لا يعني أن كل ما لا تدركه الحواس هو غير موجود، فالحواس البشرية محدودة القدرات لها سقف أعلى وحد أدنى للإدراك، بمعنى أن ما ينخفض عن الحد الأدنى لا يدرك وما يزيد على السقف الأعلى لا يدرك أيضاً. كذلك لكل صورة عين صورة لها ولكل صورةٍ صورةُ صورةٍ لها في حلقة مستديرة من الصور، ولكن الحواس تدرك وتعقل الصورة الأولى فقط وتعي وجود الصورة الثانية بينما لا تستطيع أن تحيط بالصورة الثالثة لبعدها عن مجال الحواس والوعي. الصورة الأخيرة في حلقة الصور هي عين الحقيقة مثلما عين الحقيقة هي الصورة الأخيرة، وهذا يعني أن تتابع هذه الصور لا يمتد في خط مستقيم بل ينحني في خط دائري يعود من حيث بدأ. يمكننا أن نلاحظ هذا الخط المستدير في كل شيء في الحياة حولنا، فالإنسان يبدأ من التراب ليعود مرة أخرى إليه، ونحن إن أدركنا عين الحقيقة في وجود البشر فإننا لا نستطيع أن نرى صورة هذا البشري وهو يستحيل إلى تراب بل نراه بشراً سوياً ثم يمكننا أن نراه بعد ذلك تراباً، أما ما بين هاتين الحالتين من صور فيستحيل على الحواس أن تدركه، هذا الخط المستدير يمكننا أن نرى وصفه في الآية الثامنة عشر من سورة العنكبوت ..
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
يُبدئ الله الخلق حقيقة ثم يعيده حقيقة، وبين البدء والإعادة مراحل طويلة لا تراها العين البشرية، ولكن البدء معاين والإعادة معاينة لأنهما صور أولية للحقيقة، وما بينهما صور لهذه الصورة الأولية، وهكذا هي الحياة بدء ثم بدء، ولكن العجز البشري عن استيعاب البدء الأخير يجعله يطلق عليه ما نسميه مجازاً نهاية، في حين انه لا توجد نهاية بل هو بدءٌ جديد كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وبين البدء والبدء تدور رحى الحياة والممات أما ما قبل البدء الأول وبعد البدء الأخير فهو حلقة لا نرى سوى أطرافها الظاهرة للعيان، مخفية عنا بحجب الغيب وأستاره الغليظة.
ما علاقة كل ما سبق بالإسلام ؟
الإسلام تعريفه هو أن يسلم الإنسان وجهه خالصاً لله، وهو ديانة سماوية تنزلت من لدن العزيز الحكيم على النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وهو آخر الأديان نزولاً وخاتمها وفيه تجلت المعاني الربانية وتنزه من كل العيوب الأرضية، فخاطب الصغير والكبير، والجاهل والمستنير، والغني والفقير، كل خاطبه بلسانه وأعجزه ببيانه فكان خير ختام للرسالات وأودع الله فيه كل ما أراد أن يوصله إلى عباده، لأنه آخر الرسائل منه لهم، فكان رسالة الوداع لينظر كيف يعمل العاملون.
والإسلام هو صورة أولية لذات أعلى لا تستطيع الحواس لها إدراكاً، وهو تجسيد للسلوك الإلهي السامي بصورة عملية قابلة للتدوير والاستعمال في واقع الحياة، فمثلاً الإنسان لا يستطيع أن يرى الرحمة بعينيه ولا أن يسمعها بأذنيه ولا يستطيع لها لمساً بيديه أو تذوقاً بلسانه ولكنه يدرك أن هناك رحمة موجودة بصورة ما، لا تدركها الحواس البشرية، ولو كان مجال إدراك الحواس أكبر من هذا المجال المعطى لنا من الله، فلربما استطاعت الحواس أن تدرك الرحمة عياناً بياناً أو سماعاً أو إحساساً، فنحن لا ندري هل الرحمة طويلة أم قصيرة، ثقيلة أم خفيفة، باردة هي أو حارة، ولكننا ندرك فقط أنها شيء جيد وندرك أيضاً أننا نستطيع فعلها إن شئنا، يمكننا القياس على مثال الرحمة في كل شيء.
كذلك الإسلام، نحن لا نستطيع أن نصفه بصفات حسية لأنه ليس حقيقة، بل هو صورة لحقيقة لا تدركها الحواس، مثلما سقنا مثال الرحمة على أنها صورة لشيء لا ندركه ولكننا نستطيع أن نحس بوجود صورة له لا تستطيع الحواس تمييزها، فكذلك الإسلام هو صورة خارج نطاق الحواس البشرية، فإن كانت الصورة خارج نطاق الحواس فكيف تكون حقيقة هذه الصورة ؟ لكن يمكننا من خلال الإشارات التي تبعثها هذه الصورة أن نتخيلها، ومن الصعوبة بمكان أن نتخيل حقيقتها، فنحن نستطيع أن نقول عن تعاليم الإسلام أنها جميلة، إذن هذه الإشارة "التعاليم" استطاعت أن تحصل لنفسها على وصف، ويمكننا أن نسوق هذا الوصف على الإسلام فنقول أنه بما أن تعاليمه جميلة فإنه لا شك سيكون جميلاً، وبالتالي يمكننا أن نتصور حقيقة هذا الإسلام بقولنا بما أن تعاليم الإسلام جميلة فالإسلام (الصورة) جميل والحقيقة (الأصل) التي يعكسها هذا الإسلام أيضاً ستكون لا شك أجمل، وذلك أننا رأينا الجمال في الصورة الثانية له، وهي صورة ضبابية لا شك أنها فقدت الكثير من الرونق والبريق بفعل النسخ، فكيف الأصل سيكون.
وصلنا هنا إلى معرفة أن هناك ثلاثة مستويات هي (الأصل) وصورته (الإسلام) وصورة صورته (التعاليم)، يمكننا أن نقول أيضاً، كمثال مكمل لما سبق، أن تشريعات الإسلام حكيمة، وبالتالي فإن الإسلام حكيم وما يمثله الإسلام سيكون أيضاً من الحكمة بمكان. وهكذا دواليك يمكننا أن ننظر إلى جميع جوانب هذا الدين كصور له وأكرر صور لا تعني (vision) بل تعني كل ما تدركه الحواس والعقل الواعي من أشياء، المهم أن جميع هذه الصور تسهم في خلق صورة متكاملة ومترابطة لحقيقة ما تعكسه، وهذا لا يعني إدراكنا له، ولكن إدراكنا لانعكاساته يؤدي إلى إدراك جزئي للصورة التي تبعث هذه الانعكاسات وبصورة أقل للأصل الذي تصوره هذه الصور.
لا شك أن للذات أو الأصل الذي يصوره لنا الإسلام صورٌ أخرى ولا شك أن لهذه الصور انعكاسات ربما لا ندركها أو ندركها ولا نعلم أنها انعكاسات لصورةٍ شقيقةٍ لهذه الصورة التي نرى انعاكساتها، ولكن عملية عكس هذه الصور تمت في ظروف مغايرة للصور المنعكسة عن الإسلام، وأوضح مثال لهذه الصور وانعكاساتها هي الأديان السماوية الأخرى، فاليهودية والمسيحية هي صور لنفس الأصل الذي يصوره الإسلام، ولكنها صور أخرى، ونعلم أنها أخرى وليست مثيلة، ليس لرؤيتنا لها على حقيقتها ولكن بسبب رؤيتنا لانعكاساتها في الواقع الملموس بالحواس.
(عدل بواسطة ود شاموق on 01-23-2003, 06:01 PM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: %%% سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا %%% (Re: ود شاموق)
|
(6) خاتمة ..
قد يقول كثيرون أن هذا المبحث أهمل جوانب كثيرة من جوانب الإسلام، ولكن الحق يقال، أن هذه المبادئ كلها لخصت في هذه الوريقات، وخلاصة القول أن الإسلام لم يأت ليحقق المظاهر الكاذبة، بل جاء لتحقيق النقاء الداخلي والسمو بالبشر فوق طبيعتهم الصلصالية ليرتقي بهم في معارج الملكوت الإلهي والحياة الأبدية.
فأركان الإسلام هي الأساس لبناء الإسلام، وبانتفاء هذه الأركان ينتفي الإسلام جملة وتفصيلاً، حتى وإن تحقق ما بعده من محققات، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ..
{بني الإسلام على خمس}
فهو مبني وهذه هي أسسه، أما تحقيق الإسلام نفسه فهو شيئين اثنين أولهما الإيمان الذي يستلزم لتحقيقه العبودية الخالصة لله والنقاء، وهذا الإيمان هو السبب في السعادة الدنيوية والأخروية، لقوله تعالى في سورة الأعراف في الآية الخامسة والتسعون ..
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}
والشيء الثاني المساعد في تحقيق الإسلام في حياة البشر، فهو العمل الذي يتكون من الجهاد والإخلاص، الذي به تعمر الدنيا والآخرة، ويؤدي إلى الارتقاء بهذه النفس البشرية من ملذاتها ورغائبها المتمثلة في الدعة والراحة إلى مطالب أكبر وغايات أسمى، ولولاه لما استطاع أحد تحقيق الإسلام بالإيمان لوحده، قال تعالى في سورة الأنفال ..
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
المؤمنون هم الذين تحققت فيهم العبودية {إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} والنقاء {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} والعمل {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} والإخلاص {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}.
(عدل بواسطة ود شاموق on 08-28-2003, 11:02 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
|