حين يصبح للثور عقل زرزور

طالعني عنوان قبل أيام لإعلان مدفوع القيمة من قبل الهيئة القومية للاتصالات، ترغب فيه الجهة المعلنة من المؤسسات والشركات العاملة في مجال تقنية المعلومات التقدم بعطاءاتها لمشروع حجب المواقع بشبكة الانترنت. حقيقة قدرما أسعدني هذا الاهتمام البالغ من قبل الهيئة بحماية النسيج الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع السوداني، أحزنني في ذات الوقت هذا الموضوع أيما حزن.

الحجب من الناحية اللغوية هو المنع والإخفاء، ومن الناحية التقنية، المعنية في هذا المقال، هو منع مستخدمي الانترنت من الوصول إلى مواقع ذات خطورة - تقدرها الجهة الحاجبة – على هؤلاء المستخدمين، فهي نوع من الوصاية من الدولة على إحدى أذرع السلطة الرابعة، ورغم كل ما قد يقال عن فوائد هذا الحجب فإنه أمر غير مبرر بكل المقاييس، وهو يذكرنا بالتقنيات المستخدمة في العقود الوسطى المظلمة من القرن العشرين حيث كان الراديو والتلفاز من أخطر وسائط نقل المعلومات، وكانت الدول في حالات معينة تقوم بمنع وصول الإرسال الإذاعي إلى رعاياها حين تقدر أن هناك خطراً ثقافياً يتهدد هؤلاء الرعايا.

سياسة الحجب والمنع وحجب مواقع الانترنت فضلاً على انه جزء من مخلفات الماضي فإنه علاوة على ذلك عمل ظلامي وغير أخلاقي في حد ذاته، لما ينطوي عليه من الشك في نوايا المواطنين بدون وجه حق ولأنه يقوض الثقة بين المستخدم والجهة الحاجبة للمواقع، فإنه يمنع المواطن من أحد الحقوق الأساسية التي نص عليها الدستور في المادة رقم 25 الخاصة بحرية الفكر والتعبير، والتي نصها ..

" يكفل للمواطنين حرية التماس أي علم أو اعتناق أي مذهب في الرأي والفكر دون إكراه بالسلطة، وتكفل لهم حرية التعبير، وتلقى المعلومات والنشر والصحافة دون ما قد يترتب عليه من إضرار بالأمن أو النظام أو السلامة والآداب العامة، وفق ما يفصله القانون."

بطلان الحجب مبني على أن الدستور يكفل حرية التماس أي علم دون إكراه بالسلطة، وهذا الحجب هو إكراه بالسلطة لا خلاف عليه، وهذه المادة الدستورية مكونة من قسمين قسم يخص التماس العلم وينتهي بالفاصلة "الشولة" الأولى وهذا القسم لا يوجد عليه أي قيد أو شرط وهذا هو المفهوم بمقولة "دون إكراه بالسلطة"، أما القسم الثاني من المادة وهو الخاص بحرية التعبير فهو المقيد بعدم الإضرار بالأمن أو النظام أو السلامة والآداب العامة، لذا فإن حرية المواطن في التماس العلم غير مقيدة بأي نوع من القيود، بل أن أي قيد عليها يعد نوعاً من "الإكراه بالسلطة"، أما النشر والإعلام فهو مقيد بتلك القيود المذكورة.

الشيء الثاني أنه في حالة الأخذ بالشطر الثاني من المادة والخاصة بتلقي المعلومات دون الإضرار بالأمن والسلامة والآداب العامة وفق ما يفصله القانون، فإنه يتوجب على الجهة التي تقوم بالحجب أن تحصل على إذن قضائي بحجب كل موقع تقوم بحجبه، أما غير ذلك فيعد اختراقا للدستور ونوعاً من فقه الضرورة الذي لا ينص عليه الدستور، فإذا أرادت الشركة الحاجبة أن تقوم بهذه العملية لكل موقع فإنه يتعين عليها أن تحصل على أكثر من مائة إذن قضائي يومياً فقط لمجابهة مواقع الجنس على الشبكة التي تتزايد بهذا العدد يومياً، غير المواقع الأخرى التي تتفاوت الأسباب لحصرها.

الظاهر من جبل الجليد يخبرنا أن الحجب هو للمواقع المنافية للأخلاق والقيم والعادات الإسلامية عامة والسودانية خاصة، أما الجزء الخافي فهو أن هذا الحجب سيكون تسلط فكري سياسي يمارس على المواطن السوداني بطريقة ملتوية، فحجب موقع جنسي فاضح مثلاً قد لا يختلف اثنان عليه ولكن ما يختلف عليه الحاجب والمحجوب عنه هو المواقع التي تنافي التوجهات والسياسات العامة للدولة وتتفق مع توجهات بعض الأفراد.

مثلاً : هل يمكن حجب موقع يهتم بممارسة السحر مثلاً أم لا ؟ إذا كانت الإجابة نعم، فهي غير دستورية لأنها تخالف نص المادة رقم 27 من الدستور السوداني والخاصة بـ "حرمة المجموعات الثقافية" والتي نصها ..

"يكفل لأية طائفة أو مجموعة من المواطنين، حقها في المحافظة على ثقافتها الخاصة أو لغتها أو دينها، وتنشئة أبنائها طوعاً في إطار تلك الخصوصية، ولا يجوز طمسها إكراهاً."

ومعلوم أن هناك مجموعات بشرية كبيرة من الشعب السوداني تؤمن بالسحر كجزء من ثقافتها وأعرافها بل ودياناتها، عندها سيتنافى الحجب مع كفالة الدستور لحقوق المجموعات في عدم طمس ثقافتها الخاصة إكراهاً، وهذا الحجب سيكون جزءً من طمس الموارد الثقافية التي تعين هذه المجموعات على الحفاظ على ثقافتها.

أما إذا كانت الإجابة بـ لا، فالدستور أيضاً مخترق، لأن المادة رقم 21 في الدستور السوداني والخاصة بـ "الحق في التساوي" التي تنص على ما يلي ..

"جميع الناس متساوون أمام القضاء ، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة ، ولا يجوز التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو المـــلة الدينية ، وهـــم متساوون فى الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال."

فحجب بعض المواقع المنافية لعادات مواطن مسلم، والسماح لمواقع لا تنافي عادات مواطن وثني، فيه نوع من التمييز بسبب الملة الدينية، ومعلوم أن السحر منافي للإسلام بينما نجد جماعات غير مسلمة تؤمن به كجزء من العقيدة والموروث الثقافي.

يمكن القياس على نموذج السحر في جميع مواقع الانترنت الأخرى، فالمواقع السياسية والدينية جميعها ستكون "في غضب الله" وتحت عين الرقيب، هذا إن استطاع الرقيب لها حصراً.

همسة أخيرة : أين المجلس الوطني الذي له الحق في البت في مثل هذه المواضيع ..