|
في مديح البطء الذي من نوع ما
|
اصدقاء المنافي تاملوا معي هذا الحوار الشفيف مع الوقت
في مديح البطء الذي من نوع
أبناء الأوطان الغربية يسرعون في كل شيء تقريباً: قي الشراء والدفع, في الطعام والاتصال, في الابتكار والاختراع, في السياحة والترفيه. بل اشتهر في زمانهم هذا مرض (السترسْ), stress الذي يصيب المُلاحَقين بضغط السرعة في الانجاز أو التخطيط أو الانتقال.
فالسرعة هي وتيرة الغرب الراهن. هي إحدى ثرواته الفتاكة والقابلة للنمو. وأبناؤه يعملون حثيثاً من أجل كسب المزيد منه. لكنهم كلما أسرعوا, ضاقَ وقتهم, فعادوا وأسرعوا, فضاقَ هذا الوقت أكثر فأكثر ليدخلوا في مغامرة جديدة, تبتعد نهايتها, كلما مرّ فصل من فصولها.
وسبب هذه الحالة يتناقض مع غاية السرعة نفسها, أي كسب الوقت: فمادة السرعة هي الزمن, والزمن ليس له مآل غير الموت. والموت, كلما حاولتَ تجنّبه, اشتدّ حضوره, ما يوجب عليك المزيد من التجنّب وبالتالي المزيد من السرعة. فيطل الموت مجددا آخذاً بثأره: بأن يحول كل ساعٍ الى السرعة كائنا لا يحتاج إلا المزيد من الوقت. لذلك فان المواطنين الغربيين مستعجلون, ووقتهم ضيق في الآن عينه... يحتاجون الى وقت, فيخترعون طرقا للحصول عليه, فيعودون اليه بلهفة اكبر, وحماس. وما الهوس الجديد بالشباب الدائم, وبالاختراع, بل المزيد من الاختراعات كل يوم للابقاء على (أبدية) الشباب, سوى واحدة من محطات هذه المغامرة.
فالغرب في هذا السباق متأخر قياساً الى وقته. وهو يجري حثيثا للإنتصار عليه. لكنه أمامنا, أمام الشرق, متفوّق بهذا الوقت اياه, وقته الضئيل الضيق عليه. فنحن متأخرون عنه: إذ أُدخلنا, كما أُدخل بقية العالم البطيء المتأخر, في الزمن الذي صنعه لنفسه مقياسا لضبط وقته, وبالتالي وقت العالم الذي باتَ يسيطر عليه كله جناحُه الأسرع, أي الاميركيون.
فالغرب أقوى منا بأشياء كثيرة مهمة, منها الوقت, ويتفوق علينا بالكثير الكثير من الوقت. ومنذ ان (وعَينا) تلك الحقيقة, قلنا بضرورة التخلص من تأخّرنا حتى نلحق به ونصير في نفس وقته. فدخلتْ على حياتنا وطُرقنا مسالك وتصرفات رحّبنا بها بصفتها تضعنا على سكة الوقت الغربي. فـü(أفلحنا) بما قُدّر لنا من ظروف ومن فهم لها. وفتحنا طرقات وعمّرنا المباني, واقتنينا السيارات وأشياء اخرى من قبيلها. وبعد ذلك, أي الآن في هذه الحقبة الاكثر تطلّبا للوقت من الماضي القريب, ننشد سرعة الإعلام والمعلوماتية. فلدينا, مثل ما لدى الغرب, مبشّرون تلفزيونيون, دعوتهم جاهزة ورسالتهم أسرع من الضوء. وكذلك هندامهم, ونطقهم للأحرف وللأحاديث الشريفة والآيات القرآنية الكريمة.
فقد دخل على وقتنا الهادئ المتمادي, وقتٌ سريع ومتوتر, تنفصل أجزاؤه عنه بالمواعيد الثابتة. دخَلَ عليه, لكنه لم يلغِه تماما. لذلك فإن وقتنا, نحن ابناء الشرق, وقتٌ متصدّع, تمتزج في داخله وتيرتان, تتأرجحان من دون توقف: فلا وقتنا اصبح غربيا, فأسرع كما يسرع الغرب, ولا هو بقي شرقيا, فأبطأ وتمادى على ســـجيّته, أو كما كان قبل وعيه لهذا البطء.
إلا ان المتـــبقي من هذا البطء, وعلينا الاعتراف بذلك رغم (حداثيـــتنا), هو خير الاوقات, وليس أتعسها كما اعتدنا ان نفكر عندما كنا اكثر ثقة بحداثيتنا هذه.
فإلى هذا البطء تحديدا, ولو المتهالك, يحنّ أبناء الشرق عندما يعيشون في نظام الوقت الغربي المتسارع, فيعودون اليه ليقــــتنصوا ساعات من الثرثرة على فنجان القهوة مع الاهل او الاصحاب او الجيران, فيجدون الوقت الــشرقي وقد تناقصَ عن الأول إذ مرت عــــليه ايام كان يهرب فيـــها شعراء الغرب اليه بحثا عن البطء المفــــقود, كما لو أنه الجـــنة.
فالبطء كنزٌ, لا يقدّر قيمته الفعلية غير الذين ما زالوا يتذكرون نتفاً عنه. والحاجة إليه هي حاجة الى الراحة من تعب السرعة المتسارعة, المرهقة للروح والجسد. والراحة بدورها ليست سوى الوقت الحرّ الذي نحتاجه, اذ لعلنا اشتقنا الى انفسنا, ونود التوقف معها. فهذا الوقت الحرّ البطيء مثل إطار داخلي نصنعه لأنفسنا, توطيدا لها في محنة غربتها وعدوانيتها مما يؤججه الوقت المتسارع الضيق. وفي داخله تتنزّه الروح, وتستعيد صلتها بوثباتها وبرغباتها وخيالاتها, فتخرج الى الآخرين صافية, مائلة الى التواصل معهم وتمتين الأواصر.
فالحاجة الى الوقت حاجة الى الروح. وهذه الاخيرة مفقودة في شرقنا, رغم كل الضجيج الذي يصخب به الاسلام السياسي, ورغم كل مظاهر التديّن المتصاعدة. إنها حــاجة للتوقف ملياً أمام صورة فنية, والتمــعّن بألوانها وخطــــوطها وربمــــا معانيها. حاجة الى الاستراحة من انقضاض الصور السريعة, التي لا تراها بغير لمْح البصر والتي تُضاف الى حشد الصور الاخرى التي هي غير ذات فن ولا لون ولا معنى.
والبطء حاجة نفسية أيضا. إنه يخفّف من آلام الحنين, آلام الفراق السريع والفظ لعوالم قريبة, آلام الصدمة التغييرية السريعة والحتمية التي يجب علينا تقبّلها بعقل, بل السعي الى المزيد منها.
لستُ رومنطيقية حالمة. أعلم انني امام معضلة حقيقية. فلا انا بداعية الى ركوب الجمال ومساءلة النجوم. ولست, في المقابل, متلهّفة لتبنّي نمط العيش الغربي الذي لا يخلي فسحة واحدة من الوقت. ولا نحن, على كل حال, بقادرين على اللحاق به بهذا الايقاع, مهما جهدنا واجتهدنا.
لكنني ألاحظ أن فسحة البطء التي اعتدنا على نبذها, لكونها تعيق لحاقنا بالغرب, هي نفسها الآن مكانٌ زماني مطلوب ومرغوب, علينا المحافظة عليه, إنقاذا لروحنا التي يهددها خطران: تجار الارواح, وتجار السلاح.
دلال البزري (22/12/2002 )
|
|
|
|
|
|