|
|
 مختارات لمحمد عفيفي مطر من مكتبة الاسرة بالقاهرة
|
مختارات لمحمد عفيفي مطر من مكتبة الاسرة بالقاهرة: لفتة طيبة تجاه شاعر ظلمته اللحظة الثقافية السائدة
القاهرة ـ القدس العربي ـ من محمود قرني:
ربما كان ديوان الهجاء الاشهر ملامح الوجه الانبادوقليسي للشاعر محمد عفيفي مطر هو طلقته التي اطلقها وهو عاري الصدر، في اتجاه البركان. ففيما كان رفيقه أنبادوقليس يحاول ألا يترك شيئا من أثره يدل عليه فيقرر ان يلقي بنفسه في البركان، كان مطر يقترف اولي خطاياه بالقاء نفسه في بركان من نوع آخر، بركان الصخرة الواحدية التي حملها في تؤدة وثقة ومثابرة رغم السياط التي الهبت ظهره من انصاف وارباع المتشاعرين. هذا التاريخ الذي حاول مطر جادا ان يخرقه مجتازا ظلمة الشعار الواحد، مجتازا رحلة العقل البدهي الي أمشاج حاول تخليقها من رفة الطين الذي يكلل مرفقيه منذ لحظة الميلاد الاولي.
ولم تكن الاصوات الاولي التي اطلقها مطر سوي تعبير اكثر دقة واكثر خشونة عن هذا المهد العسير الذي حملته اليه خطي التاريخ، مهد خلقته الصدفة الصعبة، هذه الصدفة التي يراها مطر تمتد بعمر الزمان. وربما كانت هذة الاصوات التي احتضنت خرافتها الاولي هي الاخري محمولة علي محفات سماوية تحدث عنها عفيفي مطر بغير اشباع في دواوينه الثلا ثة الاولي يتحدث الطمي ، الجوع والقمر ، من دفتر الصمت . وهذا الديوان الأخير كان اكثر هذه الاصوات استغراقا في عالم الخرافة الشعبية التي تتحول الي اساطير تعيد انتاج العلاقات الانسانية رغم الافتتاح المخيف مكابدات كيخوتية .
ربما كان ذلك هو السبب المباشر الذي جعل مطر يحقق انتقالات متفاوتة علي المستوي المعرفي والجمالي جعلت منه نموذجا شعريا فريدا ومتفردا في الشعر العربي، وهو في هذا السياق يعد أحد أكثر الشعراء تأثيرا في الاجيال التي تلته، والنظر السريع الي المختارات التي صدرت له مؤخرا عن مشروع مكتبة الاسرة يؤكد هذا الظن. فالانتقالات التي حققتها شعرية مطر تبدو متساوقة مع الانتقالات التي حققها علي المستوي الفكري الذي بدأ مأخوذا بسحرية المكان وتجلياته بالتالي؛ وثمة وشيجة تربط بين الشاعر وابطاله، بل وسروده التي غصت بها اعماله الاولي وربما كانت محاولات الشاعر خلق ابطال شعبيين يحتفي بهم عبر طقوس مقبوضة بدلالة وعي محب ومتصل هي ابرز هذه العلامات؛ والمفارقة هنا ان الشاعر المتهم طيلة الوقت بأنه صاحب خطاب شعري متعال يحاول خلق فلكلور مواز يخلق خصوصيته مرة عبر وعي الشاعر بذاته ومرة عبر وعيه بالعالم، ففي ديوانه من دفتر الصمت يقدم حمدون القصار و حسن وجليلة وبعض الوجوه التي لا تحمل اسماء لكنها تملك وقائعيتها الخاصة. في هذه الوجوه يصهر مطر العديد من ملامح المكان منشدا في البرية أقسي اناشيد الروح التي هي روحه بالقطع. يقول مطر في قصيدة حسن وجليلة
جليلة لم تزل خمرا وريحانا
ومقصلة من الاصداء والاحلام
جليلة.... آه لو قطعت نهديها قبيل رحيلي المجنون
ولو ابكي زؤي من عالمي المسجون .
ان مطر هنا لا يحاول تقطيع اثداء جليلة الا لانه يريد ان يكون جميزة الخصب التي هي اكسير الخلد في ريف مصر، هذه الشجرة التي يقاس عمرها بعمر الزمان. كذلك تبدو قصيدته حمدون القصار اقرب ما تكون الي مرثية للعالم الذي تفوز باعطياته كل القيم المنحطة. ولم تقتصر اختيارات مطر علي التوقف امام اطلال المكان الدارس بل تنقلت فرائسه الي مواطئ لم تستوعبها جماليات السواد الاعظم من الشعريات السائدة، ومن هنا كانت اتهامات النقد العاطل لمطر بارتكاب الشعرية المغلقة التي وصمت الشعريات اللاحقة ايضا، رغم ما تضج به شعرية مطر من حيوية تحتفي باكثر الحواس عنفا وحضورا وتخييلا، يقول مطر في قصيدته 1968 من ديوان والنهر يلبس الاقنعة :
اصدقائي يقيمون في الزلزلة
ويلقون اقوالهم بسطا في الميادين ..
هذي اباريقهم مطر من صراخ النبوة،
هذي الجموع استحمت بشمس المجاعة ..
هل اصدقائي يقيمون بالجامعة؟.
وتعد هذه القصيدة من اهم القصائد التي تناولت احتجاجات الطلبة في 1968، وهي في الوقت نفسه بين اهم القصائد التي كتبها مطر لأنها تمثل انتقالة نهضت بها اعماله المكتوبة منذ بداية السبعينيات ؛حيث القبض الصارم علي الاندفاقات الشعرية التي سيطرت علي عوالمه الغنية الي حد الازدحام. يبدو ذلك واضحا في اعماله انت واحدها وهي اعضاؤك انتثرت، رباعية الفرح ،احتفالية المومياء المتوحشة .
ولم تكن الانتقالة الجديدة لمطر سوي قوس يقترن ـ بشكل اكبر ـ بتلبس مستويات لغوية اكثر ميلا الي التأويل واكثر نهوضا بعمليات الاستبطان التي بدت في بعض اعماله خروقات لغوية تقتفي اثر نفسها فحسب ـ وهو امر علي تأثيره الواسع في الشعريات المجاورة ـ الا انه لم يجد القراءة اللائقة التي تناسب حجم هذه الخروقات، حسبما يحب الغرماء ان يسمونها. ان اللغة لدي مطر وجدت نفسها في معترك الرؤية التي ما تفتأ ان تفض غموضا حتي تفتح قوسا جديدا علي افق آخر، لكن الشاعر ـ في كل الحالات ـ لم يقع فريسة الذات التي انخلعت من عالمها، ولم يتشيء، لان اللغة لم تكن غاية في ذاتها، وربما كان الشيء الذي ضمن لهذه الشعرية استقلالها وفرادتها انها اعتمدت علي اللغة كأحد مكوناتها، لكنها لم تتعامل معها كمكون واحد ووحيد، وربما كان ديوان انت واحدها وهي اعضاؤك انتثرت هو الاكثر تمثيلا والاكثر نمذجة، يقول مطر في قصيدته امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الاخضر احيانا :
يا امرأة الخضرة الغامضة
وكل دم اية،
جسد عنبر واقاليم ماء، وطفل
عصي الولادة يكتب اسماءه بين حجري وحجرك،
والارض ناقة هودجنا المستحيل.
وطائف برق يكلمني واكلم وقدته وانفراطك
بين يدي الدليل .
يبدو مطر هنا اكثر استمساكا بالرغبة في اكتشاف طاقات اكثر نوعية واكثر انقلابية للغته الشعرية، ويتحقق لدي الشاعر نوع من الزخم الاستعاري الذي تتمثل مصادره في القناعة المطلقة بقدرة الحواس علي استشفاف الراهن والحال، فضلا عن الرغبة المحمومة في قول ما لم يقل، وربما كان ذلك احد الاسباب التي تدفع بهذه الشعرية الي غير ما هو دارس، انها شعرية لا تمجد الاطلال وان احتفت بالماضي، لا تقع في الخطاب وان حملت ـ باخلاص ـ موقفا من المستقبل، لا تحتفي باللحظة الا لانها ابنة غرام بالانسان اينما كان، كما انها لا تمجد أوهام الذات الا باعتبارها جزءا من تاريخ مقموع يوحد هذه المصائر.
يبقي القول ان اصدار مختارات شعرية للشاعر محمد عفيفي مطر هو احد اهم اللفتات الطيبة التي يفعلها مشروع مكتبة الاسرة لهذا العام، لاسيما ازاء اخفاقه في تقديم صورة حقيقية للابداع المصري، ويزيد من اهمية هذا الاصدار وقوع الكثير من الظلم علي تجربة مطر، هذا الشاعر الذي يمتلك جدارة تمثيل احدي أهم التجارب الشعرية في شعرنا الحديث.
بقي القول ان مختارات محمد عفيفي مطر تقع في 280 صفحة من القطع المتوسط، وتعد من بين الاصدارات المتأخرة لمشروع مكتبة الاسرة لهذا العام.
0
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست