السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-14-2024, 02:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سيف الدين حسن العوض(سيف الدين حسن العوض)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-05-2008, 02:40 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك

    أهداني البروفسير الشاب احمد ابراهيم ابوشوك نسخة رائعة من كتابه الرائع جدا السودان : السلطة والتأريخ
    الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بامدرمان هذا العام 2008 م
    والكتاب عبارة عن ثلة من مقالات مختارة كتبها البروفسير في فترات زمانية مختلفة نشرت بعضها في صحف سودانية واخري عربية وثالثة اسيوية بجانب عدد من مواقع الانترنت التفاعلية وعلى رأسها موقع سودانيزاونلاين ... وتعرض هذه المقالات طرفاً من قضية السلطة السياسية، وطرفاً من عطاء بعض الادباء والمبدعين في السودان .. والكتاب جدير بان يغتنى خاصة وانه قد طبع بصورة جميلة وجذابة وفي حجم متوسط يسهل حمله وقراءته في اى مكان ... وساحاول اذا سمح لى الوقت واذن لى الكاتب ان استعرض جانب او اكثر من جوانب هذا الكتاب خلال هذا البوست الذي سنتناول من خلاله شخصية البروفسير ابوشوك وهو للعلم عضواً بهذا البورد الرائع الذي يضم كوكبة خيرة من علماء بلادى.. نفعنا الله واياكم بماجاء في هذا السفر القيم لاستاذنا بروفسير احمد ابراهيم ابوشوك ... اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما
                  

02-05-2008, 02:57 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)



    غلاف الكتاب
                  

02-05-2008, 10:03 PM

ibrahim fadlalla
<aibrahim fadlalla
تاريخ التسجيل: 06-09-2007
مجموع المشاركات: 2585

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    شكرا أخي سيف الدين ...أعتقد أن مثل كتابات البروف...أمر جدير بالقراءة ....وهذا المنبر أكثر ما يكون بحاجة إلى مثل هذه الكتابات الجادة القيمة ...لم يسعدني الحظ بالقراءة للبروف سابقا...إلا ...مقالة يتيمة عن سقوط الخرطوم ...وللأسف لم أتمكن من إكمال قراءتها بهذا المنبر العجيب....لأنها تهاوت بسرعة الضوء نحو الصفحات الخلفية ....رغم قيمتها العلمية العالية ...بناءا على تقييمي المبدئي - بما أملك من أفق متواضع - لها...
    شكرا لك مرة أخرى ...وآمل أن تجد من الصبر والمثابرة ما يحفزك لإشراكنا في قراءة كتابات البروف....
                  

02-06-2008, 01:22 AM

سلمى الشيخ سلامة
<aسلمى الشيخ سلامة
تاريخ التسجيل: 12-14-2003
مجموع المشاركات: 10754

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: ibrahim fadlalla)

    اولا مبروك الكتاب
    واتمنى ان لا يتوقف الاستاذابو شوك عن الكتابة
    خاصة فى شان الادب
    فلقد تداخل معنا فى بوست الفنان محمد جبارة
    واتاح لنا معرفة خبايا الشعر والقصيدة لدى الشايقية
    تحديدا حديثه القيم عن غناء الشايقية
    اتمنى ان تزدان مكتباتنا بعظيم مؤلفاته
    ونتمنى له التوفيق دائما
                  

02-06-2008, 02:16 AM

ابوهريرة زين العابدين
<aابوهريرة زين العابدين
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 2655

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سلمى الشيخ سلامة)

    شكرا الاخ سيف الدين
    وبلا شك أن د. ابوشوك من المؤرخين الشباب الذين استطاعوا ان يضعوا بصماتهم ومشوا على خطى المؤرخين الكبار وبالتوفيق ومزبد من النجاح واتمنى ان يستعرض الكتاب او تنشر اجزاء منه..
    مع شكري
    أبوهريرة
                  

02-06-2008, 05:31 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: ابوهريرة زين العابدين)

    الاخ الحبيب / ابوهريرة زين العابدين
    شكرا جزيلا لك وانت تتداخل معنا عبر هذا البوست
    وحقا ما قلته ان بروفسير ابوشوك من المؤرخين الشباب الذين استطاعوا أن يضعوا بصماتهم الواضحة وما حادوا عن خطى المؤرخين المخضرمين الكبار بل ويذكرهم ويتحدث عن اعمالهم العظيمة للامة السودانية عبر هذا السفر ... وهكذا هم العلماء دوما اكثر علما واكثر تواضعا ... وان شاء الله يااخ / ابوهريرة زين العابدين سنحاول من خلال هذا البوست ان نستعرض هذا الكتاب الرائع او ننشر جزء مما جاء فيه بعد اخذ الاذن بالطبع من الكاتب والله الموفق
                  

02-06-2008, 03:49 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سلمى الشيخ سلامة)

    الاستاذة الرائعة الاديبة الاريبة / سلمى الشيخ سلامة
    سعدنا بوجودك بين ظهرانينا
    شكر لامحدود على طلتك الجميلة وتعليقك المسبوك
    مثلك اتمنى ان لايبخل علينا البروفسير ابوشوك بكتاباته الرائعة
    في شأن الادب وغيره وهو رجل مهموم بالتأريخ ومتخصص فيه
    ولكن لا ادب بدون تأريخ كما انه لا تأريخ يوثق دون رجوع للادب
    ولطالما ارخ الادب للاحداث والاوطان والشعوب
    سواء كان هذا الادب ادب عاجل او ادب خالد
    وتتضاعف مسؤوليات استاذنا ابوشوك باعتباره مؤرخ وأديب
    فكل كلمة يقولها او يكتبها تعتبر مرجع يستند عليها جيل باكمله
    وما حديثه القيم عن غناء الشايقية
    وفي رواية اخرى البديرية الدهمشية
    الا قطرة في بحر علمه عن خبايا الادب
    وتاريخه في السودان
    اتمنى ان تزدان كل مكتبات السودان
    بهذا السفر الجميل
    وبعظيم مؤلفات استاذنا ابوشوك
    والشكر كل الشكر للاخوة في مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي
    الذي اتاح لنا الاطلاع هذا الكم الهائل من الذخائر في هذا السفر الجميل
                  

02-06-2008, 02:56 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: ibrahim fadlalla)

    الاح الكريم / ابراهيم فضل الله
    شكرا ليك انت اولا كثيرا على طلتك البهية ومرورك الطيب وتعليقكم الرائع
    ومشكلتنا اليوم في عصر العولمة اننا صرنا لانقرأ كثيرا واصبحنا نكتب اكثر مما نقرأ
    والكتابة بدون قراءة لاتفيد.. كما ان القراءة بدون استفادة مما قرأنا مضيعة ومفسدة
    وفي المقابل صار كتابنا لا يكتبون الا القليل
    ولأننا نكتب أكثر مما نقرأ, صار الكم عندنا أهمَّ من الكيف , وصرنا نقيس الإبداع بالأرقام.
    ولكثرة المساحة المتاحة في الانترنت والاتصال التفاعلي , صارت مهمة المتفاعلين معه, هي ملئ الفراغ الحاصل, حتى وإن كان بفراغ أكبر!
    كثير من علماء السودان اليوم يكتبون في هذا المنبر الرائع وفي غيرها من المنابر التفاعلية او غيرها ... ولكن قليل هم الذين يقرأون ما يكتب هؤلاء وحتى لو قرأوا ما كتبوا لايستفيدون مما قرأوا لهؤلاء... كما ان مشكلتنا اننا نهتم بصغائر الامور ولانهتم بعظائمه... و’خر مشكلاتنا وليس آخرها هو اننا لانجيد فن التسويق
    اخى ابراهيم اذا لم يسعدك الحظ بالقراءة للبروف ابوشوك سابقا سوى تلك المقالة اليتيمة عن سقوط الخرطوم ولم تكملها فانت وغيرك موعودون ان شاء الله باستعراض كامل لهذا السفر الجديد للبروفسير ابوشوك بجانب استعراض ايضا جانب او اكثر من كتبه ومقالاته التى نشرها في العديد من المجلات العلمية المحكمة سواء في السودان او ماليزيا او غيرها من دول العالم.. والله الموفق
                  

02-13-2008, 07:56 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق
                  

03-04-2008, 09:45 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق علشان نواصل تصفح
                  

02-06-2008, 04:02 AM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11163

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    تهنئات خالصات لأحمد أبو شوك
    وأتمني أن ألاقي لي نسخة من هذا الكتاب شديد الأهمية
                  

02-06-2008, 05:13 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: Nasr)

    الاخ / Nasr
    تشكر على التهاني
    اكيد ستجد هذا الكتاب في مكتبات الخرطوم العامرة
    اما اذا كنت قريبا من مسجد الامام المهدي او كنت في زيارة للبقعة
    عرج على المسالمة ومن ثم مر بحى الركابية
    ستجد المركز ... فزره واشترى الكتاب
    اما اذا عجزت عن كل ذلك فتابع هذا البوست
    مودتى
                  

02-06-2008, 05:20 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)




    فالشكر اجزله الى الاخ الصديق الاستاذ محمود صالح، والاستاذ إلياس فتح الرحمن صاحب البصمات الفنية الساحرة في إخراج هذا السفر في صورته الماثلة بين يدي القارئ الذواق، والى مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي اضحى بمرور الايام منبر الثقافة الرئيس، للقراء السودانيين في الوطن وفي اقطار الشتات.
    التوقيع: البروفسير احمد ابراهيم ابوشوك
                  

02-06-2008, 07:14 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)
                  

02-06-2008, 07:28 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)
                  

02-06-2008, 07:46 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    يضم الكتاب ثلة مقالات مختارة، تعرض طرفاً من قضية السلطة السياسية، وطرفاً
    من عطاء بعض الادباء والمبدعين في السودان، وبين الطرفين كما يقول الكاتب
    توجد وشائج قربى، تقوم على شبكة من القراءات الناقدة لقضية السلطة السياسية
    في السودان، والمثمنة لاسهامات كوكبة من المبدعين في مجال الدراسات السودانية
    وتطوير مؤسسات المجتمع المدني.
                  

02-06-2008, 07:58 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    يتناول الجزء الاول من الكتاب اشكالية السلطة والمجتمع في السودان من خلال خمس مقالات متكاملة. تعرض المقالة الاولى ست قراءات متميزة، نشرها المرحوم الدكتور جعفر محمد علي بخيت (1930-1979 م) في مجلة الخرطوم ، تحت عنوان " السلطة وتنازع الولاء في السودان " ، في الفترة بين ديسمبر 1968م ويونيو 1969 م ، بحجة انها قراءات مهمة، وينبغي توطينها في أطار منظومة الحراك السياسي في السودان ، ثم مقارنة توصيلتها بأدبيات التجربة الماليزية الرائدة والمعاصرة، تحسباً بأن مثل هذه المقارنة ربما تعطي إشارت موجبة في طريق التجربة السودانية المحفوف بالمخاطر، قبل أن يصبح واقع السودان واقعاً مأساوياًيحكى عن قصة دولتين ، تصدعت وحدتهما القطرية نسبة لقسمة السلطة والثروة الضيزة. وتقدم المقالة الثانية عرضا تحليلياً لكتاب السير هارولد ماكمايكل الموسوم بــ" السودان " الذي نقله الى العربية وقدم له الاستاذ محمود صالح ، وفي ثنايا هذا العرض التحليليتتم مناقشة طبيعة القضايا التى تطرق المؤلف اليها ، وكيفية ربطها والاستفادة منها في استيعاب جدلية الصراع السياسي المعاصر في السودان . وتناقش النقالة الثالثة عملية اختزال سيادة الدولة القطرية في السلطة السياسية وذلك في ضوء قراءة وثائقية فاحصة لاحداث مذبحة المتمة التى وقعت فصولها التراجيدية عام 1897م ، وتداعيات ذلك المشهد السياسي على دولة المهدية وسودان ما بعد الاستقلال . تصنف المقالة الرابعة مع هذه المجموعة لانها تناقش نسب الزعيم السياسي الراحل اسماعيل الازهري (ت. 1969م)، الذي نسبت جريدة الناس ، التي كانت تصدر في الخرطوم في خمسينيات القرن الماضي، اصوله الى القبائل الفولانية بغية مماحكة سياسية يمكن من خلالها أن ترجح كفة خصومه السياسيين في حزب الامة. والمقالة الأخيرة في هذا الجزء عبارة عن كلمة رثاء للمرحوم الاستاذ تاج السر محجوب منوفلي (ت.2007م) ، الذي كان يمثل رقماً صعباً في دائرة الدبة (53)، لانه خاض فيها انتخابات عام 1986م في ظل خصومة سياسية مستعرة، لكنه خرج منها بكيل وافر، فاض كيل خصومه السياسيين.
                  

02-06-2008, 02:14 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    ويعرض الجزء الثاني من الكتاب طرفا من اسهامات بعض الادباء والمبدعين الذين اثروا المكتبة العربية والسودانية بأدبياتهم المتفردة في مجال الدراسات التأريخية والتراثية والادب الروائي، ونلحظ أن تقريض معظمهم جاء على صيغة " رسائل العرفان في وفيات الاعيات "، لانهم شدوا رحالهم الى دار الخلود في الثلاثة اعوام الماضية وفي انفسهم اشياء من "حتى" ، إلا أن " حتاهم " تختلف عن حتى العالم النحوي ابن جني (ت.392هـ/ 1001م )، لانها ترتبط بقضايا أهل السودان وتراثهم الممتد طولا وعرضاً في بلد المليون ميل مربع. ويأتي في مقدمة هؤلاء البروفسير محمد ابراهيم ابوسليم (1930 – 2004م)، الذي ينعته الاستاذ محجوب بابا بــ" ابي الوثائق السودانية " ويليه الشاعر عمر الحسين (ت. 2005م)، الذي كان شمعة تذوب وتحترق من أجل إسعاد الآخرين ، ويتعاظم الفقد بوفاة الاستاذ الطيب محمد الطيب (1934 – 2007م)، الذي ظل شرفه كمثقف فوق الشبهات، وعلمه مما يمكث في الارض وينفع الناس .
                  

02-10-2008, 01:51 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)



    البروفسير احمد ابراهيم ابوشوك
                  

02-10-2008, 02:03 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

                  

02-11-2008, 06:38 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك
                  

02-11-2008, 10:21 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    قوق
                  

02-11-2008, 11:15 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

                  

02-11-2008, 02:36 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    يضم هذا الكتاب ثلة مقالات مختارة، تعرض طرفاً من قضية السلطة السياسية ، وطرفاً من عطاء بعض الادباء والمبدعين في السودان، وبين الطرفين كما يقول الكاتب توجد وشائج قربى، تقوم على شبكة من القراءات الناقدة لقضية السلطة السياسية في السودان، والمثمنة لاسهامات كوكبة من المبدعين في مجال الدراسات السودانية وتطويرمؤسسات المجتمع المدني.
    يتناول الجزء الاول من الكتاب اشكالية السلطة والمجتمع في السودان من خلال خمس مقالات متكاملة. تعرض المقالة الاولى ست قراءات متميزة، نشرها المرحوم الدكتور جعفر محمد علي بخيت (1930-1979 م) في مجلة الخرطوم ، تحت عنوان " السلطة وتنازع الولاء في السودان " ، في الفترة بين ديسمبر 1968م ويونيو 1969 م ، بحجة انها قراءات مهمة، وينبغي توطينها في أطار منظومة الحراك السياسي في السودان ، ثم مقارنة توصيلتها بأدبيات التجربة الماليزية الرائدة والمعاصرة، تحسباً بأن مثل هذه المقارنة ربما تعطي إشارت موجبة في طريق التجربة السودانية المحفوف بالمخاطر، قبل أن يصبح واقع السودان واقعاً مأساوياًيحكى عن قصة دولتين ، تصدعت وحدتهما القطرية نسبة لقسمة السلطة والثروة الضيزة. وتقدم المقالة الثانية عرضا تحليلياً لكتاب السير هارولد ماكمايكل الموسوم بــ" السودان " الذي نقله الى العربية وقدم له الاستاذ محمود صالح ، وفي ثنايا هذا العرض التحليليتتم مناقشة طبيعة القضايا التى تطرق المؤلف اليها ، وكيفية ربطها والاستفادة منها في استيعاب جدلية الصراع السياسي المعاصر في السودان . وتناقش النقالة الثالثة عملية اختزال سيادة الدولة القطرية في السلطة السياسية وذلك في ضوء قراءة وثائقية فاحصة لاحداث مذبحة المتمة التى وقعت فصولها التراجيدية عام 1897م ، وتداعيات ذلك المشهد السياسي على دولة المهدية وسودان ما بعد الاستقلال . تصنف المقالة الرابعة مع هذه المجموعة لانها تناقش نسب الزعيم السياسي الراحل اسماعيل الازهري (ت. 1969م)، الذي نسبت جريدة الناس ، التي كانت تصدر في الخرطوم في خمسينيات القرن الماضي، اصوله الى القبائل الفولانية بغية مماحكة سياسية يمكن من خلالها أن ترجح كفة خصومه السياسيين في حزب الامة. والمقالة الأخيرة في هذا الجزء عبارة عن كلمة رثاء للمرحوم الاستاذ تاج السر محجوب منوفلي (ت.2007م) ، الذي كان يمثل رقماً صعباً في دائرة الدبة (53)، لانه خاض فيها انتخابات عام 1986م في ظل خصومة سياسية مستعرة، لكنه خرج منها بكيل وافر، فاض كيل خصومه السياسيين.
    ويعرض الجزء الثاني من الكتاب طرفا من اسهامات بعض الادباء والمبدعين الذين اثروا المكتبة العربية والسودانية بأدبياتهم المتفردة في مجال الدراسات التأريخية والتراثية والادب الروائي، ونلحظ أن تقريض معظمهم جاء على صيغة " رسائل العرفان في وفيات الاعيات "، لانهم شدوا رحالهم الى دار الخلود في الثلاثة اعوام الماضية وفي انفسهم اشياء من "حتى" ، إلا أن " حتاهم " تختلف عن حتى العالم النحوي ابن جني (ت.392هـ/ 1001م )، لانها ترتبط بقضايا أهل السودان وتراثهم الممتد طولا وعرضاً في بلد المليون ميل مربع. ويأتي في مقدمة هؤلاء البروفسير محمد ابراهيم ابوسليم (1930 – 2004م)، الذي ينعته الاستاذ محجوب بابا بــ" ابي الوثائق السودانية " ويليه الشاعر عمر الحسين (ت. 2005م)، الذي كان شمعة تذوب وتحترق من أجل إسعاد الآخرين ، ويتعاظم الفقد بوفاة الاستاذ الطيب محمد الطيب (1934 – 2007م)، الذي ظل شرفه كمثقف فوق الشبهات، وعلمه مما يمكث في الارض وينفع الناس .
    اما المقالة الاخيرة فتدور رحاها حول روايات الأديب الطيب صالح ، وذلك عبر قراءة تحليلية للدلالات الرمزية التى جسدتها سيرة صديقه " منسي يوسف بسطاوروس، الذي يصفه الطيب بــ" أنه إنسان نادر على طريقته"، فالسيرةفي مجملها محبكة الصنعة الادبية، تنفذ الى ووجدان القارئ من منافذ متنوعة ومسارات شتى، تجعله يتشكك في ماهية النص وتصنيفه: هل هي رواية من نسج خيال الطيب صالح الخصب؟ أم هي نمط مبتكر من السرد الروائي؟ تحاول هذه المقالة أن تجيب عن هذه التساؤلات المشروعة من خلال عرضها لمفردات النص الوثائقية وذات الدلالات الرمزية.
    واخيراً أود ان الفت انتباه القارئ الكريم بأن المقالات المشار اليها اعلاه قد نشرت منجمة في مناسبات مختلفة ، وعبر وسائط اعلامية متعددة، إلا ان الله سبحانه وتعالى قد قيض لها اهتمام المثقف الحصيف الاستاذ محمود صالح الذي آثر جمعها وإعادة نشرها في كتاب واحد تحت عنوان " السودان : السلطةوالتراث" وبذلك اخرجها الى دائرة ضوء سلطع ، تنداح في رحابه بين القراء، ومنحها شرف الانضمام الى قائمة اصدارات مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان ، فالشكر اجزله الى الاخ الصديق الاستاذ محمود صالح ، والاستاذ إلياس فتح الرحمن صاحب البصمات الفنية الساحرة في إخراج هذا السفر في صورته الماثلة بين يدي القارئ الذواق، والى مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي اضحى بمرور الايام منبر الثقافة الرئيس، للقراء السودانيين في الوطن وفي اقطار الشتات.
                  

02-12-2008, 05:05 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)



    غلاف الكتاب مرة اخرى بعد ادخال التقنية الجديدة
                  

02-13-2008, 02:45 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    الشكر كل الشكر لبروفسير احمد ابراهيم ابوشوك
    وسوف اقوم باستعراض هذا الكتاب في الايام القادمة
    باذن الله تعالى ... والله الموفق
                  

02-14-2008, 08:23 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    المقال رقم واحد
    السلطة وتنازع الولاء في السودان 1/ 7
                  

02-14-2008, 08:27 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

                  

02-14-2008, 08:59 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)


    بقية المحتويات
                  

02-14-2008, 09:32 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

                  

02-14-2008, 09:57 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    نسب الزعيم الأزهري فوق شُبهات جريدة الناس

    أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

    اطلعت على سلسلة مقالات نشرها الدكتور عبد الله علي إبراهيم عن جوانب مختلفة من حياة الدكتور منصور خالد، العامرة بالعطاء الأدبي وقضايا السلطة والسياسة، على صفحات سودانايل، فلا عجب أن هذه المقالات قد أثارت لقطاً كثيفاً، حيث ثـمَّن حيثياتها نفر من القُرَّاء، وجرح بعضهم في صدقيَّة مصدرها وحجيَّة رواتها. وقد كانت الحلقة العاشرة، التي تناولت موقف جريدة "الناس" من نسب الزعيم الأزهري، أكثر الحلقات المثيرة للجدل والحاور بين بعض القُرَّاء الذين افردوا لها منبراً خاصاً في صحيفة سودانيزأونلاين، تناقماً مع عنوانها الرئيس الذي جاء على صيغة استفهام استنكارية: "هل الأزهري ممن حملتهم أمهاتهم على ظهورن من بلاد كانم والبرنو؟". ومن ضمن الذين تصدوا لحيثيات الاتهام الواردة في متن المقال وقدحوا في حجيتها الأستاذ الشاعر محمد المكي إبراهيم، الذي نشر مذكرة دفاع بعنوان "العالم بستان: في نسب الزعيم الأزهري"، ومن خلال هذه المرافعة الأدبية حاول أن يثبت حقاً تاريخياً مشروعاً لأهله السادة الإسماعيلية وأصول الزعيم الأزهري، حيث عزى الاتهام المرتبط بأصول أنسابهم إلى خبث الإداري البريطاني سير هاورلد ماكمايكل، الذي يصنِّفه الدكتور عبد الله علي إبراهيم في قائمة الذين إبتدعوا بدعة الخوض في "رجس الإنساب"، وذلك انطلاقاً مما جاء في كتابه الموسوم بـ "قبائل شمال ووسط كردفان (1912م)، وتحديداً عندما زعم "أن السيِّد المكي [بن إسماعيل الولي] لا هو بديري ولا هو دهمشي، لكنه جزئياً تكروري الأصل، علماً بأن دهمشية دنقلا يدَّعون بأنهم أشراف، فكان بعضهم يقيم في حِمى السيِّد المكي بكردفان، ويبدو أن السيِّد المكي قد استحسن نسبته إليهم." ومن طرف آخر ربط الأستاذ ود المكي إثاره هذا الاتهام في خمسينيات القرن الماضي إلى تفشي حُمى العمل السياسي و"مماحكات جريدة الناس للقادة الاتحاديين". فلا جدال أنه محقٌ فيما ذهب إليه، لأن الاتهام المثار في جريدة الناس أشبه بالاتهام الذي أثاره الاتحاديون في ساحات القضاء المدني عندما زعموا أن أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه ليس سودانياً وأن "أصوله حبشية"، ورد عليهم الاستقلاليون باتهام مضاد يطعن في نسب الأستاذ حماد توفيق، ويصفه بأنه أجنبي دخيل، تعللاً بأنه كان يحمل تصديقاً لاستيراد الخمور الأجنبية، ومثل هذا التصديق، حسب مبلغ زعمهم، لا يعطى إلا للأجانب. بيد أن قاضي محكمة الموضوع المستر هيس شطب القضية، بحجة أنها مكايدة سياسية محضة، لا ترقي إلى درجة السماع، ولا صلة لها بشرعية نسب المرشحين المتنافسين في دائرة الحصاحيصا الانتخابية. وبالرغم من أن القاضي هيس كان على صواب، ولكن حيثيات الموضوع تعكساً طرفاً من طبيعة المدافعة السياسية البخسة التي كانت قائمة في السودان آنذاك.
    وفي هذه كلمة لا أود الخوض في غمار رجس الانساب وإفرازاته القبلية التي اقعدت أهل السودان من النهوض بوطنهم الجامع في حضرة واقع يقتضي تفعيل الوحدة القُطرية كوعاء سياسي أمثل لتوظيف التنوع الثقافي والإثني القائم في السودان، بل أحبذ الانطلاق من محصلة مفاداها أن علم الإثنوغرافيا أو الأنثربولوجيا قد درج على عدم مغالطة أهل الانساب في أنسابهم، بغية حملهم على صواب يحسبه الباحث حقيقة مطلقة، وذلك وفق قراءات أكاديمية قائمة على أدوات بحثية وفرضيات تناقض في بعض الأحيان الموروثات الشائعة والمتداولة بين "أهل مكة"، علماً بأن أهل مكة أدرى بشعابها. فأهدى السبل أن نأخذ بزعم النسابة والمنتسبين إلى أصولهم، ثم نفسر ما ذهبوا إليه في إطاره التاريخي والاجتماعي والسياسي، تحسباً بأن مثل هذا التفسير سيقودنا إلى تحليل موضوعي لفهم القيم الكامنة وراء الانساب، والديناميات التي تحكم حركة التدافع المحلي، وعلاقة هذا التدافع بالصورة النَسبيَّة القائمة في مخيلة الناس والمرتبطة بدقائق بيئاتهم المحلية التي تمزج بين الخيال والواقع.

    ماذا يقول أصول الزعيم الأزهري في أنسابهم؟
    ألَّفَ السيِّد أحمد بن إسماعيل الولي (الأزهري) مخطوطاً سماه "خلاصة الاقتباس في اتصال نسبنا بالعباس"، عام 1853م، ويوجد أصل هذا المخطوط بدار الوثائق القومية بالخرطوم تحت الرقم: منوعات، 1/15/175. وفي مقدمته يورد المؤلف إشارة احترازية أشبه بخاتمة مقال الأستاذ محمد المكي إبراهيم، إذ يقول: إن "تَعلُّم انساب الناس من العلم الذي علمه لا ينفع، وجهالته لا تضر، وبذل النفس في تحصيله من قبيل ضياع العمر." ثم يوضح أن الهدف من تأليف "خلاصة الاقتباس" كان يكمن في توضيح صلة رحم الذين ينسبون إلى جدَّهم الفقيه بشارة الغرباوي، وأيضاً بناءً على رغبة في نفس أبيه إسماعيل الولي الذي كان مهتماً بتوثيق هذه الصلات الأسرية. وفي مقدمة الفصل الرابع يقول مؤلف خلاصة الاقتباس: "إن التفاخر بالأباء والأجداد مذموم شرعاً، فلا ينبغي لعاقل أن يفتخر بأبائه وأجداده، ويدعي الشرف والكرم عند الله تعالى بعلو نسبه على باقي أخوانه المسلمين، لأن الشرف والكرم عند الله تعالى إنما يحصل للعبد من جهة تقواه، فلا اعتبار بشرف النسب لقوله تعالى (إنما أكرمكم عند الله أتقاكم)." (ص 38). وهنا يبرز وجه الشَبه بين هذه المقدمة الاحترازية وخاتمة الأستاذ محمد المكي التى تقرأ: "أقول قولي هذا دون أن يفوتني الإعراب عن استهجاني لمن يرى في الانتساب إلى القبائل الوافدة ما يزري بالرجل الكريم، فهم (أريد من نسميهم الفلاتة) قوم من الرجال المحبين للعمل، والنساء المنجبات، وهم من أحسن الناس أخلاقاً وديناً، وأشدهم محافظة على العرض والشرف، وأنشط أهل السودان إلى العمل الشريف مهما صعب، وهم حملة حضارة، أدخلوا إلى السودان صنوفاً وأُلوفاً من المهارات والصنائع والزراعات، ولو كان الأزهري على أي صلة بهم لما ضره ذلك شيئاً، ولبقي كما هو الآن رافع العلم، ومحرر السودان، وأبو الوطنية السودانية. ولكن الحق حق، وانساب الناس جزء من هويتهم، والزعيم الخالد من دوحة القطب إسماعيل الولي، فلا مراء في نسبته إلى أعلى مراتب الشرف والصلاح." ويبدو أن ود المكي يعني بمصطلحي الشرف والصلاح ما عناه جده السيِّد أحمد بن إسماعيل الأزهري الذي ربط تحقق المصطلحين بتلازم "التقوى والدين".
    فالسيِّد المكي هو الابن الأكبر للسيِّد إسماعيل الولي الذي وثق نسبه ابنه السيِّد أحمد الأزهري بعد أن تحرى الصحيح والمعتمد من الكتب المدوَّنة، وما جرى عليه رأي الأكثرية تواتراً، وبناءً على ذلك أرجع نسب والده السيِّد إسماعيل إلى "عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحيم بابا بن الحاج حمد بن الفقيه بشارة الغرباوي" (ص 12-13)، الذي يتصل نسبه بجعل الدفار عند منحى النيل، "وهم طاقية مستقلة" وأهل سيادة في المنطقة. وإن الجد الخامس لبشارة الغرباوي "هو الملك ناصر بن صلاح بن موسى، الملقب بمسوا الكبير، الذي يُعدُّ الجد المؤسس للملكناصرية الذين يقيم أحفادهم الآن في منطقة قنتي ومنصوركتي ودبة الفقراء (الفقهاء). إلا أن بشارة الغرباوي انفرد عن اسلافه، لأنه اشتهر ببركة الدين حتى صار أصلاً بالنسبة للسادة الإسماعيلية. وتقديراً لوضعه الديني في منطقة الدفار فقد أقطعه السلطان بادي بن السلطان نول (الشهير ببادي أبوشلوخ) جاهاً من الأرض عام 1145هـ (1732م) "لا عادة عليه، ولا عانة، ولا جباية، ولا علوق، ولا شيء قل أو جل من جميع مضار السلطة، لا في الحضر ولا في السفر أن شرقوا أو غربوا، فكل من تعرض له أو دناه لا يلومن إلا نفسه، والحذر الحذر من الخلاف، والمخالف لا يلومن إلا نفسه." فلا شك أن هذا الجاه السلطاني يعكس طرفاً من أهمية الفقيه بشارة الغرباوي، ورسوخ قدمه العرفاني، وطول باعه الاجتماعي في منطقة الدفار. أما خلفية تسميته ببشارة بالغرباوي فيرجعها السيِّد أحمد بن إسماعيل إلى قول مأثور فحواه أن بشارة كان من جملة تلاميذ الشيخ إبراهيم البولاد بن جابر في جزيرة ترنج بأرض الشايقية، حيث برع في دراسة القرآن والفقه على مختصر خليل ورسالة أبي زيد القيرواني، وكان شيخه إبراهيم البولاد حريصاً على تميزه عن بقية طلابه الذين يحملون نفس الاسم، فأطلق عليه لقب بشارة الغرباوي، تعللاً بأنه كان يسكن بـ"حوش مار" في منصوركتي التي تقع غرب جزيرة ترنج، وكان يعبر البحر (النيل) من جهة الغرب إلى جزيرة ترنج بالشرق، حيث خلاوى شيخه إبراهيم البولاد. ومنذ ذلك الحين ذاع صيته بين الناس بـ"بشارة بالغرباوي".
    فيتصل نسب الشيخ إسماعيل الولي من جهة أبيه وأمه ببشارة الغرباوي، فأمه هي ملكة الدار بنت إبراهيم بن عبد النبي بن الحاج حمد بن بشارة الغرباوي. وقد هاجر والده عبد الله إلى كردفان في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، ورزق ثلة من الذكور والإناث في الأبيض، أذيعهم شهرةً ابنه إسماعيل الذي وُلِدَ عام 1792م، وأخذ الطريقة الختمية من السيِّد محمد عثمان الميرغني قبل أن يكمل العقد الثالث من عمره الباكر، إلا أنه لم يمكث طويلاً في الطريقة الختمية، وسرعان ما قام بوضع قواعد الطريقة الإسماعيلية التي تُصنَّف بأنها الطريقة-الصوفية السودانية الوحيدة منشأً وقيادة. ومن ثم ظل السيِّد إسماعيل الولي المؤسس علماً رمزاً على قيادة سجادة الطريقة الإسماعيلية بالأبيض إلى توفاه الله عام 1860م، وخلفه على ذات السجادة ابنه الأكبر السيِّد المكي الذي استطاع أن يحدث نقلة نوعية في البناء الهرمي للطريقة الإسماعيلية، وتلك النقلة حسب قراءة الدكتور محمود عبد الله إبراهيم الذي جعل تاريخ الطريقة الإسماعيلية مشروع أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بجامعة لندن عام 1980م، قد تبلورت في تفعيل الأنشطة العرفانية، وربط الطريقة بخلفائها ومريديها في المركز والتخوم، وفي عهد السيِّد المكي أيضاً تم تشييد قبة الشيخ إسماعيل الولي، حيث الحي القبة الشهير بمدينة الأبيض.
    والغريب في الأمر أن السيِّد المكي توفي بعد عام من إلتحاق هارولد ماكمايكل بخدمة حكومة السودان عام 1905م، ولم يدركه ماكمايكل في الأبيض، بل أورد حاشية مبهمة في كتاب عن قبائل شمال ووسط كردفان، تعطى القارئ انطباعاً بأن ماكمايكل قد عاصر السيِّد المكي، وعرف عن حقيقة نسبه إلى القبائل الفولانية. ولا أدري من أين جاء ماكمايكل بهذه الفرضية غير الموثقة. وإذا افترضنا جدلاً أن للسيِّد المكي صلة رحم فولاني من جهة أمه فهذا لا يقدح في حقيقة انتسابه إلى السادة الإسماعيلية وأرومتهم الدهمشية. فإذا كان مصدر جريدة الناس هو حاشية ماكمايكل، فإن السيِّد المكي ليس الجد المباشر للزعيم إسماعيل الأزهري، فجده المباشر هو السيِّد أحمد بن إسماعيل الأزهري، الذي ينتسب من جهة أمه السيِّدة زينب إلى الحاج محمد بشارة بن الأرباب سورج المرفوع نسبه إلى نصر الله بن صلاح بن الملك الدفاري مسوا الكبير. فكل الشواهد المشار إليها تقدح في صدقية ما ذهب إليه ماكمايكل، وتصنف ما أوردته جريدة الناس في دائرة الخصومة السياسية التي لا تجرح انتساب الزعيم الأزهري إلى البديرية الدهمشية.

    ماكمايكل بين خبث الفرضية وأهلية التوثيق
    حاول بعض المعجبين بعطاء الأستاذ محمد المكي إبراهيم وأدبيات الغابة والصحراء أن يرافعوا عن مقاله "في نسب الزعيم الأزهري"، ويلقوا باللائمة على السير هارولد ماكمايكل، متعللين بأن وصفه إلى أصول الأزهري بالفولانية (أو التكارنة) فيه تجريح لقيادة الأزهري لحركة الخريجين والاتحاديين، لأنه هذه الفِرَّية تقدح في شرعية انتسابه إلى أهل السودان الخُلص، وتضعه في خانة المهاجرين التكارنة الذين حملتهم أمهاتهم على ظهورن من بلاد كانم والبرنو إلى السودان. ومثل هذا القول ربما ينطبق على جريدة الناس، لكن ليست له علاقة مباشرة بما ذهب إليه ماكمايكل، لأن ماكمايكل نشر كتابه عن قبائل كردفان عام 1912م، وفي ذلك الحين لم يتجاوز عمر الزعيم الأزهري الاثني عشر عاماً، وعندما نشر تاريخ العرب في السودان عام 1922م كانت الحركة الوطنية في طور التخلق نطفةً، وأن الأزهري لم يكن علماً يشار إليه بالبنان على المستوى السياسي القومي وصالونات الحركة الوطنية.
    فمن ناحية أكاديمية يجب أن لا نغمط الرجل حقه، فإنه قد جمع بين دفتيي كتابه "تاريخ العرب في السودان" كماً هائلاً من المعلومات الأولية المفيدة التي تسهم في تحليل الواقع السوداني آنذاك ومعرفة ملامح الشخصية السودانية، والشاهد على ذلك أن طعنه في نسب السيِّد المكي لم يمنعه من ترجمة مخطوط "خلاصة الاقتباس"، الذي ألفه السيِّد أحمد بن إسماعيل الولي ومجدَّ فيه أصوله الإسماعيلية، إلى اللغة الإنجليزية، وجعله ملحقاً في الجزء الثاني من تاريخ العرب في السودان. نعم، للباحثين الحق في أن يختلفوا مع الفرضيات التي أسس عليها ماكمايكل مفردات مشروعه الباخس لنسب المجموعات الجعلية وأصولها القرشية، وفي مكايداته السياسية للنخب المتعلمة في السودان، لكن هذا لا يمعنا القول أن الرجل الأبيض العظيم، كما تنعته بعض الوثائق البريطانية، قد ترك أدبيات مهمة جديرة بالبحث والتنقيب. فمشروع ماكمايكل الذي يعتبره بعض الباحثين مشروعاً باخساً هو ذات المشروع الذي انطلق منه دعاة الغابة والصحراء، وفي مقدمتهم الأستاذ محمد المكي إبراهيم الذي يقول عن نفسه في صيغة الجمع: "لقد جاهدنا ضد العنصرية السودانية منذ أن كنا طلاباً في الجامعة، وقلنا أن السودان وطن الخلاسيين والخلاسيات، وتصدى لنا آخرون يقولون بالنقاء العربي للسودان. والآن يشيد القوم بأولئك النفر، ويهاجموننا نحن الذين حملنا [ولا زلنا] نحمل راية السودان المتعدد الأعراق."
    وزبدة القول أن نسب الزعيم الأزهري يربو فوق هامات المماحكات السياسية، لكن الشئ الأهم هو أن السادة الإسماعيلية أناس عاشوا فوق أمجاد بنوها بنور العلم لا عمد الرخام، فالأجدى والأمثل أن يحدثنا الأستاذ محمد المكي إبراهيم عن فيض تراثهم العلمي الزاخر، الذي يقدر جُعل السيِّد إسماعيل الولي فيه بثمانين مخطوطاً، وقد سار على نهجه السيِّد المكي، وتبعه أحمد بن إسماعيل الأزهري صاحب المرافعة الجريئة في دحض مهدية محمد أحمد بن عبد الله، وتلاهما عبد القادر الكردفاني مؤلف "كتاب سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي"، وعلى ذات النسق سار القاضي حسين سيدأحمد المفتي مؤلف كتاب "تطور نظام القضاء في السودان". والأستاذ ود المكي نفسه من هذه الأرومة الصالحة والشريفة، التي أكتسبت شرفها وصلاحها لا من نسب "بديري-دهمشي" حرمها إياه السير هارولد ماكمايكل، ولا من أصل تكرورياً رفعها إليها، ولكن بفضل تقواها الراسخة في الأرض وعطائها المثبوت بين الناس.

    نشر هذا المقال من قبل في موقع سودانيزاون لاين بتاريخ 1/9/2007 م
                  

02-15-2008, 10:47 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (1/7)

    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت



    أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك،

    كوالالمبور، ماليزيا





    تحظى قضية السلطة السياسية بعنايةٍ فائقةٍ في الأروقة الأكاديمية والدراسات الاستراتيجية، لأنها تمثل الآلية الفاعلة، التي تستطيع النخب الحاكمة من خلالها أن تهيمن على مقدرات الشعوب ومقدساتها، وتوظفها توظيفاً إيجابياً في خدمة المصلحة العامة، وسلبياً في خدمة مصالحها القطاعية النائية عن تطلعات الصالح العام، وعندما يكون التوظيف سالباً في جوهره ينشب الصراع بين الحاكم والمحكوم، ويضحى الولاء للشأن الوطني ومقدساته ولاءً متنازعاً بين أهل السلطة السياسية وأصحاب النفوذ الاجتماعي. والسلطة السياسية بهذا المفهوم كانت تشكل محصلة وسطى في سلسلة المقالات الست المتميزة، التي نشرها المرحوم الدكتور جعفر محمد علي بخيت (1930-1979م) في مجلة الخرطوم، تحت عنوان "السلطة وتنازع الولاء في السودان"، في الفترة بين ديسمبر 1968م ويونيو 1969م. وحسب مبلغ ظني فإن هذه المقالات قد حُظيت بتقدير حسن عند رهط من الباحثين والقُرَّاء، الذين استأنسوا بها في أكثر من منعطف سياسي ومحفل أكاديمي، وثـمَّنوا موضوعيتها، وتشخيصها الحاذق لقضية السلطة وتنازع ولاء الحاكمين والمحكومين من حولهم في السودان.

    ونعرض في هذه القراءة التحليلية نصوص هذه المقالات عرضاً كاملاً غايته تعميم الفائدة العلمية وتشجيع الحوار المتبصِّر، ونتطرَّق بعد ذلك إلى مناقشتها وتوطينها في منظومة الحراك السياسي السوداني القائم على ثلة من المتناقضات، ونصحب هذه المناقشة بتحليل نقدي للتوصيات التي طرحها الدكتور جعفر محمد علي بخيت، بغية إصلاح ظل ينشده، عندما كان يغرد خارج سرب السلطة السياسية، ثم نقارن هذه التوصيات بأدبيات التجربة الماليزية المعاصرة في هذا الشأن، تحسباً بأن مثل المقارنة ربما تعطى إشارات موجبة في طريق التجربة السودانية المحفوف بالمخاطر، قبل أن يصبح واقع السودان واقعاً مأساوياً يحكي عن قصة دولتين، تصدَّعت وحدتهما القُطرية نسبة لقسمة السلطة والثروة الضيزة.



    المقال الأول

    إن المتعمن في فترة ما بعد الاستقلال بالسودان، وما لازمها من تصدع في تماسك أبنيَّة الصرح الاجتماعي، وما صحب ذلك من اختلال في موازين الثقل النسبية للمجموعات والطبقات، وما نتج عنه من اضطراب في معايير القيم، وما انعكس من كل هذا على الحياة العامة التي نشكو قلقلتها السياسيَّة، وإدارتها المضطربة، وصفوتها الحائرة، ونشاطها المفلول الحد، ليعجب عن السر الكامن وراء هذه الظاهرة.

    هل الحرية قرينة للتفكك؟ أيعني انتهاء التبعية والوصاية من قبل حاكم أجنبي بداية التدهور في ضبط وتنظيم الحياة العامة؟ أهو دليل على ما كان يقوله الاستعماريون من أن الحكم فن لم يتقنَّه بعد ربائبهم الذين نشأوا في أكنافهم، وتربوا تحت إرشادهم، ونموا وشبوا إما على الطاعة والتسليم، وإما على اللجاج والشقاق، وكلا الطائع والناشز لم يشبا بعد عن الطوق؟

    ما الذي يدعو الناس بعد أن نالوا أعز أمانيهم دون أن يرتخصوا الغالي، ويبذلوا الثمين أن يعقدوا المقارنات بين ما كانوا عليه ثم آلوا إليه بآخرة، يستوي في ذلك رجل الشارع مخفوض الجناح، وعين المجتمع شامخ الأنف مهنياً كان أو رجل أعمال. لـِمَ يصَّر الناس على أن يبالغوا في التطرف ويرفضوا المصالحة ويواجهوا بعضهم بعضاً بالعنف أو بالقطيعة؟ لماذا يحتاج الناس بعد أن فرغوا من مهمة التحرير الوطنية إلى أن يواصلوا حركة التحرير هذه في كل مجال تقريباً، وإلى أمد غير محدود؟

    تكمن الإجابة عن هذه الأسئلة ومثيلاتها في محاولة تفسير الاستقلال على أساس أوسع وأشمل من معناه العادي المفهوم في الصعيد السياسي النظري. فمفهومه في هذا المجال هو استرداد السيادة الوطنية من يد الحاكم الأجنبي ووضعها [7] في أيدي محلية لخدمة أغراض يختلف الناس عليها باختلاف مذاهبهم الأيدلوجية، وتفسيراتهم لسنن الاقتصاد وأسس الاجتماع البشري. ولكن الاكتفاء بهذا المعنى لا يساعدنا كثيراً في تفسير الأحداث التي واكبت عصر ما بعد الاستقلال في السودان وفي رصفائه من البلدان المتخلفة، اللهم إلا إذا قنعنا باليسير من التفكير الضحل المعاد من آراء الغوغائيين والديماجوجيين الذين يتحدثون عن القنابل الزمنية، وخطط الاستعمار لنسف الاستقلال حديثاً لا يوضح لماذا تتفكك معظم القيم الوطنية، ويذوب ممثلوها عند مواجهة الأعداء والإغراء. أو إذا قبلنا عند الطرف الآخر ما يقوله غلاة الاستعماريين من أن بعض الشعوب والأجناس تعجز بطبيعة تكوينها من الوقوف على قدميها، وأن تاريخها يوضح أنها على الدوام محتاجة للقوامة والوصاية.

    ونحن لا نريد هذا أو ذاك لأن أمانة الفكر تفرض علينا أن نقفز فوق أسوار الترديد والتقليد، وأن نحاول إيجاد تفسير مقنع للحوداث. ومثل هذا التفسير يتطلب كما أسلفت اهتماماً أوسع بظاهرة الاستقلال على أساس أنها حدث سياسي، يعكس قيماً ثقافية خاصة، وسلوكاً معيناً في تنظيم الشؤون العامة واستخدام أجهزة الحكم.

    إن الاستقلال لا يعني فقط انتقالاً لمسؤولية الحكم من الأيدي الأجنبية إلى الأيدي المحلية، وإنما يعني أيضاً انهيار القيم القديمة وهزيمة المثل التي كانت تسير عليها دفة الحكم في عهد التبعية، وهذا الانهيار وهذه الهزيمة قد تعزى لقوة الحركة الوطنية، أو قد يكون مردها لعوامل خارجية، أو لتفاعل هذين العاملين سوياً، ولكن السياسة البناءة لا تقوم فقط على هدم وهزيمة المثل القديمة، بل لابد من مثل جديدة تحل محلها، وتملأ كل الفراغ الشاغر. وما لم يكن تفاعل العاملين اللذين أشرت لهما أو أثرهما منفردين بالعمق اللازم لتثبيت الصرح السياسي والاجتماعي الجديد الذي اضطربت ذاتيته، وضعف كيانه وتأرجح بين مختلف المؤثرات، وكان منه ما نشاهده اليوم في السودان، وفي عديد من الدولة النامية من ضعف.

    والفكرة التي أود أن أؤكدها أن الاستقلال الذي نالته عديد من الدولة النامية جاء نتيجة لعوامل من التدخل الخارجي الذي ساعد على تقوية آثار الحركات الوطنية في إزاحة الحكم الأجنبي، ولكن بانعزال الحركات الوطنية عن مؤثراتها الخارجية بعد الاستقلال لم تستطع أن تملأ الفراغ الذي شغر في دنيا المثل والقيم الخاصة بالحكم. فنتج عن هذا أن توزعت أفكار الناس وعواطفهم في مثل السودان، قيم متعددة خاصة في الحقل السياسي لا تناسق بينها إلا في صعيد محدود. وتوجهوا بولائهم نحو اتجاهات بعضها محلي الطابع إقليمي الصورة، وبعضها عالمي المنحى، ولكنها جميعاً تسير في محور دائري متوازٍ. فكأن أن عاشت كل الاتجاهات في عوالمها الخاصة معطية كل اعتبارها لما يهمها فقط من الأحداث التي قد تؤثر على قوتها سلباً وإيجاباً، وتركز هذا التوازي المنقطع من بعضه في سلطة الدولة، وأخذ يدور حولها لا لأنها جذبته نحوها، ولكن لأن الحال كان كذلك في عهد التبعية، ولكن انهيار هذا النظام قد تسبب في تكسير خطوط السير الدائري، واتجه كل خط مكسور لأن يكوِّن بنفسه اتجاهاً دائراياً خاصاً به حول مركز دوران ذي قوة جاذبية محددة بولاء خاص، بمعني أن جاذبيته تعجز عن التأثير على المنتمين له أصلاً.

    [8] ومن هذا نستطيع -ليس فقط- تعليل أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار اللذين يسودان السودان وغيره من البلاد النامية بعد الاستقلال، بل نستطيع أيضاً أن نقيس مدى هذا الاضطراب وعدم الاستقرار بالقياس إلى ما كان سائداً في عهد التبعية، ونعطى كل ضرب منه درجة عددية. وأُسس هذا القياس هي مدى بُعد نقطة الولاء السياسي المركزية للدولة من نقطة الولاء المحدود، وإذا شئنا الدقة فقد نستطيع مستعينين بعلوم الرياضة العقلية أن نستخلص قواعد معينة، ونرسم أبعاداً حسابية توضح مدى البُعد بين الولاء المركزي العام والولاء الخاص.

    وأساس النظرة التي أحاول عرضها هو أن استقرار الحياة العامة في السودان كان مرتكزاً على وجود سلطة مركزية تجمع في يدها تخطيط السياسة والقيام على تنفيذها، وتنفرد هذه السلطة بقدرتها على فرض مُثلها وقيمها على جميع قطاعات المجتمع، وتتميز بأن هذه القيم المفروضة رغم أنها متأثرة بقيم القطاعات المختلفة إلا أنها غير متطابقة تطابقاً كاملاً مع قيم أي قطاع منفرد منها أو قيمها جميعاً.

    وفي حين أن القيم القطاعية كانت تتقوقع حول نفسها أو تمد نفوذها في حذر في عصر التبعية كانت قيم السلطة المركزية تمتد خارج الحقل السياسي، وتؤثر على مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية عند الناس، وإذا ما اصطدمت هذه القيم العامة بأية قيم خاصة فإن السلطة المركزية كانت أبداً تملك المرونة التي تجعلها تكيف نفسها بالقدر الذي يلائم القيم الخاصة، أو القوة الكافية التي تمكنها من فرض أرائها إن شاءت. كانت السلطة المركزية في موقف المختار القادر على صنع الأحداث، وتشيكل المواقف، ولم تكن مضطرة لسلوك معين بدافع الضروة الحتمية.

    ولم يكن نمو السلطة السياسية المركزية في السودان بالأمر القديم في تاريخه، فنتج من هذا أن القيم القطاعية كانت ثابتة الأركان راسخة الجذور، وحينما جاء الحكم التركي المصري بإدارته المركزية لم يعن بمحو القيم القطاعية، وإنما سلك مسلك التصالح بين قيمه والقيم المحلية، وفي نفس الوقت عمل على نشر تلك القيم التي لم تكن تجد معارضة.

    وفي عهد المهدية حاول الأنصار محو القيم القطاعية، ونجحوا في ذلك إلى حد ما، ولكنهم لم يكونوا أقوياء بالقدر الذي يجعل نجاحهم كاملاً، فكان من نتائج ذلك أن الولاء لنظامهم المركزي لم يكن شاملاً، ولم تستطع شمسهم أن تخفت ضوء الشموس الصغيرة.

    وفي عهد الحكم الثنائي احتفظت السلطة المركزية بالقيم القطاعية لتستفيد منها في مد نفوذها وتغويض مخالفيها، وكانت الرهبة والمصالحة تستخدمان بقدر متناسب والغرض المقصود، وعملت السلطة المركزية على أن تلف الشموس الصغيرة حول شمسها [9] الكبيرة، وأن تكون قوة هذه الشموس الصغيرة مستمدة من حرارتها هي، فهي مكملة لها وليست متناقضة معها.

    وقد نمت الحركة الوطنية داخل إحدى هذه الشموس التابعة أساساً بفعل التأثير المركزي، وبفعل المؤثرات الخارجية فاضطرب نظام الحركة الشمسية، ونتجت عن ذلك خطوط سير جديدة اضطربت مع الخطوط الأخرى.

    وجاء الاستقلال ليزيد من هذا الاضطراب، لأنه أزال قيم السلطة المركزية القديمة، وأضعف قوة جاذبيتها، ومحا شمسها الباهرة، فوجدت الشموس الصغيرة نفسها طليقة لتدور حول محاورها الخاصة متجهة بسيرها نحو ولائها الذاتي. وحتى داخل السلطة المركزية نفسها تولدت شموس صغيرة لا تسير جميعاً في نسق معين، ولا تتجمع حرارتها في طاقة واحدة مشعة، فكان الذي نسمع عن نزاع البوليس مع الإدارة، ونزاع الإدارة مع القضاء، ونزاع المصالح الحكومية مع بعضها، بل بلغ الأمر أن رفع وكيل وزارة قضية جنائية ضد رئيس هيئة حكومية أخرى، وكلاهما كان يتصرف بصفة رسمية.

    فالاضطراب وعدم الاستقرار السائدان في الحياة العامة ليس سببهما عوامل خلقية أو قصور في الخيال، أو جموح إلى طلب السلطة، وإنما مرده إلى طبيعة عجز السلطة المركزية من خلق ولاء طاغي يجذب نحوه الولاء القطاعي، ويجعله يدور حول فلكه، ولا يسمح لقطاع معين بأن يسيطر عليه حتى لا يمحو قيمه العامة بقيم محدودة. والذي يعجز السلطة المركزية عن ذلك هو تشكيل القوى الضاغطة في المجتمع السوداني، وطبيعة تشكيلها الاجتماعي، ثم حاجة النظام البرلماني إلى سند شعبي لا يتوفر إلا داخل تشكيلات هذه القوى بوضعها الراهن.
                  

02-15-2008, 10:50 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (2/7)

    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت



    أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك،

    كوالالمبور، ماليزيا



    أسس الدكتور جعفر محمد علي بخيت مفردات مقاله الأول عن "السلطة وتنازع الولاء في السودان" على نسق منظومة رياضية، يستند محور ارتكازها إلى السلطة السياسية (الشمس)، التي يرتبط مسار حركتها المدارية بطبيعة العلاقة المتبادلة بينهما، وبين القوى القطاعية المختلفة التي شبهها بالكواكب الشمسية السيارة ذات المدارات المتوازية والحركة الدائرية المحدودة. ويحاول في هذا المقال الثاني أن يستخدم هذه المنظومة الرياضية/البنيوية كإطار منهجيٍّ لتحليل الواقع السياسي في السودان آنذاك، ومدى فاعلية السلطة السياسية في توظيف القوى القطاعية تجاه المصلحة العامة، والقيم الإنسانية المنشودة. وحسب وجهة نظره فإن التوظيف الايجابي للسلطة السياسية لا يتحقق بهذه الكيفية إلا إذا تسلَّحت السلطة السياسية نفسها بقيمٍ ومبادئ عامةٍ ومحايدةٍ، واتسم عطاؤها الوَظِفيّ في كلياته بالشفافية المنعتقة من قيود القوى القطاعية الضيقة إلى رحاب المصلحة العامة المنبسطة. وهنا بيت القصيد، حيث يتحقق التواصل المؤسسي الفاعل بين الحاكم والمحكوم، ويصبح الحراك السياسي في حد ذاته حراكاً بنَّاءً، ومنبسطاً في تواصله مع الآخر، تواصلاً يرقي إلى درجة التدافع الإصلاحي المشروع والكسب الجماهيري النوعي، وبذلك يضحى العطاء الوَظِفيّ لمؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني عطاءً خلاّقاً في ترجمة الخطط الإصلاحية على صعيد المواقع.



    المقال الثاني

    إن أول آثار الاستقلال التي أدت لعدم الاستقرار هي أن الاستقلال في حد ذاته كان ثمرة جهود متواصلة داخلية وخارجية، اتجهت نحو تحدي السلطة السياسية-الإدارية المؤثرة على مختلف نواحي الحياة، وقصدت من هذا التحدي هدم تلك السلطة، أو تحويل السيطرة عليها من الأيدي الأجنبية إلى الأيدي المحلية. ولم يكن اكتمال السيادة الوطنية ممكناً إلا على أنقاض صرح السلطة، ولكن السلطة السياسية الإدارية- رغم أنها أجنبية- كانت هي العامل الفعال في ربط صروح الهيكل الاجتماعي المتنافرة، وفي لمّ شمل الثقافات، والقبليات، والقوميات، التي كان يتفرق حولها السودان وأهله.

    وكان للسلطة السياسية والإدارية محورٍ عامٍ تدور حوله، ويزيد قُطره على قُطر كل القطاعات الصغيرة، وكان لها من قوة الجاذبية ما يضطر الوحدات الصغيرة المؤسسة للمجتمع السوداني كالطائفية، والقبلية، والإقليمية، أو قطاعات السكان ذات النفوذ كالانتلجنسيا، وسكان المدن، والأعيان من كبار التجار والمُلاك، وأصحاب البركات والعلماء، من [7] الالتفات حولها والانجذاب نحو مركز دائرتها، وهذه الحركة وحدها كانت عاملاً من عوامل الاستقرار، ووسيلة لتنسيق ما اختلفت أصوله من مقومات الوطنية السودانية، وكان من نتائج وجود هذه السلطة المتمركزة، رغم أجنبيتها واستعماريتها، أنها بعد أن خلقت التراب السوداني من طينات عديدة، وألوان شتى، وربطته بالعديد من المشروعات العمرانية التي كانت وليدة تخطيط إداري ذي صبغة سياسية، هيأت الجوّ لبروز الشعب السوداني كوحدة اجتماعية، تعلو وتصهر عصبيات القبلية واللسان والإقليم، وكان طريقها لذلك جعل التراب السوداني مشاعاً للجميع، وخلق صفوة من مختلف القطاعات القبلية والإقليمية، تربط مصالحها بمصالح السلطة، وتستمد قيمتها واتجاهاتها مما تخططه تلك السلطة.

    وقد نجحت السلطة في السودان إلى حد ما في خلق مقومات القومية فيه، ولكن هذا الخلق لم يكتمل شعباً سوياً حين جاء الاستقلال، ولم تكن الحركة الوطنية لتمثل كل الاتجاهات وتقسيمات السودانيين، ولم تكن لها تلك الطبيعة "الإسفنجية" التي تجعلها قادرة على امتصاص المميزات والسوائل المحلية ورشحها، والإبقاء على الصافي المصفَّى، ولم تكن لها من الأيديولوجية ما يجعلها قادرة على تسيير الأحداث، وتوجيهها بقوة الفلسفة النظرية، ولم يكن لها زعيم أوحد مميز تستطيع شخصيته الساحرة أن تجذب نحوها الناس رغم اختلاف الجنس، والألوان، والمعتقدات، كما فعل سوكارنو يوماً ما في إندونيسيا، وكما فعل غاندي في الهند، وعديد من زعماء الشرق الأوسط، وكثير من رؤساء إفريقيا المحدثين. وقد كان من نتائج هذا، أن انهيار السلطة وهزيمتها خلق فراغاً لم تستطع الحركة الوطنية أن تملأه فكان الاضطراب.

    [8] وقد جاء الاضطراب نتيجة عاملين: أولهما: أن السلطة التي انهارت كانت تكون نقطة تركز لنظام شمسي سياسي، ارتبطت به شموس صغيرة، على نسق خاص يكيف سير مدارها وسرعتها وشكلها، وبمجيء الاستقلال فقدت نقطة الارتكاز فعاليتها، وعجزت من أن تسيَّر الشموس المختلفة حول مدارها. وثاني هذين العاملين: أن السلطة السياسية في عهد التبعية كانت سلطة مستقلة وخارجة ومسيطرة على ما سواها من سلطات، فكان في مقدورها لذلك أن تدفع ما خضع لها من سلطات وفق ما تريد، وأن تسعى لتكون القوى المهيمنة على تلك السلطات طوع بنانها، وأن تخلق بين تلك القوى توازياً وتوازناً داخليين، يستمدان معاييرهما من خط سير السياسة العامة للسلطة. ولكن الاستقلال لم يخلق قوى سياسية جديدة بدل تلك التي ذهبت، وإنما صعد بإحدى القوى التبعية، أو بتحالف مجموعة من هذه القوى نحو مركز السيطرة، وقد أدى هذا إلى اختلال ميزان القوى الداخلية، نتيجة لممارسة القوة الصاعدة للسلطة السياسية، ولم يكن لهذه القوة الصاعدة من الجاذبية ما يجعلها تهيمن على القوى الأخرى، التي أخذت تضارعها في اكتساب السلطة، وتنافس على السلطة الحاكمة امتيازاتها، وزيادة على هذا لم تكن مستطلعة أن تخطط مداراً جديداً للسير، وتنسق سير القوى الأخرى معه.

    وهكذا بفعل هذين العاملين في الاستقلال، ومراكز السلطة السياسية التي كانت تجمع حولها عناصر القومية السودانية وتصهرهم في بوتقة واحدة لإنزال عنصر الموازنة الذي كان يوازن بين عديد القوى وتنسيق نشاطها. وإذ عجزت القوى التي جاءت بالاستقلال عن ملء الفراغ الشاغر، فكانت النتيجة أن اضطراب تناسق تلك القوى المختلفة التي زالت عنها السيادة والتوجيه، ونشأ عدم استقرار.

    إن التركيز المتواصل والكثيف على إدارة ما قبل الاستقلال، باعتبارها الراية العالية للمثل الاستعمارية، قد منع الناس عامة، والدارسين خاصة من اكتشاف المثل المختلفة، التي نمت في عهود التبعية، وسيطرت على الحياة العامة، التي أدى انهيارها وضعفها لضعف الحياة العامة، إذ لا بديل لها.

    لقد ظل السودان حتى عهد التوسع الاستعماري في بداية عشرينيات القرن التاسع عشر، الذي قاده والى مصر محمد علي باشا مجموعة من الأقاليم الجغرافية ذات الكيانات السياسية المختلفة، ولم تكن تلك الكيانات بالقوة التي تجعلها قادرة على صبغ الإقليم الجغرافي بصبغة سياسية معينة، وزيادة على هذا لم تكن هناك سلطة منسقة توائم بين هذه الكيانات المغناطيسية المركزية مما يجعله يجذب نحو وسطه الوحدات المؤسسة له حتى تلتحم ببعضها، وتكون ذاتاً واحدة متفاعلة.

    [9] ولما جاء الفتح المصري أخضع أقاليم السودان المختلفة لإدارة واحدة، وقد استطاعت هذه الإدارة رغم ما وجَّه لها من اتهامات أن تخلق للذاتية السودانية إقليمية محدودة، لها تقاسيمها ومعالمها، واستطاعت سلطة هذه الإدارة بفضل فعاليتها المادية و قدرتها على الإغراء والإرهاب أن تمتلك أزمِّة الموقف، وتكيف سير الأحداث. ونتيجة لهذا توفر نوع من التوازن بين القوى المتصارعة، مبعثه قدرة الإدارة على صرعهم جميعاً متفرقين ومتحدين.

    وبقيام الثورة المهدية مستندة على أيدولوجية محدودة كان المناخ مهيئاً لخلق جوّ من الاستقرار بعد أن استتب الأمر للمهدي وخليفته، ولكن ذلك لم يتم لأن الإدارة الجديدة كانت تمثل قوى داخلية ذات طابع والتزام معينين، وكان طريقها لبسط سيطرتها قهر القوى الأخرى على قبول سلطتها وأيدولوجيتها، ولم يكن لها من القوة ما يكفي لتحقيق هذا الغرض، ولو اتجهت الإدارة المهدية لمصالحة القوى المضادة لها بالقدر الذي يمنع اصطدامها بها، ويتجه بها نحو الالتفاف حول محورها لأدى ذلك إلى نوع من الاستقرار، والسير بالحياة العامة وفق نهج محدد، إلا أن هذا لم يكن ميسوراً، نظراً لطبيعة الدولة المهدية نفسها.

    وفي عهد الحكم الثنائي توالت الاضطرابات نظراً لأن القوة المسيطرة على مركز الثقل في الحياة العامة كانت تمثل قيماً مضادةً لقيم قطاعات معينة فاصطدمت معها، ولكن عدم الاستقرار الناتج من ذلك كانت توازنه قوة استقرار أخرى، ناتجة من ملاءمة القوى الحاكمة لقيمها مع قيم قطاعات كبيرة من المحكومين، ولكن الحكم الثنائي عجز عن مواصلة السياسة، واصطدمت قيمه مع قيم الحركة الوطنية الصاعدة فكان الاستقلال.

    إن نقطة التمركز في تسيير محور الحياة العامة ما زالت مركز الصراع بين القوى المختلفة في السودان، ولكن أساس المشكلة ليس الصراع ذاته، وإنما رفض القوى المختلفة للتصالح وفق نتائج الصراع، وفقدان الحد الأدنى من التوافق حول مُثل معينة يرتضيها الجميع، والولاء للسلطة في نظري هو الطريق الأوحد لخلق الاستقرار السريع، وتحقيق هذا الولاء يتم عن طريقين: إما بالقهر الرادع، وهذا يتطلب قوة طاغية على الدوام، وليس للسودان وأمثاله قدرة على تحملها بصرف النظر عن الاعتبارات النظرية ضد هذا الأسلوب، وقد برهنت تجارب الحكم العسكري، وخاصة في السودان أن أقرب العناصر ميلاً لهذا الاتجاه غير قادرة على تطبيقه. وعلى هذا لم يبق غير طريق المصالحة، ولكن المصالحة لن تتم إلا إذا كانت معظم الأطراف المتنازعة قادرة على أن تغنم منها غنماً متساوياً، أو يكون نصيبها من الغرم مساوياً لما تكسبه من امتيازات، وإذا تم هذا فإن نوعين من الولاء ينموان دون أن يكونا متضاربين: ولاء قطاعي نحو الذات الصغرى قبيلة كانت، أو طائفة صوفية، أو مذهباً سياسياً، أو إقليماً عنصرياً؛ وولاء عام نحو الذات الكبرى للمصالح المتفق عليها.

    ولكن نمو هذين الولائين وفق هذا المنهج لا يعني بالضرورة إنهما سيظلان على الدوام [10] متوافقين تلقائياً، إذ لابد من قوة عازمة منظمة تضمن سيرهما، وفق المدار الصحيح، وهذه القوة لا بد لها أن تكون فعالة، وأن تحتل المركز الإستراتيجي الذي يضمن هذا العزل، ويوجه السير، وهو مركز السلطة. ولكن منذ الاستقلال لم يكن مركز السلطة محتكراً للقوى العازلة، بل كان دائماً وأبداً مكان التنازع بين القوى ذات الولاءات القطاعية، وحتى حينما سنحت الفرصة مرتين لأمثال هذه القوى العازلة لتلعب دورها القيادي في الخروج بالسودان من مستنقع التنازع بين الولاءات الصغرى ضاعت الفرصتان بأسرع مما ظهرتا فيه.

    أما الفرصة الأولى فقد سنحت للجيش السوداني حينما قام أو أيد انقلاب 17 نوفمبر 1958م في وقت ضاق فيه الناس على مختلف قطاعاتهم بالحزبية وحكمها، وواجهت الطائفية لأول مرة في تاريخها قوة سودانية تحاول صرعها، وتاقت التيارات الواعية في المجتمع إلى طريق جديد يخرجهم من أزمة الرتابة والضعف التي انحدرت البلاد نحوها، ولكن الجيش فشل في أن يوسع من قطر دائرته بالقدر الذي يسمح لمحيطه بأن يلتف حول محيط كل دائرة أخرى. وقد فشل أيضاً في أن تكون له مغناطيسية جاذبة تعزل القوى المختلفة بعضها، وتضمها له على بُعد خاص لا يغريها به، وانتهى الأمر بالجيش إلى أن أصبح قوة قطاعية انعزلت شيئاً فشيئاً عن بقيةالقوى الأخرى.
                  

02-15-2008, 10:55 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (3/7)

    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت



    أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك،

    كوالالمبور، ماليزيا



    شخَّص الدكتور جعفر محمد علي بخيت في مقاله السابق أُسَّ القلقلة السياسية التي صاحبت استقلال السودان، منطلقاً من فرضيَّة مؤداها أن هذه القلقلة متجذِّرة في ضمور السلطة المركزية، وعجزها عن جذب القوي القطاعية ذات المدارات المحورية إلى مدارها الجامع والمنبسط للجميع، ثم تسخيرها لخدمة الصالح العام. إلا أن تعاظم هذا الضمور والعجز، من وجهة نظره، قد قاد إلى اضمحلال هيبة السلطة المركزية، وأفول شمسها المشعة الجاذبة، ثم تمحورها داخل النفوذ القطاعي الغالب، الذي أغلق نفسه وإنكفأ عليها داخل إطار مصالحه القطاعية الضيِّقة، التي لا ترقى إلى تطلعات الشارع العام. فلا غرو أن هذا التقوقع قد جعل الدكتور جعفر بخيت يعزي نجاح الإصلاح في السودان إلى خيارين متعارضين في طرحهما: أحدهما الخيار العسكري، والآخر الخيار الديمقراطي التصالحي، الذي يسعى إلى خلق وعاءٍ سياسيٍّ مطاطٍ، يتجاوز به إشكالات العجر والضمور السلطوي، ويستوعب من خلاله طاقات القوى القطاعية المبعثرة، ثم ينظمها ويوظفها لصالح السودان وأهله. بيد أنه يرى أن تجربة الحكم العسكري الأولى في عهد الجنرال إبراهيم عبود (1958-1964م) قد أثبتت فشلها كخيار عسكري مطروح، وأسهمت في تحويل المؤسسة العسكرية إلى قوة قطاعية جديدة، متجاهلة لماهيتها الوظفية العامة المُشرَّعة لصون أمن السودان وحماية مقدساته. وبعد تقويم التجربة العسكرية الفاشلة يعرض الدكتور جعفر بخيت مفردات الخيار الديمقراطي التصالحي، الذي تبلور طرفٌ منه في إنبلاج ثورة أكتوبر 1964م، إلا أن تقوقع الثورة وأفولها قد قادته إلى طرح رؤى أُخرى جديدة للإصلاح في السودان في المقالات التالية.



    المقال الثالت

    وقد أشرت إلى ما حدث في 17 نوفمبر 1958م، و21 أكتوبر 1964م من بروز فرصتين كادتا تتيحان للسودان الخروج من الدائرة المغلقة، التي وجد نفسه فيها نتيجة لتضارب مصالح القوى القطاعية، وأفول شمس السلطة المركزية، ولكن ضاعت الفرصتان على التوالي نتيجة لعجز القوى المسيطرة في الحالتين من أن تمدا لسلطانهما مداراً يحيط ويهيمن على مدارات القوى الأخرى، التي هي أصغر اتساعاً وأضعف جاذبية.

    واليوم تعلو الأصوات من كل جانب يطالب بالثورة أو بالإصلاح، وفي كل فم ينشد نغم التجويد والتغيير رائعاً وشجياً، والناس يتساءلون عن الخلاص كيف يكون، وكيف يتم، ومتى؟ بعضهم يرتجي أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء، ونفر يرخون آذانهم لسماع ضجيج العربات المدرعة، وصدى وقع الخطى العسكرية على صعيد الأسلفت، وآخرون يحلمون بالثورة الشعبية بيضاء أو حمراء، تهب من حيث لا ينتظرها الحاكمون، وتلفح بشواظها أو بشعاراتها الصروح المائلة، لتهدمها وتبني من فوقها [7] المبتكر والطريف، وغير هؤلاء من يظن أن دستوراً مثالياً يضمن للوطن والمواطن كل ما هو خير كفيل بإصلاح ما أفسد الدهر.

    وإلى جانب هؤلاء يقف المتشائمون معلنين بأن الأمر فوق كل علاج، وأن البلاد وأهلها قد تهافتوا على النار، وأنه مهما افتن المصلحون، وتحمس الثوريون، فإن البقر المقدس في السودان قد اكتنـز لحماً، وقد طبق شحماً، وأنه قد اعتزل الناس حتى استوحش، وتعالى على الإيناس والإيلاف، فلا يجدي في إصلاحه شيء مما يتدارسه الدارسون في الجامعات، والمؤتمرات، وحلقات النقاش. وأن المخرج للقلة الخيرة هو أن تلجأ إلى جبل يعصمها من الماء، فالطوفان آت لاريب فيه، وليس من بعده بعث ولا نشور.

    ونحن لا نريد أن نخدر الناس بالأحلام أو بالسراب، فلسنا نرى في أشكال الدساتير، ولا في طبقة الحكام، ولا في نوعية الحكم ما يمكن أن يعيد الاستقرار للميدان السياسي في السودان، ويتيح للمؤتمرات المختلفة من أن تتفاعل لتخدم القضايا المباشرة والملحة للمواطن السوداني، بعيداً عن عاصفة الشعارات، وحمى التحمس المذهبي، الذي لا يحفر بئراً لمن يشكو العطش، ولا يزيد غلة الفدان لمن يريد حصاداً رائعاً، ولا يخفض تكاليف الإنتاج لمن يريد صناعة مزدهرة، ولا يعين المتعلم على أن يعرِّف ويتثقف ويؤثر في بيئته.

    و لكننا إلى جانب هذا لا نريد أن يفر الناس بمشاكلهم إلى اليأس، ويستكينوا إلى ما يلم بهم بدعوى العجز عن معالجته. إن القلة الخيرة يجب أن لا تلجأ لجبل يعصمها [8] من الماء، بل عليها أن تسوق الناس للنجاة، لأن الطوفان لا يبقي ولا يذر.

    وما ندعو له يبدو غريباً بمنطق الأحداث الجارية، والعرف السائد اليوم في دنيا الحياة السياسية بالسودان، ولكن الأحداث الجارية وعرفها السائد لا يشكلان ظاهرة مرضية عند الناس، تقيد الفكر، وتحصره في نطاقها. بل الأصوات ترتفع تدعو للتغيير، بعضهم يريده تغييراً في الشكل، وآخر يدعو لتحوير وقلب المحتوى والمضمون، ولهذا فإن تقييم ما ندعو له لا يكون بمقياس ما إذا كان مألوفاً أم لا، ومقبولاً اليوم أو مرفوضاً، ولكن عما إذا كان ما ندعو له يحدث تغييراً أساسياً في التنظيم السياسي، ويوفر الاستقرار، ويهيء للعاملين في الدولة وللمواطنين الفرصة لخدمة قضايا موضوعية لا اتصال لها بمحاولات الإرضاء القطاعي بغية كسب النفوذ.

    إن الطريق الأمثل لخدمة أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والإسراع بتكوين الذاتية السودانية هو إيجاد الجهاز الصالح للقيام بوظائف هذه المهام. ومن الميسور قيام أجهزة طوعية وفردية لرعاية وتحقيق أي هدف من أهداف التنمية، أو خدمة قضية الانصهار الوطني، ولكن أقوى من كل هذه الأجهزة متجمعة ومنفردة هو بروز جهاز يحتكر السلطة، ويستغلها لخلق الجو الملائم للتنمية، وإبراز الشخصية الوطنية. وهذا الجهاز ليكون كفؤاً وفعالاً لا بد أن يملك المميزات التي تجعله مهيمناً، و مسيطراً، و قادراً على توجيه الأجهزة الأخرى.

    وهذه الهيمنة والسيطرة، وهذه القدرة على التوجيه لا تكون بالقهر والبطش المادي، وإنما تعتمد أساساً على ثقل القيم الاجتماعية والسياسية، وقابليتها على موازنة ثقل القيم الأخرى، وقدرتها على خدمة أغراض أكثر شمولاً، وأوسع مداراً من أهداف الأجهزة الأخرى.

    إن تمركز السلطة في الدولة ومسؤولية الدولة عن القيام بواجباتها في الأقطار النامية أمر لم يعد محل خلاف، سواء كان على الصعيد النظري أو الميدان العملي. وقد اندثرت نظريات القرن التاسع عشر الليبرالية، من أن الدولة تحسن صنعاً إذا ظلت بمنأى عن الاشتراك المباشر والفعال في كل مشاكل الأفراد والجماعات، وقصرت مسؤوليتها على نواحي محدودة وشاملة من مشاكل الأمة. وقد اندثرت أيضاً أو كادت نظريات تفخيم وتمجيد الدولة على أساس أنها فوق الناس، وأن مصالحها تعلو على المصالح الفئوية والشخصية، وأنها كائن مقدس، قائم بذاته له حقوق على الأفراد، الذين عليهم أداؤها دون نظر لمواقفهم الفئوية.

    والسائد اليوم أن تحكم الدولة وتهيمن وتوجه لا على أساس أنها جهاز [9] مسيطر باطش، ولكن على أساس أنها أداة لخدمة المصالح العامة، وأنها تعبر عن مشاعر العامة، أو تعبر عن مشاعر الخاصة، الذين يزعمون بأن المشاعر العامة والمصالح العامة تتجسد إما في أشخاصهم، أو في تنظيماتهم، أو في آرائهم، كما هو الحال في البلاد التي تدين بولاء مطلق لشخصيات رؤسائها، أو لحزب واحد، أو لأيدولوجية معينة، أو لكل هؤلاء مجتمعين.

    وبلادنا تؤمن بحق السلطة في أن تحكم، ولكن لا نريد لها أن تتحكم، والمسؤولون عن السلطة لا يباشرون هذا عن حق مكتسب، ولا باعتبارهم أطرافاً أصيلة، ولكن كوكلاء وممثلين، إن مرجع السلطة وأصلها هو الشعب، ولكن الشعب لا يستطيع أن يحكم مباشرة، حتى ولا في دول المدن والقرى، فهو بحاجة إلى تنصيب هؤلاء الوكلاء والممثلين ليحكموه، وهو بحاجة إلى أن يضع الحواجز والقيود بين هؤلاء وبين الطغيان والاستبداد، فنتج عن هذا ما كان من فصل السلطات، ووضع الدساتير، ونصب الحواجز في غير بلادنا، حيث نشأت هذه النظم، ونمت، وشبت عن الطوق، وأصبح تنسيق العلاقات بين سلطات الشعب وأجهزته أمراً يتم أوتماتيكياً. إما عن طريق العادات المرعية أو عن طريق الأيدولوجية المتحكمة، وإما عن طريق سلطات الفرد وأنموذجه المحتذى، ولكننا في السودان لا نملك عادات مرعية، وليست لنا أيدولوجية تتحكم وتسيِّر، وليست هنالك زعامة يدين لها الناس بالولاء المطلق.

    ولهذا أصبحت سلطات الشعب وأجهزته أدوات للتعارض، وطريقاً لتفتت السلطة، وتنازع ولائها، وأصبح الناس بين خيارين: إما ديمقراطية يضطرب فيها الأمر وتفسد فيها الحياة العامة، وإما دكتاتورية تتسلط فيها السلطة وتذهب بالحريات. وهذه هي المأساة التي يحس بعضهم أنها تلف حياتنا العامة. ولكن أهذا الخيار قدر مقدور لانجاة منه ولا فرار؟ أليس هناك طريق وسط كذلك الذي وجده الأقدمون، وعدوه فضيلة الفضائل؟

    وفي حسباني أن ذلك ممكن ويسير، وسيتم إذا أعاد الناس النظر في أمر جهازهم التنفيذي، وأعادوا توزيع اختصاصاته بين جهازين أحدهما دائم، والآخر متغير، ولكن ولاءهما معاً للقانون.
                  

02-16-2008, 08:27 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (4/7)

    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت
    د. أحمد إبراهيم أبوشوك،
    كوالالمبور، ماليزيا
    خلص الدكتور جعفر محمد علي بخيت في مقاله السابق لعدد فبراير 1969م من مجلة الخرطوم إلى أن السودان الحر المستقل لا يمتلك عادات مرعية في شؤون الحكم والسياسة، وليست له أيديولوجية تتحكم في تسيِّر دفة أمور الناس الحياتية، ولم يحظ بزعامة قومية يدين لها الناس بالولاء المطلق، كزعامة سوكارنو في إندونيسيا، وغاندي في الهند. لذا فإن هذا الواقع السياسي السوداني المترهِّل وضع الأهلين بين سندان الديمقراطية الذي يختل فيه النظام الديواني وتفسد الحياة العامة، ومطرقة الدكتاتورية التي تتسلط في السلطة وتذهب بحريات العباد ومقدساتهم. فمن وجهة نظره أن هذه هي المأساة الكبرى التي يعيشها أهل السودان، ويكتوي بشرارها ونارها الضعفاء منهم، لأن أعراضها السالبة تنسحب سلباً على مظاهر حياتهم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ولكن هذا الواقع المتصدع، حسب مبلغ ظنه، لم يدفع القلة الخيِّرة للركون واليأس، بل يحثها دوماً على البحث عن طريق وسط، كذلك الذي وجده الأقدمون وعدَّوه فضيلة الفضائل. وفي المقال الرابع يحاول الدكتور جعفر بخيت أن يعرض السمات العامة والملامح المميزة لهذا الطريق الوسط المنشود، الذي يريد منه مشروعاً يحكم مصالح الناس في السودان، وينظمها عن طريق الوكالة وتفويض الشعب صاحب الحق الأصيل، دون أن يتحكم في مصائرهم وحرياتهم المكتسبة.
    المقال الرابع
    إن أساس مشكلة السلطة بعد الاستقلال في السودان، وفي عديد من الدول النامية، هي أنها صارت منطقة امتداد للقوى القطاعية، يستغلها كل قطاع عندما يحرزها لخدمة أفكاره ومصالحه القطاعية، وفي أحيان كثيرة تجد أجهزة السلطة نفسها محاصرة بالأجهزة القطاعية، أسيرة لرغباتها وأهوائها مما يضعف من احترامها لنفسها وولائها لمثلها. ونسبة إلى تعدد القوى القطاعية وانقسام قواها بدرجة لا يتيسر لقوة ما الانفراد بالسلطة، فإن نتائج هيمنة القوى القطاعية على منطقة السلطة كان فل نفوذ السلطة بدلاً من أن تصير السلطة جهازاً قادراً على البت والتنفيذ والتوجيه، أصبحت أشبه ما تكون بمدية صغيرة يبتغي صاحبها أن يقطع بها حلقوم جمل ضخم كبير العنق، فلا ينال من ذلك إلا جرحاً هنا، وشلخاً هناك.

    إن محاولة تخليص السلطة من أسر القوى القطاعية لإكمال فعاليتها وتوجيهها لخدمة المصالح العامة ليست اتجاهاً يبغي به البيروقراطيون تحصين مراكز نفوذهم، ودعم مذاهبهم في العمل والتفكير، ولكنها أصلاً حركة نبعت في ا لسودان الحديث نتيجة لتجربة الحركة السياسية الوطنية في علاقاتها مع القوى القطاعية، التي ائتلفت معها، واستندت إليها في مقاومتها للحكم الأجنبي، وكانت أول ظاهرة لهذه الحركة اصطدام القيادة السياسية للحكم الوطني بالقيادة الطائفية في مطالع عهد الاستقلال، [6] ثم تصعيد هذا الاصطدام حتى انتهى ببروز القيادة السياسية كقوة مستقلة استطاعت أن تستند إلى سلطة الدولة في الخروج على أمرها وإشارة القيادة الطائفية القطاعية، بل استطاعت أيضاً أن ترفع احتكارها لجماهير مناطق معينة، وأن تنافسها في الشعبية، واكتساب الولاء العاطفي.

    وبرغم من أن قدرة القيادة السياسية على الصمود لم تكن طويلة، إذ استطاعت القوى القطاعية أن تزيحها عن منطقة السلطة، إلا أن الثمن الذي أُجبرت تلك القوى على دفعه كان عظيماً. لقد تناست تلك القوى عداء تاريخياً طال به الأمد، ونفوذاً متنازعاً، وائتلفت خوفاً من خطر داهم كان بالأمس لها ربيباً، ولكنه شب على الطوق واستفحل أمره.

    ولم تقتصر ظاهرة تخليص السلطة من أسر القوى القطاعية على مصرع "القداسة على أعتاب السياسة"، بل تعدته إلى صد وردع حركات التفتت الإقليمية، التي كانت تهدد الكيان الوطني للدولة الوليدة، وكان أعظم نصر للسلطة المتحررة أنها انتقلت بالبلاد من عهد لآخر في هدوء وسلام، ولم يتح لنا تقدير مغانمنا من ذلك إلا بعد أن شهدنا ما سال بالكنغو من دماء، وما جرى في الجزائر من فرقة وتصفيات وعداء بين زملاء السلاح ورفقاء العرق والدم في الجبال، ثم ما تجرعته قبرص من انفلاق في شخصيتها الوطنية.

    ولئن سقطت راية السلطة المتحررة أمام التحالف القطاعي الطائفي اللون فإن تعثر الحكم الائتلافي المستند إلى القوى القطاعية كان دليلاً على أن السلطة المأسورة ليست سلطة فعالة. وقد جاء الانقلاب العسكري متجها اتجاهاً مستقلاً عن دائرة النفوذ القطاعي، بل قد استطاع أن يسيَّر ذلك النفوذ لخدمته بدليل بيانات التأييد المشهورة، بل بلغ تحرير السلطة من الأسر القطاعي في عهد الحكم العسكري أن استطاع [8] الحاكمون أن يحكموا دون جهاز تنظيمي شعبي يسند حكمهم.

    كانت السلطة السياسية متحررة من الأسر القطاعي في عهد الحكم العسكري، ولكنها كانت محروسة بقوة السلاح، ولهذا فقد كانت فعاليتها ضعيفة، إذ يفترض في السلطة القوية الشأن أن تحرس نفسها بنفوذها، الذي يخضع له حتى السلاح، ولهذا عندما رفع السلاح حمايته عن السلطة سقطت في أيدي الثائرين عليها.

    وبعد ثورة أكتوبر تنازعت السلطة القوى القطاعية الكُبرى، بعد أن فشلت القوى الصغيرة الضاغطة في كسر عمودها الفقري، وانتهى أمر تحرير السلطة بائتلاف طائفي متلاطم الأمواج، ابتلع حتى القيادات السياسية التي قادت حركة تحرير السلطة. وقد جنحت حتى العناصر المائلة لتحرير السلطة خارج هذا الائتلاف إلى الحد من غلواء استقلالها، والعمل وسط تنظيم قطاعي.

    لهذا وقد تداعت اليوم معظم الرايات، وكان لابد أن يحمل البيروقراطيون اليوم علم تحرير السلطة، إذ لابد لهذا العلم من أن يحمله أحد. والبيروقراطيون هم اليوم المكتوون بأسر السلطة، والعالمون بحدها المفلول، وهم الخبيرون بمآلها إذا ما هضمتها القوى القطاعية بعد أن ابتلعتها.

    إن السلطة يجب أن تتحرر من أسر القوى القطاعية، لكنها يجب أن لا تحطم ولا تذوب هذه القوى. والنظام الوسطي الذي نحاول شرح معالمه يفترض ليس فقط وجود هذه القوى، بل يفترض أيضاً اشتراكها في استخدام السلطة، ولكنه يشترط أن لا يكون هذا الاشتراك اشتراكاً آسراً، حتى لا تفقد السلطة فعاليتها، لأنها إذا أُسرت أصبحت أداة موجهة ذات ولاء جزئي، في حين أنها إذا ظلت حرة كان ولاؤها عاماً ومتجهاً لتحقيق المثل العليا، التي ارتبط تاريخها بها.

    السلطة إذن يجب أن تكون مركزاً لقوتين: إحداهما باقية ثابتة، والأخرى متغيرة ومتجددة. القوة الثابتة ملتصقة بمركز السلطة، بل هي مظهرها، والقوة المتغيرة نابعة من مناطق القطاعات، يجددها تغير ميزان القوى الاجتماعية في المحتوى، ويبرزها شكلاً أنواع الانتخابات المختلفة. والعلاقة بين القوتين لابد أن تكون علاقة محددة واضحة، لا تُترك لعفوية التصرف الفردي، ولا لمبهمات الحديث المعمم عن التقاليد الدستورية، ودور الخدمة المدنية تجاه النائبين عن الشعب.

    يمكن تحديد هذه العلاقات بين القوتين إذا أتيح لنا تقنين السلطة، والنظر لها كجهاز ذي اختصاصات، تتقسمه هاتان القوتان، لا لأن التقسيم وسيلة لتوزيع أسلاب السلطة، ولا لأنه طريق تكتسب به الحلول الوسطى، التي يتراضى بها الناس، ولكن لأن [9] التقسيم أمر حيوي لأداء تلك الاختصاصات المرتبطة بجزئيات الجهاز ارتباطاً وثيقاً، كارتباط مهام عضو من أعضاء الجسم بذلك العضو.

    لنقنن السلطة ونحدد وضعها الوَظِفيّ كجهاز، لابد لنا أن نقف قليلاً عند ماهيتها، وفحواها، ودورها الاجتماعي في الحقبة التاريخية التي تمر بلادنا بها. إن السلطة ترتبط أساساً باتخاذ القرارات، وخلق الأحداث، وهي إذا جنحت لهذا باستخدام القهر كانت تسلطاً، وإن اعتمدت إليه عن طريق الإقناع والرضا سلباً كان أو إيجاباً اكتسبت الشرعية. ولكن تسلط السلطة أو شرعيتها لا يغير كثيراً من مضمون فعاليتها، فهي هيمنة على الأحداث، وتسيير للناس، ولكن هذه الهيمنة الغليظة البغيضة تتغلف بتبريرات مقبولة للنفس.

    إن أهم تبرير لهيمنة السلطة هو أنها في مجتمع متفتت الولاء كالمجتمع السوداني تشكل القوة الجامعة لتنظيماته والقادرة على صهرها وتوجيهها. إن هذا التجميع يتم أحياناً بالرضا، ولكنه في أحوال أخرى يتم بقهر غير غليظ ولا عنيف. وتقسيم السلطة بين القوتين اللتين أشرنا لهما آنفاًً مرتبط بنوعيه التجميع هذا.
                  

02-18-2008, 09:51 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    up
                  

02-18-2008, 10:04 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (5/7)
    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت
    د. أحمد إبراهيم أبوشوك،
    كوالالمبور، ماليزيا
    عرض الدكتور جعفر محمد علي بخيت في مقاله السابق مرتكزات الطريق الوسط، الذي عدَّه الأقدمون فضيلة الفضائل التي كانوا ينشدونها، وفق ثنائية تكاملية، طرفها الثابت يرتكِّن إلى مركز السلطة، ويمثل مظهرها العام؛ وطرفها المتغير يستمد شرعيته من حراك القوى القطاعية، الذي يتجدد حسب تجدد ميزان القوى الاجتماعية، ويبرز ثقله السياسي عن طريق التدافع الديمقراطي، الذي تحدده صناديق الانتخابات المختلفة. إذاً إن هذه العلاقة الثنائية، من وجهة نظره، لا تقوم على إقصاء أية قوة من القوى القطاعية لمصلحة قوة أخرى، بل تسعى جاهدة لتوظيفها جميعاً في خدمة الشأن العام، ويقترح لصون هذه العلاقة الجدلية بين الثابت والمتغير جملة من القوانين واللوائح التنظيمية، التي يسنها ذوو الاختصاص ويتعاهد عليها الجميع. ثم يثمِّن شرعية هذا التقنين بأنها لا تهدف إلى تقسيم السلطة واستلابها وتقطيع أوصالها، ولا تشكل حلولاً وسطى تتواضع عليها القوى القطاعية لتحقيق كسب عارض، بل هو أمر حيوي لضبط أداء الثابت والمتغير في نسق منظومة تهدف إلى صون المصلحة العامة وتسويرها، وهذه المنظومة تُعرف في قواميس الدراسات السياسية بـ"الرؤية الاستراتيجية". ويفصِّل الدكتور جعفر بخيت في مقاله الخامس والصادر في أبريل 1969م ما أجمله بشأن الطريق الوسط، وطبيعة الرؤية الاستراتيجية المصاحبة له، وآليات تفعيله على صعيد الواقع.
    المقال الخامس
    إن هيمنة السلطة على عجلة الحياة العامة، وتوجيهها لأسباب التطور في البلاد، وتحكُّمها في شكل الحياة المقبلة، يبرره في السودان تفتت الولاء، وبلورة وتعدد مراكز القوى، وحاجة المواطنين بولاءاتهم المتقسمة إلى ضروب من الخدمات الاجتماعية، مرتبطة أساساً بالدولة الحديثة، التي يحتاج قيامها إلى قوة لها فعالية على تجميع الطاقات المشتتة وصهر عناصرها، ومثل هذا التجميع قد يتم بالرضا، وقد يتم بنوع من القسر لا يرقى إلى منتهى القهر، وإنما هو نوع من الضغط ليس بالعاتي ولا العنيف.
    لقد عزلت فكرة ديمقراطية الحكم وزوال التحكم المتسلط منهجية التجميع بالعنف [13] القاهر، بل أن تجميع القهر المستبد لا يصح أن يسمى تجمعاً، فهو تحريك للعناصر المتجمعة على غير رغبتها، وهو حشد لها لم يضع في الاعتبار قدرة العناصر المتجمعة على الحركة الذاتية، وارتباط قوتها المنبثفة منها بوضعها البيئي.
    إن السلطة في السودان لتكون فعالة دون أن تكون فعاليتها ضرباً من ضروب الاستبداد، لا بدَّ أن يتقسمها محوران: محور يدور على حكم الرضا والولاء الذاتي النابع من النفس والقطاعي المنحي، ومحور آخر يرتكز على الحكم بالتوجيه المنفصل عن سيطرة الاتجاهات المهيمنة والجماعية الاتجاه.
    لقد كان المحور الثاني أرسخ مكاناً في عجلة السلطة، وأقدم عهداً، وبالتالي ارتبط بإنجازات أخلد في الحياة العامة، وتقاليد أقوم، ولكن لفترة طويلة كان هذا المحور يرتكز عليه محرك تديره طاقة من العنف والعنف الغليظ. ولقد أدى هذا إلى أن اختلطت السلطة التوجيهية بالسلطة الاستعمارية، وفسر الولاء المهني والنظرة الجماعية بأنه تعبير عن الاهتمامات غير الوطنية، بل حتى منجزاته الاجتماعية والاقتصادية فقدت دلالاتها الذاتية، وأصبحت فقط تعبيراً عن الرغبة في حفظ الأمن والنظام.
    أما المحور الأول فهو نقطة ارتكاز التجمعات المحلية على أشكالها العامة، وهو الميدان الذي تبرز فيه القوى القطاعية موضحة اتجاهاتها ورغباتها. والحركة الوطينة كما قد عبرنا عنها في مقال سابق إنما هي في حقيقتها تجمع للقوى القطاعية، واقتحامها لميدان السلطة واحتلالها له. والذي نريد هو إزالة آثار العدوان، عدوان السلطة القطاعية على غير ميدان تخصصها واهتمامها. والذي نريد هو أن نرد للسلطة الموجهة المرتبطة بالولاء المهني اعتبارها القديم، وفعاليتها بعد تخليصها من آثار التسلط الاستعماري.
    إن فعالية السلطة ترتكز على الجهاز التنفيذي، وهو اليوم محل احتكار أهل النفوذ القطاعي، وقد وصلوا إلى ذلك بالإثارة والاحتكام إلى الناخبين وأصواتهم، والجهاز التنفيدي يحتاج لأن يفك عنه أسر العقلية القطاعية المرتبطة بالنادي والشارع، والتي تنعكس صفاتها في الليلة السياسية، وفي الشعارات التي تقيد سير الحياة العامة، لأنها تربط سياسة السلطة بأماني ليست بعيدة عن الأحلام، وتبعدها عن الواقع المعاش، وتترك السلطة سجينة تاريخ قديم أو حديث، هي في الوقت نفسه خلقته من العدم. الجهاز التنفيذي إذن ليس احتكاراً قطاعياً خالصاً، وإنما هو وحدة محركة تعمل بمحركين، لكل منهما شكله الخاص، وكل واحد منهما تنفجر طاقاته بوقود خاص. إن مركبة كهذه غريبة في عالم المركبات، حتى الفضائي منها، ولكننا نعيش أيضاً في واقع أغرب من واقع الفضاء سياسياً واجتماعياً، ولهذا فإننا نخطئ إذا استبعدنا ما هو غريب بحكم تجارب غيرنا، مهملين واقعنا واحتياجاتنا.
    [14] ووفقاً لهذا فإن الجهاز التنفيذي الذي تتمركز السلطة فيه يجب أن يكون للمحور المرتكز على السياسة الموجهة بالاعتبارات المهنية ميدان فسيح فيه، وسلطة هذا المحور لا ينبغي أن تكون قاصرة ومقصورة على دائرة ضيقة، هي التي تفصل بين مكتب الوكيل والوزير في الوزارة، بل إنها يجب أن تكون مستقلة وضاربة في الأرض نفوذاً وأعواناً وتقاليد معروفة للعمل. وهذه السلطة المكتبية لكي نمنعها من أن تصير تسلطاً فردياً يجب أن تستمد صلاحياتها من قانون يقترحه ويقدمه ويبني سياساته رجال السلطة الأخرى في الجهاز التنفيذي، الذي لأهله حق التوجيه العريض، ولكن ليس لهم حق المباداة في تقرير طرق التنفيذ أو توليه عنوةً واقتداراً.
    إن ممثلي القوة القطاعية يفسدون السلطة وتفسدهم السلطة، ولو ترك لهم محور السلطة المكتبية ليديروه فسيديرونه بما يعرفون، وما يعرفون لا يصلح للعمل به من حيث أنهم لو اكتفوا بواجب التوجيه العريض لمثلوا القيم القطاعية واتجاهاتها، وأعطوا الإدارة صورة عن المناخ الفكري الذي ستتفاعل معه، وتتأثر به القرارت الإدارية.
    إن الجهاز التنفيذي وهو تحت ضغط الثقل القطاعي، قد توزعت وزاراته ثلاثة اتجاهات: اتجاه يرضي الأنصار بالخدمات الاقتصادية، واتجاه يرضي الزعماء القياديين بامتيازات ذات أنواع وأنماط، واتجاه يرضي (طلابه الحمر) بامتيازات من الجاه والسلطان، ولكل اتجاه وزاراته. وإنني أخال زعماء المشاعر القطاعية قد ضجوا بالشكوى مما يلاقون من عنت وإرهاق في الاستجابة لأنصارهم، ولابد أنهم سيرون إذا ما تولي الجهاز العام كل المهام التي تستثير الشكاوى والطموع، فيتفرغ أهل الاتجاه القطاعي للتوجيه العريض ورسم السياسات.
    وإذا ما استجيب لهذا ستكون رخص الاستيراد، والأسلحة، والطلمبات مثل الرخص التجارية، محل مسؤولية المكاتب الإدارية، وسينتهي ما نسمعه من فساد أو استقلال النفوذ، وهذا أمر قد لا يرضاه الجميع.
    إننا نحد من سيطرة محور النفوذ القطاعي، لا لأننا نريد دولة الموظفين وسيطرة البيروقراطيين، ولكن لأننا نبتغي تقوية دور ومركز الوظيفة، ونبتغي إعلاء سلطة المكتب، وممارسة السلطة ليست ضرباً من التصرف العفوي، وإنما هي احترافٌ له تقاليده ومثله وإجراءاته، فإذا سلمنا بحق السلطة السياسية، وهي في واقعنا المعاصر تحالف لقوى قطاعية معينة ذات ارتباطات فردية وفئوية في التوجيه العريض، ورسم [15] السياسات، وفي حقها أن تمارس نشاطها في ميدانها بما ألفت، وتحذق من أساليب كانت تلك أساليب السلطة الزرقاء، أو أساليب حفلات الشاي، أو تجمعات ما بعد الصلاة، فإن السلطة الإدارية يجب أن تسير أمورها وفق ما ينبغي لها.
    وتوزيع السلطة بين محويين: المحور السياسي القطاعي النزعة ذي العقلية المنفعلة أبداً بالضغوط الفئوية الإقليمية، والمتأثرة كثيراً بالنتائج السريعة المتوقعة في المستقبل القريب، والمحور الإداري ذي الولاء العام المتنامي فوق الارتباطات القطاعية، والانحياز الضيق الذي تسيره العقلية المكتبية، وهو أكثر حساسية للنتائج ذات المدى البعيد، وأقل انفعالاً بالضعوط اليومية النابعة إما من حوادث فردية، أو من واقع طارئ ليس له من الديمومة ما يبرر تغيير القوانين وقلب الأوضاع.
    توزيع السلطة بين هذين المحورين يحتاج إلى تفصيل وتحديد، لأنه لو ترك لمبهمات المثل، وظل الحديث عن التعاون والمصلحة العامة وخدمة الوطن، لغدا محل التنازع والتغول ثم الدسائس والمؤتمرات، وانتهى أمره أخيراً إما بالكبت وإما بالعصيان. والتوزيع المفصل المحدد يتم لشيئين: نصوص دستورية واضحة عن واجب الجهازين السياسي والإداري في السلطة التنفيذية، وقوانين ولوائح متعددة توضح كل العمل الإداري، لكل وزارة، وإجراءات أعمالها، وحدود مسؤوليات موظفيها، وعلاقات وإجراءات العمل بين المكتب السياسي للوزارة والمكتب الإداري.
    والجهاز السياسي ممثلاً في مجلس الوزراء وفي المكاتب السياسية المختلفة بالوزارات أكثر من غيره حاجة لتقنين وتأسيس إجراءاته وأعماله، إذ هو حديث العهد كجهاز يمارس السلطة وليس عنده من التقاليد ما ييسر له ممارسة عملية دون الحاجة لنصوص ولوائح، بل التقاليد التي لديه نابعة من خبرة غير مكتبية قائمة أساساً على الانفعال المستثار نتيجة حدث فردي أو واقع طارئ. ولقد كان نشاط الحركة الوطنية أصدق تعبير عن هذه الخبرة، إذ ارتبطت بالحوادث الفردية، وغدا نشاطها نوعاً من "النوبات" أو الانتفاضات الموسمية.
    وأعمال مجلس الوزراء في كل العهود بعد الاستقلال لم تستطع أن تخرج من أسر الخبرة التاريخية، التي نالها العاملون في القطاع السياسي، واصطبغت بها الحركة الوطنية، والحياة السياسية عموماً، والتي تميزت بقصر النفس وبفقدان عنصر المباداة، وعدم القدرة على مواجهة الضغوط لصدها أولاً، ثم الارتفاع فوقها ثانياً، ثم العمل على توجيهها بالاستجابة أو بالصد في حرية، وربما كانت هناك بعض المحاولات الناجحة في هذا المضمار، ولكنها فيما عدا تجربة الحكم الذاتي التي انتهت بالاستقلال، والتي لا نجد لها مثيلاً في معظم الأقطار النامية، ولا في تاريخنا المعاصر، كانت كلها محاولات متعثرة أجهضها ضغط الحوادث المعاصرة، أو عدم استقرار السلطة السياسية لوقت كاف في أيدي معلومة.
    [16] وقد أدت زحمة الأحداث وتتابعها إلى أن تزدحم أجندة مجلس الوزراء بالأعراض الطارئة والمسائل المحددة، ورغم أن بعض مسائل الإصلاح قد اهتم بها، لكن هذا الاهتمام هو أيضاً قد أخذ الشكل الفردي الإداري. وكثير من القلقلة التي نشكو منها راجع إلى هذا الانغماس المبالغ فيه في معالجة كل المشاكل الإدارية، والتي يزيد في حدتها وفي خطرها أن المتقلدين للسلطة ورغبتهم في أن يحققوا أكبر قسط من السياسة وتركيزها في نطاق محدد، حتى رغبتهم في أن يحققوا أكبر قسط من المطالب الفئوية ليتصدون لكل مشكلة من شكاوى المزارعين عن زيادة تكاليف الإنتاج إلى مظاهرات الباعة المتجولين، حتى أصبحت قطاعات السلطة لا معنى لها، وحتى كدنا نعود لبدائية السلطة، حيث تتركز في فرد يجلس تحت شجرة أو في قصر يقضي فيه الأمور بالفطرة السليمة، بلا ملف، ولا مكنة كتابة، ولا لوائح أو سوابق.
    كل هذا يستلزم تحديد وتقنين السلطة السياسية وتركيزها في نطاق محدد، حتى يتم بناء تقاليد لها، ثم من بعد ذلك يمكن تعديد صلاحيتها، وإيجاد متنفس إداري لنفوذها، وفي علاقة الجهاز السياسي بالإداري يجب أن نضع في الاعتبار، ليس فقط نظريات التنظيم السياسي، ولكن أيضاً الواقع في السودان. إننا كلنا ننشد التغيير، ولكن من الذي يحقق ويمثل إرادة التغيير عن طريق السلطة؟ السياسيون أم المكتبيون؟ هذا ما سنوضحه مستقبلاً.
                  

02-18-2008, 10:16 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (6/7)
    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر محمد علي بخيت
    د. أحمد إبراهيم أبوشوك،
    كوالالمبور، ماليزيا
    سلَّط الدكتور جعفر محمد علي بخيت في مقاله السابق ضوءاً ساطعاً على أهمية الجهاز التنفيذي، الذي يقوم على ثنائية الوظائف الوزارية والمهن الإدارية، مقترحاً أن المسافة التي تفصل بين مكتب الوزير في الوزارة ومكتب الوكيل، الذي يتسنم قمة الهرم الإداري، يجب أن تكون مسافة واسعة ومُقنِّنة لطبيعة العلاقة التي تجمع بين طرفيها، تقنيناً يحصر عطاء شاغلي المناصب الوزارية في رسم السياسات العامة، ووضع الخطط الاستراتيجية، مع الاستئناس بآراء مستشاريهم من ذوي الخبرة المهنية والكفاية الإدارية، دون أن يكون لهم حولٌ أو طولٌ في الإجراءات التنفيذية الروتينية التي تعدُّ من صميم عمل الجهاز الإداري. وحجته في ذلك أن شاغلي المناصب الوزارية يفسدون العمل التنفيذي، إذا ترك لهم الحبل على الغارب، لأنهم أصحاب نزعة قطاعية منفعلة أبداً بالضغوط الفئوية، ومتأثرة دوماً بالنتائج السريعة والمتوقعة في المستقبل القريب، وذلك بخلاف الإداريين من ذوي الولاء العام، المتسامي فوق الارتباطات القطاعية والانحيازات الضيقة، وذلك وفق أدبيات العقلية المكتبية، التي تُعدُّ أقل انفعالاً بالضغوط اليومية النابعة من الحوادث الفردية العارضة، وأكثر صرامة مع الوقائع الطارئة التي تبرر تغيير القوانين، وقلب الأوضاع الإدارية رأساً على عقب. وفي ضوء هذه الرؤية الإصلاحية بعيدة المنال في سودان ما بعد الاستقلال ينتقل الدكتور جعفر بخيت إلى قضية التغيير والتحديث، التي جعلها محور مقاله السادس والأخير، الذي صدر في شهر يونيو 1969م، أي بعد بضعة أيام وليالٍ من تشيع نعش الديمقراطية الثانية (1964-1969م)، واستبدالها بالذي هو أدنى، حكومة عسكرية معضدةً بقوى قطاعات اليسار والقوات المسلحة.
    المقال السادس
    هناك اتفاق يكاد أن يبلغ الاجماع بين المهتمين بالشؤون العامة من أن دور السلطة في قيادة المجتمع وتوجيه سيره وتحديد مثله دور أساسي وطليعي، لابد لها من القيام به، وحتى في المجتمعات التي قطعت شوطاً بعيداً في التقدم الحضاري، والتي كانت تترك ميداناً كبيراً للجماعات الصغيرة والوحدات القطاعية، لتقوم بأمره، وتهيمن على شؤونه، وتؤكد دور الدولة في السيطرة الموجهة.
    لكن الناس قد اتفقوا حول هيمنة السلطة ودورها التوجيهي، وحقها في قيادة مجتمعاتها، واختلفوا فيمن يدير السلطة ويوجه دفتها، واختلفوا في الحق الذي يبرر ذلك ويلزم الغير به. لقد صار من نافلة القول أن الأمم المتخلفة تحتاج للسلطة، وتستخدمها لتنمي طاقاتها، وتحدد جوانب حياتها، وقد أصبح مقبولاً أن أجدر الناس بالسلطة هم الناس أنفسهم، ينيبون عنهم أقدرهم على قيادة عجلة التجديد، وأكثرهم استجابة لإرادة التغيير، ولكن مَنْ الذي يمثل إرادة التغيير، ومن الذي يحقق التجديد المنشود؟
    قالوا عن إرادة التغيير في السودان أنها تمثلت أساساً في رفض البيروقراطية، وفي تحقيق رغبات الشارع. وقالوا إن الذين يمثلون إدارة التغيير هم الجالسون على الجمر المتقلبون على اللظى، الذين إن خانوا أمانة الشارع أو تلقموا بها كان مصيرهم إما لزالنجي أو لجوبا.
    وقد نفى هؤلاء أن تكون إرادة التغيير عند المكتبيين البيروقراطيين الجالسين في الأبراج العاجية، الذين يحيون مع الملفات، يودعون حاكماً ويستقبلون آخر بالمذكرات، والقوانين، والإشارات لخطابات سلفت، واجتماعات عفا عليها الزمان، وهم في غفلة عن الشارع ومتطلباته وآماله.
    ولقد أنذر مسؤول كبير في دولة السودان البيروقراطيين فيها أن ينتبهوا للمصير [66] المحتوم، الذي سيحل بهم إن أهملوا مطالب الشارع يوم أن تمتلئ بالشارع الجيوش، إما في البزات الرسمية، أو في لباس الأهالي الغبش، تبتغي الجديد وتطلب التغيير. وقد أنكر المسؤول الكبير على الخدمة المدنية أن تدعي لنفسها حق التوجيه، وهي مؤسسة محدثة نشأت بعد الاستقلال، ولم ترتبط بآمال الناس ومصائرهم ارتباط الحركة السياسية، التي أحدثت أكبر تغيير في حياة الناس، فمنحتهم الحرية، وهيأت لهم أسباب الحياة الكريمة، وخلقت الفرص لهم لينمُّوا كل طاقاتهم.
    ونحن لا نريد أن ندفع عن الخدمة المدنية سبة، أو نحملها من المآثر ما هي غير جديرة به، وإنما نريد لميزان التقييم أن يستوي، ولإدارة التغيير أن يعبر عنها أهلها. نريد للسلطة أن تكون ملكاً مشاعاً بين كل القادرين على فرض إدراة التغيير، لا تنفلت بها فئة من السياسيين أو البيروقراطيين، وتجعلها لنفسها وقفاً، مستأثرة بحق التوجيه، ومنكرة على الفئات الأخرى الدور الذي يهيئه لها تراثها التاريخي، وفعالية جهازها في استراتيجية التنمية ودفع عجلة التطور.
    إن أجدر الفئات بحمل أمانة التجديد، ودفع حركة التقدم، وتحقيق إرادة التغيير هي الفئات ذات الولاء العام، المستقلة عن تيارات الخضوع القطاعي، الذي تمثله تيارات التجديد والتغيير حقاً وصدقاً. إن إرادة التغيير مرتبطة بالعقلية المجددة، القادرة على تحرير نفسها من أسر المثل الذاتية، أو هي بشأن التجديد متطابقة مع العقلية المكتبية المستمدة من النظرة الموضوعية المنهج التحليلي القائم على الاستقراء من حقائق مجمعة وممحصة، والمعتمدة على نتائج تؤيدها مقدمات تحقق افتراض صحتها، وقد جربت هذه النتائج فتكرر بالبرهان العملي ثبوتها اليقين.
    هذه العقلية المكتبية تستمد قوتها من خبرة أصلية، ومن تراث متواصل الحلقات منتثر في الملفات هذه التي يحتقرها البعض، وهي في الحق أساس كل عمل جدي. والملفات بوجودها وبإلزامها تشكل نوعاً من التقييد على السلطة، تبلغ درجة التقييد الخلقي، فيمنعها من الجموح، ويحدها عن التعاون، ويعظها عن المحاباة.
    وهي تيسر للماسكين بأزمة الأمور، بأن يبنوا تخطيطهم على سوابق مدروسة، وبدايات قد جربت وتحقق مدى فعاليتها، وهي تُمكن المسؤولين من أن يعيدوا النظر فيما سبق اتخاذه من قرارات وفق تغير الأحوال، فيعدلوا منه ما شاؤوا حتى يستقيم لهم الأمر.
    أين كل هذا من فئة تعمل بوحي الشارع، وتطلعاته المفاجئة، وعواطفه المذبذبة، وأهوائه التي لا ضابط لها ولا مقيد. إن إرادة التغيير لتكون هادفة للخير لابد أن تكون موضوعية، بعيدة عن أسر العواطف القطاعية وولاءاتها المحدودة، وهي في شمولها الآسر لابد وأن تصطدم بالصخور المحلية، ولكن عليها أن تذيب هذه الصخور من بحر التغيير الطامي.
    إن الحركة السياسية بتاريخها المعروف، وارتباطاتها القطاعية تعجز أن تقود حركة التغيير، لأسباب تتصل بالمُثل أولاً، والاستراتيجية العملية ثانياً.
                  

02-18-2008, 10:35 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير احمد ابراهيم ابوشوك
                  

02-20-2008, 05:28 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق
                  

02-20-2008, 07:52 AM

سميح جمال

تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    اعلى
    للفائده
                  

02-21-2008, 08:59 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سميح جمال)

    شكرا ليك كثير يااخ سميح جمال ياكلك فهم وذوق
                  

02-21-2008, 12:46 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق لمزيد من الفائدة
                  

02-22-2008, 10:42 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة وتنازع الولاء في السودان (7/7)
    قراءة تحليلية في أطروحات الدكتور جعفر بخيت والتجربة الماليزية المعاصرة
    د. أحمد إبراهيم أبوشوك،
    كوالا لمبور
    في خاتمة هذا المسح الشامل لمقالات الدكتور جعفر محمد علي بخيت، نجمل القول في أن معظم قيادات القوى القطاعية في السودان لم تحتف بأطروحاته الإصلاحية عندما كان جعفراً يغرد خارج سرب السلطة السياسية، وقد هجره بعض المعجبين بفنِّه عندما أضحى مُنظِّراً لحكومة مايو العسكرية (1969-1985م)، وفي كلتا الحالتين كان واقعه أشبه بواقع أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبئ (ت. 965م) وعبد الرحمن بن خلدون (ت. 1406م)، لأننا إذا نظرنا إلى سلوكهما السياسي وتطلعاتهما البلاطية لوضعنا أعمالهما الأدبية والفكرية موضع جرح وتعديل، وإذا قرأنا تلك الأعمال بتجرد وموضوعية لأدركنا عبقرية الرجلين، وعظمة أسهاماتهما الأدبية والفكرية في إثراء المكتبة العربية. وينطبق واقع الحال هذا على المقالات الست المتميزة، التي نشرها الدكتور جعفر بخيت في مجلة الخرطوم، قبل أن يكون سانداً للسلطة السياسية، والتي يستحسن أن نثمِّنها بمعزلٍ عن ممارسة الرجل الوزارية اللاحقة في حكومة مايو، التي اختلف الرأي العام بشأنها إيجاباً وسلباً، لأن هذه المقالات لم تكن مراثيَ جوفاء، ولا عويلاً أخرقَ على واقع السودان المتصدع آنذاك، وإنما هي استقراء واعٍ، وقراءة ذكية لما بين سطور الأقدار السياسية وملحقاتها، وتصلح أيضاً للاستئناس والاستشارة في تقويم الوضع السياسي الراهن في السودان، وفي تشخيص تقوقع السلطة السياسية التي فقدت بوصلتها الاستراتيجية في عهد العولمة الوضعية المعاصرة، وسيادة الدولة القُطرية المحاصرة. إذاً ما هي الدروس والعبر التي نستخلصها من إعادة قراءة هذه المقالات، وكيف نزاوج بينها وبين واقع السودان المعيش، وأدبيات التجربة الماليزية الرائدة مضموناً ومعنًى، والتي أفلحت بفضل عطائها السامق في أن تصنع من نفسها أنموذجاً سياسياً مرموقاً في جنوب شرق آسيا، وفي أن تنمي مواردها الطبيعية والبشرية تنميةً متوازنةً ومفارقةً لمعدلات النمو المتذبذبة في معظم بلدان "العالم الثالت"؟
    أولاً: أزمة الرؤية الاستراتيجية
    كانت أزمة الرؤية الاستراتيجية التي يعاني منها سودان ما بعد الاستقلال واسطة عقدٍ للمقالات التي نشرها الدكتور جعفر محمد علي بخيت، لأن أعراضها الأولى تجلَّت في ضعف السلطة السياسية المركزية، ذلك الضعف الذي شخَّصه الراوي بأنه بيت الداء ومفصل الإعياء والفشل. وحسب تحليله الثاقب، فإن غياب الرؤية الاستراييجية هو الذي أدي إلى عجز الحكومات السودانية المتتالية -سواء كانت مدنية أو عسكرية- من وضع دستور دائم يتعاهد عليه الناس، باختلاف ألوان طيفهم السياسي، ومشاربهم الفكرية، ثم يتواضعون على مرجعيته الثابتة في حل نزاعاتهم الآنية، وما تحبله لهم الأيام والليالي من قضايا وخلافات مصيرية. وتعني مرجعية الدستور في هذا المضمار الاستقرار السياسي القائم على التسامح الوطني وسماع الرأي والرأي الآخر عبر مؤسسات ديمقراطية راشدة، وتعني تطوير قدرات القوى القطاعية في تحقيق كسبها الجماهيري المشروع وتوجيه ذلك الكسب في خدمة الصالح العام، وتعني تحقيق التنمية المتوازنة بين المركز والتخوم (أو ما يعرف بالهامش). فإن غياب هذه البوصلة الاستراتيجية الموجِّه لمسار أهل السودان قد أدى إلى إندلاع مشكلة الجنوب، وتداعياتها السياسية والعسكرية، وإلى جدلية الحلقة المفرغة بين المؤسسة العسكرية ومنظمات المجتمع المدني بشأن تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأخيراً تبلورت حصيلة هذه الأزمة في طبيعة الحراك السياسي القائم الآن في السودان، الذي أصبح حراكاً محموماً ومهووساً بهاجس السيطرة القطاعية، الأمر الذي قوَّض حيادية السلطة السياسية المركزية، وجعلها تدور في فلك القوة الغالبة والمسيطرة، التي تحرس نفسها وزبانيتها بقوة السلاح التي لا تقوى دوماً على قهر إرادة الشعوب وسلب حقوقهم المكتسبة، ولكنها في الوقت نفسه تفشل في تحقيق العطاء المثمر والتواصل الإيجابي الجاد بين أهل الوطن الواحد، ويتحول بذلك التدافع الفكري والسياسي إلى صراع طاحن ومدمر، تحكمه سيناريوهات عسكرية، تقوم على منطق القوة وأسلوب الغاب. ويصبح شأن القضايا الداخلية شأناً دولياً، يُناقش على طاولات مجلس الأمن ومؤسسات المجتمع الدولي، وتحاك المؤامرات بشأنه على موائد القوى الأمبريالية الطامعة في ثروات السودان وموارده الطبيعية، وهنا يختلط الحابل بالنابل، ويضحى الشأن الوطني شأناً متنازعاً حوله محلياً وإقليماً ودولياً، وتظل سيادة الدولة القُطرية سيادة منقوصة ومحاصرةً.
    ثانياً: تدهور الخدمة المدنية
    عوَّل الدكتور جعفر محمد علي بخيت على أهمية الخدمة المدنية العامة، التي أربك عطاءها قادة العمل السياسي -(ومن بينهم الراوي نفسه)- الذين نعتوا أفراد طاقهم الفني والإداري بالعجر عن التغيير والتحديث، بحجة أنهم بيروقراطيون جالسون في أبراج عاجية، يحيون مع الملفات، ويودعون حاكماً، ويستقبلون آخر بالمذكرات، والقوانين والإشارات لخطابات سلفت، واجتماعات عفا عليها الزمن، وهم في غفلة عن الشارع ومتطلباته وآماله. ووصف بعضهم مؤسسة الخدمة المدنية العامة بأنها مؤسسة مُحدثة نشأت بعد الاستقلال، ولم ترتبط بآمال الناس ومصائرهم ارتباط الحركة السياسية التي أحدثت أكبر تغيير في حياة الناس، فمنحتهم الحرية، وهيأت لهم أسباب الحياة الكريمة، وخلقت الفرص لهم لينمُّوا كل طاقاتهم. بيد أن هؤلاء نسوا أو تناسوا أهمية الخدمة المدنية العامة، التي كانت تستمد قوتها من خبرة أصيلة، ومن تراث متواصل الحلقات منتثر في الملفات المكتبية، التي احتقرها ممثلوا القوى القطاعية في السودان، دون أن يدركوا أن الملفات بوجودها المعلوماتي وبإلزامها القانوني تشكل نوعاً من التقييد على السلطة، يبلغ درجة التقييد الخلقي، فيمنعها من الطيش الإداري، ويحدها عن التهاون، ويعظها عن المحاباة والفساد. وواضح من عرض الدكتور جعفر بخيت، الذي لا نبرِّأه من تهمة المشاركة في تدهور الخدمة المدنية في السودان، أن العقلية الاستراتيجية في السودان لم تدرك قيمة الخط الفاصل بين شاغلي المناصب الوزارية وسدنة الخدمة المدنية العامة، ذلك الخط الذي يضع على عاتق قادة التوجهات القطاعية مسؤولية صياغة السياسة العامة وتحديد مسارات الرؤى الاستراتيجية، ويلزم في الوقت نفسه شاغلي الوظائف التنفيذية ذات البُعد الإداري والفني أن يقوموا بترجمة هذه السياسة على صعيد الواقع، وفق أجندة تخدم مصلحة الشارع العام والرؤية الاستراتيجية التي توافق عليها الناس. فإن غياب هذه النظرة الديوانية الحاذقة قد كان ولايزال من أمات التحديات التي تواجه أهل السودان حكاماً ومحكومين، والتي جعلت القائمين بأمر السلطة السياسية يستبدلون الذي هو أدنى (الولاء) بالذي هو خير (الخبرة)، ويفسحون المجال للعمل التنفيذي والإداري الأخرق، الذي لا يلتزم بأدبيات الخدمة الديوانية، والأعراف المهنية المرعية في الخدمة المدنية العامة، ومن ثم تصدر القرارات التنفيذية في المحافل العامة، والتجمعات الجماهيرية دون دراسة أو تمحيص، ويُؤسس بعضها على استشارة بطانة قطاعية لا تفكر إلا داخل النسق التنظيمي والمطامع الذاتية. وبذلك فقدت الخدمة المدنية العامة في السودان مصداقيتها وحياديتها، وأصبحت كـ"المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
    ثالثاً: التغيير والتحديث
    كانت عملية التغيير والتحديث واحدة من المحاور التي تطرَّق إليها الدكتور جعفر محمد علي بخيت في صُلب أطروحاته الإدارية، وعرض معالمها بغية ترقية العطاء السياسي والإداري في السودان. ولنوطِّن لهذه المعالم في إطار التجربة الماليزية دعونا نسترشد بخبرة رئيس وزراء ماليزيا السابق، الدكتور محاضير محمد (1981-2003م)، الذي وثق خبراته السياسية والتحديات التي واجهته في طريق تحقيق رؤياه الاستراتيجية في موسوعة علمية ضخمة، قوامها عشرة مجلدات، وبهذا التوثيق العلمي ماز الدكتور محاضير نفسه عن معظم قيادات دول العالم الثالث، التي تؤمن بـ "سياسة أو دبلوماسية الغرف المغلقة"، كما يسميها الدكتور التجاني عبد القادر، ولأن هذه القيادات تعتبر تحاورها مع الآخر بشأن الشأن الوطني ملكاً خالصاً لها ولبطانتها القطاعية، دون أن يكون في المقام الأول ملكاً مشاعاً للمحكومين وأصحاب الحق الأصل من المواطنين، أو على أدنى تقدير أن يكون موثقاً ليُحفظ للأجيال اللاحقة، التي ربما تستأنس به وتسترشد في وضع خطاها المستقبلية في طريق الحياة المحفوف بالمصاعب والتحديات. وعند هذا المنعطف دعوني استشهد بالحوار الذي أجراه الأخ الصديق الدكتور محسن محمد صالح، الأمين العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت، في شهر أغسطس 2006م، مع الدكتور محاضير محمد، والذي كانت محاوره تدور حول كيفية استفادة الدول العربية من التجربة الماليزية. وفي سؤال عن سر نجاح التجربة الماليزية، أجاب الدكتور محاضير قائلاً:
    في ماليزيا لدينا اختلافات دينية، وعرقية، وثقافية، ولغوية، ولدينا تباينات اقتصادية، ولكننا اعتبرنا أن أهم شيء للتطور هو تحقيق الاستقرار الذي يقوم على التسامح فيما بيننا ... ثم قررنا أن نشرك الجميع في السلطة والثروة ... لأنك لا تستطيع أن تستحوذ على كل شيء لنفسك ... وإذا حاولت أن تفعل ذلك فسيكون هناك عدم استقرار وفوضى، ولن يتحقق النمو الاقتصادي ... أما عندما تتحقق مشاركة الآخرين، فإنهم سيشعرون أن لهم نصيب في السلطة والثروة ... أما باقي الأمور فهي مسائل إدارية، تحتاج إلى تخطيط حاذق يقوم على الخبرة والكفاية المهنية. (حوار الدكتور محسن صالح مع تون محاضير محمد).
    إذاً التغيير والتحديث اللذان ننشدهما يحتاجان إلى رؤية استراتيجية فاحصة، ولا تتحقق هذه الرؤية إلا إذا توفر لها الاستقرار السياسي اللازم والتام، ولا يتحقق الاستقرار السياسي اللازم إلا إذا حدث تقسيم عادل للسلطة والثروة، وتقسيم السلطة والثروة العادل يحتاج إلى قيادات سياسية شجاعة، تؤمن بمرتكزات رؤيتها الاستراتيجية التي تعاهدت على تنفيذها مع الناس، وقضية التنفيذ نفسها تحتاج إلى جهاز إداري ومهني كفؤ، لا يستمد شرعيته من القوى القطاعية ذات المدارات الضيقة، بل يستلهمها من قوة القانون، وكفاءة الأداء الإداري والفني، وحرية الحركة الخلاقة المبتكرة. فلا جدال أن هذا ما عناه الدكتور محاضير محمد في حواره مع الأخ الدكتور محسن صالح، وشرحه تفصيلاً في مجلدات موسوعته العلمية، وطبقه على صعيد الواقع من خلال أداء دولة مؤسسي.

    ويُؤمِّن الدكتور محاضير أيضاً على أهمية مدخل تقسيم الثروة العادل وتنميتها باعتباره مدخلاً مهماً للتغيير والتحديث، يأتي في الأولوية بعد قسمة السلطة السياسية، وتفعيل مؤسساتها الديمقرطية، ويستشهد في هذا المضمار بما يُعرف بـ "السياسة الاقتصادية الجديدة"، التي وُضعت لبناتها بعد الاضطربات العرقية التي اندلعت في كوالالمبور في 13 مايو 1969م بين الصينيين الماليزيين، والملايويين أصحاب الأرض. فكانت هذه الخطة الاستراتيجية العشرينية تهدف إلى خلق موازنة اقتصادية بين الصينيين، الذين يسيطرون على منافذ الثروة، ويشكلون ثلث سكان ماليزيا، والملايويين الذين يعيشون على منتجات الهامش الزراعي الريفي، ويشكلون نصف السكان تقريباً. فمبدأ إعادة الموازنة الذي انطلقت منه الحكومة الماليزية كان يقوم على معادلة تقضي بتوسيع مواعين الثروة الاقتصادية وأوعيتها، ثم إعطاء الأولوية للكتل المهمشة، مع صيانة الكسب الذي حققته القطاعات صاحبة الحظ الأوفر. وفي ضوء هذه المعادلة المستحدثة ذات القاعدة العريضة ارتفع نصيب الملايويين في الثروة الاقتصادية من 2.4% إلى 30%، ولازمه ارتفاع نسبي طفيف في نصيب الكتل غير الملايوية (الصينيين والهنود) من 34.3% إلى 40%، وبينما تم خفض نصيب الأجانب المستثمرين من 63.3% إلى 30%.

    وبهذه المعادلة الخلاقة تمَّ خلق قاعدة صُلبة للاستقرار السياسي صاحبها استقرار اقتصادي، وعُضد كليهما بنظام تعليم مبدع، رُوعي فيه التوسع الأفقي لمصلحة السواد الأعظم من المواطنين، والتوسع الرأسي المدروس والمحسوب للقلة المتفوقة، والتوازن الإيجابي بين متطلبات التعليم الأكاديمي والتعليم الفني، ثم إعطاء الأولوية للمناطق المهمشة لتسير بمتوالية هندسية في مجال التعليم العام مقابل متوالية حسابية في المناطق الحضرية التي حظيت بنصيب أوفر في عهد الاستعمار البريطاني والحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال. وبذلك يرى الدكتور محاضير أن نظام التعليم الأكاديمي، وما صاحبه من تدريب فني ومهني، وتحسين في أجور العاملين كل ذلك كان بمثابة حجر الزاوية وصمام الأمان لنجاح التجربة الماليزية، لأن تنمية القوى البشرية قد أسهمت في خلق قيادات سياسية مؤهلة، ومدركة لطبيعة التحديات التي تواجهها، وكيفية التعامل معها بأسلوب حضاري يتوافق مع متطلبات العصر ومستجداته، وفي رفد الخدمة المدنية العامة ومؤسسات التعليم العام والعالي بكوادر مهنية مؤهلة، وقادرة على حمل الرسالة التنفيذية والمهنية الملقاة على عاتقها.

    وبعد النجاح الذي حققته "السياسية الاقتصادية الجديدة" وملحقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، تم الاحتفال بميلاد خطة استراتيجية جديدة تُعرف بـ "الرؤية 2020" في عام 1990م، وفي هذا يقول دكتور محاضير: إن مرتكزات الرؤية "2020" تعني أن ماليزيا بحلول عام 2020م ستكون دولة صناعية متقدمة، وتحقيق هذا الحلم الوطني يقتضي تفوق الماليزيين حكومة وشعباً على تسعة تحديات استراتيجية، يجملها فيما يلي:

    1- التحدي الأول هو بناء دولة ماليزية متحدة، لها وعي وإدراك بالمصير المشترك، الذي يساهم الجميع في صيانته، وينبغي أن تكون هذه الدولة في حالة سلام مع نفسها، وتتكامل بين وحدة أراضيها ووحدتها العرقية، وتعيش في حالة من التناسق، والتناغم، والمشاركة الكاملة والعادلة، التي تجعل منها وحدة واحدة تتمتع بالولاء السياسي والإخلاص للوطن.

    2- التحدي الثاني يتمثل في إقامة مجتمع ماليزي متحرر نفسياً، ويتمتع بالطمأنينة والإيمان والثقة بالنفس، ويشعر بالاعزاز المستحق لما حققه من انجاز، ويكون قوياً بالقدر الكافي الذي يجعله يواجه أي ضرب من ضروب الشدائد والإحن، ويتميز أيضاً بالسعي الدؤوب وراء التجويد والامتياز، ويكون مدركاً تماماً لإمكاناته وطاقاته، ولا يخنع نفسياً لأحد، بل يجعل شعوب الأمم الأخرى تحترمه وتفخر بعطائه.

    3- التحدي الثالث يتبلور في خلق مجتمع ديمقراطي ناضج ومتطور، يمارس نمطاً من الديمقراطية الماليزية الراشدة والمتواضع عليها، التي أنشاها المجتمع الماليزي طبقاً لظروفه الخاصة، وقدمهما نموذجاً لعدد من الدولة النامية.

    4- التحدي الرابع يتجسد في إقامة مجتمع أخلاقي ومعنوي متكامل مع بعضه بعضاً، ويكون مواطنوه ذوي قيم دينية وروحية قوية، ومعايير أخلاقية سامقة.

    5- التحدي الخامس هو تحدى يتبلور في إقامة مجتمع راشد، ومتحرر، ومتسامح عرقياً وديناً، يكون فيه الماليزيون أحراراً في ممارسة عاداتهم، وثقافاتهم، ومعتقداتهم الدينية، والتمسك بولائهم لها، ومع ذلك يشعرون بأنهم جميعاً ينتمون لأمة واحدة.

    6- التحدي السادس يتجسد في إقامة مجتمع علمي ناهض، يحب الابتكار، ويتطلع إلى الأمام، وليس فقط مستهلكاً للتكنولوجيا الحديثة، بل مساهماً في صناعة حضارتها ومستقبلها العلمي.

    7- التحدي السابع يقضي بإقامة مجتمع له اهتماماته التي يرعاها وفق نسق ثقافيٍ واعٍ، ونظام اجتماعي يعطى الأولوية للمجتمع قبل الفرد، ويسعى لرفاهية الشعب من خلال نظام أسري قوي ومرن، دون أن يكون متمحوراً حول الدولة أو الفرد.

    8- التحدي الثامن يتبلور في قيام مجتمع تسوده العدالة الاقتصادية، وينعم بمشاركة جميع أفراده مشاركة متكاملة في عملية التقدم والازدهار.

    9- التحدي التاسع يتجلى في إنشاء مجتمع مزدهر وناجح، يكون الاقتصاد فيه قادراً على المنافسة الحرة، ونشطاً ديناميكياً ومرناً، وله القابلية على التكيف مع الظروف الطارئة. (لمزيد من التفصيل انظر موسوعة محاضير، مجلد 5، 199-213).
    وأخيراً نختم هذه القراءة التحليلية بأن "رؤية ماليزيا 2020" للتغيير والتحديث قد أضحت حقيقةً من الحقائق الماثلة للعيان، وشاهداً على العصر، وذلك بعد مضي خمسة عشر عاماً على تدشينها، وعلى النجاحات ذات النسب العالية التي حققتها على صعيد الواقع. فقد درستها بلاد كثيرة واستأنست بها، وقلدتها أخرى ترغب في تقدم أوطانها، وتوحيد شعوبها حول مصير مشترك، تعضده رؤية استراتيجية ثاقبة. فإذا قرأنا هذه التجربة الحصيفة مع بعض المقترحات التي قدمها الدكتور جعفر محمد علي بخيت وبعض المتخصصين في الشأن السوداني، فهنالك أمل مرجو ومستقبل مشرق ينتظر أهل السودان، إذا وضع الحاكمون والمحكومون من حولهم رؤية استراتيجية خاصة بواقعهم المعيش ومتطلباتهم الحياتية، تساعدهم في قسمة الثروة والسلطة، وفي دفع عجلة التطور السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وتمكِّنهم في الوقت نفسه من أن يدركوا الصبح بمنعرج اللوي، قبل أن يطل عليهم ضحى الغد، ويمسى سودانهم الحبيب أثراً بعد عين.
                  

02-25-2008, 11:15 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    ساعلق على هذه المقالات السبعة لاحقا ان شاء الله
                  

02-25-2008, 12:32 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    من اجمل ما خطه يراع البروفسير احمد ابراهيم ابوشوك ونشر ضمن هذا السفر
    توثيقه لحياة ومجاهدات وانجازات الراحل المقيم الاستاذ/ الطيب محمد الطيب
    صاحب برنامج صور شعبية في تلفزيون السودان منذ ثمانينيات القرن الماضى
    وحتى عهد قريب جدا.. بجانب توثيقه لحياة وانجازات خبير الاثار المرحوم البروفسور
    ابوسليم ... وحقيقة لم اعثر بعد على من كتب عنهما موثقا لحياتهمامثلما فعل البروفسير ابوشوك في هذا السفر الجديد.. وما ذلك الا لانه اراد بذلك ان تكون كتابته عنهما من قبيل التوثيق الحقيقي لحياتهما وانجازاتهما ... وامتازت كتابات البروفسير ابوشوك عن هذين العلمين بروعة لامثيل لهافهو يشدك بقوة حتى تكمل مابدأته من قراءة متأنية لسيرة هؤلاء العظماء والاعلام في مجال قل ما التفت اليه كثير من الناس .. ذلك انه عاصرهما وعمل معهماوتعلم منهما الكثير والكثير ... الا رحم الله الفقيدين واسكنهما فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا
    انا لله وانا اليه راجعون .


    الأستاذ الطيب محمد الطيب
    يا دوحةَ عطاءٍ ماكثٌ في الأرضِ بما ينفعُ الناسَ

    أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

    مضت سبع سنوات عجاف من عمر الألفية الثالثة، وكان حصادها خصماً على قائمة الأدباء والمبدعين في بلادي، إذ فقدَ السودان خلالها ثلة خيِّرة من سدنة تراثه الشعبي، أسهمت في جمع مفرداته، وتوثيقها، وعرضها على الأهلين مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً. من أولئك النفر الخيِّر البروفسير عبد الله الطيب المجذوب الذي رحل عنا في التاسع عشر من يونيو 2003م، والبروفسير محمد إبراهيم أبوسليم الذي غيبه الردى في السابع من فبراير 2004م، والشاعر عمر الحسين محمد خير الذي مات كما مات الجاحظ وسط كتبه وأوراقه ومراجعه في الفاتح من يونيو 2005م، والعلامة البروفسير عون الشريف قاسم الذي شد عصا الترحال إلى دار الخلود في العشرين من يناير 2006م.
    وقبل أن تندمل جراحات الأدب الشعبي المكلوم وتكفكف دموع صوره الشعبية، ها نحن نودع الأستاذ الطيب محمد الطيب الذي كان هودجاً جامعاً لتراث الحضر والريف، وواسطة عقد بين الذين احترفوا دراسة التراث الشعبي صنعةً وبين أولئك الذين كانوا يروونه سليقة. لقد حدثت وفاته في السادس من فبراير 2007م، أي في موسم حصاد الفول بقرية "أم غدي وزمان الهرج" في السودان كما يرى صديقه الدكتور عبد الله علي إبراهيم، حيث "أن العُصب المسلحة ظلت تأخذ بخناق الوطن، وأن الشركاء متماسكون الحِززّ في جوبا، أو مدلون بدلوهم بزخات الرصاص في أركان النقاش الجامعية، ورائحة السحت تزكم الأنوف وتكسر خاطر الناس." وفي هذا الزمن البخس توفي الأستاذ الطيب محمد الطيب، وكان الدكتور عبد الله علي إبراهيم يخشى أن يتحول رثاؤه إلى هامش في صراع السلطة بين الإنقاذ وخصومها، ولكن بفضل تقريضه وتقريض الأوفياء من أمثاله - وأذكر منهم مرتضى الغالي، ومنصور عبد الله المفتاح، وبكري الصائغ، والكيِّك، ورباح الصادق المهدي، وكمال الجزولي، وعصمت العالم، وحيدر المكاشفي، ومحمد محمد خير، ومحمد سعيد محمد الحسن، والقائمة تطول- تحول مأتم الأستاذ الطيب محمد الطيب وليالي عزائه في السودان وعبر الأثير إلى ساحة إطراء أدبي يتبارى فيها الذين عرفوه عن كثب، وأوفوا الكيل والميزان في سرد محاسنه، وأولئك الذين أعجبوا أسهامه التراثي السابل، وأرادوا أن يسجلوا له كلمة عرفان تثمِّن عطاءه الماكث في الإرض بما ينفع الناس.

    الطيب ورحلة الكسب والعطاء:
    وُلِدَ الطيب في أسرة كان ديدنها الترحال في طلب العلم، حيث هاجر أصولها قديماً إلى قرية نوري بريفي مروي، تلك القرية التي كانت تعج بخلاوى القرآن وارتال طلاب العلم، واستقروا بها فترةً من الزمن، امتدت إلى ميلاد الجد الثاني للطيب، الفكي أحمد أبو القاسم من أم شايقية، وبعدها عادت الأسرة إلى وطنها الأم بالمقرن ريفي الدامر، حيث تزوج محمد الطيب حفيد الفكي أحمد أبو القاسم من حبوبة بنت علي محمد شبر من العكد الكبوشاب، وأنجب منها الطيب عام 1934م، وبعد ميلاد الطيب تواتر عقائق أخوته الصغار ذكوراً وإناثاً إلى أن بلغت ثلاث عشرة عقيقةً.
    بدأ الصبي الطيب حياته العلمية بخلوة المقرن حيث حَفِظ القرآن، وبعدها درس الكُتَّاب والوسطى في مدينة أتبرا (عطبرة)، إلا أن هذا القسط المتواضع من التعليم المدني لم يشجعه على ولوج حياة الأفندية في كنف الدولة وراتبها المحدود، بل جعله يؤثر العمل الحر تشاشاً (تاجراً) في سوق الدامر، وأحياناً مندوباً لأهل المقرن في مجلس ريفي شندي. وفي بيئة الدامر التي كانت حافلةً بتراث أهل السودان وتواصل البدو والحضر تفتقت قريحته على سماع المأثورات التراثية التي كانت تُروى سليقةً، ويتفنن الرواة في رسم صورها الجمالية حول نفرٍ من أعلام الفروسية أمثال عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي، وطه الضرير، والطيب ود ضحوية، ويبالغون في سرد كرامات مشايخ الصوفية والأولياء الصالحين مدحاً وإنشاداً في حولية الشيخ المجذوب والمحافل المماثلة لها. في وسط هذا الزخم التراثي الزاخر بمآثر أهل السودان كان يتوهج نجم السيّدة فاطمة بنت فاطمة جدة الطيب من جهة أبيه، ويقول الطيب عنها: إنها كانت امرأة لها شخصيتها المميزة بين نساء قريتها، لأنه يُقال إن أهل أمها فقراء "يروبون الماء"، ومن ثم أضحت لها مكانةً اجتماعيةً كبيرةً وسط أهل المقرن وزوارهم، وكانت مسموعة الكلمة، نافذة الإشارة على الكبار والصغار. كان الناس يتحلَّقون حولها كل أمسية لسماع الأحاجي والقصص والحكايات المشوقة التي كانت ترويها بأسلوب درامي جذَّاب.
    في ذات النسق يوثق الطيب لمشاهد خاصة كان لها وقعها في نفسه وهو حاضر حضوراً مادياً ومعنوياً في حلقة جدته فاطمة بنت فاطمة، إذ يقول: "لا أنسى المواقف التي كانت تتطلب أن يؤدي البطل فيها مقطعاً غنائياً، كانت تتمهل وتتهدج في ترديد وترجيع الأغنية بصوتها الرنان، ومن ضمن حكايتها لنا قصة الشيخ فرح، وود أب زهانة، وكنا نحسب أن الشيخ مثل الغول، والسعلوة، والدكع، وفاطمة، والقصب الأحمر." (الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك، ص 19). وجميع هذه المصطلحات تصب في معين القصص الشعبية المعروفة في وسط السودان، والتي تُصنَّف ضمن قائمة الأحاجي السودانية التي وثق لها البروفسير عبد الله الطيب طيَّب الله ثراه.
    بفضل هذا الحضور التراثي في دامر المجذوب توطَّنت نفس الطيب محمد الطيب على حب الفلكلور، الذي دفعه إلى تطليق أشغاله الحرة ونذر نفسه وجهده وماله لجمع الأدب الشعبي. وفي هذا يقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم: "وفجأة ظهر بيننا الطيب قاطع حبلو من الدامر ... لا أذكر أننا سألناه عن مسيرته التعليمية، ولست متأكداً إلى يوم المسلمين هذا كم استحصل الطيب من علم المدارس، وكان واضحاً أنه رجل نير ولكنه صفر اليدين من الشهادات... ولم يترك لنا الطيب باباً لمثل هذا السؤال فقد أخذنا مناً بمحفوظاته من التراث وبأدائه بصوت طربنا له، وسعى يوسف في أروقة الجامعة يطلب له وظيفةً لم تخطر على بال بيروقراطي، وهي وظيفة جامع فلكلور بأجر مُجمّد قيمته خمسون جنيهاً، وكان مرتب أي منا لا يتجاوز الستين. وقبلت به الجامعة، ووفرت له الشعبة عربة جيب 5خ 8731، ومسجلاً ألمانياً ماركة قرندوق، وسائقاً دنقلاوياً أنيساً هو السيّد حسن خير الله، ودفتر بنـزين صالح لملىء تنك العربة [أي خزان الوقود] أو شراء صفائح الوقود من أي طرف في السودان."
    هنا حزمةٌ من الأسئلة تطرح نفسها: مَنْ هم أولئك النفر الكريم الذين تحدث الأخ عبد الله علي إبراهيم عنهم بأريحية وتواضع جم؟ وما هي الشعبة التي جمعتهم بين ظهرانيها، وأهلَّتهم ليحترفوا صنعة التراث الشعبي وينعموا بصحبة الطيب محمد الطيب؟ الشعبة التي رمز الدكتور عبدالله إليها هي شعبة أبحاث السودان التي كانت قلباً نابضاً في كلية الآداب جامعة الخرطوم آنذاك. لقد أُسست شعبة أبحاث السودان عام 1964م، وكان هدفها الأساس جمع التراث السوداني وتوثيقه ودراسته، وخلف البروفسير يوسف فضل حسن الدكتور ج.ن. ساندرسون على رئاسة هذه الشعبة الناشئة، وظل يشرف على أمر تطويرها حقبةً من الزمن، حيث جلب إليها نفراً من طلاب التراث السوداني، بعد أن طوَّع لهم شروط التعيين الوظيفي بجامعة الخرطوم، معطياً الأولية للكفاءة المهنية والاستعداد الفلكلوري. وفي هذا يقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم: "لم أكن أنا مثلاً ممن تنطبق عليهم شروط التعيين أكاديمياً بالجامعة. ولم يخطر ليوسف فضل تعييني خلال تلقي العلم على يديه في معادل درجة الشرف في تاريخ، ولكنه سمعني يوماً أتحدث عن الفلكلور بإذاعة أم درمان وسرعان ما عرض عليَّ أن انضم لشعبة أبحاث السودان... ومن جهة أخرى كان سيد حُريز في طريقه ليصبح محاضراً بشعبة الإنجليزي بالجامعة حتى قرأ يوسف رسالته عن طقوس الحياة والموت في السودان فالتمس من الجامعة تحويله إلى شعبة أبحاث السودان. وكذلك الحال مع أحمد عبد الرحيم الذي بدأ بالفلسفة، ثم كتب عن فلسفة الأخلاق عند النوبة النيمانق بالدلنج، فلم تتأخر عنه حفاوة يوسف." فالبروفسير يوسف فضل حسن والبروفسير سيد حامد حُرير والبروفسير أحمد عبد الرحيم نصر والدكتور مصطفى إبراهيم طه هم أولئك النفر الذين تحدث الدكتور عبد الله عنهم بأريحية وتواضع جم، وهم الذين قامت على أكتافهم شعبة أبحاث السودان، وهم الذين انضم إليهم الأستاذ الطيب محمد الطيب عام 1965م، وبذلك استطاعت شعبة أبحاث السودان، التي رُفعت في عام 1972م إلى معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، أن تجمع بين جوانحها كفاءة التأهيل المهني المكتسب من مؤسسات التعليم المدني وكفاءة التأهيل المهني المُنساب من أفواه حدأة التراث الشعبي ورواته.
    لا جدال أن تعيين الأستاذ الطيب في وظيفة جامع فلكلور كان نقلةً نوعيةً أحدثها عرفاء الفلكلور في شعبة أبحاث السودان، ومنها انطلق الطيب يجوب البلاد طولاً وعرضاً في تحقيق هوايته المفضلة وفي جمع تراث أهل السودان من صدور الحُفَّاظ والوثائق التاريخية. وأبلغ شاهد رحلاته الماكوكية في جمع تراث البطاحين ونسج خيوط سيرة الشيخ فرح ود تكتوك، وفي هذا يقول الأستاذ الطيب:
    "كلفتني شعبة أبحاث السودان سنة 1970م أن أعد كتاباً عن حياة البطاحين، وشرعت في جمع المعلومات الأولية عنهم، وحسب خطة شعبة أبحاث السودان ينبغي علي أن أطوف عليهم في أماكنهم، وبدأت بعاصمتهم أبو دليق وما حولها، ثم أبرق، وأب زليق، والمايقوما، والحاج يوسف، ثم زرت قراهم الواقعة شرق النيل الأزرق مثل ود ساقرته والفعج. ثم ذهبت إلى سنار، وجبل موية، والمناقل، ثم أربجي، والسديرة، وبقية أطراف الجزيرة المروية، وتسنى لي خلال هذه الرحلات التي دامت حوالي عشرة شهور جمع معلومات عن البطاحين كمجموعة، وكان كل مرة أسأل فيها الرواة والمحدثين عن أخبار أسلافهم يرتفع اسم الشيخ ود تكتوك شامخاً قوياً." (الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك، ص 20). فلا غرو أن هذا النص يعكس قدرة الأستاذ الطيب الخلاقة في جمع المعلومات التراثية، واسترساله في ربط جزئياتها، والشاهد أن الجمع بين التراث الشعبي لقبيلة البطاحين وسيرة الشيخ فرح ود تكتوك البطحاني قد حفزه لمواصلة بحث آخر عن سيرة الشيخ فرح وآثاره، في هذا يقول الطيب: "وزرت بعدئذٍ سنار وما حولها ست مرات، وفي كل مرة كنت أجد بعض المعلومات الجديدة عنه. وبعد أن حصلت على تلك الروايات الشفهية رحت أسأل عن بعض آثاره المحفوظة ولم يخيب أهل الفضل ظني. فوجدت بضع مخطوطات تحدثت عن سيرته ودونت أقواله، وكان أهمها مخطوط الشريف الهندي المسمي (تاج الزمان في تاريخ السودان)، باب تراجم الأولياء، وكذلك مخطوط الشيخ الحسن محمد طلحة بود ساقرته ناحية رفاعة، وأوراق فرح القاسم، كساب الجعلين، والأخير من أحفاد الشيخ فرح وأكثرهم حفظاً لمأثورات الشيخ، وبحوزته وثائق مهمة جداً أطلعني عليها مشكوراً." (الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك، ص 20-21).
    هذا هو الطيب جامع الفلكلور، وصاحب المنهج الفريد الذي وصفته المهندسة رباح الصادق المهدي بأنه: "خلطة غريبة، فلو وصفته بأنه مؤرخ محلي كما تصف مضابط التاريخ ... كذَّبك حسه النقدي من حين لآخر... ولو قلت أنه عالم أكاديمي لرد عليك أنه لا يتبع في نهجه الوسائل الأكاديمية المعهودة في التعامل مع المأثورات الشفهية مثلما فعل جان فانسينا في نهج التعامل مع المأثورات كتاريخ." ويعضد هذه الفرضَّية أيضاً قول الدكتور عبد الله علي إبراهيم الذي صحب الطيب في بعض رحلاته الميدانية بقوله: "لقد حسدته كثيراً متى كنا على سفر، أو زيارة، على تعرف الناس عليه بالفطرة، وإقبالهم عليه كشركاء في مشروعه، يسألونه عن الأنساب، أو صحة نطق اسم مدينة، أو مزارات ولي. وكنت استمع حواراتهم معه يديرونها على قدم المساواة. وكنت أنطوي منهم على صفويتي الحبيسة ولغتي الكاسدة. كان الطيب يعلم علم اليقين حب الناس له، بل ومناصرته له. لم يكن الطيب قادراً على ينجز أكثر صور شعبية لولا سخاء مشايخ وتجار وأحباب مولوا زياراته الميدانية لبقاعهم واحسنوا إليه. وهذه سنة في الإحسان إلى أهل المشروعات الثقافية، لم تقع لصاحب مشروع ثقافي حديث قبل الطيب. وكان الطيب غني بهذه الصحبة عن تكفف الدولة العادلة أو الظالمة."
    في ضوء هذه التزكيات الحاذقة نخلص إلى أن الطيب كان جامع فلكلوري مدرب، وله إلمام واسع بتاريخ السودان وجغرافيته، وعلى قدر كبير من تفكيك طلاسم العادات والتقاليد واللجهات العامية، وفوق هذا وذاك كان يتمتع بحيويةٍ خلاقة، وحدس فني ذواق لا يخذله البتة، ولباقة جعلت الناس يتجاوبون معه، ويشاركونه في مشروعه التراثي، ويطلعونه على مكتنـزات تراثهم الشعبي التي تكنَّها صدورهم، وتحفظها وثائقهم الخاصة التي يحيطونها بهالة من القدسية. وقد أهلَّ هذا الرصيد الفني والمعرفي الطيب ليكون نسيج وحده، لم يكن مقلداً مجتراً، بل كان أصيلاً مبدعاً، تجاوز قيود الموروث وتقنيات الحداثة في منهجه البحثي، وفي تعامله الراقي مع مأثورات التراث السوداني. وبفضل عطائه السابل وحضوره الكثيف في ساحات العمل الفلكوري لم تعد صورة الفلكلور بعده كما كانت قبله، لأنه، كما يرى محمد محمد خير، كان مشروعاً ثقافياً "يتسع لاحتواء مليون ميل مربع من الدويبت، والشاشاي، والتُم التُم، والكمبلا والجابودي، وتراث الشلك، والنقارة، وأهازيج الحكَّامات، وطارات المديح، وأمثال دارفور الشعبية."

    برنامج صور شعبية:
    توسط الطيب هذا الكم الهائل من التراث ومأثوراته، ونثر منه صوراً شعبيةً لـمَّاحةً عرضها منجمةً عبر شاشة تلفزيون السودان البلورية، وكسب بعرضه لهذه الأنساق والأنماط التراثية تقدير الناس له، لأنه فتح بصائرهم، كما يقول إبراهيم عبد القيوم، إلى وطن "مشحون برصيد تاريخي عزيز وغالٍ، وإن إنسانه عظيم ومتفرد، وإن تاريخ هذا الإنسان يفرض أن يبذل من أجله الكثير من الجهد والوقت." وحسب رواية الكيك فإن علاقة الطيب بالإذاعة والتلفزيون يرجع تاريخها إلى برنامج "التراث السوداني" الذي كان يقدمه الأستاذ محجوب كرار رحمه الله عبر إذاعة أمدرمان، وفي إحدى حلقات برنامجه الشعبي استضاف الأستاذ الطيب محمد الطيب وقدمه إلى جمهور المستمعين السودانيين باعتباره علماً من أعلام السودان المهمومين بالوطن وثقافته وتراثه، وبعد ذلك ظل الطيب زبوناً معتمداً عند محجوب كرار، تواصلت لقاءاته، وتجدد عطاؤه، وانداحت دائرة مستمعيه، وما فتيء الطيب محفوفاً بحفاوة مستمعيه إلى أن أطل عليهم عبر شاشة برنامجه التلفزيوني الموسوم بـ: "صور شعبية". ومن خلال هذا البرامج استطاع الطيب أن يعرض صوراً شعبيةً حيةً، تعبر عن حياة الناس وأنساق تواصلهم الاجتماعي في كل بقاع السودان، بما في ذلك أفراحهم وأتراحهم دون كذب ولا رياء، وكانت هذه الصور تحمل قيماً روحيةً صادقةً، وفنوناً أدبيةً شعبيةً، وموسيقى ورقصاً، وطُرَفاً من أدبيات الحصاد وأهازيج الرعاة، ونماذج من أدوات الحكم والولاية، وفنيات الحِرَف التي يطلق المثقافتية عليها مجازاً الحِرَف الهامشية. وفي الوقت نفسه كانت هذه الصور الشعبية تحمل قيماً اجتماعيةً تسهم في خلق قوالب انفعالية وسلوكية تعين المجتمع على توثيق عُرى ترابطه وحل كثير من مشكلاته الآنية، وتساعد أيضاً في فهم العلل الكامنة وراء الأحداث التاريخية، والتشنجات الجهوية والفئوية المصاحبة لإفرازات القرارات السياسية في السودان.

    الطيب والسلطة:
    كان الطيب محمد الطيب أنصارياً قلباً وقالباً، ويتجلى هذا الانتماء السياسي-العقدي في لباسه الأنصاري، وفي صونه لبيعة الأنصار التي قطعها مع إمامهم وزعامتهم السياسية. وبالرغم من الإحن والشدائد التي ألمت بهذه الطائفة إلا أن الطيب "لم يبعهم بغالٍ أو مرتخصٍ لينال حظوة النظم الكارهة لهم"، بل ظل وفياً لبيعته، دون أن يخلط وفاءه الأنصاري برسالته التراثية التي كانت تسمو زهواً فوق هامات الانتماء السياسي، وتتجاوز فخراً تشنجات التعصب الديني، وترقى بماهيتها الوظيفة عن الشبهات العرقية، لأن جمهورها أهل السودان، ومادتها تراث أهل السودان. ويثمن الدكتور عبدالله علي إبراهيم هذا الموقف الفذ بقوله: "لم يرهن الطيب خير لبلدنا وثقافتنا على فضل الحكومات أو الدكتاتوريات ...، بل كان دخَّالاً خرَّاجاً في نصوص هذه الثقافة، يبلغها غلاباً. تقلبت بلدنا بين دكتاتوريات مديدة العمر ولم يعدم الطيب أبداً بصارة ليعمل بها أو بدونها لنيل مراده. ولم يترخص أبداً في أداء واجبه الثقافي... فكان شرفه كمثقف فوق الشبهات، وعلمه مما يمكث في الأرض."
    لم يكن غزل السلطة السياسية جزءاً من أدبيات الطيب وتطلعاته المشروعة، ولم تكن سلطة العمل الديواني هاجسه المنشود، بل كان ينبذها، لأنها من وجهة نظره مدعاةً للكسل وقتل الإبداع البشري وتجلياته. ويتبلور موقفه من سلطة العمل الديوانية في الرواية التالية للأستاذ بكري الصائغ: "علاقتي بالمرحوم الطيب محمد الطيب تعود إلى سنوات السبعينيات عندما كنا موظفين بوزارة الثقافة والإعلام... وأذكر قصة تقول أن السيَّد علي شمو قد قرر تعيين الطيب محمد الطيب مديراً لمصلحة الثقافة في ضوء عملية تغيرات هدف منها شمو تولي الكفاءات الوظائف العليا وإدارات المصالح. وما أن جاء خطاب الإخطار للمرحوم بتولي أعباء مصلحة الثقافة حتى رأينا المرحوم قد انزعج تماماً من هذا التعيين، وأبدى اعتراضه على تولي هذا المنصب، وسعى لمقابلة الوزير، واعتذر له عن الوظيفة الجديدة العالية المكانة، وكانت حجته أنها وظيفة مكتبية تقتل الإبداع، وتحرمه التجوال، والبحث والتقصي في مجاهل العادات والتقاليد السودانية، وإنها وظيفة مـُمِلة، ليس فيها أي إبداعات أو اكتشافات أدبية، طلَّق الطيب الوظيفة، وانطلق ينقب في مجاهل عالمه" المملوء بالكشوفات التراثية.
    نلحظ أيضاً أن الخصومة السياسية بين الأنصار والشيوعيين لم تقف عائقاً أمام عطاء الطيب وتطلعاته التراثية، فصديق عمره عبد الله علي إبراهيم كان من كوادر الرفاق النشطة، بيد أن اختلاف الرأي السياسي لم يفسد وداً استقام ميسمه بين الرجلين. وفي هذا يفصح الأستاذ كمال الجزولي بأن عبد الله علي إبراهيم قد قدمه هو وزميله شوقي عزالدين إلى الطيب محمد الطيب عام 1973م، ووقتها كان عبدالله مفرغاً لمسؤوليات العمل الثقافي للحزب الشيوعي، وشوقي عز الدين مفصولاً للتو من العمل بمعهد الموسيقي والمسرح. وفي هذا الظرف السياسي الحالك توثقت عُرى الصداقة بين الطيب والرفاق، ويقول الجزولي لسان حالهم: "كنا نقصد أحياناً داره ببري مع الأصدقاء، ونقضي الأمسيات في حوارات ساخنة حول هموم الثقافة، فكان يستقبلنا هاشاً باشاً، ويكرم وفادتنا غير هيَّاب ولا وَجِل من كوننا كنا مجموعة من الشباب (المدموغين) في الوسط الثقافي بالتمرد، أو حتى من كون صديقه عبد الله بالذات كان مختفياً ومطلوباً من الأجهزة الأمنية." وصداقته مع الرفاق لم تقف عند هذا الحد، بل بلغت شأواً أعظم من ذلك، حيث شخصت بعض شواهدها في صحبته لكمال الجزولي وشوقي عز الدين في إحدى رحلاته الميدانية لمسيد ود الفادني، ليثبت لهما أن مسرح "الرجل الواحد" لم يكن نبتاً حداثياً كما كانا يظنان، بل هو فن متجذر في أدبيات المسرح السوداني الشعبي قبل أن تعتدل قامته في مسارح الغرب والفرنجة. وفي مسيد ود الفادني استُقبل الرفاق في صحن المسجد، وأولم لهم السادة الفادنية بوليمة تكفي لعشرة أضعافهم في ساحة المسجد الرحبة، حيث جلس سيد المسرح الواحد حاج الصديق على أحد العناقريب الفارهة التي أُعدت لضيافة الأستاذ الطيب والوفد المصاحب له من الرفاق، ثم بعد ذلك بدأ حاج الصديق يعرض بعض القفشات المسرحية، والصور المغلوبة التي تجسد واقع الحياة في شوارع المدينة والقرية، وفي بيوت الأغنياء والفقراء، وواقع المزارع عندما يحل أجل سداد ديونه، وأحياناً يقلد لهم باقتدار وسلاسة بكاء الرضيع، وثغاء الماعز، وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته، وسخط المزارع المغلوب على أمره، وزفات الحجيج المادحة إلى الأراضي المقدسة. كل هذه المشاهد ومثيلاتها كانت تعرض في مسيد ود الفادني، والرفاق وغيرهم من الحضور يموجون بالضحك، ضحكاً كالبكاء كما يقول كمال الجزولي، والطيب يختلصهم بنظرات مفادها أن مسرح الرجل الواحد لم يكن حكراً على المسارح الغربية، بل أن السودان يزخر بمثل هذه النماذج منذ أمد بعيد. وكانت تلك الليلة الفادنية حسب إفادات الرفاق تمثل "أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان."
    هذا هو الطيب المتسامح مع نفسه تسامحاً جعله يوطِّن لشرعية التواصل مع الآخر، وقد بلغ هذا التسامح ذروته عندما ألف كتاب "الإنداية" وأردفه بمصنف آخر عن "المسيد". فالإنداية هي دار المجون، كما تصفها الأستاذة رباح الصادق المهدي، والمسيد هو دار التُقى والصلاح، وبين الدارين بون شاسع. والإنداية كما قدم لها الطيب "من الأمور التي لا يصح الحديث عنها في عرف المجتمع السوداني إلا في مقام الذم، وهي من أجل ذلك لا تجاور سكناهم، بل تُقصى إلى أطراف القرى والمدن، وقد تضرب في الخلا، يطلق عليها في معظم الأحيان اسم "الجو". ولا يرتادها إلا طبقة خاصة لا تجد القبول عند غيرها من الناس." فالطيب أراد بهذا السفر الفريد في موضوعه أن يزيل هذه الغشاوة من أذهان الناس، ويعرض أدبيات الإنداية عرضاً موضوعياً باعتبارها مظهراً من مظاهر الحياة السودانية، لها سلبياتها وإيجابياتها، وينبغي أن يُعالج أمرها بطريقةٍ علميةٍ بعيداً عن التشنج والعواطف الدينية الجياشة. ويقول البروفيسور عون الشريف قاسم في تقديمه لكتاب الإنداية: "ولكنك بمجرد أن تتصفح الكتاب وتسبر غوره تجد لدهشتك أن المخبر غير المظهر. وسرعان ما يكتشف القارئ أن الإنداية التي يتحدثها عنها الكتاب ما هي إلا مظهر خاص من مظاهر الحياة السودانية، وهي ككل المؤسسات الاجتماعية لها نظامها الخاص وتقاليدها وقيمها التي يلتزم بها من يرتادونها ويذمون من يخرجها عليها، وبالبحث الميداني المتعمق الذي استغرق ست سنوات طاف فيها المؤلف على معظم أنحاء السودان فخرج بحصيلة من المعرفة ينقلها لك هذا الكتاب الرائع." وحقاً أن كتاب الإنداية كتاب رائع وجدير بالإطلاع، لأن الطيب أفلح في اختيار موضوعه، وفي تناوله لأدبيات الإنداية تناولاً علمياً دون أن يكون متأثراً بأدبيات المهدية التي ترى في الدخان حرمة، فما بالك والإنداية التي تعاقر فيها الخمر أم الكبائر جهاراً نهاراً.

    المرأة في قاموس الطيب الشعبي :
    لم يكن الطيب سادن ثقافة ذكورية، بل كان نصيراً للمرأة من خلال واقع تراثها الشعبي ومأثوراته المتنوعة، لذا فقد أفرد لها حيزاً مهولاً في إصداراته المطبوعة وصوره الشعبية ومحاضراته العامة. فنجده مثلاً يثمِّن دور النساء العابدات الراسخات في العلم أمثال: بتول بنت اليعقوباب، وفاطمة بنت جابر، وعائشة بنت أبودليق، ويوثق أيضاً لتاريخ المجاهدات اللائى كان لهن دور مشهود في ساحات الوغى والحروبات الضروس، وتأتي في مقدمة هؤلاء الشاعرة مهيرة بنت الملك عبود التي كانت تمجد قومها الشايقية، وتشحذ هممهم، وتحثهم على محاربة الأتراك الغزاة، ويتجلى هذا الموقف البطولي في المقاطع المأثورة التالية التي أنشدتها مهيرة في ذلك المقام:

    الليلة استعدوا وركبوا خيل الكر
    قدامن عقيدهم بالأغر دفر
    جنياتنا الأسود الليلة تتنتر
    يالباشا الغشيم قولى جدادك كَرْ

    وفي المهدية يوثق الطيب لمجاهدات الشاعرة بنت المكاوي التي كانت معجبة بشخصية الإمام المهدي في حربه ضد الأتراك، وكانت ترى في بسالة أنصاره عزة نفس ونكران ذات، لذا فقد أنشدتهم قائلةً:

    طبل العز ضرب هوينه في البرزَّة
    غير طبل أم كبان أنا ما بشوف عزَّه
    وإن طال الوبر واسيه بالجزَّة
    وإن ما عم نيل ما فرَّخت وزَّة

    ولم ينس الطيب دور الحكَّامات أمثال بنت مسيمس التي مدحت الزبير باشا ود رحمة عندما نُفي إلى جبل طارق بالمغرب قائلةً:

    في السودان قبيل ... ما بشبهوك بالناس
    يا جبل الدهب ... الصافي ماك نحاس
    بارود انتصارك ... في غمزة الكبَّاس
    خليت المجوس ... ألين من القرطاس

    وعلى ذات المنوال والنسق وثق الطيب للشاعرة بنونة بنت المك التي رثت أخاها عمارة رثاءً حزيناً ومؤلماً، لأنه كان مصاباً بداء الجدري الذي أقعده عن القتال وأماته متيةً لا تليق بالأبطال، لأن المصاب بالجدري لا يغسل جسده، بل يذرى عليها الرماد خوفاً من العدوى، وحول هذه الميتة "أم رماداً شح" تقول بنونة:

    ما دايرا لك الميتة ... أم رماداً شح
    دايراك يوم لقاء ... بدماك تتوشح
    الميت مسولب ... العجاج يكتح
    أحيَّا علي ... سيفو البسوي التَّح

    فلا جدال أن الحديث ذو شجون عن أدبيات النساء الوارد ذكرها في إصدارات الطيب وصوره الشعبية، لكن المقام لا يسمح بالإطالة، والشواهد المذكورة كفيلة بتأكيد صدقية الفرضية التي أشرنا إليها في مقدمة هذه الفقرة.

    الطيب في منـزلة بين المنـزلتين:
    بالرغم من هذا العطاء الثر، إلا أن الطيب قضى أيامه الأخيرة طريح الفراش بمستشفى السلاح الطبي بأمدرمان، حيث زارته جموع من الأصدقاء والمعجبين بفنه، ومن ضمن هؤلاء الأستاذ كمال الجزولي الذي وصف لحظاته الأخيرة بشيء من الحزن والأسى: "وكنت قد زرته أخر مرة بصحبة بعض الأصدقاء، إبان رقدته الأخيرة بالمستشفي العسكري، حسبناه للوهلة الأولى نائماً، فكدنا ننسحب بهدوء لولاء أن زوجته عاجلتنا بالتمر، قائلةً: "ليس نائماً، هو فقط على هذا الحال منذ أن جئنا به إلى هنا، ولكن رؤيتكم ستسعده." ثم يصف الجزولي واقع الحال بقوله: "فتح عينه ببطء، وبدأ كما ولو كان يهم بالكلام، سوى أنه طفق يُسرح نظراته الوادعة في وجوهنا ولا ينبس ببنت شفة، رغم إلحافنا في مشاغبته، وكم كان في زمانه ... منتجاً حاذقاً لبهار الإخوانيات اللاذع وعطرها النفاذ." ويصف هذا المشهد أيضاً الدكتور مرتضى الغالي في كلمته الحزينة التي سبقت وفاة الطيب، إذ يقول عنه: "وهو في منـزلة بين المنـزلتين، بين هجمة الداء الأولى العصيبة والغادرة وبين بطء الوصول إلى أطراف العافية والعودة إلى دنيا الناس، حيث إنه حالياً على تخوم الصحو والإفاقة والإغفال، ولا يعلم أحد (لا قدر الله) إمكان الانتكاسة التي يمكن أن تسترد بعضاً من مساحات الإبلال والشفاء، و[لكن نتمنى له] استرداد مقدرة النطق والسير على مناكب الحياة مرة أخرى، ليواصل ما بدأه من مشوار في إذكاء نيران المعرفة التي تخرج منه (دخاخين دخاخين) على رواية طبقات ود ضيف الله، لأنه يتكئ على رصيد ضخم يمتلئ به صدره وعقله."
    ثم ينتقل الدكتور مرتضى من هذا المشهد الحزين والطامع في رحمة الله إلى فقرة مهمة، أحسبها مناسبة في خاتمة هذه الرسالة العرفانية، إذ يقول: ومما يزيد قيمة رصيد الطيب المعرفي، "أنه يأتي في معظمه من باب المشاهدات، والسياحة، والمسوح الحقلية، والمعايشة الراصدة، والرحلات التي تضرب فيها أكباد المستحيل من أجل الوقوف على أثر، أو حجر، أو أمثولة، أو مسدار، أو طقس حياة، معيداً لنا في حياتنا المعاصرة نموذج العلماء الموسوعيين الذين يتتبعون حصاد المعرفة التي لا ترتادها قدم."
    فهذا هو الأستاذ العلامة الطيب محمد الطيب الذي فقدناه في السادس من فبراير عام 2007م، فإن الواجب الأدبي يحتم علينا، كما يقترح الأستاذ منصور عبدالله المفتاح، أن نجمع تراثه وآثاره الكاملة في قاعة تحمل اسمه، ويكون مقرها إما في دار الوثائق القومية، أو مصلحة الثقافة، أو متحف السودان القومي. وهناك أيضاً أربعة مؤلفات تحت الطبع يجب أن تخرج إلى دائرة الضوء، وتجد موقعها في المكتبة السودانية والعربية على حد سواء، وهي: بيت البكاء؛ وتاريخ المديح النبوي في السودان؛ والصعاليك العرب في السودان؛ والإبل في السودان.
    ألا رحم الله الطيب محمد الطيب رحمةً واسعةً بقدر ما أمتع، وآنس، وأعطى، وبذل، وأنفق من جهد ومال ووقت في سبيل الارتقاء بمسيرة التراث السوداني، وتطوير خدمات الأدب الشعبي، فلعمري لا أجد الكلمات المناسبة التي تفي استحقاقات رثائه، وجرد فاتورة عطائه الماكث في الأرض، ولكن أضعف الإيمان أن اختم هذه الكلمة بأبيات من أشعار ابن الوردي في الرثاء:

    سراجٌ في العلومِ أضاءَ دهراً على الدنيا لغيبته ظــلامُ
    تعطَّلت المكارمُ والمعــالي وماتَ العلمُ وارتفعَ الطغـامُ
                  

02-25-2008, 12:42 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    عُمَّار ساقية أبوسليم
    الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك،
    الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
    هذا العنوان مستأنس من وحي كلمة قدمها الأخ الصديق الدكتور عبد الله علي إبراهيم في رثاء أستاذ الجيل المرحوم مكي الطيب شبيكة، وعنوانها "عُمَّار ساقية شبيكة"، ولعلي أقصد في هذا المقام بعُمَّار ساقية أبي سليم الكُتَّاب والباحثين الذين سكبوا مداد أقلامهم رثاءً ووفاءً وعرفاناً لشيخ المؤرخين الذي رحل عنهم العام المنصرم، ولسان حالهم يقول: "هذا رجل لا نُعَزِّي فيه، بل فيه نُعَزى". لذا فقد جاءت معظم كلماتهم صادقة في مفرداتها ومعبِّرة في معانيها عن ماهية ذلك الرجل الإنسان، الذي نعته ابنته أماني بكلمات أشبه برثاء الخنساء لابنها صخراً، حيث صوَّرت قصة تحاوره مع المرض وتسابقه مع الزمن في لوحة عزائية حزينة ومفعمة بالأمل، جاءت بعض مفرداتها، التي أبكت الدبلوماسي علي يسين الكنـزي في جنيف، على هذا المنوال: "كان المرض محبوساً في مكان من جسدك يقف خلف الباب متأدباً مستهيباً جسدك، كلما طرق عليك الباب استمهلته فأمهلك. كنت تسابق الزمن. ترتب كل شيء إلى أن ذهبت. راجعت كل ما كتبت، ودققت في كل ما أتى من الطباعة. تركت خلفك ثلاثة كتب كاملة لم يبق فيها غير الطبع والنشر. كان المرض من شدة تأدبه وتهيبه الجسد والفكر يقف مكتوفاً غير مبدٍ أي عرض، كنت معتمداً على تأدبه وتنشغل عنه بالعمل والمزيد منه. إلى أن جاء يوم 19/12/2002. يوم وضح حجر الأساس للمباني الجديدة لدار الوثائق. قبلها كنت أكملت ما بيدك من كُتب. وكلما طرق الطارق بابك أمهلته أن ينظر شيئاً في الأفق، وكان حجر الأساس هو ما بالأفق." أما صديق عمره الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن فقد كتب قائلاً: "تياران يجاذباني بعنف وأنا في حضرة الكتابة عن المرحوم الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم: التيار الخاص والشخصي هو دافع تفرضه صداقتي وعظيم مودتي للصديق والأخ أبوسليم، وتيار آخر موضوعي أساسه تقديري واحترامي لصرح أكاديمي، وبحثي، ووثائقي ضخم أقامه أبوسليم ... الآن أكتب بما تمليه الضرورة الموضوعية التي أرسى دعائمها أبوسليم، وهو ما سيحفظه له الدهر، وتتلاشى مع الزمن أصداء النواح والعويل، فقد تلمع بين الحين والآخر فنارة للباحثين اسمها دار الوثائق القومية، ونهل من المعرفة فياض بين أغلفة تحمل اسم الرجل، وهو مؤلفاته التي تجسد المثابرة، والتفاني، والإخلاص في البحث العلمي، والتقصي الأكاديمي، عملاً لرفعة شأن هذا الوطن وحفظاً لتراثه." وعلى ذات النسق جاءت كلمة السيد الصادق المهدي التي ثمن في بعض ثناياها عطاء شيخ المؤرخين بقوله: "الأستاذ المرحوم محمد إبراهيم أبوسليم لم يحصر نفسه في عمل وظيفي، بل اتبع نهجاً رسالياً أثناء الوظيفة وبعدها. لذلك شغل نفسه قبل أن يقعده المرض بإنشاء مركز للتاريخ والتوثيق. إن من حقه علينا جميعاً أن نخلد ذكراه بجهد قومي تتعدد أوجهه، ويهتم بصفة خاصة بدعم مركز أبي سليم، الذي وضع فقيدنا لبناته الأولى، وقد منحته الدولة قطعة أرض ليشيد مبانيه عليها، نحن على استعداد للمبادرة في هذا الشأن، وعلى استعداد أن ندعم مبادرة غيرنا من أهل هذا الفن إن كانت جادة ومجدية." دعني أيها القارئ الكريم اكتفي بهذه المختارات، لأن الحديث قد يطول عن "عُمَّار ساقية أبوسليم" الذين سجلوا مراثيهم في صحف الخرطوم السيارة أو شاركوا في فعاليات الندوة التي عقدتها الجالية السودانية في الرياض لتأبين أبي سليم، ويصدق في حق هؤلاء وفي حق فقيدهم قول الأخ الكريم الدكتور عبد الله علي إبراهيم: "بكى الوطن أبا سليم بعناية شديدة. ولا أذكر من تحول نعيه من أهل العلم عندنا من يومه الأول إلي دراسات دقيقة مثل أبي سليم. بكى الناس قبله العلماء بالدمع، غير أن بكاء أبي سليم كان بالمداد. فالرجل دوحة تفيأ ظلها الجمهرة، وذاق الجميع ثمارها الدانية."

    وبحلول يوم الاثنين الموافق السابع من فبراير 2005م ينقضي العام الأول على رحيل أبي سليم، ولم يكن أفراد أسرته مشغولين بعادات أهل السافل المتمثلة في "كسر التُربة"، و"صدقة الحول"، و"قراية الكتاب"، بل كانوا يقفون بقامة علمية ممشوقة وسط هذه التقاليد والعادات المشروعة، وقفة يستشرفون من خلالها مستقبل إرث والدهم التلييد، ليجعلوا منه دوحة غناءة يتفيأ ظلالها طلاب العلم، ويمنون أنفسهم أن ترتوي هذه الدوحة من مركز الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم للدراسات السودانية. وانطلاقاً من هذه الرؤية الثاقبة وزع الأستاذ الوليد أبوسليم رقاع الدعوة إلى عُمَّار ساقية أبي سليم للاشتراك في تظاهرة علمية تعقد فعالياتها في النادي النوبي في الفترة ما بين السابع إلى الثاني عشر من فبراير 2005م، تخليداً لذكرى الفقيد واحتفاءً بآثاره العلمية. فالشكر أجزله للأخ الوليد وأخته أماني التي طلبت مني المشاركة في فعاليات هذه الندوة، وليتني كنت بين الحاضرين، بيد أن بُعْدَ البون بين كوالالمبور والخرطوم يحول دون ذلك، ومن ثم آثرت أن تكون مشاركتي بهذه الكلمة المتواضعة التي أمل أن تصب في إطار الندوة المزمع عقدها وتسهم في تحقيق أهدافها المنشودة. ومن جهة نظري أن أهداف هذه التظاهرة العلمية يمكن أن تُجْمَل فيما يلي:

    أولاً: ضرورة الحفاظ على أدبيات أبي سليم وجعل مادتها متاحة لقُراء التراث السوداني وطلاب البحث العلمي، واحسب أن عُمَّار ساقية أبي سليم وفي مقدمتهم الأخ الوليد قد حققوا نجاحاً مقدراً في هذا الشأن، لأنهم قاموا بإعادة طبع كتاب "الشخصية السودانية" وحرصوا على تسويق بعض الأدبيات التي نشرها أبوسليم في سنواته الأخيرة مثل: "الخصومة في مهدية السودان"، و"محررات الخليفة"، و" محررات النجومي" و"محررات عثمان دقنه". فاقترح أن تكون هذه البادرة الطيبة خطوة تجاه طباعة الأعمال الكاملة للدكتور أبي سليم، ويراعي في ذلك وحدة الموضوع والتسلسل التاريخي، فمثلاً أن تصدر طبعة جديدة للساقية، والأرض في الفونج والفور والمهدية، والختم الديواني في دفعة، لأن هذه الأدبيات بينها وشائج قربى، ولا توجد الآن في سوق الكتاب السوداني، وقد مر على طبعاتها الأولى أكثر من عقدين من الزمان.

    ثانياً: الاعتناء بمشروع محررات الخليفة الذي وضع لبناته الدكتور أبوسليم، وأعد له عُدَّته منذ زمنٍ طويلٍ، وأذكر أنه في إحدى زياراته لجامعة بيرجن بالنرويج قد كلفني بتصوير جزء غير يسير من دفاتر الصادر الخاصة بمحررات الخليفة، التي كانت منسوخة على أشرطة ميكروفلم، وبعد الفراغ من تصويرها كتبت إليه قائلاً: "يغادرنا اليوم صديقكم دفع الله علي إبراهيم وإن جاز التعبير أبو الدفوع، متأبطاً إليكم بنسخة مصورة من دفاتر الصادر، أتمنى أن توافي الغرض، ويتقبل جهد الحواري المقل حمد ود دبلوك [إشارة إلى كاتب السطور]. وإذ كان هناك إشكالات في القراءة، فهذا يعزى إلى رداءة الأفلام، وسوء التصوير والتحميض في بعضها... الترقيم أحياناً غير منتظم، ولا أدري ما العلة في ذلك." وعندما تأخر في الرد كتبت إليه معاتباً: "لم يصلنا إلى تاريخ كتابة هذه السطور ما يفيد عن مشروع نشر وتحقيق أدبيات المهدية، نأمل أن تكون قد قطعت شوطاً مقدراً في هذا الشأن، وماذا عن الحسين زهرا، والحسن العبادي، ومؤلف كتاب النخيل أحمد يوسف هاشم الرباطابي، نأمل أن تكون هذه الأدبيات السودانية قد وجدت طريقها إلى مكتبة المأمون لكي نحظى بجعلنا فيها." وفي مايو 1997م رد عليَّ برسالة رقيقة، جاء في بعض ثناياها: "أنا بخير، والحمد لله اعمل كثيراً، ولكن أحياناً بلغة اسمع طحناً ولا أرى عجيناً. وقد انزعج كثيراً لضياع وقتي مع المتسائلين والمتطفلين، لكن حياتنا تسير على ما يرام. وأكاد الآن افرغ من محررات الخليفة حتى نهاية رمضان 1302هـ أي الشهر الذي توفي فيه المهدي، ومراسلاته في حياة المهدي هذه تبلغ نحو 640 محرراً مليئاً بالمعلومة." وأردف ذلك في خطاب آخر مؤرخ في أغسطس 1999م جاء فيه: "صدر لي كتاب الحسين زهرا، وراجعنا الآن كتاب الحسن العبادي في صورته النهائية للنشر. وكذلك صدر كتاب نصيحة العوام، وكتاب صاحب الربابة. وهذه كلها من أعمال بيرجن. وإذا وجدت أحداً مسافراً لعندكم سوف أرسل نسختك ونسخة آندرس من كل منها." وقصدت بهذه المختارات من الرسائل المتبادلة بيني وبين الدكتور أبي سليم، أن أشرك القارئ الكريم في طبيعة العمل الضخم الذي أعده أبوسليم لمحررات الخليفة، التي أطلق عليها اسم موسوعة المهدية، وإصدار مجلد واحد من هذه الموسوعة لا يعني أكثر من إنجاز 10% من الحجم الكلي للمشروع. وكان أبوسليم يعول على نشر هذه الوثائق باعتبارها الخطوة الأولي في طريق إعادة كتابة تاريخ المهدية، "لأن التاريخ القائم على المستند والمنهج، [حسب وجهة نظره]، ينشد الحقيقة وينميها وينير سبيلها، وهو غذاء للوجدان وإثراء للوعي القومي." ثم يواصل أبوسليم حاوره في هذا الشأن مع الأستاذ محمد صالح يعقوب قائلاً: "وقد جعلت هذه المهمة [أي مهمة تحقيق محررات الخليفة ونشرها] في مقدمة مهام المركز الذي أنشأته ..." لذا فعلى عُمَّار ساقية أبي سليم أن يكوِّنوا لجنة علمية من أهل العلم الدراية تقوم بتكملة مشروع موسوعة المهدية الذي بدأه أبوسليم، ويستحسن أن يُشرك في هذه اللجنة العاملين بدار الوثائق، ونفر من أعضاء جمعية المؤرخين السودانيين، وذوي الكفاءة العلمية في الجامعات السودانية، الذين يهمهم أمر دراسات المهدية ولهم القدح المعلي والقدم الراسخة في هذا المضمار.

    ثالثاً: يستحسن أن يُنجز مشروع موسوعة المهدية تحت أشراف مركز أبوسليم للدارسات، لأن الفقيد كان حفياً بهذا المركز، ويرى فيه منارة لخدمة الفكر السوداني، والشاهد على ذلك قوله في رسالة خاصة: "ومركزنا يتقدم والإجراءات الإنشائية تأخذ وقتاً كثيراً مع انشغالي بتكملة كتاب الخصومة، والمجلد الأول من محررات الخليفة عبد الله. ولكن الواضح أن فرص العمل كبيرة، وإننا سوف نجد دعماً من داخل السودان. حصلت على قطعة أرض واسعة للمركز، ولكن الإجراءات طويلة جداً، وبقيت خطوتان لأحصل على شهادة البحث". لذا فعلى عُمَّار ساقية أبي سليم أن يستثمروا المبادرة الطيبة التي قدمها السيد الصادق المهدي بشأن دعم مركز أبوسليم للدراسات، وقبل أن يبحثوا عن ذلك الدعم عليهم أن يقوم بإعادة هيكلة المركز من الناحية الإدارية والفنية، حتى يكون أهلاً لتحمل الرسالة العلمية الملقاة على عاتقة، ويجب أن يعدوا في هذا الشأن مشروعاً علمياً متكاملاً لنشر الأعمال الكاملة للدكتور أبي سليم، ومشروعاً آخر عن الكيفية التي يمكن أن تنجز بها موسوعة المهدية التي تشتمل بجانب محررات الخليفة عبدالله، على وضع أطلس للمهدية يتضمن الخرط التي تبين المواقع التاريخية المهمة، وصور أمراء المهدية، والنقود، والأزياء، والأعلام. واحسب أن توفر مثل هذه المواصفات الأكاديمية سيشجع السيد الصادق المهدي وغيره من الحادبين على توفير المعلومة الصحيحة الموثقة أن ينهضوا خفافاً وثقالاً في دعم هذا المشروع الطموح.
    وختاماً يطيب لي أن أزف التهنئة الصادقة للأخوة في النادي النوبي وبقية النفر الكريم من عُمَّار ساقية أبي سليم، الذين يعملون بتجرد وإخلاص من أجل إنجاح تظاهرتهم العلمية التي تنعقد فعالياتها بالنادي النوبي، والتي أتمنى أن تحقق غاياتها المنشودة، وتسهم في تحقيق ما كان يصبو إليه الفقيد الراحل، المقيم في وجداننا الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم، ألا رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
                  

02-29-2008, 02:54 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    السلطة والتراث: سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك
                  

02-26-2008, 12:39 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق للمتابعة
                  

03-04-2008, 12:44 PM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    up
                  

02-27-2008, 04:09 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    فوق
                  

02-27-2008, 04:26 AM

kabbashi
<akabbashi
تاريخ التسجيل: 03-04-2002
مجموع المشاركات: 321

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    مبروك صديقي البروف أبو شوك

    ها أنت تستمر في السير على خطاهم، شيوخنا الكبار، أبو سليم، يوسف فضل، القدال..

    إلى الأمام، ومزيد من العطاء

    والشكر لمبتدر البوست الذي أتحفنا بالكتاب.


    عثمان كباشي
                  

02-28-2008, 08:45 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: kabbashi)

    الاخ الحبيب / عثمان كباشى
    شكرا جزيلا لك على المرور والمداخلة
    اتحفتنا بتعليقكم الرائع
    وخليك معانا وما تطول الغيبة
                  

02-28-2008, 08:50 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    الدلالات الرمزية في مختارات الطيب صالح: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"

    أحمد إبراهيم أبوشوك

    ترجع صلتي بأدبيات الطيب صالح إلي صيف عام 1975م، عندما قرأتُ عمله الروائي البديع "موسم الهجرة إلى الشمال"، ووقتها كنت طالباً في المرحلة المتوسطة بقرية قنتي التي تبعد بضعة أميال من مسقط رأسه، ومقطع سُرته بقرية الدبة (كرمكول)، وكانت قراءتي الثانية في المرحلة الثانوية بمدينة كورتي في مطلع عقد الثمانينيات، والثالثة في مدينة بيرجن النرويجية في عقد التسعينيات، وكل واحدة من هذه القراءات الثلاث كان لها دلالاتها الخاصة، ولكنني في خاتمة المطاف أيقنتُ أن لثنائية الزمان والمكان، والاستعداد المعرفي للقارئ أثر خارق في إدراك القيم الرمزية التي تكتنـزها روايات الطيب صالح، بدءاً بـ "نخلة على الجدول" وانتهاءً بـ "ضو البيت"، ولشخصياته الدائرية قدرة خارقة على اختراق قيد المكان الثابت جغرافياً، وتجاوز حيوية الزمن المتغيرة دوماً. وقبل أسابيع أهداني الأخ الصديق الأستاذ محمود صالح عثمان صالح نسخة حديثة النشر من مختارات الطيب صالح، يعكس عنوانها الذي جاء في قاعدة الغلاف الورقي نموذجاً من نماذج وفاء المؤلف لأصدقائه: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"، ومنسي في عُرف الكاتب إنسان مصري له خصلتان حميدتان، "حبه للبسطاء وحفاظه للود. وقد ظل طول حياته يحتفظ بكل الصداقات التي كونها منذ بداية حياته ويضيف صداقات جديدة".(ص 21) والشيء الآخر الذي أثار إعجاب صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" حسب مبلغ ظني هو قُدرة منسي المذهلة على "التعرُّف بالناس واصطناع الأصدقاء والاحتفاظ بهم. وكان أصدقاؤه من مختلف الأجناس، وشتى المذاهب والمشارب والأقدار والمراتب. وكانوا كلهم عنده سواسية، الأمير مثل الفقير، يعاملهم ببساطة ودون تكلف." (ص 21)
    ويقع هذا العمل الأدبي البديع في 198 صفحة من الحجم المتوسط، مُقسم إلى أربع وثلاثين لوحة أدبية مترابطة موضوعاً ومعنًى، ومتداخلة من حيث الزمان والمكان، وقد صدرت طبعته الأولى عن شركة رياض الريس البيروتية للطباعة والنشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2004م، وعلق على صفحة غلافه الأخيرة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح بعبارات تلامس أطراف قامة الرجل الأدبية الشامخة، وتعكس عمقاً من أعماق تجلياته الفكرية: "... الطيب صالح -في رأي- كاتب شامل، مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطلاعه الواسع باللغتين العربية والإنجليزية على علم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروى، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر، كما تشهد هذه المجموعة من مختارات الطيب صالح".
    وأحسب أن قراءتي الأولى لسيرة منسي التي نسج خيوطها الأديب الطيب صالح بأسلوبه السهل الممتنع ستكون قراءة لها دلالتها الرمزية أيضاً، ربما تُشبه قراءتي الأولى لـ"موسم الهجرة إلى الشمال"، لكن الاختلاف بينها وبين تلك القراءة اختلاف توثيق ومعيار، علماً بأنني أريد أن أشرك القارئ الكريم في الدلالات الرمزية التي استقيتها من هذه السيرة المختارة عن حياة شخصية – كما يرى الطيب صالح- "غير مهمة بموازين الدنيا، ولكنها كانت مهمة في عرف ناس قليلين، قبلوها على عواهنها، وأحبوها على علاتها" (ص 9). والطريف في الأمر أن هذه الشخصية كانت تحمل أكثر من اسم، وتلعب أكثر من دور في مسارح الحياة التي تعج بالمتناقضات، لذا فقد عُرف صاحبها في موطن ميلاده ونشأته الأولى في صعيد مصر بـ "منسي يوسف بسطاوروس"، وأطلقت عليه الجالية المسلمة التي تواضع على ملتها في بلاد المهجر اسم "أحمد منسي يوسف"، وسجلت سلطات الجوازات والهجرة بياناته الشخصية تحت اسم "مايكل جوزف".
    فلا غرو أن سيرة منسي ذات الأبعاد المتداخلة والمسارات المتعرجة هي سيرة حقيقية كما أكد الطيب صالح في المقابلة التي أجراها معه الأستاذ خالد فتح الرحمن عبر القناة الفضائية السودانية، وليست روايةً منحوتةً من خيال الراوي الخصب وثقافته الدفاقة، كما يعتقد بعض الأدباء والنقاد والقراء، إلا أن هذا التأكيد لا يمنعنا من أن نضعها في خانات فنون الإبداع الأدبي مجتمعة، لأنها تحمل بين طياتها سلاسة القصص المروية، وعذوبة السير الذاتية، وفكاهة الذكريات التي تتخللها نكات الحياة المتنوعة وأريحية الكاتب وإنسانيته في عرض ملامح شخصية صديقه منسي يوسف بسطاوروس. وفي ضوء هذه القيم الإبداعية نؤكد القول بأن قراءة هذه السيرة ليست خاضعة لحكم الطيب صالح، بل تخضع لمزاج المتلقي الذي يصورها كيفما شاء في سلاسة ويسر، لأنه يجد فيها جزءاً من طرافة "عُرس الزين"، وبُعداً من أبعاد مرحلة ما بعد الاستعمار التي جسدها مصطفي سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، لأن "موسم الهجرة إلى الشمال" في عُرف بعض النقاد والأدباء رواية تعكس إفرازات "نظرية ما بعد الاستعمار"، تلك النظرية التي وضع لبناتها فرانز فانون، وتناول بعض جوانبها إدوارد سعيد في كتابه الموسوم بـ "الاستشراق"، ووثق طرفاً من مشاهدها وحيثياتها بيل اشكرفت وآخرون في كتابهم المعروف بـ "الإمبراطورية ترد كتابةً".
    فالسيرة في مجملها قامت على ثنائية جاذبة، زاوجت بين نذر قليل من سيرة الطيب صالح الذاتية، وطرف رئيس من سيرة صديقه منسي يوسف بسطاوروس، ولا شك أن مفردات السيرتين المنتقاة تشكلت في واقع معيش ومشترك بين رمزيهما، وقد حمل ذلك الواقع بين جوانحه سلسلة من المواقف والتحديات والذكريات المشتركة التي عُرضت مشاهدها على مسارح متعددة، واختلفت غايات المشاهدون وأهدافهم فيها. أما حصيلتهما السردية فقد نُسجت بمناول راوٍ مبدع، استطاع أن يربط مفرداتها ربطاً روائياً محكماً، أخرجها من رتابة السير والتراجم الإطرائية المتعارف عليها، وجعلها تتداخل في بعضها بعضاً في سلاسة ويسر، وتكتنـز أيضاً بين طياتها ثلة من القيم والدلالات الرمزية، التي يمكننا أن نجمل فيما يلي:

    أولاً: التسامح السياسي وحوار الأديان
    تتجلى قيم التسامح الديني في نشأت منسي بن يوسف بسطاوروس، الذي ولد قبطياً في بلدة ملاوي في عمق صعيد مصر، حيث التواصل الأريحي بين المسلمين والمسيحيين، ذلك التواصل الذي تجسدت معالمه في قول منسي: بأنه كان يقضي معظم أوقات فارغة مع أترابه من أطفال المسلمين، وكان يحسن قراءة القرآن دون أن يكون مسلماً. هكذا ولد – كما يرى الطيب صالح- "مسني على ملة، ومات على ملة، وترك أبناء مسيحيين، وأرملة وأبناء مسلمين". (ص 10-11) بالرغم من هذا التحول العقدي الذي شهدته حياة منسي إلا أنه لم يفرض عقيدته الجديدة على أبنائه المسيحيين، لذا فنجد ابنه الأكبر سايمون يعلم الطيب صالح بموت أبيه، ويخبره بأنهم لم يقومون بدفن الجثمان، لأنهم ينتظرون إجراءات الحرق، وعندما يرد عليه الطيب بأن أباه "كان رجلاً مسلماً، وحرق الجثمان محرماً عند المسلمين"، يعترض عليه سايمون بقوله: "نحن لا نعلم عن إسلامه شيئاً. الذي نعلمه أن والدنا كان مسيحياً، وكان يقول لنا حين أموت أحرقوا جثماني".(ص 10) إلا أن أمر الدفن قد حسم في خاتمة المطاف عندما اتصلت زوجته المسلمة بوزارة الخارجية السعودية التي أشرفت على دفن مسني وفق الشعائر الإسلامية، ونشرت صحيفة الأهرام المصرية بأن أهله في صعيد مصر أقاموا القداس على روحه في الكنسية القبطية.
    ويؤكد الطيب صالح أهمية هذا التسامح الديني في مقطع من مقاطع سيرته الذاتية المصاحبة لسيرة منسي: "وأذكر أن أبناء القبط كانوا يقرأون القرآن معنا في مدارس السودان، ويحضرون دروس الدين. وكان معنا قبطي يتلو القرآن بصوت جميل. وفي مدنية أم درمان حي يُسمي "المسالمة"، وهؤلاء أقباط هاجروا من مصر، وبعضهم دخل الإسلام، فتجد في العائلة الواحدة مسلمين ونصارى. وكذلك الحال في بلاد الشام وربما في العراق أيضاً. وفي لبنان، تكاد لا تجد فرقة من الفرق المتقاتلة، إلا وفيها المسلمون والنصارى. وأنا استعمل كلمة "نصارى" عمداً، فهذه هي الكلمة التي استعملها المسلمون والعرب طوال تاريخهم، وهى كلمة ليست فيها أية إيحاءات عدوانية، بل على العكس هي كلمة حافلة بالمودة والرحمة." (ص 161).
    ويعضد هذه القيمة الإنسانية في مقطع آخر من مقاطع الحوار الذي دار بينه بين السيد أحمد عبد الرحمن المهدي في عمان بالأردن، إذ يروي الطيب صالح على لسان محاوره بأن وفداً من الحزب الشيوعي السوفيتي حل "ضيفاً على الحزب الشيوعي السوداني. ولما سمع السيد عبد الرحمن المهدي، نادى عبد الخالق محجوب أمين عام الحزب الشيوعي السوداني، وكان يحدب عليه ويعامله كإبنه لأنه كان صديقاً لوالده، وقال له: " يا عبد الخالق، أنا سمعت أن الشيوعيين الروس نزلوا ضيوفاً عليكم، وأنا أعرف أن حزبكم ما عنده قدرة ضيافتهم وإكرامهم. نحن يهمنا أن يأخذوا فكرة طيبة عن السودان وأن الشيوعيين في السودان ناس كرماء يقومون بواجب الضيف. كيف أنتو ماشيين تكرموهم؟" ويرد عبد الخالق قائلاً: "والله يا سيد نحن ما فكرنا في الموضوع دا... نكرمهم على قدر قدرتنا. يمكن نعمل لهم حفل شاي". فقال له السيد عبد الرحمن: "أبداً. حفلة الشاي مش كفاية. تعزموهم كلهم للعشاء هنا. نعمل لهم عشاء كبير عندي هنا." ويعلق الطيب صالح على هذا المشهد الذي يؤانس بين العلاقة الإنسانية والخصومة السياسية، بقوله: "هكذا اجتمع الشيوعيون، سودانيين وبلشفيك، على مائدة السيد عبد الرحمن المهدي رجل الدين وإمام طائفة الأنصار وراعي حزب الأمة... أولئك رجال من أمة خلت. رحمهم الله رحمة واسعة" (ص 145). وفقدان مثل هذا التسامح الديني والسياسي من وجهة نظره قد جعل السودان "لا يمر عليه وقت إلا وتجد فيه زعماء يحكمون، ولهم نظراء داخل السجون، وكأن العراء الشاسع لا يتسع لهم جميعاً في وقت واحد." وعند هذا المنعطف يمني الطيب صالح نفسه قبل يغادر هذه الحياة الدنيا "أن يرى زماناً يكون الناس فيه كلهم طلقاء، ولا يكون داخل السجون إلا القتلة الحقيقيون واللصوص الحقيقيون". (ص 144-145) "وحيئنذ سوف تطيب الليالي لسمَّارها، وتعود الطيور لأوكارها، وحتى ذلك الحلم العسير، حلم العودة إلى فلسطين لن يكون بعيد المنال." (ص 195).

    ثانياً: البلطجة السياسية في بلاد العالم العربي
    يضع الطيب صالح ثنائية النص الجاذبة في إطار عام عندما يستعرض بعض الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية في السودان والوطن العربي، وكيفية تداخلها مع أحداث العالم الغربي القائمة على منظومة المصالح الثابتة، والصداقات المتغيرة، والإرث التاريخي المشترك. وهنا يبرز الطيب صالح دور البلطجة السياسية عندما يتحدث عن تلك المحاضرة التي نظمها اتحاد طلبة جامعة لندن في أوائل الستينيات من القرن الماضي تحت عنوان: "هذا المجلس يوافق على أن تقوم دولة مستقلة للفلسطينيين في فلسطين"، وكان المحاضر فيها الأستاذ الجامعي ريتشارد كروسمان، الذي يصفه صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" بأنه من "مفكري اليسار المعدودين، ومن المنظرين الكبار في حزب العمال ... [ومن المنحازين] تماماً لوجهة النظر الصهيونية." (ص 60) وبقي أقل من ساعة على بدء المحاضرة، فيدور حوار طريف بين الطيب صالح وصديقه منسي، وهما في طريقهما إلى قاعة المحاضرة، ويعكس ذلك الحوار جملة من الدلالات الرمزية التي تجسد قيمة من قيم البلطجة السياسية في بلاد العالم العربي. إذ يقول منسي لصاحبه: "اسمع. قول لي بسرعة إية حكاية فلسطين دي". فيرد عليه الكاتب بقوله: "الله يخيبك. تقصد سوف تواجه ريتشارد كروسمان وأنت لم تستعد؟ ألا تعرف من هو ريتشارد كروسمان"؟ ويرد عليه صاحبه: "بلاش غلبه. بس أنت قول لي بسرعة إية حكاية وعد بلفور ومش عارف إية وشغل الحلبسة دا". ثم يرد عليه الكاتب ممتعضاً: "يا ابني دا مش لعب. هذه المناظرة مهمة جداً... فرصة نادرة لن تتكرر. الله يخرب بيتك. أنت مين اختارك لتكون ناطقاً باسم العرب؟" ويرد عليه منسي: "مالكش دعوة. بس أديني شوية معلومات وما تخافش عليَّ. قال ريتشارد كروسمان. (.........)! وإية يعني؟" والطريف في الأمر أن المناظرة انتهت لصالح منسي الذي "تكلم بجنان ثابت ولغة إنجليزية فصيحة. لكنه لم يقل شيئاً يجذب الاهتمام، وقد حاول أن يغطي جهله بقوله، إنه سوف يترك التفاصيل للفريق المساند له." (ص 60-61). "ولما عدَّت الأصوات، انتصر، ويا للعجب، الاقتراح الذي دافع عنه فارسنا "التعبان": وهو لا يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرف راعي الإبل في بادية كردفان. وكان ذلك دليلاً آخر أضافه منسي إلى ذخيرته، أن الصدق والمنطق واتباع الأصول، لا تجدي، إنما الذي يجدي في الحياة وفي قضية فلسطين وفي كل شئ، هو الأونطة وشغل الحلبسة. ثم يمضي الطيب ويقول: "لفتت تلك الليلة الأنظار إليه، ومنها نظر الرئيس جمال عبد الناصر الذي أرسلت له السفارة المصرية- حسب رواية منسي- تقريراً مدعماً بالصور كيف أن شاباً مصرياً "مسح الأرض" بأحد جهابذة السياسة في بريطانيا. ولعل ذلك كان صحيحاً فقد تلقى منسي دعوة لحضور مؤتمر للمغتربين المصريين وبذلك بدأت مرحلة جديدة في حياته." (ص 63).
    فلا شك أن قصة هذه المناظرة لها أبعادها الرمزية ودلالاتها المعرفية التي تتجاوز قيد المكان الذي تشكلت فيه حيثياتها، وتخترق حجب الزمان التي زاوجت بين القديم الموروث والجديد المستحدث في بلاد العرب والمسلمين، حيث أن الصدق والمنطق واتباع الأصول، لا تجدي، إنما الذي يجدي في تصريف شؤون الناس الحياتية هو الأونطة وشغل الحلبسة، لذا فإن هذا الواقع جعل تلك البلاد موطناً للحروبات الدائمة، والفقر المدقع، والعنت السياسي الذي افرغ العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم من محتواه الوظيفي، وجعل الصراع محتدماً بين زعماء يحكمون، ولهم نظراء داخل السجون.

    ثالثاً: الإعلام العربي وصورة العرب المشوهة في العالم
    لا تقف الدلالات الرمزية في هذه السيرة المزدوجة حكراً على شخصية منسي ذات المواهب المتعددة التي تبدو متناقضة أحياناً ومتكاملة أحياناً أُخر، لأنها استطاعت أن تزاوج بين الذكاء، والتفوق الحقيقي، والتظاهر بالمعرفة، والنجاح من خلال عقلية تجارية تعرف من أين يؤكل الكتف، وبين الوقاحة والاحتيال والجرأة، وبين الكرم، ومساعدة الآخرين، والضحك، والصبيانية، والرفقة المسلية في الغالب، بل تعدَّتها إلى تجربة الطيب صالح نفسه، التجربة التي جعلته يصل إلى قناعة تامة بأن صورة العرب المشوهة في العالم لا يمكن أن يُزال ماران عليها من تشوهات وشبهات إلا عن طريق جهاز إعلامي فاعل. وفي هذا يقول: "لقد أخذت قطر قرارات مؤتمرات وزراء الإعلام العرب مأخذه الجد، وكل الكلام عن صورة العرب المشوهة في العالم، وانبرت، نيابة عن الدول العربية، لدراسة إمكانية إنشاء مؤسسة إعلامية كبرى، على نمط المؤسسات العالمية الكبيرة، مثل مؤسسة فورد وروكفلر والمجلس البريطاني ومؤسسة جوته الألمانية، والمؤسسات الثقافية والإعلامية في فرنسا والسويد واليابان. وكان الهدف، أن تقوم هذه المؤسسة العربية بتمويل ضخم، من الدول العربية البترولية خاصة، وتنطلق في العمل في آفاق الإعلام الرحبة والثقافة والفكر والفن، ناقلة حضارة العرب بكل تراثها وتنوعها، في ماضيها وحاضرها، إلى شتى أرجاء المعمورة. بمعني آخر، أن يصبح العرب مشاركين فاعلين في سوق الأفكار المطروحة في العالم، ومساهمين بما عندهم في مائدة الحضارة الإنسانية، بدل أن يكونوا عالة على الآخرين، يأخذون ولا يعطون. تصور أي حلم رائع لو أنه تحقق. وكان القصد أيضاً أن تكون هذه المؤسسة مستقلة تماماً، تتحرك بلا قيود ولا حدود في إطار الهدف السامي المتفق عليه أصلاً. ولا بد لي من القول، إحقاقاً للحق، إن سمو أمير دولة قطر تحمس لهذه الفكرة حماسة بالغة، وأيدها تأييداً مطلقاً.
    هكذا اختارت دولة قطر رجل الإعلام الكبير، الأستاذ محمود الشريف، وقد كان مديراً لوزارة الإعلام القطرية قبلي، ليسافر إلي أمريكا، وانتدبتني لأسافر للهند وأستراليا واليابان وبعض دول أوروبا الغربية. وقد كلفنا بأن نتعرف على الصورة العربية في تلك البلاد، ونلم بأنماط المؤسسات التي على غرار المؤسسة العربية المرجوة. وقد رأينا عجباً. وئد الحكم في مهده لسوء الحظ، ولم ترتفع الهمم إلى مستوى الطموح النبيل." (ص 148-149)
    ولاشك أن هذا المشهد يعكس نمطاً أخر من أنماط العقلية العربية التي تحركها العواطف، وبفعل هذه العواطف تتحول الأفكار الموضوعية إلي مشروعات عملية جادة، توضع لها الخطط والبرامج والدراسات من قبل المختصين والخبراء، وتصرف فيها الأموال الطائلة، إلا أن مثل هذه المشروعات سرعان ما توأد في مهدها بمعاول العواطف المعاكسة التي لا تنطلق من نظرة واقعية، بل ترتكز إلى أرث البلطجة والحلبسة الذي جعل بلاد العرب والمسلمين تسير سيرة عرجاء في أوحال واقعها المعيش.

    خاتمة
    هذه الدلالات الرمزية الثلاث التي أشرنا إليها أعلاه هي عبارة عن ملاحظات منتقاة من مواقف سيرة منسي وأحداثها، التي لا يمكن اختصارها أو اختزالها في صفحات معدودات، لأنها لا تقبل التشظي والتفطر، لكونها كتلة واحدة متجانسة ومتكاملة، يربط بينها السرد الواقعي لمفردات السيرة المزدوجة، ويعطيها أسلوب الطيب صالح المتفرد طعماً ومذاقاً خاصاً، لأنه أسلوب ينعم بالعمق، والمفاجأة، والسخرية، واللباقة، والدفء، حيث ينفذ إلى وجدان القارئ من خلال منافذ متنوعة ومسارات متعددة، تجعل الجميع يختلفون حول ماهية النص وتصنيفه: هل هو رواية من نسج خيال الطيب صالح الخصب؟ أم هي سيرة ذاتية للطيب صالح وأن منسي يشكل جزءاً من هموم صاحب السيرة وقيم المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه؟ أم هي نمط مبتكر من السرد الروائي؟ كل هذه التساؤلات تساؤلات مشروعة، تفتح المجال واسعاً أمام خيال القارئ الحصيف، وتؤكد في الوقت نفسه أن للسيرة أبعاداً غير مرئية، إلا أنها تنداح لمزيد من التذوق والحركة، ولجملة من الفرضيات التي تقود القارئ إلى نتائج متباينة. وعند هذا المنعطف تكمن قيمة سيرة منسي الإبداعية، لأنها تدر على النص كماً مهولاً من المفاهيم والقيم والعلاقات الاجتماعية، وتجعله أيضاً يكتسب قيمة اكتنازية فائقة، تمكنه من تتجاوز المعاني اللفظية للمفردات وللأحداث التاريخية المنتقاة التي شيد الراوي حولها صرح عمله الفني المبدع. وفي الختام يسرني أن أسدى الشكر أجزله إلى الأخ الصديق محمود صالح عثمان صالح على هذه الهدية القيمة التي تستحق أكثر من قراءة فاحصة، لأنها تذخر بكثير من الدلالات الرمزية
    .
                  

02-29-2008, 03:56 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    لمزيد من المتابعة فوق
                  

04-03-2008, 09:14 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    اولا وقبل كل حساب لابد ان ازجي خالص الشكر والود للباشمهندس بكري ابوبكر لكريم استجابته لطلبنا بتجديد هذا البوست للربع الثانى من هذا العام وذلك لاهميته .... ولاننا كنا قد انشغلنا عنه في الفترة الاخيرة نسبة لمشغوليات كثر ... ونواصل استعراضنا لسفر البروفسيور احمد ابراهيم ابوشوك : السودان : السلطة والتراث ..ومعكم نتابع
                  

04-04-2008, 08:24 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    دار الوثائق القومية السودانية
    إرث تليد ... ومقر جديد
    أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

    في التاسع عشر من ديسمبر عام 2006م تسلَّم الأستاذ كمال عبد اللطيف، وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء، الدفعة الأولى من وثائق دار الوثائق القومية السودانية، لتُودع بمقرها الجديد بشارع السيِّد عبد الرحمن، فلا عجب أن اختيار هذا اليوم فيه تثمين لتاريخ إعلان استقلال السودان من داخل البرلمان عام 1955م، ووجود الدار مصادفة بشارع السيِّد عبد الرحمن فيه تقدير لصاحب السرايا التي آوت دار الوثائق القومية أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، بالرغم من ضعف تأهيلها التقني وتصميمها العمراني. وتشغل مستودعات الدار الجديدة مبنًى حديث الصنعة العمرانية، يتكون من ثلاثة طوابق رئيسة، ذات إعداد فني وتقني عالٍ، مزودة بكل احتياطات الأمان الخاصة بحفظ المعلومات والوثائق. وتسع هذه المستودعات نحو 120 مليون قطعة وثائقية، مصحوبة بمركز تدريب وثائقي حديث، وقاعة اطلاع إلكترونية للباحثين والقُراء، وشبكة عنكبوتية تربطها بالجامعات ومراكز البحث العلمي. فلا غرو أن هذه النقلة النوعية لها دلالاتها المهمة التي تدفعنا لتقديم قراءة تحليلية للإرث التاريخي التليد الذي تدثرت به هذه المؤسسة العريقة، من حيث النشأة والتطور، والكفاءات الإدارية التي أسهمت في تأسيس صرحها المعلوماتي، وطبيعة الوثائق التي تحملها بين ظهرانيها، والدور الذي ينبغي أن تتصدى له في عصر العولمة وتقنيَّة المعلومات.


    دار الوثائق القومية: النشأة والتطور
    تعد دار الوثائق القومية السودانية من أقدم دور الوثائق في المنطقة العربية والإفريقية، وأعرقها إرثاً وثائقياً، وكفاءةً مهنيةً، فهي من حيث الأقدمية في المرتبة الثانية بعد دار الوثائق المصرية، إذ يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1916م، عندما شرعت إدارة الحكم الثنائي (1898-1956م) في جمع الأوراق المالية والقضائية وأرشفتها، ثم تطورت هذه الخطوة في تأسيس مكتب محفوظات السودان عام 1948م. وبعد الاستقلال تشعبت مهام مكتب المحفوظات، ونمت لتواكب إعادة هيكلة مؤسسات دولة السودان الحر المستقل، وتساير تصاعد الوعي الفكري حول أهمية الوثيقة في دراسة جذور المشكلات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. وفي إطار هذا التوجه برزت شخصية الدار الاعتبارية، وذلك بصدور قانون دار الوثائق المركزية لسنة 1965م، الذي بموجبه عُدل اسم مكتب محفوظات السودان إلى دار الوثائق المركزية، وحُددت مهام الدار واختصاصاتها، والضوابط التنظيمية التي تحكم حركة الوثائق فيها، وتوضح مصادر اقتنائها، وكيفية الحصول عليها من المؤسسات الحكومية والأكاديمية والأفراد. وفي عام 1982م عُدلت مفردات القانون، وبموجب ذلك التعديل أضحت الدار هيئة ذات شخصية اعتبارية تُعرف بدار الوثائق القومية، وتُدار بمجلس قومي يرأسه الوزير الذي يسميه رئيس الجمهورية (أو رئيس الوزراء)، وجهاز تنفيذي يتصدره الأمين العام ونائبه ومساعدوه في الإدارات التالية: إدارة الوثائق الحكومية، وإدارة المحفوظات، وإدارة البحوث، وإدارة الشؤون الفنية (الصيانة والترميم)، وإدارة العلاقات العامة والتدريب، وإدارة الشؤون المالية والإدارية.

    وفي ضوء هذه الطفرة الإدارية والقانونية استطاعت دار الوثائق القومية أن تحقق عدداً من الإنجازات الرائدة التي نجملها فيما يلي:

    أولاً: استطاعت أن توسع أوعية اقتناء الوثائق والأرشيف، لتشمل وثائق المؤسسات الحكومية ذات الصبغة العلمية والإثباتية، وأرشيف الصحافة والمطبوعات التي تصدر محلياً، ووثائق بعض الأُسر السودانية والأفراد. وبمرور الزمن تمكنت الدار أن تجمع ثروة وثائقية طائلة، يُقدر كمُّها بثلاثين مليون قطعة وثائقية، تقع في نحو مائتي مجموعة وثائقية وأرشيفية، تُغطى كل الحقب التاريخية في السودان باختلاف مناشطها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ونذكر منها: مجموعة سلطنتي الفونج والفور، ومجموعة المهدية التي تقدر بثمانين ألف وثيقة، ومجموعة السكرتير الإداري، ومجموعة المؤسسات التشريعية مروراً بالمجلس الاستشاري لشمال السودان وانتهاءً بالمجلس الوطني، ومجموعة القصر الجمهوري، والغازيتة والصحافة السودانية، ومجموعة الماسونية، ومجموعة محمد عبد الرحيم، ومجموعة معاوية محمد نور، ومجموعة محمد إبراهيم أبوسليم، ومجموعة حاجة كاشف بدري.

    ثانياً: استطاعت الدار أن تُعْلم ذوي الاهتمام بمقتنياتها الوثائقية والأرشيفية عبر العديد من المراشد والفهارس، وتجعل مادتها متاحة لكل الباحثين، وفق شروط أهلية معينة لا اعتبار فيها للون، أو العرق، أو المعتقد. وبفضل هذا التوجه غير المرهون بقيود الولاء السياسي جعلت الدار من نفسها كعبة يقصدها طلاب الدراسات السودانية، الذين أثمرت جهودهم العلمية في عدد من الكتب والمقالات والأطروحات الأكاديمية التي أسهمت في تطوير الدراسات السودانية، وجعلتها تتسم بالموضوعية، والمنهجية القائمة على المعلومة الصحيحة الموثقة بعيداً عن الانطباعات الشخصية.

    ثالثاً: بفضل المادة الوثائقية المكنوزة في مستودعاتها استطاعت الدار أن تسهم في حل كثير من القضايا القومية، وذلك بتوفير المعلومة الصحيحة الموثقة، وبرفد اللجان والمؤتمرات بممثلين من كادرها المتخصص في القضايا المطروحة للنقاش. وخير شاهد لذلك الدور الذي قامت به في مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة دراسة الإدارة الأهلية، ولجنة إعادة تقسيم المديريات؛ وعلى المستوى الإقليمي دورها الرائد في تقديم الوثائق الإثباتية التي حسمت الصراع المصري-الإسرائيلي حول مشكلة طابا لصالح جمهورية مصر العربية.

    رابعاً: قامت الدار بدور بارز في ترقية العمل الوثائقي والأرشيفي على الصعيدين الدولي والإقليمي، وذلك من خلال عضويتها الدائمة في المجلس الدولي للوثائق والأرشيف منذ عام 1966م، وبوصفها عضواً مؤسساً في الفرع الإقليمي العربي والفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا التابعين للمجلس الدولي للوثائق والأرشيف. وتثميناً لهذا الدور انتخب أمينها العام السابق (أبوسليم) رئيساً للفرع الإقليمي العربي لعدة دورات متعاقبة، كما سبق أن انتخب نائباً لرئيس المجلس الدولي للوثائق في إحدى دوراته، وشغل نائبه السابق الأستاذ محمد محجوب مالك منصب رئيس الفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا. وبهذه الكيفية أسست الدار لنفسها سمعة إقليمية وعالمية طيبة.

    الكفاءات الإدارية: الماضي والحاضر
    بدأ مكتب محفوظات السودان يأخذ شكله المؤسسي عام 1954م، عندما عُيِّن الأستاذ بيتر مالكُلم هولت (1918-2006م) أول أمين له، وفي مكتبه الصغير الذي كان يقبع في مباني السكرتير الإداري (وزارة المالية حالياً) وضع هولت اللبنات الأولية لتحديد مسار الأرشيف السوداني، وقام بمجهودات رائدة في ترتيب وتبويب وفهرسة الوثائق التاريخية عامة، ووثائق المهدية والمخابرات العسكرية بصفة خاصة. وبعد سودنَّة وظيفة أمين مكتب المحفوظات عام 1955م عاد هولت إلى بريطانيا، حيث عمل عضواً بهيئة تدريس مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، وفيها نال درجة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. وخلال مسيرته الأكاديمية الحافلة بالعطاء أعد البروفسير هولت جملة من الأبحاث المفصَّليَّة في تاريخ السودان والشرق الأوسط، وأذيعها صيتاً كتابه الموسوم بـ "الدولة المهدية في السودان"، الذي يُعدُّ واسطة عِقدّ في الدراسات السودانية، وأدبيات المهدية تحديداً. وأخيراً توَّج هولت حياته المعاشية بترجمة موثقة حواشيها لمخطوطات تاريخ الفونج وطرفاً من التركية السابقة. وبجانب اهتماماته البحثية ظل متابعاً لسيرة دار الوثائق القومية إلى أن وافته المنيَّة في الثاني من نوفمبر 2006م، بعد عمر قارب التسعين عاماً.

    وعاون هولت في إدارة مكتب محفوظات السودان تلميذه النجيب محمد إبراهيم أبوسليم (1930-2002م)، الذي كان حديث التخرج من كلية الخرطوم الجامعية آنذاك. وبعد تقاعد هولت وسفره إلى بريطانيا عام 1955م تولى الأستاذ أبو سليم إدارة مكتب المحفوظات، وفي ضوء تعديل قانون مكتب المحفوظات عام 1965م رُقِي إلى منصب مدير دار الوثائق المركزية، وفي السنة التي احتفلت فيها دار الوثائق باليوبيل الذهبي للمهدية (1881-1981م) رُفَّع أبوسليم إلى منصب أمين عام دار الوثائق القومية، وظل في ذات المنصب بمسمياته المختلفة لمدة أربعة عقود متتالية (1955-1995م)، قدم خلالها خدمة جليلة للوثائق وتاريخ السودان بشقيه القديم والحديث. وبفضل جهوده في جمع الوثائق السودانية من مظانها المختلفة كوَّن أبوسليم لنفسه اسماً لامعاً في أدبيات التراث السوداني، استندت قاعدته إلى وثائق الفونج والفور في الأرض، وبُنيت خاصرته على بعض مفردات التركية، ونُسج عرشه بوثائق المهدية التي أضحى أبوسليم حجة في أدبياتها دون منازعٍ. وأخيراً تبلور هذا الجهد الخلاق في أكثر من ستين مؤلفاً، جميعها، كما يرى البروفيسور قاسم عثمان نور، "تعتمد على دار الوثائق ومخزونها في الوثائق السودانية، ... والمصادر الأولية التي تمثل الوثائق نسبة عالية منها". وعندما تقاعد أبوسليم عام 1995م، كانت دار الوثائق القومية تكتنـز نحو ثلاثين مليون قطعة وثائقية وأرشيفية، تشمل كافة المجموعات التي أشرنا إليها أعلاه.

    دار الوثائق القومية: إرث تليد ومقر جديد
    وبعد أن تقاعد الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم عن العمل الإداري خلفه على أمانة دار الوثائق القومية الدكتور علي صالح كرار، الذي تخرج من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1973م، ونال درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة بيرقن النرويجية عام 1985م، وحضر عدة دورات تدريبية في مجال الوثائق والأرشيف. وبموجب هذا الإجراء الإداري عُين أبوسليم مستشاراً لمباني دار الوثائق الجديدة التي وُضع حجر أساسها في التاسع عشر من ديسمبر 2002م، وفي السابع من فبراير 2004م، أي بعد أقل من عام ونصف من تاريخ وضع حجر الأساس، انتقل الدكتور أبوسليم إلى الدار الآخرة قبل أن يلقي نظرة أخيرة على مباني دار الوثائق وهي في ثوبها الجديد الفضفاض. وفي ظل النقلة الجغرافية والنوعية التي شهدتها دار الوثائق في نهاية العام المنصرم (2006م)، نلحظ أن هناك حزمة من الأسئلة تطرح نفسها: ماذا تريد دار الوثائق القومية من إدارتها الحالية؟ وما المتوقع أن تنجزه هذه الإدارة في مقرها الجديد الذي تقدر كلفته المالية بأربعة ملايين دولاراً أمريكاً ونصف المليون؟ وهل الدار مؤهلة بشرياً لمواكبة هذه النقلة النوعية؟

    أولاً: يجب أن تأخذ الإدارة الحالية في حسبانها أهمية تقنية المعلومات باعتبارها مسألة ضرورية لأي مجتمع ينشد التطور، والتقدم، والتواصل الإيجابي مع الآخر في إطار ثورة التقانة التي يشهدها العالم اليوم. وذلك لا يتأتى إلا بتطوير أوعية التخزين وكشافات الاستراجاع الحالية إلى أوعية وكشافات ممغنطة، وذلك حفظاً لسلامة المعلومات وسهولة استرجاعها. فلا شك أن العاملين بدار الوثائق أكثر معرفة وإلماماً بهذه القضايا، لكن في كثير من الأحيان تقف ندرة العنصر البشري المؤهل والمتخصص، ووفرة الوسائط الفنية، وعدم كفاية الميزانيات المصدقة عائقاً أمام تطلعاتهم التي ينشدونها في مجال إدارة الوثائق والأرشيف.

    ثانياً: إذا كانت الفقرة أعلاه تمثل الرؤية الاستراتيجية لتحديث دار الوثائق القومية، فإن هذه الرؤية لا يمكن أن تتحقق إلا بتوفر العنصر البشري المؤهل، والقادر على الابتكار والإبداع. فانطلاقاً من هذه الفرضية فإن الدار تحتاج لجهود مكثفة لتطوير قدراتها الفنية في شتى ضروب العمل الوثائقي والأرشيفي، وذلك بتأهيل كوادرها المهنية والفنية محلياً وخارجياً، علاوة على الاستئناس بتجارب الشعوب الأخرى التي قطعت شوطاً مقدراً في مجال العمل الأرشيفي وتقنيَّة المعلومات.

    ثالثاً: إن التأهيل المهني والفني وحده لا يكفي، لأن الموظف أو العامل في أية بقعة من بقاع الأرض يحتاج إلى تحفيز مادي ومعنوي، فالتحفيز المادي يتجلى في عدالة الأجر (الراتب) الذي يكفي حاجيات الأجير الضرورية، ويسد جزءاً من متطلباته الكمالية حسب تدرجه في السلم الوظيفي، والتحفيز المعنويّ يعني عدالة الهيكل الوظيفي والترقيات والعلاوات الدورية التي تحدد وفق كفاءة العامل، وجودة عطاءه المهني والفني. وبتوفر هذين العاملين يتحقق الاستقرار الوظيفي، وتتراكم الخبرات، ويتضاعف عطاء دار الوثائق وفق منظومة تدافع وظيفي شريف ومبدع، فغيابهما في العقود الماضية جعل من الدار محطة عبور لكثير من الكوادر المؤهلة التي هجرتها إلى بعض المؤسسات الداخلية أو الخارجية ذات العطاء الأوفر والتقدير المهني الأجلّ.

    وفي الختام يسعدني أن أزف التهنئة الصادقة إلى العاملين بدار الوثائق القومية، وأتمني لهم إقامة طيبة في دارهم الجديدة، إقامة قوامها العطاء والإنجاز، وشعارها صيانة الدار التي تعد بمثابة ذاكرة الأمة التي لا تنسى، لأنها مستودع الأرشيف، وخزانة الوثائق السودانية، ومحور ارتكاز النظام الوطني للتوثيق في إطار الشبكة القومية للمعلومات.
                  

04-04-2008, 08:31 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    الشاعر عمر الحسين محمد خير
    يا شمعة كانت تذوب وتحترق من أجل إسعاد الآخرين

    د. أحمد إبراهيم أبوشوك
    كوالا لمبور، ماليزيا

    مقدمة
    كتب الأستاذ كمال علي الزين إطلالة حزينة على صفحات "منتديات سودانيز أون لاين"، حيث نعي فيها الشاعر المطبوع والأديب اللوذعي عمر الحسين محمد خير، بلغة راثية، وفرضيَّة مفادها أن بلادي لا تحتفي بسير المبدعين والأعلام، لأن عمر الحسين مات في حلة كوكو وحيداً وغريباً دون أن يعلم بوفاته أحد، "مات كما مات الجاحظ وسط كتبه وأراقه ومراجعه، واكتُشفت جثته بعد ثلاثة أيام، في خلوته ينشد الهدوء لإنجاز عمل أدبي كبير للشاعر حسونه". (الكيك، سودانيز أون لاين) وعضد هذه الفرضية بشهادات صديقه الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك، الذي كانت تربطه بعمر الحسين علاقة ودِّ شفيف، ووشائج قربى من نوع فريد، قوامها الاهتمام بتراث شريحة من شرائح المجتمع السوداني، تقيم على ضفاف النيل الخالد، الذي اكسبها فناً ذواقاً وعطاءً إنسانياً مبدعاً. بحق قد قرأتُ هذه الإطلالة بحزن عميق وأسى جامح، لأنني كنت على معرفة بعمر الحسين ومشروعاته التوثيقية، وكنت أيضاً مشغولاً بجمع بعض القصاصات التي ربما تعينني في إعداد بحث يليق بقامة هذا الرجل المغمور، الذي قصَّرت قامة الوطن المثخن بجراحاته عن تقدير عطائه الدافق. وفي ضوء هذه الإطلالة الباكية بأجفان شادٍ شرعت في كتابة هذه السطور وفاءً وعرفاناً لابن "نوري" الأغر، الذي كان شمعة تذوب وتحترق من أجل إسعاد الآخرين، واستجابة لنداء الأستاذ كمال علي الزين، ذلك النداء المرهف الجريح.


    من أين أتى هذا الرجل؟
    أتى عمر الحسين محمد خير من صلب قرية نوري وترائبها، تلك القرية الوادعة على ضفاف النيل، والتي اشتهرت بخلاوى الحواجنير، والحمدتياب، والناطقاب، والكوارير، والعراقاب، أنجبت ثلة من الشعراء والمبدعين أمثال الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، وأستاذ الفن التشكيلي محمد أبوسبيب المقيم بالسويد. بدأ الصبي عمر رحلته التعليمية في تلك البيئة المعطرة بتراتيل القرآن الكريم، والمادحة بأدبيات حاج الماحي، والمغنية بأشعار حسونه، ومنها هاجر في طلب العلم والمعالي، حيث استقام ميسم تحصيله النظامي في مدرسة خورطقت الثانوية بولاية كردفان، وبعدها آثر الحياة العملية موظفاً ببنك الدولة للتجارة الخارجية (بنك الخرطوم).

    هكذا نشأ عمر الحسين نشأة متواضعة كسائر أترابه في الريف، وترعرع شاعراً مرهفاً منذ سني حياته الباكرة، التي تفتقت قريحتها الشعرية بقصيدة نظمها استجابة لرغبة جدته، التي كانت تحفظ مقاطع قصيدة أُنشدت في مدح زوجها الراحل:

    بابك ما انقفل ونارك تجيب اللم
    وما بتحلف تقول غير استريح حرم

    وكانت الجدة تتفرس في حفيدها عمر مشروع حلم يكمل صياغة هذه الأبيات في شكل لوحة شعرية مادحة لفضائل الجد الفقيد، تشفي بها غلواء حدادها المكلوم، وترد غربة ذاتها الضائعة في سماء حزنها المهيب وغياهب حرمانها الجارفة. فهكذا صدق حدسها اللماح وتحقق حلمها الضائع في كفاءة حفيدها عمر، الذي أنشد قائلاً:

    شدوا لك رِكب فوق مهرك الجماح
    ضرغام الرجال الفارس الجحجاح
    تمساح الدميرة الما بيصده سلاح
    المال ما بيهمك إن كتر وإن راح
    ***
    بطناً جابتك والله ما بتندم
    ويا أسد الكداد الفي خلاك رزم
    ويا رعد الخريف الفوق سماك دمدم
    ***
    بابك ما انقفل ونارك تجيب اللم
    وما بتحلف تقول غير استريح حرم
    ***
    أبواتك جبير بيسدوا للعوجات
    ومطمورتك تكيل للخالة والعمات
    وفي الجود والكرم إيديك دوام بارزات
    ويا أب قلباً حديد في الحوبة ما بتنفات
    ***
    صدرك للصعاب دايماً بعرف العوم
    وفي وسط الفريق في الفارغة ما بتحوم
    لا تتلام ولا بتعرف تجيب اللوم
    تفخر بيك بنات البادية والخرطوم
    ***

    وكانت هذه القصيدة من روائع القصائد التي تغني بها الفنان الراحل سيد خليفة مادحاً الرئيس السابق جعفر محمد نميري. ويقال أن سيد خليفة عندما صدح بها على خشبة المسرح القومي بأم درمان كان شاعرنا عمر الحسين رهين محبس كوبر مع رهط من الرفاق، وفور خروجه من السجن، حسب رواية الفاتح التلب، ذهب إلى دار الفنانين بإمدرمان، وطلب من سيد خليفة أن يسحبها من سجل أغنياته المصنفة المجازة، وأخيراً انتهى الأمر بتعهد سيد خليفة كتابةً بأن لا يغني هذه القصيدة في أي محفل عام، وخاصة في حضرة الرئيس نميري.

    إلا أن هذا الموقف لا يمنعنا القول إن الشاعر عمر الحسين كان أيضاً مناصراً "لثورة مايو" في مطلع سنواتها الأولى، لأن لدية قصيدة مقررة لطلاب المدارس المتوسطة، وبعض أبياتها تقول:
    نعم لبيك يا وطني نعم لبيك يا وطني
    وحداؤك يملأ الأكوان شق دجنة الزمن
    وحبك بسمة الأسحار أعشقها وتعشقني
    ****
    أيا مايو أيا طفلاً سماوياً على الأيدي حملناه
    ويا ركبا بطولياً تدق الصخر كفاه
    تقدم أن في التاريخ حرفاً ما كتبناه

    وبغض النظر عن الموقف السياسي والمنطلق الفكري، إلا أن هذه القصيدة دون مراءٍ تعكس طرفاً من مواهب عمر الحسين الخلَّاقة، وقدراته الفائقة في نظم الشعر والقصيد. ويبدو أنه بعد هذه المرحلة الصاخبة في تاريخ حياته الفكرية، قد آثر التحول إلى ميدان آخر، من ميادين الإبداع الفني والعطاء الأدبي المتداول بين الناس، حيث نذر نفسه لجمع وتحقيق مدائح حاج الماحي وأشعاره.

    رحلة البحث عن حاج الماحي (ت 1871م)
    الماحي بن عبد الله بن الشيخ بن أحمد بن عبد الله مادح مشهور في منطقة الشايقية، ويقال إن أسرته هاجرت من قرية العقيدة قرب الكتيَّاب، واستقرت بمنطقة الكاسنجر، في بيئة تعتمد حياتها على الزراعة التقليدية القائمة على أنين السواقي، التي كانت خير أنموذج لمفهوم "الاعتماد على الذات" وأفضل تجسيد لشعار "نأكل مما نزرع"، وأبرز معلم من معالم قرى الشمال الرابضة على ضفاف النيل، حيث تشكلت حولها حياة الناس، وعاداتهم الاجتماعية، وقيمهم الاقتصادية. وبفضل حضورها الدائم في الحقل أنيناً وخريراً، وفى البيت رزقاً حلالاً طيباً أضحت الساقية موطن تقديس وتجلة عند "سيد المنجل الحقير"، الذي نسج حولها ضروباً شتى من الفنون والمعتقدات منها: هندسة الساقية، وتدابيرها، وأسماء أطرافها، ومنها: قراءات مناسيب النيل، ومعرفة أنواع الطمي في أوقات الدميرة، ومنها: أساليب الري، والزراعة، وتربية الحيوان، ومنها: الأساطير والمعتقدات التي أفرزها الالتصاق الوجداني بالساقية، الذي جعل الناس ينذرون لها النذور، ويعلقون عليها التمائم من أجل الفال الحسن، ومنها: الوجدان الفني المتمثل في غناء "الأروتي" في الفجراوي والضحوى والعشَّاوي، وإنشاد "التربالة" في مواسم الحصاد وإعداد البوقة (أي الأرض) للموسم الزراعي القادم، ومنها: العدالة في تقسيم الثروة بين الإنسان، والحيوان، والآلة. فلا غرو أن هذه البيئة وصورها الجمالية المعيشة قد أكسبت حاج الماحي حساً شعرياً مرهفاً، تجلَّت طلائعه في الأغاني الغزلية التي كان يتغني بها في الليالي الساهرة على نقمات الطنبور، وإيقاعات الدليب، وزغاريد الحسان. إلا أن عطاءه في هذا الجانب قد ضاع في سلة من أكوام الضياع، ولم تبق منه إلا قصيدة يتيمة حفظها لنا المرحوم عمر الحسين بين ثنايا ديوان حاج الماحي. وقد أُنشدت هذه القصيدة في وصف فتاة ذات حسن وجمال كان يعشقها شاب يدعى ود داؤد، ونافسه فيها شاب آخر يسمى التوم، ولم يظفرا بها بل زُفت إلى صاحب حظوة ثالث، رحل بها إلى منطقة أرقو في ديار الدناقلة، ومقاطعها تقول:

    ياقزاز الرومي الرهاف
    والعطر في بطنو ينشاف
    وعاشه حبة دم الرعاف
    وشالا صقراً قالوا ختَّاف
    وخلا ناس التوم في سراف
    ومكوي ود داوود كي خلاف
    ****
    ساقا ود كلية الخبير
    ساقا شقابا العتامير
    وسكنا أرقو الفوق الحفير
    من ضهر ترقد فوق سرير
    وتتكبت بي توبو الكبير

    وبعد بلوغ العقد الثالث من عمره الزاهر تحول شاعرنا العابث من فن الغناء والطرب إلى فن المدائح النبوية والتوسل والتوبة، وكانت قصائده في هذا الشأن تعج بالاقتباسات القرآنية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبار الأولياء والصالحين، وتعكس جزءاً مهماً من قضايا الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي كان سائداً آنذاك. وأخيراً تبلورت حصيلة هذا العطاء الجم في تراثٍ أدبيٍ ثرٍ تركه حاج الماحي لأبنائه وأحفاده ومريديه، الذين ظلوا يحفظونه عن ظهر قلب، ويسمرون به في أوقات أفراحهم، ويثبتون به أنفسهم عندما تعصف بهم الملمات والإحن، بيد أنهم لم يفكروا البتَّة في تدوينه وتوثيق مفرداته، إلى أن أنعم الله عليهم بالأديب النابه عمر الحسين محمد خير.

    وفي هذا يقول عمر الحسين: "قد طلبت من بنك الخرطوم للتجارة الخارجية (بنك الخرطوم حالياً) أن يفرغني لمدة ستة أشهر لجمع شعر حاج الماحي، وشرح كلماته، وتسجيل قصائده على أشرطة، ولم تكن المدة كافية، وعملت كل جهد، وطبع الكتاب كمرجع علمي في ورق "رونيو"، عام 1971م، تحت أشراف وحدة أبحاث السودان (سابقاً)، جامعة الخرطوم. "ثم واصلت العمل فيه سبع سنوات متصلة في أوقات فراغي، وأنا أوفق بين علمي في البنك وعملي في دراسة شعر الشاعر، فخرج حصيلة ذلك هذا الديوان." أي ديوان حاج الماحي الذي صدرت طبعته الأولى عن الدار السودانية للكتب-الخرطوم- عام 1978م على وجه التقريب، لأن الطبعة نُشرت دون تاريخ.
    واستهل عمر الحسين هذا الديوان بمقدمة ضافية، عرض فيها جذور حاج الماحي الشعرية، وتكوينه الفني، ونزوعه نحو الإبداع في صدر حياته الغنائية العابثة وعجزها المفعم بأدبيات المتصوفة وتراثهم الجامع بين علوم الشريعة وإشراقات علم الباطن. ولعليَّ اتفق في هذا المضمار مع الأديب الناقد مصعب الصاوي، الذي ثـمَّن هذه المقدمة، واعتبرها وعاءً جامعاً لتجربة حاج الماحي ذات البناء المتناسق الحلقات، التي استمدت منهجها من الشاعر علي ود حليب [ت 1819]، الذي يُعدَّه الأستاذ قرشي محمد حسن رقماً مؤسساً لفن المديح النبوي وطقوسه الإنشادية في السودان (مصعب الصاوي، "عمر الحسين باحثاً ومحققاً"، صحيفة الصحافة). ويبدو أن هذه العلاقة الوثيقة وذات الفصول المتداخلة بين مدرسة حاج الماحي ومدرسة الشيخ علي ود حليب قد كانت واحدة من الهواجس التي دفعت الأستاذ عمر الحسين للبحث والتنقيب عن تراث هذا الأخير، الذي ظل مخطوطاً حبيس مزاجه الحاذق، الذي ينشد التجويد ويبتغي الكامل في أي عمل أدبي تصدى له.
    أما منهجه في تحقيق أشعار حاج الماحي وآثاره فقد اتسم بالموضوعية، واستند إلى "مجموعة متداخلة من أساليب وتقنيات جمع المادة التراثية، بدأها بالروايات السماعية، ثم مراجعة وتحقيق الرواية في أكثر من مصدر، ثم تدوين الرواية التراثية في صورتها النهائية، واستخراج الهوامش وتفسيرها وفق قواميس العامية، ثم تتبع صيرورة الرواية، وقياس مستويات التغير والثبات في الرواية الواحدة." (مصعب الصاوي) وفوق هذا وذاك يأتي تأهيله التراثي، وقريحته الشعرية المتفتقة، وفهمه الثاقب لدقائق البيئات المحلية التي عاش بين ظهرانيها حاج الماحي والجموع التي تفاعلت مع مدائحه وأشعاره، وهنا يكمن سر تفرد الأستاذ عمر الحسين، وهو تفرد أعانه على تحقيق آثار حاج الماحي، وفهم مفرداتها، وتفسير تلك المفردات بأسلوب سلس وجذَّاب، في هوامش جمعت وأوعت كل ما هو طريف وجدير بالفهم والاستيعاب.
    وبفضل هذه الجهود الخلَّاقة صدر ديوان الماحي في شكل تحفة فنية جديرة بالاقتناء، زينها تصميم غلافها الخارجي، ذو الألوان الثلاثة: الأسود، والأحمر، والذهبي، وأعطاها بُعد رمزياً رسم ثلاث شخصيات تقف منشدة لجموع غير منظورة، ومعها آليات طقسها الإنشادي (طارات، ومفردها طار). زد على ذلك أن الديوان قد دُوِّن بخط الفنان المبدع توفيق عثمان علي، الذي أكسبه بُعداً تراثيا آخر، بحجة أن عناوينه الداخلية رُسمت في تشكيلة من الثُلث، والديواني، والرقعة، وأن متونه وهوامشه نُسجت بخط النسخ الذي تواضع عليه أهل خلاوى القرآن في السودان.
    وقد حمل هذا الديوان الفريد بين دفتيه مائة واثنتين وثلاثين قصيدة مادحة، كل واحدة منها تضاهي في جمالياتها الأُخرى، ولها وقع مميز في نفوس عشاق التراث السوداني ومحبي فنون المدائح النبوية، ولها مناسبتها ومناخها الخاص الذي تُنشد فيه. فمحبي إشراقات علم الباطن وكرامات الأولياء يفضلون السماع إلى قوله في التمساح: "يا رحمن أرحم بي جودك *** دلي الغيث ينـزل في بلودك"؛ والذين يشدون رحالهم صوب المسجد الحرام يؤثرون السماع إلى قوله في الحجاز ووصف مناسك الحج: "اليوم الحجاز لاح ضو براقو *** ذكرني الحبيب زاد حبي مشتاقو"، و"نعمه نعمة القام منسرق *** زار محمد خير الخلق"، و"وا شوقي ليك يا أحمد عظيم الشأن*** قنديل المدينة الهاشمي العدنان"، و"شوقي لي مدينة العلم *** مركز الفُصاح والعجم"؛ وأدبيات الجغرافية المحلية نجدها في قصيدة المشهور: "شوقك شوى الضمير *** بطراك مناي أطير". هكذا كان حاج الماحي موسوعياً في تصويره لضروب الحياة الاجتماعية والدينية، وهكذا كان الأستاذ عمر الحسين صاحب سبق في جمع هذا التراث الموسوعي البديع.

    عمر الحسين وحسونه شاعر الجمال
    بجانب ديوان حاج الماحي أصدر عمر الحسين عدة دواوين شعرية منها "ديوان اللهيب" و"ديوان كسلا"، بيد أن شغله الشاغل كان منصباً تجاه جمع أشعار وآثار شاعر الشايقية الفطحل حسونه، الذي أنشد للخاصة والعامة قريضاً متميزاً، وكان بحق متنبئ زمانه، لأنه ظل في حالة تصالح عارضة وخصومة مستعرة مع ذوي الجاه والسلطان. ونلتمس ذلك في قصيدته المادحة للعمدة ود بشير أغا، عمدة القرير:
    ود بشير عمدة مو عمدة سماسير
    خيلو بين الجبلين تغير
    جر كرسيوه مع المدير
    ***
    وإذا أنعم النظر في مقاطع هذه القصيدة، نلحظ فيها هجاءً مبطناً لبقية عمد الشايقية الذين وصفهم بالسماسير (أي سماسرة السلطة)، والجبلين إشارة إلى العمدة ود كنيش، عمدة نوري، الذي مدحه بقصيدة مطلعها: "أنت يا جبل البركل الما بطلعوك"، وذلك إقراراً برمزية حضوره الشامخ في المنطقة، علماً بأن جبل البركل يمثل أعلى قمة في الولاية الشمالية، والجبل الآخر هو العمدة ود ضكير، الذي مدحه بقوله:
    شنو البركل الجبل أبو شريمه
    ود ضكير جبل ابن عوف الا حزيمة

    ويظهر الشاعر حسونه في هذه الأبيات محاباته للعمدة ود ضكير على حساب العمدة ود كنيش، فلا شك أنها مقاربة أشبه بموقف أبي الطيب المتنبئ عندما هجر بلاط سيف الدولة بن حمدان وآثر البقاء في كنف كافور الإخشيدي، حيث أنها تعكس موقف الشاعر حسونه الذي كان يتكسب بشعره عند ذوي السلطان والجاه. ورغماً عن ذلك فقد كان حسونه شاعراً محباً للجمال ومداحاً للغواني، ويتجلى ذلك في وصفه لجمال الباشا في سوق المقل، ولستنا بت الشيخ في منطقة العفاض، حيث أنشد فيها قائلاً:
    سلام يا ستنا في الفوق في مهيرا
    وعلو لها القصر قبل أبو عميره
    زولاً في الخلائق أبوه أبو نايب
    وأبوك حاج مكة سيد تمرو أب زرايب

    كل هذه القيم الجمالية تعكس طرفاً يسيراً من قامة الشاعر حسونه الشامخة، وتبين جزءاً من ذوق عمر الحسين الرفيع، الذي جعله يكرس جهده ووقته وماله في جمع أشعار حسونه وآثاره، ويقال أنه شرع في تقديم هذا الديوان المهم وشرح متونه في حواشٍ مُذهبة، إلا أن المنيَّة عاجلته قبل أن يرى حلمه المرجو، ويخرج ديوان حسونه إلى النور في ثوب قشيب يليق بقامة هذا الشاعر العملاق.
    وفي خاتمة هذه المدارسة يطيب ليَّ أن أقدم دعوة صادقة لأصدقاء المرحوم عمر الحسين (الفاتح التلب، ومامان، والكيك، ومحمد أبوشوك، وأحمد الشايقي، وسيدأحمد العراقي، وعبد الجليل محمد خير) ليتواصلوا فيما بينهم، وليصدروا لنا ديوان حسونه، وفاءً وعرفاناً إلى صديقهم موسوعي النـزعة ومتعدد المواهب، تحسبناً أن يصدر هذا العمل الرائد تحت رعاية أية مؤسسة بحثية أو ثقافية، يمكنها أن تهيئ المناخ العلمي المناسب، الذي يعين في تصميم مادة هذا السفر القيم، وصياغتها من قبل خبراء في الدراسات السودانية بضروبها المختلفة من تاريخ، وفلكلور، ولغويات.


                  

04-26-2008, 06:03 PM

james
<ajames
تاريخ التسجيل: 06-21-2002
مجموع المشاركات: 2726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)

    *
                  

04-26-2008, 06:44 PM

maman
<amaman
تاريخ التسجيل: 11-21-2002
مجموع المشاركات: 1041

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: سيف الدين حسن العوض)


    الأخ سيف الدين حسن العوض

    التحية لك وللبروفيسور أبو شوك... وصلتني نسخة الكتاب قبل أيام وعليها إهداء كريم من المؤلف وأنا الآن استمتع الان بالتهام صفحاتها (قوطة قوطة)وهي أشبه بشية حمل بج...مربى في المراح...

    شكرا... وما نوصيكم علي الشباب المعاكم جميعا بدون فرز

    مامان

    مامان

    www.forevermaman.com



                  

06-05-2008, 07:38 AM

سيف الدين حسن العوض
<aسيف الدين حسن العوض
تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 3403

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان : السلطة والتراث، سفر جديد لعضو البورد بروفسير ابوشوك (Re: maman)

    العم الغالي / مامان
    شرفت البوست
    ومرورك الجميل بالحيل اسعدنا كثير
    ونأسف للغياب الطال

    ووصفك الجميل لهذا السفر بالقول:

    Quote: التحية لك وللبروفيسور أبو شوك... وصلتني نسخة الكتاب قبل أيام وعليها إهداء كريم من المؤلف وأنا الآن استمتع الان بالتهام صفحاتها (قوطة قوطة)وهي أشبه بشية حمل بج...مربى في المراح...

    شكرا... وما نوصيكم علي الشباب المعاكم جميعا بدون فرز

    مامان

    تدعونا لحثكم على التعليق اكثر على السفر
    وفي انتظار تعليقاتكم
    اما ود مامان والشباب المعانا في امان وبيسلموا عليكم
    وما تشيل همهم ابدا ... هم في ايد امينة إن شاء الله تعالى
    والله الموفق
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de