اللغة الباذخة الفخيمة والماتعة كاداة من أدوات السعادة !!

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 11:02 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-21-2017, 10:03 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اللغة الباذخة الفخيمة والماتعة كاداة من أدوات السعادة !!

    09:03 AM July, 21 2017 سودانيز اون لاين
    jini-أم طرقا عراض
    مكتبتى
    رابط مختصررجل في حياتي ...الطيب صالح ....//بقلم : رابــح فيــلالي / واشنطنبقلم : رابح فيلالي / واشنطنإطلع على مواضيعي الأخرى [ شوهد : 1122 مرة ]أعرف السودان أكثر مما أعرف وطني الام الجزائر ولذلك قصة غريبة التفاصيل واحدة من أسبابها أنني كنت دائم الصلة بالسودان والشأن السياسي السوداني بصورة أحيانا كانت تدفع الكثر من أصدقائي السوداننين العديدين الى تقديم اقتراح الحصول على الجنسية السودانية وتتويج قصة هذا الحب الكبير التي تجمعني بهذا البلد الكبير الذي قدرت له أحكاام الجغرافيا أن يتوسط عوالم ثلاث مختلفة الخط الحضاري السياسي والاجتماعي .في السودان وحده تجمعك الجغرافيا بنقطة التقاطع النادرة بين ٍافريقيا من جانب والعالم العربي من جانب اخر وفي السودان وحده أيضا تكشف لك الجغرافيا عن خيط الصلة العميق بين العالم الاسلامي وبقية القارة السمراء وفي السودان وحدة أيضا تتشكل خريطة من الاعراق الانسانية والاجتماعية تشكل خليطا حضاريا يدفع في الكثير من حالاته الى التامل طويلا في تركيبة هذا البد الاسثتنائية بكافة المقاييس .لقد شرفني الاصدقاء السودانيين بالمحبة الواسعة في قلوبهم خلال زياراتي المتعددة الى السودان من دارفور في الغرب الى جوبا في الجنوب مرورا عبر نيروبي مرورا دائما وليس عابرا بالعاصمة الخرطوم وكان من أوجه المحبة عند الاصدقاء السودانيين أن أكون دائم الاطلاع على تفاصيل المشهد السياسي في السودان الى حد الذي جعل أحد المدراء السابقين الذين تشرفت بالعمل معهم في قناة الحرة أن يسالني مع مطلع كل صباح جديد وأنا أدخل الى غرفة الاخبار ما هو جديد الخرطوم؟ هذه التوطئة أجدها اكثر من مناسبة وأنا أريد أن أسجل بعض مواجعي العميقة في فقدان الكاتب العربي الراحل الطيب صالح .الطيب اسم لجأت اليه والدته الكريمة بعد أن فقدت ا ثنين من أبنائها على التتابع وعلى طيبة أهل السودان تعتقد الامهات منهن أن تسمية الطفل اللاحق بالطيب سوف يعطيه فرصة الحياة وهي نفس القصة حدثت معي شخصيا عندما أنقطعت الخلفة عن أمي بعد خمسةعشر سنة من الزواج فكان نذرها على الله أن تسمي مولودها البكر برابح وتلك واحدة من عادات نساء شرق الجزائر وهي الجهة التي تتحدر منها عائلة أمي .الطيب اختارت له أمه الطيب اسما وكان الرجل في حجم الاختيار بعد أن من الله عليه وعلى أمه بطول العمر والنجاح الذي تجاوز جغرافية السودان البلد الاكبر جغرافية في القارة الاكبر جغرافية في العالم .عاش الطيب القروي الهادئ المسالم في جلبابه الاصل ولم يحاول أن يخلعه يوما غزا كل المدن الباردة والدافئة من عمق لندن وضبابها المزمن الى فضاء الدوحة المتسع حرا الى سماء أبوظبي المزدحم رطوبة الى فضاء باريس المتراكم بعناوين الجن والملائكة .في كافة هذه المحطات كان الطيب واحدا لايختلف ولايتغير كثير الاستماع الى من هم حوله كثير العطاء الى كل قادم الى مجلسه ويتساوى في الامر القادمون الى مجلسه للمرة الاولى أو العابرون الى هذا المجلس للمرة الالف والعادة عند الاصدقاء في السودان وان اختلفت بهم عواصم الدنيا هي فيض هائل من الحميمية في التواصل وكاني بالزول السوداني لايجد داته الا هو محاط بالسوداني وتلك ميزة تحسب في رصيد أخلاق وسير أبناء النيلين .في الطيب تجد المستمع الجيد كما تجد أيضا الانسان المتسع متسع في مساحة الحضور اليك كانسان يشاركك البوح والمكاشفة للوجع ان كان في القلب جرج يستدعي أن يستمع اليه وما أكثر الجراحات التي تسكن القادمين من مختلف عناوين الجغرافيا العربية .عندما التقيت الرجل وهو شرف اعتززت به دائما ا قتربت لحظة من معلم رسمت له ملامح من نور في مخيلتي الشخصية وأنا يافع في مرحلتي الثانوية أقرأ رواية موسم الهجرة الى الشمال للمرة الثالثة على التوالي ومن غير انقطاع وأحاول أن أمررها على الزملاء في الاقسام الادبية قدر ما اتسعت طاقتي لذلك كنت أقول بوعيي المحدود في الرؤية والزمن حينذاك أن من لم يقرأ هذه الرواية أضاع نصف العمر أما النصف الاخر فسيظل معلقا ولن يعود الى صاحبه الى حين قراءتها .أستحسن مني الرجل التفاصيل التي كنت أعيد صياغتها بمفرداتي عن موسم الهجرة وهو يسمعها مني باسلوبي في الرواية وعاد ليقول في أدب أهل السودان وكرم أخلاقهم يا رجل هذا لطف منك. كنت أقول للرجل أن الشمال كان في نظري حينذاك مسألة تثير في كل المخاوف والقلق على أساس أن الميراث الثوري لعائلتي الشهيدة والمجاهدة في مكافحة الاحتلال الفرنسي للجزائر جعلني أرى من خلال قصص أمي وأبي عن فترة الاعتقال في السجون الفرنسبة والاصابات الجسدية خلال حرب التحرير جعلني أعتقد دائما أن علاقة طبيعية بين الشمال والجنوب ستكون مستعصية على عملية الترميم أو البناء. كان الطيب صالح في روايته يأخدني الى حيث اسئلتي القلقه والتي يعجز أفراد عائلتي عن الاجابة عليها حول ماهية العلاقة المستقبلية بين ضفتي البحر الابيض المتوسط شماله وجنوبه .بالنسبة لعائلتي ان الجرح أكبر بكثير من الانتصار على ألامه أما بالنسبة لي ولغيري من أبناء جيلي فان العلاقة الشمالية بالجنوب تحتاج الى اعادة صياغة انطلاقا من متغيرات أوجدتها متغيرات الانسان تحولات الزمان والمكان .وحده الطيب صالح على بعد المسافة بين ثالوث المكان من أم درمان ا الى لندن الى جبال شرق الجزائر حيث قضيت جزءا من حياتي مع و الدي كان يجيبني عن أسئلة هذاا القلق .الطيب صالح وحده علمني المفهوم الاخر للعلاقة مع المحتل السابق علاقة تقوم على الافادة من أدواته اولها اللغة وحده صاحب موسم الهجرة الى الشمال بلغته الانجليزية الثانية أعاد ترتيب كينونتي الداخلية عندما علمني أن الاعجاب بلغة العدو التاريخي السابق مسألة تخلو من صفة الخيانة .أحب الطيب صالح الانجليزية كحالة عشق عميقة جدا و وأجاد بناء علاقة من عشق متصل مع لغة المستعمر السابق لبلاده وذلك قاسم اخر أسترك فيه مع صاحب موسم الهجرة .كانت هذه هي ملامح العلاقة الوجدانية التي جمعتني بالطيب صالح وأنا أقطع طريقي باتجاه العشرينات من عمري وأبدأ محاولات الاجابة عن أسئلة القلق في الهوية والكيان الحضاري. في موسم الهجرة قال لي الطيب صالح حينداك تحدث الى الاخر على ضخامة الموروث الذي يجمعك به وتجاوز أناك بصدقية انسانك حينها فقط يمكن لك أن تتجاوز عقدة الماضي الحزين وتستطيع أن تقترب من لحظة انسانيية تتصف بالايجابية في التعامل مع الموروث المؤلم في علاقات الضفتين الشمالية والجنوبية من البحر المتوسط .بهذه الروح قابلت الراحل وبهذه الخلفية استمع الي صابرا وأنا أحاول أن أعطي الابعاد المتعددة للرواية الخالدة كما قرأها أبناء جيلي في الجزء الشمالي من القارة السمراء والذي لابيعد سوى مسافة قطع البحر عن الجزء الجنوبي من الجنوب الاوروبي .وجدت في الرجل اضافة الى خصلة الاستماع العميق خصلة التواضع وتلك مسالة يعيدها هو شخصيا الى ارتباطه العميق ببيئة ريفية قال عنها دوما أنه لجأ الى الكتابة تعويضا عن بيئة امن يقينا أنه لن يقدر على العودة اليها يوما. ما أجمل ان تكون ملكا متوجا على رؤية انسانية تملا العالم ضجيجا من حولك وفي اللحظة أياها أنت تملك المفاتيح الهادئة لداتك بصورة تجعلك دائم التصالح مع انسانك ومع كافة من هم حولك. تلك هي المشاعر التي ملات قلبي وأنا أستمع الى الطيب صالح حقيقة انسانية حية بعد تجاوز الحالة الوجدانية التي عاشت معي طيلة فترة تشكيل كياني الابداعي وحتى الانساني .لم يكن الطيب يريد يوما أن يتجاوز انسانه بأية صفة من الصفات فعلى كثرة أزمات السودان على الاقل منذ فترة ارتباطي الشخصي بهذا الجزء من القارة السمراء كمراسل صحفي اختلف الكثير من الاشقاء في السودان بكل أشكال الاختلاف من السياسي الى العسكري الى الانساني الى القانوني لكن وحده الطيب ظل ابن السودان الذي لايريد أن يضيف الى النار أي قطرة من زيت .ظل الرجل عند مسافة الوسط من كل الخلافات ظل السودان قضيته وحتى عندما قررت السلطات السودانية منع أشهر كتبه عن طلبة جامعات السودان رفض الرجل أن يخوض في التفاصيل وعندما عاد رجال الخرطوم عن قرارهم كان الرجل طيبا حتى في كلماته التي استعملها في التعامل مع قرار المنع أولا ومع قرار التراجع عن المنع لاحقا .يحيلك الطيب صالح الى حالة التساؤل الى أي مدي تستطيع المحبة أن تتجاوز الوجع الشخصي عندما يتعلق الامر بالاوطان ولذلك ليس غريبا مثلا أن يكون الطيب صالح وهو الرجل الذي كان يقول لي الكثير من أصدقائي من مثقفي السودان بالكثير من الاعتزاز انهم من بلد الطيب صالح .تحول الرجل الى وطن لابناء وطنه وتحول اسمه الى انتماء بديل عن الوطن الام الى هذه المرتبة ينظر الكثير من أصدقائي في السودان الى الرجل الراحل .قلت ليس غريبا مثلا أن يكون الطيب هو أقل الاسيماء السودانية وغير السودانية حديثا في الشأن السوداني على الفضائيات وذلك خيار سلوكي يستحق التفكير ويستدعي الاحترام .وحده البطيب صالح صنع خياري الاخر بالتنوع في الامكنة كنت دائم الحلم أن يتسع العمر بوالدي حتى أنعم بالحياة قربهما عل مشارف الشمال القسنطيني في الجزائر لكن موسم الهجرة وحده قاد خيالي في تلك المرحلة من العمرالى قناعة تقول ان الوطن يتجاوز مفهوم المكان وأن البديل الممكن قد يكون في شمال فرجينيا كما يحدث معي الان .عندما تكون علاقتك الشخصية بكاتب ما الى هذا الحد من الوجدانية والعمق والتوغل في الحضور وتكرمك الحياة بفرصة لقاء الرجل لاكثر من مرة واحدة وتلتقي مع أغلب الامكنة التي ساهمت في صناعة رؤيته للعالم والانسان على ضفتي النيلين الازرق والابيض وعندمكا تلتقي بالعشرات من أصدقاء الرجل في الخرطوم وخارج الخرطوم تؤمن يقينا لحظتها أن الحياة أحيانا كريمة عليك بصورة تتجاوز توقعاتك .عمي الطيب وحدك علمتني باكرا ألا أخاف ان كان اطار حلمي في المدن الواسعة رغم خوفي من ركوب الطائرة والابتعاد عن مكان لاترى فيه الشمس وجه أمي كنت أقول هذا الرجل أتى من خلف قرية يرعي أهلها الاغنام مثل أهلي ويفلحون الارض مثل أمي وأبي استطاع أن يمد كافة الجسور مع الشمال وهو الجنوبي المتخم بقيم الطفولة والقرية والفضاء الواسع والحقول الخضراء .علمني الطيب أن أحمل أحلامي على أكتافي ألا أخاف غير المعقول منها قبل أن أؤمن بالطبيعي منها وأن أحاول أن اسمع صوتي عاليا حديثا خطابا كتابة حبا أو عشقا لان في كل الحلات كان يتوجب على أن أوصل الرسالة الى الجهة الاخرى .في رحيل الطيب صالح حلم لم يتحقق كنت أتمنى أن يتحدث الي الرجل عن رؤيته لازمة دارفور وهي أزمة ارتبط بها اسمي صحفيا حيث كنت أول صحفي غير سوداني يدخل الاقليم المضطرب في بداية الازمة صيف العام الفين وثلاثة مانع الرجل وطلب التاجيل في أكثر من مناسبة الى ان كان للموت سلطة وكالعادة أكبر من سلطة كريم أخلاق الطيب صالح وقدرتي الشخصية على انتظار كرم اضافي من الراحل بالحديث عن أزمة لاأزال أؤمن يقينا أنها تحتاج الى جهد انساني جماعي حتى يستطيع السودان تجاوز مضاعفاتها على مستقبله و على كيانه السياسي المتحد .الان تحديدا أخاف أن أتحدث عن الطيب صالح كحالة راحلة لان الرجل الذي فضله أبناء وطنه عنوانا وانتماء أكبر من الموت و كلمات الوداع ولكن بحسابات الغياب والحضور سيكون الطيب صالح بعد الان انسانا جميلا شرف عالمنا اليومي بالعبور عليه اسمعنا روؤاه تتابعا علمنا الكثير من عوالمه أحالنا في الكثير من محطاته الى الحقائق الانسانية الثلاث التي تعلمتها بصورة مختلفة من الرجل وهي المحبة التواضع والتسامح .في كل مرة أنزل فيها الخرطوم كنت دائم السؤال لنفسي في صمتي هذه المدينة وحدها تعرف الطيب صالح أكثر من كافة مدن الدنيا وهذه الخرطوم وحدها حجزت لنفسها مكانا أبديا في قلب الطيب صالح حتى وان عاش الرجل في صورة المواطن العالمي أكثرمنه مواطنا سودانيا ولكن هذه المدينة وحدها ستقول لي في كافة أسفاري القادمة الى الخرطوم هذه المدينة وحدها هي التي تشرفت بالنومة الابدية لانسان كان أبدا جميلا متسامحا مبدعا شفافا كان بيننا هنا وأختار أن يرحل كائن اختارت له أمه الطيب اسما فكان طيبا وبامتياز من المهد الى اللحد تلك حكايتي أنا مع الطيب صالح مبدعا وانسانا نشر في الموقع بتاريخ : الجمعة 2 ربيع الأول 1430هـ الموافق لـ : 2009-02-27التعليقاتجمال غلاب العزيز رابحمحبتي و تقديريرابح فلالي في اصوات الشمال مييييييييييييييش ممكن ؟ مفاجأة سارة أن اقرأ لكبير في حجمك على اصوات الشمال ...؟ يا صديقي كيفك و كيف هي العائلة الكريمة ... لقد اشتقت لك كثيرا ؟ فكما يقول المثل الشعبي عندنا ـ منذ غابت نجمة خضار ما صبت امطار ؟ نعم رابح كل الجزائريين مدنين لك في سنوات الدم و النار هنا بالجزائر حينما كنت تزرع الدفء من خلال حصتك الاسبوعية ـ مرايا ثقافية ـ متحديا كل الصعاب و الارهاب و الترهيب فالف تحية و تحية مني اليك معبقة بعطر القصبة و شارع ديدوش مراد .....أما عن المرحوم طيب صالح هذا الأسمر الجميل فالحديث عنه يطول منذ سنوات التقيته في باريس و تحديدا في شارع ـلامرتيني ـ حيث يلتقي الكتاب و المبدعون و بعد أن عرفته بنفسي سألت السؤال التالي :ـ لماذا العزيز اطيب الهجرة دائما الى الشمال ؟ـ أنا مثل النيل أنبع من الجنوب و أصب في الشمال ....و على سطح مياه النيل يوميا تمتزج فسيفساء من الحضارات قديمها و حديثها لتعطي لنا نحن الساكنة على ضفاف هذا النيل العظيم النموذج الحي للتعايش في كنف المحبة و الوئام و السلام وخلال هذه الجلسة الحميمية و جدته مسرورا بمبادرة جامعة الجزائر المزكزية التي عرضت روايته لطلبة المعهد الأدبي لنيل رسالة المجستير .....فعلا العزيز رابح المرحوم طيب ابدع و كان كبيرا بابداعه كل مودتي

    (عدل بواسطة jini on 07-21-2017, 12:11 PM)

                  

07-21-2017, 10:05 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    مأمون فندي



    الطيب مر من هنا
    الطيب صالح مر من هنا، خفيفا جاء كالحلم ليقف في منتصف الدنيا وتسلط عليه الأضواء، كما في أحد مشاهد روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، حين يوقف السائقون سياراتهم في الصحراء بشكل دائري ويسلطون أضواءها مشكلين دائرة للرقص، خبا ضوء الطيب وخبا «ضو البيت». في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمت وهمهمت بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغير الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا.
    ذات يوم حكى لنا عجوز من قريتنا في صعيد مصر، أنه رأى سيدنا الخدر (البعض يكتبها الخضر) مارا في القرية، رآه سارحا على حصان أبيض تفوح منه رائحة الطيب والمسك، كان العجوز لتوه قد فرغ من صلاة الفجر، وفي محاولة منه لمعرفة سر هذا الرجل الغريب، اقترب منه وسأله: أين صليت الفجر؟، فأجاب الرجل بأنه قد صلاه للتو في الكوفة، فبان للعجوز أنه أمام رجل من أهل الخطوة ممن تُطْوَى لهم البيد طيا، وكان العجوز يقول لنا بأنه تأكد وقتئذ من أن هذا الرجل القادر على قطع المسافات بسرعة الضوء، يحضر ويغيب برمشة عين، هو سيدنا الخدر عليه السلام.
    هكذا كنت أتخيل الطيب.
    «زرني يوم موتي، حتى أزورك يوم موتك»، قلت له هذه العبارة ونحن في بيت صديقه الفاتح إبراهيم في ولاية فيرجينيا، وهي من قصة طويلة كتبها كارلوس فاونتيس، ذلك المكسيكي «المخربط». لقد افتتح فاونتيس تلك القصة الطويلة، في الحقيقة هي أطول من قصة، وأقصر من رواية، بقصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش ومقتطفات من أقوال والتر بنجامين، خلط فاونتيس في هذه القصة معاناة اليهود بمعاناة الفلسطينيين، وكذلك معاناة الهاربين من الحروب الأهلية في كوستاريكا، والروس الهاربين من قهر ستالين. وبطلة القصة كنستانزيا إسبانية من سيفيل استقرت في بيت أميركي في مدينة تحمل ذات الاسم الإسباني، في سافانا جورجيا، امرأة هاربة من فاشية فرانكو في إسبانيا.. أزمان مختلفة، فلسطين اليوم، وإسبانيا فرانكو، والحرب العالمية، ونزوح اليهود من أوروبا، أشكال مختلفة من المعاناة، يختلط فيها الواقع بالخيال، والماضي بالحاضر والمستقبل. «زرني يوم موتي، حتى أزورك يوم موتك»، عبارة قالها الكاتب الروسي الهارب على لسان بطلة قصته كنستانزيا، قلتها للطيب؛ ففهم مغزاها وابتسم.
    كان وجوده يومها شفافا، وكأنه يقف على الحد الفاصل بين الحضور والغياب، كان ضيفا عابرا أشبه بذلك الغريب الأبيض أخضر العينين الذي يطلع من النهر في روايته «ضو البيت»، بندر شاه مضى كالحلم وكأنه ما كان.. ضو البيت اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء.. كأن المولى ـ عز وجل ـ أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله. الطيب صالح لم يكن أبيض البشرة ولا أخضر العينين، بل كان روحا عالية تسكن ملامح رجل سوداني أسمر، روح مرت من هنا بعد أن علمتها «فاطمة بنت جبر الدار» آيات من سورة الضحى. كان الطيب صالح كبطل قصته «ضو البيت» يقدر على الحركة في الزمان والمكان، «كأن الطفل ولد عند الشروق، وتم ختانه وقت الضحى، وصار للزواج بعد صلاة العصر».. الطيب ولد روائيا في صباحنا، وغدا قامة كبرى في الضحى، واختفى في المساء.
    عرفت الطيب عن قرب، وعرفت زوجته جولي، تلك السيدة الإسكتلندية الراقية التي كانت تجلس إلى جوار الطيب تستمع إليه بحرص، كشاهد محب يرقب كل كلمة تخرج منه، يتحدث هو، ودائما ما كانت توافقه بحركة من رأسها، كما لو كانت تهتز في حلقة ذكر، ثنائي متكامل ومنسجم رغم اختلاف الأجناس والألوان.
    الطيب صالح كتب عني في مجلة «المجلة»، وكان كريما، واليوم دوري لأكتب عنه، وعن عمد أحاول تجنب الوقوع في فخ العزاء. لم أكتب عن الطيب في حياته، فإن المديح في وجه الحياة ما زال يربكني، فالدنيا عرض زائل، كسوق انتصبت ثم انفضت، سيغادرها الرابحون والخاسرون معا. كان الطيب يتحدث بفخر كبير عن ابنته الدكتورة زينب التي تدرس آداب الإنجليز للإنجليز، ولكنني لم أر الطيب أبدا في سياق رجال عاديين يتزوجون وينجبون، رأيت الطيب وكأنه غزل من الكلام يلتف حولك بيسر وسلاسة، يتحدث وكأنه يتذكر عالما قديما ولغة سرمدية ليست من هذا الزمان. كان واقفا في مركز الفوضى بيننا، شاهرا قلمه الجميل، يختفي ويبين، فكأنه على الحد الفاصل بين الحضور والغياب.
    الطيب صالح لم يكن روائيا مبدعا فحسب، بل كان شاعرا، أو كاد، فهو الذي يختلط عنده الحد الفاصل بين المتنبي وشكسبير، «قالوا الطيب للسودان ساير، وكل البنات البكر حلوة الضفاير»، كنت ستقول عن تلك العبارة إنها شكسبيرية بلهجة السودان، أو توجه حضاري من قبل أهل الصعيد. كان الطيب يضحك من قلبه على من يتحدثون عنه ولا يعرفونه، إذ حكى لي يوما عندما استوقفه ضابط الأمن في مطار القاهرة، يوم كان السودانيون محل شبهه، ولما تململ الطيب من طول الانتظار، قال الضابط «أنت رجل مهم، وسننهي إجراءاتك بسرعة»، وقال «مش انت الكاتب الكبير صالح الطيب مؤلف رواية الطيور المهاجرة؟». هكذا خلط الضابط اسم الكاتب واسم الرواية في الخلاط. كثيرون يتحدثون عن الطيب ويخلطون اسمه باسم الرواية، ولم يكن ذلك يزعجه في شيء.
    كان الطيب ذواقة ذكيا للحياة بكل تفاصيلها وأسرارها. أذكر أن الطيب قرر أن يطبخ لنا قرعا عندما كنا في بيت صديقه الفاتح، وعندما عرضنا عليه المساعدة، رفض وطلب ـ بلكنة إنجليزية ساحرة ـ ألا نتدخل في تلك اللحظة الخاصة جدا التي يعد فيها الطعام.. كان الطعام بالنسبة إليه ذائقة ودربا إلى إرضاء الروح.
    أذكر عندما قلت له إن الباحث الفلاني يريد أن يعد دراسة عن أعمالك بالمقارنة مع أعمال جوزيف كونرد، أجابني «يا زول خليها على الله». كان يؤمن بأن للقراء والباحثين مطلق الحرية في أن يفهموه كما وصل إليهم، ولكن دائما كانت هناك إشارات في حديثه إلى أن قليلا قد عرفوا ما يرمي إليه في أعماله. وكان يمازحني دائما «لماذا لا يكون للصعايدة توجه حضاري في بلاد الإنجليز؟». بلا شك أن الطيب كان عميقا فيما أبدع، وكان يكتب عن أمور تبدو وكأنها قراءات من سرمديات مخطوطة تظهر أمامه، فيقرأها علينا بفصاحة، ونستمع إليه مشدوهين كالأطفال.
    «قال جدي: أشهد أن لا إله إلا الله، وقال حمد ود حليمة: أشهد أن محمدا رسول الله».. وهكذا قلت.
    مضى الطيب كالحلم، وسيبقى عالقا في ذاكرة أجيال عديدة كما لو كان من رائحة الأولياء، وسيبقى حضوره مثل غيابه شفافا، كما لو كان بطل روايته الذي يطلع من الماء ويرجع إلى الماء.. وستبقى حكاية عجوز الصعيد مع الخدر تذكرني دائما بأن الطيب الصالح قد مر من هنا.الطيب صالح مر من هنا..بقلم مامون فندى
                  

07-21-2017, 10:06 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    يا وطن عند الشدائد
    أو
    ويتقاصر المقال في مقام من لهم في خدمة الشعب عرق ( الجزء الاول)

    د. محمد عثمان الجعلي
    (دبي ابريل 2012)
    ([email protected] )

    (رسالة عزاء تسلم ليد عبد القادر الرفاعي ومحمد طه القدال وعبرهما لمن يهمه الأمر ويحزنه)

    "أنها الكائنات استضافتك في خدرها
    قمُر العشيةٍ يصطفيك
    وتحتويك لدى البكور
    خيوط فجر وشًحتك بضوئها
    شمسُ النهارٍ على جبينك لؤلؤة
    وعلى ذراعك يستريح النيلُ
    من عنت المسيرة في الهجير
    من يا ترى يبكى لديك عليك
    من؟
    من يعزي فيك ....منْ ؟
    من يا ترى يبكي لديك ....عليك....من؟"
    (الراحل على عبد القيوم: من يعزي فيك من؟: ديوان الخيل والحواجز)


    ما بعد الفاتحة:
    "هلاّ ابتكَرْتَ لنا كدأبِك عند بأْسِ اليأْسِ
    معجزةً تطهّرُنا بها
    وبها تُخَلِّصُ أرضَنا
    من رجْسِها
    حتى تصالحَنا السماءُ
    وتزدَهِي الأرضُ المواتْ؟
    علّمتنا يا أيها الوطنُ الصباحْ
    فنّ النّهوضِ من الجراحْ""
    (عالم عباس)

    رحل الفنان الموسيقار محمد عثمان وردي ولحقه سريعا إلى دار الخلود الشاعر محمد الحسن سالم حميد والسياسي المفكر محمد إبراهيم نقد... ثلاث ايقونات إبداعية ورموز فكرية وتمائم إنسانية عظيمة أثرت العقل والوجدان السوداني وجاهدت (كل في ما يحسنه) في تطوير الوعي الجمعي والحس الإبداعي لأهل السودان..القواسم المشتركة بينهم كثيرة متعددة ليس أهمها على الإطلاق تلك التصنيفات الساذجة للبشر يمينا ويسارا.. ليس من بينها (ولا تهمنا مثقال ذرة) مربعات ودوائر التنميط والتسكين السياسي للمبدعين عبر الأطر الحزبية والمواعين الأيدلوجية ..ما يجمعهم كان أكبر من ذلك كثيرا وأعمق وأشمل..يجمعهم الحب الجارف للسودان بشرا وأديما وقضايا..تجمعهم إنسانية شفيفة..تجمعهم الهمة العالية واحترام الذات الذي لا يعرف حدودا ..تجمعهم عزيمة لا تلين في الدفاع عن الموقف ..يجمعهم إيمان مطلق بتجويد المنجز واستدامة العطاء...يجمع بينهم ويميزهم الأمتلاء بقيم الغبش وغمار الناس من الترابلة والرعاة والفعلة والبسطاء ...قيم الأنفة والشموخ والعزة والكبرياء ...قيم كانت وبقيت فيهم لم تربكها أو تزلزلها سلطنة المجد أو أغواء الشهرة أو أضواء النجاحات المتوالية ...قدرات على التوزان الإنساني الاخلاقي لا يحسنها ولا يقدر علي الإمساك الواعي بلجام جموحها وهواها إلا المعدودين من البشر الأسوياء... رحلوا جماعة وبلادنا تعيش الخطر المحدق في ان تكون أو لا تكون ...رحلوا جماعة وتركوا خلفهم بلاد تنتاشها شرور الدنيا ومكائد ابنائها ...رحلوا تباعا وكأني بهم في رحيلهم يستعيرون ويستعيدون ابيات سيدنا أبي الطيب المتنبيء الخالدات:
    سُبحانَ خالِقِ نَفسي كيفَ لذّتُها فيما النّفُوسُ تَراهُ غايَةَ الألَمِ
    ألدّهْرُ يَعْجَبُ من حَمْلي نَوَائِبَهُ وَصَبرِ نَفْسِي على أحْداثِهِ الحُطُمِ
    وَقْتٌ يَضيعُ وَعُمرٌ لَيتَ مُدّتَهُ في غَيرِ أُمّتِهِ مِنْ سالِفِ الأُمَمِ
    أتَى الزّمَانَ بَنُوهُ في شَبيبَتِهِ فَسَرّهُمْ وَأتَينَاهُ عَلى الهَرَمِ

    غادروا الفانية رهطا يهزج بحب الوطن الذي هو من الإيمان.. غادروا وطنا كان لهم في خدمته عرق وبذل...في مواكب تشييعهم تنادى اهل السودان جميعهم ...الاحزان وحدها هي من يعجم أعواد أهل السودان ويختبرها..الاحزان وحدها هي مجمرة الروح السودانية الحقة ..عند رحيل من لهم في خدمة الشعب عرق خرج الناس ...تنوع البشر واختلاف اللهجات والسحنات والاعراق والمنابت والتوجهات السياسية تلاشت تماما ..تماما تماما .. من بين دموع الرجال ونواح الثاكلات وزفرات المحزونين تلاقت كل مراثي و"مناحات" الغبش من كل مكان ... تلاقت في سيمفونية اسيفة ، حزينة بالغة الأسي.. من بين إرزام نحاس الحزن وآهات الفجيعة أكاد اسمع أميمة الخليل ومارسيل خليفة وهما يرددان بصوت خفيض محزون وقلب منقبض مكدود شعر طلال حيدر في من "لبسوا الكفافي ومشوا":

    "لبسوا الكفافي ومشوا
    وما عرفت مين هن..
    ماعاد رح يرجعوا
    ياقلب حاج تعن
    لاحصان جايب حدا
    ولا سرج عم بيرن"

    بكل كوفيات المجد والفخار والعز مشى وردي وحميد ونقد ...ولكننا ، خلافا لفرسان طلال حيدر، نعرف من هم ...هم، بالمختصر المفيد ،من لهم في خدمة الشعب عرق ...هم من عناهم صلاح احمد إبراهيم في "نحن والردى"... هم من قال قائلهم وهو من الصادقين بأذن الله:
    "ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
    فلنا في حَلكِ الأهوالِ مَسْرى
    وطُرُق

    نترك الدنيا وفي ذاكرةِِ الدنيا لنا ذِكرُ ُ وذكرى
    من فِعالٍ وخلُق
    ولنا إرثُ من الحكمة والحِلم وحُبِ الآخرين
    وولاءُ حينما يكذبُ أهليه الأمين
    ولنا في خدمة الشعب عَرَق"

    يشهد الله، فالق الحب والنوى ورافع السماء دون عمد، أنهم كانوا كذلك ...جِّملوا حياتنا بعطاء العقل المستنير وبألوان الغناء الراقي والنشيد ..ذلك كان عند اقبال الدنيا ...وحين أدبرت الأيام علمِّوا الناس معاني البذل والتضحية والعشم والامل.. صحيح أنهم رحلوا عن فانية حيث "لا حصان جايب حدا ولا سرج عم بيرن".ولكنهم سيبقون طويلا طويلا في ذاكرة الامة ووجدان الشعب.. سيبقون ما حنت ورقاء على فنن الوطن وما شُد وتر صبابة في قيثارة تناجي المحبوب والمرغوب ناسا وديارا واوطانا واماني ...سيبقون في ذاكرة الامة ما صدعت بكلمة الحق وصوته ألسنة أقوام نذرت نفسها لمداواة علل الوطن وتضميد جراحاته.

    الحزن القديم: "نورا ست الزمزمية" في زي زرقاء اليمامة:
    الرؤيويون لهم قدرات الإنذار المبكر والإستشعار عن بعد.. وانا اطالع بعض شعر حميد توقفت عند ابيات في إلياذته "نادوس" ..أبيات تنضح إستشرافا ونبوءة ...فيها رؤية الفقد الوشيك ... أبيات من "الفلاش فورورد" ...أبيات تحدثنا عن الحال والمآل والناس يتدافعون تجاه "جبانات" البنداري وفاروق ...في ابيات حميد من كان يناجي من؟..كانت "نورا" ست الزمزمية" هي الأعلى صوتا وهي تناجي الراحلين إلى دار الخلود :

    "الحال وراك كيفن تسر
    باقيلك إنتي بلاك في زين
    ما إتهشَّم إبريق الرضا
    خنست نسيمات السمح
    والبسمة زي حبة قمح
    لفحه وطفر طيراً كتُر
    أورث عصافيري الضنا
    يبس غناها مع الفجر ؟؟

    إلا ان بعض أعذب الشعر اصدقه ... فشعر الصادقين صادق ....بلاكم ما في زين.. شعر فيه رجاءات الناس وظلاماتهم ..آمالهم وشكواهم ......فيه اشواقهم وعذاباتهم ...شعر فيه التضاد القاتل بين الزين والرضا والسمح والقمح والعصافير والفجر من جانب ...وفيه التهشم والخنس واللفحة والضنا واليباس من الجانب الآخر ...ولكن كيف يتاتي الزين يا نورا؟... فأباريق الرضا قد تهشمت ونسيمات السمح قد خنست وحبة القمح قد لفحها الطير وفر ...كيف يمكن للحال أن يسر؟؟.

    البلاد ومآلها في فقد من لهم في خدمة الشعب عرق تحكي عنها نورا ست الزمزمية..في مشهد نوراني كامل البهاء والصفاء ...في إطار روحي عظيم تصف نورا الفقد الكبير ... عند الفقد والجلاجل والنوازل يبحث الناس عن الملاذات الآمنة ...البحث عن المدد وعن السند وعن المتكأ ..في حجر البتول ..في سماحة السيد المسيح ...في شفاعة سيدي أبي عبد الله الحسين ...في الأضرحة والقباب والمآذن...تحكي كل المشهد نورا ست الزمزمية بلسان ذرب وبيان خلب وقلب روحٍ شربت من سلسبيل ماء الحضرة دناً في أثر كأس:

    عانيت وراكي جنس عنا
    بوّغ سهادي كرو النجوم
    خطو المواويل إرتعش
    حرّس عصاتي بنات نعش
    دومست فوق حِجر البتول
    هلوست بي صلب المسيح
    دروش شردت من الضريح
    شويمت بي ظلم الحسين
    أومت عليْ كم ميضنة
    (حميد : نادوس)

    رحلوا ...رحل محمد عثمان وردي بعد نقش بديع على جدارية الوطن والانتماء والعاطفة.. أجيال من ابناء السودان تخرجوا من مدرسة وردي للغناء والنشيد والموسيقى..غناء للوطن وللحبيبة ..غناء نظيف في المبنى والمعنى ...غناء لم تلوثه مفردات هابطة ولا نغمات نشاز...غني للخير والحب والجمال كما ينبغى للغناء ان يكون ....محمد عثمان وردي علم الناس معنى احترام الفنان لنفسه ولفنه وإبداعه ..يختلف الناس حول وردي نعم ولم لا؟...يحترمونه جميعا؟ نعم.

    حميد لا يشبه أحدا ولا احد يشبهه.. حميد هو أبو ذر غفاري الشعر ...فرادة في كل شيء ..قاموس شعري جديد تماما ...تراكيب عجائبية ومشاهد يصعب عليك أن تتخيلها حتى وانت تسمعها:
    مرة شافت في رؤاها طيرة تأكل في جناها
    حيطة تتمغى وتفلع في قفا الزول البناها
    اتسعت عيون أهل الخرطوم وعموم البنادر وهم يسمعون "كلام الجن" هذا قبل ان يرقصوا عليه على انغام عقد الجلاد غناءً يأتيهم سائغا سلسلا يخرجه التربال العبقري حميد من بين طين سواقي نوري وسراب صحراء بيوضة وحجارة سلوم الصلدة ...حميد وشعره افتتنان مجنون بالشعب والغلابة و"شفع العرب التعابى"...صوره الشعرية قيض لها المولى قنديلا بهيا آخر ...ثنائي مصطفي سيداحمد وحميد اجترح مشروعا للغناء للوطن تجاوبت معه افئدة قطاعات واسعة من شباب أهل السودان...مشروعهما فيه شيء من مشاريع وردي وخليل أفندي فرح ولكن إضافتهما كانت اوضح ...رحل القنديل أولا وتبعه طبيقه بعد أن ترك بصمات لا تزول على قماشة الإبداع الوطني.

    ومن ثم رحل محمد إبراهيم نقد ...ترجل الفارس الثمانيني بعد ان ضحى بحياة كاملة مقابل تنوير ابناء الشعب السوداني وتوعيتهم وتعليمهم أصول الفداء وقواعد الوفاء وفنون العطاء...نقد تجاوز مجايليه من القادة السياسيين بمسألتين ارتبطتا بالسلوك والمنهج...سلوكا أخذ نفسه بشدة المتصوفة زهدا ونكرانا للذات...منهجا عكف على تطوير ذاته دفعا لمقولاته ورفدا لمعينات التوعية السياسية فأنجز اعمالا فكرية عالية القيمة ...على مستوى الفعل السياسي تحول الرجل في حياته لأسطورة ...لقد استقر في يقيني أن المهر الذي قايض به الشعب السوداني استيلاء العسكر (بمختلف منطلقاتهم السياسية) على السلطة كان اختفاء نقد ..ثلاث مرات حكموا ..ثلاث مرات أختفي...سحر الرجل انه طور العلاقة الطردية الموجبة المنتجة بين مدد اختفائه ودرجات عطائه وبذله الفكري وإثرائه التوعوي...المئات من أقرانه من اهل السياسة عاشوا العلن الفاضح الذي طابقه وكان عنوانه الابرز الاختفاء الفكرى والخواء الإنساني .. حياته كانت اختفاء في علن الحضور الواعي ..اختفى طويلا فتذكره الناس دوما ...أكرمه المولى بالحكمة ووهبه حب الناس في وقت عزت فيه الفطنة وندرت الحكمة وتقاتل الناس على حطام الزائلة...حياة محمد إبراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي السوداني صفحة من صفحات النفح الصوفي ولا ريب...بذل لم يتوقف في سبيل الإنسان السوداني، طهارة عليا في اليد وعفة لا مثيل لها في اللسان... شخصية نقد السياسية تجذرت سلوكياتها في مصالحة النفس وترويضها وحثها على مكارم الاخلاق ...أحبه أهل السودان لأنه كان مرآة صادقة لما يتمنونه في زعمائهم بساطة ،صدقا وإنسانية وشهامة ورجولة وفكرا مستنيرا مع روح للدعابة موزونة تماما.
    وردي وحميد ونقد "لبسوا الكفافي ومشوا"...مشوا إلى باحات المجد وساحات الخلود ...مشوا ليحتلوا مكانهم اللائق في ذاكرة الامة وفي وجدان شعب السوداني الوفي الخلاق ..التحقوا بأرتال من ابناء الشعب الشرفاء الذين ما هانت بلادهم يوما عليهم وما هانوا عليها يوما.

    محمد عثمان وردي: في تجسير ثنائية العاطفي والوطني:

    "عزه في الفؤاد سحرك حلال
    ونار هواك شفاء وتيهك دلال
    ودمعي في هواك حلو كالزلال
    تزيدي كل يوم عظمة ازداد جلال"
    (خليل أفندي فرح)

    "يا جميلة
    ومستحيلة
    أنت دايماً زي سحابة
    الريح تعجل بي رحيلها
    عيوني في الدمعات وحيلة
    اسمحيلا تتشوف عيونك
    أسمحيلا
    أنا لا الصبر قادر علي
    ولا عندي حيلة"
    (محجوب شريف)

    ستون عاما زاهرة ومحمد عثمان وردي ذلك الهرم النوبي الشامخ يعطر سماوات السودان إبداعا غنائيا متفردا وأصيلا...ستة عقود كاملة ليست "هينة ولا لينة" بحساب الازمنة وأحداث الدنيا... لتقدير عطاء الرجل الباذخ وتثمينه على الوجه الواجب علينا ان نتذكر أنه منذ العام الذي اعتمدت فيه لجنة الألحان والأصوات الجديدة صوته (1957) (وكانت اللجنة تتكون من عبد الرحمن الخانجي نائب مراقب الإذاعة وخاطر أبو بكر مساعد المراقب والمذيع على شمو كما حدثنا الدكتور الطاهر إبراهيم في كتابه: انا امدرمان) جرت مياه كثيرة بل شلالات مياه عظيمة تحت جسور العالم .. في عام إجازة صوته في الإذاعة السودانية كانت عائلة بن لادن السعودية تحتفل بميلاد ابنها أسامة... واسرة قرضاي الافغانية تحتفل بمولد ابنها حامد (الرئيس الحالي)...ذات عام 1957 شهد ميلاد الروائي الكبير علاء الأسواني صاحب "عمارة يعقوبيان " و"شيكاغو" وغيرها ..كما شهد ميلاد المطرب العراقي كاظم الساهر....سنة بداية وردي شهدت وفاة آغا خان الثالث وسراج منير وعلي الكسار ونيكوس كازانتزاكيس وهمفري بوجارت....البير كامو صاحب "الغريب" و"الطاعون" نال جائزة نوبل للآداب ذلك العام.. في الوقت الذي كان فيه العالم يمور بمثل هذه الأحداث كان محمد عثمان وردي يفرد أشرعته للإبحار في عالم الفن وكان السودان موعود بنوع مختلف من الغناء والمغنيين ..دخل وردي ساحة المغنى السوداني واعتلى درجها وبقي فيها سامقاً ليترك آثارا على سوح الغناء السوداني كتلك التي تركها زرياب على الموسيقى العربية سواء في الموصل او بغداد أو قرطبة ...كزرياب أحدث وردي نقلة في كل شيء.. عند تدوين تاريخ الغناء السوداني سيكتب المختصون أنه في عام 1957 دخل المغنى السوداني الحقبة الوردية.

    في حياته، وفي إطار مشروع توثيقي بإشراف الدكتور عبد القادر الرفاعي، كتبت مقالا مطولا عن محمد عثمان وردي مستعرضا إضافاته لمجمل المشهد الإبداعي (الغنائي) السوداني...المقال جاء بعنوان "منمنمتان على جدارية محمد عثمان وردي"...في المنمنمة الاولى سعيت لتسليط الضوء على بعض أبرز إضافاته لخارطة الغناء العاطفي أما في الثانية فقد كان التركيز على إضافاته لكراسة ونوتة الغناء الوطني.
    لعل مثل هذا التصنيف الذي اتبعته في العمل السابق عانى ما تعانيه كافة ألوان التصنيفات من خلل المنهج الذي يصاحب مشروعات النمذجة... فالتداخل بين المكونين الوطني والعاطفي عند وردي ادق من ان يفصله حتى مشرط جراح ماهر والشواهد على ذلك كثيرة فإذا نظرت إلى عمل كبير مثل "بناديها" كيف لنا أن نصنف هذا المنجز الإبداعي الضخم؟ .. هذا غناء للحبيبة وللوطن ولكل معنى إنساني كبير... حقيقة الامر إن مثل هذا التزاوج لم يجترحه وردي ففي عشرينيات القرن الماضي زاوج خليل افندي بين الحبيبة والوطن في أبدع وابهي صور هذا التزاوج حين صدح ب"عزه في هواك" ..."عزة" في هواك ظلت الاغنية الوطنية الاولى في السودان ..بل أن أسم "عزة" ارتبط عند السودانيين بمعاني الوطنية والعزة بشكل غير مسبوق في معاني ودلالات الاغاني.. "عزة" هي المقابل السوداني لنشيد المارسليز الذي أنشده الثوار الفرنسيون في عام 1789 وظل رمزا لفرنسا الحرة منذ ذلك الحين ....عزة لم تكن وحيدة خليل أفندي في التزاوج بين الحبيبة والوطن إّذ ان "فلق الصباح" لها ذات السمة والخصوصية... في كتابته عن أناشيد الحرب أشار خالد القشطيني إلى ان الجنود البريطانيين كانوا اثناء الحرب العالمية الاولى يغنون للحبيبة وهم يدافعون عن الوطن:
    "إنه لطريق طويل طويل إلى تبريري
    طريق طويل لنسير
    وداعا يا ساحة بيكادلي وليستر سكوير
    فأمامي طريق طويل لتبريري
    ولكن حبيبتي تنتظرني هناك
    أجمل فتاة هناك"
    وأشار القشطيني كذلك إلى أغنية الحرب الألمانية «ليلي مالين» التي شاعت في الحرب العالمية الثانية بعد أن غنتها سارة لينر، معبودة هتلر والحزب النازي. الأغنية تتغنى بجمال الحبيبة ليلي مالين وهي تجلس وتنتظر عودة حبيبها الجندي من الجبهة. غناها عساكر الفايمارت في مسيراتهم واكتساحهم عموم أوروبا.

    إذن خليل افندي كان طليعيا رائداً في المزاوجة بين العاطفي والوطني ...محمد وردي سار على طريقة الخليل وهو يصدح بأغاني من طبقة "بناديها" و"جميلة ومستحيلة" ...هذه أمثلة واضحة وبهية للغناء للوطن وللحبيبة ..هذا هو الغناء الأسمى... من غير عمر الطيب الدوش يمكن ان ينادي الوطن الحبيبة ...إنه لا يناديها فقط بل "يعزم كُلّ زول يرتاح على ضحكة عيون فيها"...من أراد ان يغني للحبيبة أو للوطن فليغن بمثل هذا او يدع الحبيبة والوطن وشأنهما.

    لمحمد وردي أوليات عديدة صنعت منه فنان مختلفا ، متميزا ومغايرا ... هذه الاوليات كثيرة ومتعددة ولكننا نوجزها في أربع ..أولها التزامه بمواقفه ورؤاه كمحدد لتوجهاته الفنية وثاني الاولويات تتعلق بريادته للتجديد في الغناء السوداني كلمة ولحنا ...الأولية الثالثة تتمحور حول توسيعه لمعنى وافق التغني للوطن ، والرابعة اوليته في تحديد العلاقة بين الفنان وجمهوره...في السطور التالية نلقى نظرة عين طائر خاطفة على بعض سمات ودلالات اوليات محمد عثمان وردي.
    إن أبرز هذه الأوليات تتمثل في التزامه الدائم بالتعبير عما يحسه كشخص مستنير من خلال ادواته الإبداعية كمغن... وردي لا يختار ولا يغني إلا في إطار رؤاه هو وقناعاته هو ...لم تجبره سلطة ولا شهوة ولا حاجة للتغني بما لا يدخل في قناعاته....على هذا الصعيد تميز الرجل بالتزامه الاخلاقى تجاه مواقفه رغم معرفته الواعية والمسبقة بنتائج هذه المواقف .. أفكاره ورؤاه ومواقفه المبدئية من قضايا الديموقراطية والحرية أدخلته في مواجهات عنيفة مع السلطات العسكرية التي حكمت السودان في حقب تاريخية مختلفة فلم يتنازل أو يتراجع أو يهادن...عناده وشجاعته وعلنية مواقفه جلبت عليه السجون والمنافي والحرمان ولكنها بالمقابل أكسبته احترام الناس والأهم أنها كرست لديه احترامه ذاته ...أحبه الناس لانه قدم مواقفه الفكرية على مكاسبه الذاتية ...عارض التهجير القسري لأهله وعارض نظام جعفر النميري بعد ان نكص على عهوده وعلى شعاراته التي كان وردي في طليعة حداتها والمبشرين بوعودها..عارض نظام الإنقاذ...عاش المنافي القاسية في قارات الدنيا ولكنه ظل مع الناس يؤنس وحدتهم ويحدو قوافل آمالهم في واقع افضل ومستقبل ازهر.

    من أوليات وردي سعيه الدؤوب لتطوير المغنى السوداني من حيث الكلمات والموسيقى..ولعل وجود مجموعة متميزة من مثقفي السودان حوله قد ساعدت كثيرا في ترقية ذائقة وردي الشعرية وتطوير قدراته على انتقاء واختيار أعمال متميزة ومن مدارس شعرية مختلفة .. وردي تمرس في تطوير عمله وظل خط بيان إبداعه يسجل تصاعدا متواليا في الكم والنوعية مع إتقان متزايد للمنتج ...وردي تطور من "الليلة يا سمراء" و"أسمر اللونا" مرورا إلى مدرسة خليل أحمد في "يا طير يا طاير" وظل يجود أدواته حتى خرج للناس ب "المستحيل" وتصاعدت وتائر الإتقان ليبلغ ذراها في "الطير المهاجر" والتي لم يتوقف بعدها.... إن "المستحيل" لإسماعيل حسن كانت فتحا في موسيقى الاغنية السودانية أما "الطير المهاجر" فقد كانت استشرافا آخر واقتاحاما للتجويد في عوالم الموسيقى .. إن إلتحاق وردي بمعهد الموسيقى كان امراً له دلالاته الكبيرة على صعيد اهمية طلب العلم والإستزادة منه مهما بلغ المبدع من مكانة وشهرة ومهما حقق من نجاح اعتمادا على المواهب الفطرية..ورغم انه لم يكمل دراسته بالمعهد إلا ان وردي أسدى خدمة جليلة للمعهد الناشيء ولعل وجوده كان حافزا ودافعا للعديد من الفنانين للإلتحاق بالمعهد ....من حيث إختياراته الشعرية خرج وردي من عباءة إسماعيل حسن التي تدثر بها زمنا في فترة رومانسية الغناء السوداني ...دخل مرحلة الواقعية الشعرية... غنى لصلاح احمد إبراهيم وعمر الطيب الدوش وعلى عبد القيوم ومحجوب شريف ...غني للحلنقي وابو قطاطي والتجاني سعيد وابي أمنة حامد وغيرهم...بعض أغنيات وردي مثلت علامات فارقة في عالم الغناء السوداني......وردي غني أطيافا من الغناء المختلف في مبناه وموسيقاه ولكن يجتمع في إجادته وتجديده ..من "قلت أرحل" و"من غير ميعاد" إلى "عصافير الخريف" إلى "الحزن القديم" ألى "الود" للدوش ...غناء من الطراز الرفيع ...محمد وردي لا يتعامل مع فنه إلا بالجدية اللازمة لذا نادرا ما يخرج على الناس بعمل قليل القيمة او الأثر.

    من اوليات وردي كذلك انه ساهم في تحويل الغناء للوطن من مناسبة احتفالية موقوته بزمن وتواريخ معينة إلى حالة وجدانية دائمة الحضور والفعالية .. وقوف وردي على أي مسرح يعني الغناء للحبيبة او للوطن ..هما سيان عنده وعند جمهوره..."الاكتوبريات" ويا شعبا لهبك ثوريتك" و"أصبح الصبح" لم تكن اغاني وطنية تبث للمناسبات ولكنها لحون على الشفاه كل الوقت وفي كل الازمات والمواقف.. ولعل مما ساهم في إدغام الوطني بالعاطفي عند وردي وجمهوره أن وردي ابن السياسة ...جاءت أنطلاقته الفنية قبيل أول انقلاب عسكري شهده السودان في نوفمبر 1958...هلل له مع قطاعات من الشعب ..كان شابا يافعا منفعلا ...خدعته ،كغيره، المارشات العسكرية والصفوف المتناسقة للعسكر فظن خيرا في صلاح حكهم ورشادهم للبلاد عوضا عن الهرج الذي ساد في اعقاب مناورات حكومة السيدين وما شاب الحياة السياسية من انفلات حينها... ومن ثم انقلب عليهم حين انقلبوا على أهله في حلفا استعداد لبناء السد العالي قبل ان ينقلبوا على حرية وديموقراطية أهل السودان بالكامل ..الشاب الذي عاش تقلب الامزجة السياسية حينها كان قد تشرب ،مع جيله، أجواء مؤتمر باندونق .. شعارات عدم الإنحياز...تشرب من مقولات وآراء نهرو وتيتو وعبد الناصر وسيدي الأزهري إسماعيل... شهد تمرد الماو ماو وكنياتا ونكروما وسيكتوري وتوم موبيا ورشيدي كاواوا يدخلون زمرة قادة أفريقيا الجديدة ...شهد التحول الإشتراكي على يد عبد الناصر ...عوالم جديدة وتطلعات جديدة وشباب في مثل سنه يحلمون مع كمال عبد الحليم بآفاق جديدة إذ ينشد ويرددون خلفه:
    "دع سمائي فسمائي محرقه
    دع قنالي فمياهي مغرقه
    واحذر الارض فارضي صاعقه
    هذه ارضي انا وابي ضحي هنا
    وابي قال لنا مزقوا اعدائنا
    انا شعب وفدائي وثوره
    ودم يصنع للانسان فجره
    ترتوي ارضي به من كل قطره
    وستبقي مصر حره مصر حره"

    دخل وردي عالم السياسة ولم يخرج منه أبداً ....ظل مذاك وطنيا صميما يدافع عن قيم الديموقراطية والحرية والعدالة الإجتماعية.

    من أوليات وردي أنه علم الناس معنى الإستماع المحترم ...وردي استفاد من تجربته المهنية السابقة كمعلم في تنظيم العلاقة بينه والجمهور ..ولعل حفلات وردي أكثر الحفلات انضباطا في السلوك ..أنه لا يحرم جمهوره من التعبير عن مشاعرهم ولكنه تعبير منضبط في حضرة الأستاذ ...المسافة بينه والجمهور محسوبة بدقة ومهارة شديدتين دون تفريط ولا إفراط ...أحب الناس وردي في هذه الناحية لأنهم يعرفون جيدا الفرق بين الادعاء الاجوف والغرور وبين الاعتداد بالنفس والثقة الناجمه عن معرفة مقدار الذات ومقادير الناس في إطار علاقة سوية متوازنة...بل لعل وردي هو المبدع السوداني الوحيد الذي يعشقه الناس لصراحته الشديدة ولا يعدونها من ضروب الترجسية المؤذية أو "القرضمة" (الكرضمة! حسب تعبير استاذنا حيدر إبراهيم).

    واخيرا فإن محمد عثمان وردى المولود في قرية صواردة جنوب مدينة عبرى بشمال السودان قد خلف مآثر وآثارا خالدة على مجمل المشهد الإبداعي السوداني منذ ميلاده في 19 يوليو 1932 وحتى رحيله في 18 فبراير 2012 .. كان وردي موجودا وبقوة طيلة حياته الغنية الخصبة المنتجة ...كان فنانا نادرا وإستثنائيا ...حتى تواريخ ميلاده ووفاته ليست عادية ..ولادة في ذات تاريخ انقلاب مشهور ووفاة في ذات تاريخ وفاة العبقري الآخر الطيب صالح...ليس هناك شيء عادي بشأن وردي كان استثنائيا في كل شيء.
                  

07-21-2017, 10:09 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    sudanile.com























    يا وطن عند الشدائد (2) .. بقلم: د. محمد عثمان الجعلي

    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 19 نيسان/أبريل 2012
    الزيارات: 11813




    يا وطن عند الشدائد (2)
    أو
    ويتقاصر المقال في مقام من لهم في خدمة الشعب عرق ( الجزء الثاني)

    د. محمد عثمان الجعلي
    (دبي ابريل 2012)
    ([email protected] )

    (رسالة عزاء تسلم ليد عبد القادر الرفاعي ومحمد طه القدال وعبرهما لمن يهمه الأمر ويحزنه)

    "أنها الكائنات استضافتك في خدرها
    قمُر العشيةٍ يصطفيك
    وتحتويك لدى البكور
    خيوط فجر وشًحتك بضوئها
    شمسُ النهارٍ على جبينك لؤلؤة
    وعلى ذراعك يستريح النيلُ
    من عنت المسيرة في الهجير
    من يا ترى يبكى لديك عليك
    من؟
    من يعزي فيك ....منْ ؟
    من يا ترى يبكي لديك ....عليك....من؟"
    (الراحل على عبد القيوم: من يعزي فيك من؟: ديوان الخيل والحواجز)

    الشعر العامي كفعل إبداعي متجاوز: التروبادور حميد حين يغني
    مفيش في الأغاني كده ومش كده
    تفرقنا عن بعض بالشكل ده
    يا مصر اللي جايبة الشجر من زمان
    وشايلة الضفاير على البرتقان
    وقبل الأوان اللي قبل الأوان
    بتحييني أنفاسك المسعده
    مفيش في الأغاني كده ومش كده
    تفرقنا عن بعض بالشكل ده
    (فؤاد حداد : في حب مصر)

    بآكِراً تعلمتْ آنهُ كيّ تصِلّ إلىّ آلنبع عليّكْ
    مِثلّ آسمآكْ آلسلموُنْ ، آنْ تسبح عكسْ آلتيآرّفإنه لآ يجريّ مع آلتيآرْ آلآ آلسمكْ الميت
    (آحلآمْ مُستغآنِميّ)

    ظل شعر العامية في السودان حتى العقود القليلة الماضية هو شعر الهامش المنسي ..كان شعر المناسبات المحلية والجهوية التي تحفظها الاجيال مشافهة.. أهل المركز والحواضر والبنادر كان يأتيهم شعر "الضهاري" والأرياف في المواسم مع منتجات الفصول والدورات الزراعية الإنتاجية ...مع "مقاطف" و"قفاف" التمر والسمن البلدي والكركدي والقضيم والقمح والدخن وكل منتج حسب أقاليم السودان كانت تأتيهم مربعات الشعر والدوبيت وأغاني المناسبات مشافهة....ولقد ظل الشعر الغنائي المتجذر في اللهجات المحلية يرتبط إعلاميا بالبرامج المتخصصة كبرنامج "ربوع السودان" أو "مجادعة بالدوبيت" أو برنامج شيخنا الراحل الطيب محمد الطيب "صور شعبية"..كان أهل البندر يتعاملون مع هذه اللهجات المحلية الجهوية كأشياء متحفية...بل كانت عند جماعات منهم أداة ومادة للبرامج الكوميدية (تور الجر وود حامد الغرباوي وأدروب) ..ومن ثم جاء نجباء الأمة ...لم يأتوا من فراغ ..تناسلوا من عبقريات محلية لم يكتب لها الذيوع والإنتشار..جاء كل منهم محتقبا ذخيرته ومواهبه وحين واتت الظروف وتهيأت جاءوا من الأطراف وهبطوا المدن والبنادر...جاء شاش و"فنجان جبنة بي شمالو" ..جاء أهل كردفان بالكمبلا وإيقاعات المردوم والجراري والجابودي وام بلينة السنوسي وإبراهيم موسى أبا واخوانه..وجاء الحاردلو سيداحمد ومحمد طه القدال ومحمد بادي وأزهري محمد على ومحمد الحسن سالم حميد وأخوانهم ...ومن المهم الإشارة إلى ان مد الشعر بالعامية في السودان استفاد كثيرا مما جرى في الشقيقة مصر حيث سادت اشعار سيد حجاب والأبنودي واحمد فؤاد نجم التي خرجت من عباءة صلاح جاهين وفؤاد حداد والتي كانت بدورها قد وردت حوض مشروع بيرم التونسي.

    صوت الشعر العامي لم يأخذ صورته الراهنة إلا في ظل معطيات جديدة ومختلفة تماما..لقد ضرب إعصار التغيير كافة مناحي الحياة السودانية في العقود القليلة الماضية..إن الحروب والتغيرات المناخية وما ادت إليه من جفاف وتصحر والازمات السياسية وغياب التنمية الاقتصادية المتوزانة كانت كلها عوامل أدت إلى تغييرات جذرية في بنية وسلوك الدولة السودانية وأهلها... إن التحول الكبير في البنية والتركيبة الاقتصادية والإجتماعية للدولة التي تآمر على إرباكها وخلخلتها الاستحداث (المتعجل وغير المدروس) لما يسمى باقتصاد السوق الحر وما ارتبط به ، وادى إليه، من فساد غير مسبوق نتج عنه نزوح هائل ومتواتر بإتجاه المدينة المتعبة والمتردية الخدمات أصلاً.. ..لقد تريفت المدينة ...الملايين التي زحفت على البنادر كانت تبحث عن حقها في الحياة ...لقد ضاعت الأغلبية شقاءً وفقرا ومسغبة وراحت تبحث عن من يبث شكواها ويقيل عثرتها..كانوا يبحثون عن من يعبر عنهم بلسانهم ...يبحثون عن من ينشد الناس كما محمد ود الرضي في العشرينات"الاهلية كملت" ...يبحثون عن من يقول "يا بو مروة"..ولم يخذلهم أيناؤهم ...كانوا هناك في الموعد ...قدال وحميد واخوانهم ..صوت الغلابة والمنكسرين يأسون جراحهم ويشدون عضدهم ويبشروهم بالمستقبل ..شعراء الأمل حين تدلهم الخطوب وحداة قوافل الرجاء حين يشتد الجوع ويعم المرض وينتشر الجهل...يبشرون امة عظيمة وشعب أبي ابت عليه حكوماته واهل سياسته إلا ان يذل في أمنه وعيشه وصحته... حزن الامة على فقد صوت كصوت حميد كبير بحجم آمالها في أن يغنيها ، مع إخوانه، مواويل الصبر والجلد والصمود ويبشرها بقرب الخلاص ..غاب الحادي وتكاثرت الرزايا إذ ضاع لسان "السرة بت عوض الكريم" وغاب من يكتب خطابات"ست الدار بت جابر".

    حميد هو خلاصة ثقافة الشايقية المنفتحة على كل التجارب الوطنية والإنسانية ..في شعره حلاوة تمور المنطقة من بركاوي وقنديل وودلقاي ومدين ومشرق ... مفرداته خليط من الأثر القرآني للخلاوي والمدائح..ايقاعات شعره متموسقة مع الدليب ومتوافقة مع ضربات النوبة المميزة في حلقات وحضرات السادة الصوفية ورنة الطار و"الشتيم" في حلقات الذكر... فيه نفس ود حليب وحاج الماحي..حياته حياة صوفي من النساك وأهل الزهد ..حياته حياة من كُشف لهم السر فاستبانوا المسألة ..تمسك بالبساطة الطبيعية إذ لم تخدعه الزائلة ببريقها الزائف ..صالح نفسه على يقينياته في الناس والمحبة فتيقن وأحبه الناس.. عاش لاهله وفي اوساطهم ومنهم استقى صوره الشعرية ..لم يهوم في عوالم الخيال الناهد للصورة الاكمل ولا الحياة الامثل ...بحث في شعره عن الحياة الممكنة للغبش من حوله .. أوقف شعره على حياتهم وقضاياهم:
    "غنيتك البارح براي
    إنصلبطوا التانين غناي
    والليلي بتواتاك شعر
    دونو إنعتاقك أو فناي"

    حميد في استخدامه الكلمة سلاحا فاتكا في وجه الظلم والإستبداد لم يكن وحيدا كان يعبر بلسان مدرسة إنسانية عريقة التزمت جانب شعوبها المقهورة ودافعت عنه بسلاح الكلمة...عندما أطاح الجنرال بينوشيه بالحكومة الاشتراكية المنتخبة ديمقراطياً في تشيلي في أوائل السبعينات وقتلوا الرئيس سلفادور أليندي، هجم الجنود على بيت الشاعر بابلو نيرودا وعندما سألهم ماذا يريدون أجابوه بأنهم يبحثون عن السلاح فأجابهم الشاعر أن الشعر هو سلاحه الوحيد( السيرة الذاتية للشاعر "أشهد أنني قد عشت").
    كنيرودا وأمثاله من الرواد استخدم حميد أدواته الشعرية الناضجة والمفعمة بكل الحس الشعبي الموروث لإقتلاع حقوق أهله من بين براثن الطواغيت في أي زي تدثروا وتحت أي إهاب مثلوا ادوارهم...خاطبهم بمفردات اختيرت بعناية من القاموس اللغوي الذي كان مطيتهم للسطو على السلطة والإحتيال على الناس ..خاطبهم باللغة القرانية التي تقشعر لها أبدان المرجفين والدجالين:
    تَربت يداك
    تربت يداك
    تبّت يدا كلِ الذين
    تغامزوا..وتلامزوا..وتهامزوا
    وتقززوا
    فتلذذوا
    من فيه جرحك يا وطن؟


    حميد شاعر الإبحار ضد التيار في كل شيء .. ضد تيار الهجرة من الريف للمدينة وهو العائد للريف بعد التمدن...ضد تيار المركزية الإعلامية وقد فرض على الآلة الإعلامية الجري خلفه وملاحقته في نوري ..ضد تيار استسهال القاموس الشعري والعيش على حواشي اللغة الميتة فعمل على تطوير قاموسه الشعري الخاص بعد أن أعمل جهده في البحث في كنوز ومناجم اللغة العامية.. فصلته الدولة من وظيفته ولم تكن تعلم انها قد حررته من إسار وربقة الوظيفة العمومية وما تجلبه على صاحبها من ذل وإسترقاق فعمل شاعرا ومزارعا حرا طليقا...حميد السابح كأسماك السالمون (كما في حديث مستغانمي) ظل يسبح عكس التيار وضد التيار السائد ...هل كان صاحب اللافتات أحمد مطر يعنيه وهو يكتب "ضد التيار":

    "في طوفـانِ الشّرفِ العاهِـرِ
    والمجـدِ العالـي المُنهـارْ
    أحضُـنُ ذنـبي
    بِيـَدَيْ قلـبي
    وأُقبّـلُ عاري مُغتَبِطـاً
    لوقوفـي ضِـدَّ التّيـارْ
    أصـرُخُ : يا تيّـارُ تقـدّمْ
    لنْ أهتَـزَّ ،ولـنْ أنهـارْ
    بلْ سَتُضارُ بيَ ألا وضـار
    يا تيّـارُ تقـدّم ضِـدّي
    لستُ لوَحـد ي
    فأنا .. عِنـدي!
    أنَا قبلـي أقبلتُ بوعْـدي!
    وسأبقى أبعَـدَ مِنْ بعـدي!
    مادمـتُ جميـعَ الأحـرارْ
    (احمد مطر: ضد التيار)

    عبقرية أهل الإبداع (بمختلف ضروبه) أنهم استطاعوا ترميز التجارب الإنسانية في مختلف تجلياتها عبر شخصيات خيالية أكسبوها بقدراتهم الإبداعية لحما ودماً وعواطفا وسلوكا فأستوت تمشي على قدمين بين الناس وكأنها جزء أصيل منهم ..يحيون حياتهم ويعبرون عنهم ...إن شخصيات مثل "سي السيد" عند نجيب محفوظ و"مصطفى سعيد" عند الطيب صالح و"دون كيشوت" عند سيرفانتس و"حراجي القط" عند الأبنودي و"حسن الوزان –الغرناطي-" عند امين معلوف و"زوربا" عند نيكوس كازانتزاكيس بل إن أسماء قرى ومواقع جغرافية مثل قرية" ماكوندو" عند ماركيز و"ود حامد " عند الطيب صالح كل هذه أمثلة قليلة جدا على قدرات المبدعين المذهلة على تطوير وبث الروح في شخصيات ومواقع خيالية لتكتسب أدميتها وحياتها على أيديهم... يقول إدريس جماع :
    "خُلقت طينة الأسى وغشتها نار وجد فأصبحت صلصالا
    ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة البؤس شاعرا مثّالا"

    حميد ينتمي لمثل هؤلاء الجبابرة الأفذاذ...تصاوير حميد الشعرية للبشر أضحت عند قطاعات واسعة من أهل السودان شخوصا حياتية تمشي على قدمين.."عم عبد الرحيم" و"السرة بت عوض الكريم" و"نورا" "ست الدار بت احمد"..لا أحد يقتنع بأنهم شخصيات على دفاتر الشعر..هؤلاء بشر سودانيون في بيتنا وبيتك وبيت الآخر....لو أردنا وصف المرأة السودانية العظيمة لما احتجنا لغير ابيات قليلة الكلمات عظيمة المعاني والدلالات من عبقري مثل حميد ليقول لنا عنها وهو يصف السرة بت عوض الكريم:
    "مرأة من صميم
    ضَهَر الغلابى
    الماب تنكِّس رأسه
    غير ساعة الصلاة
    أو ترمي تيراب
    في التراب
    أو تستشِف
    وجهَ الأديم"
    أما ست الدار بت أحمد جابر فإن رسائلها من نوري السوق لزوجها الزين ود حامد عبر عنوانه: الخرطوم، الخرطوم بحري، كشك الشعلة فإنها تعتبر تحفة في أدب الرسائل صاحب المضامين العميقة في التوعية السياسية وفي الوقوف في وجه المحن والرزايا..عمق المضامين التي اشتملت عليها الرسائل بين ست الدار وزوجها أنها تجاوزت الهموم المعاشية الحياتية العادية إلى قضايا البلاد دون تنطع ودون تجاوز للواقع المرير وربط عبقري بين الهم الفردي والهم الجماعي..إرادة المرأة السودانية العظيمة ودورها الكبير في المجتمع مثلته "السرة بت عوض الكريم" وست الدار بت احمد جابر على وجه تتقاصر عنه وتخجل منه ورش العمل والندوات والمحاضرات والمسيرات المليونية الإحتفالية الموسمية الممجدة للمرأة ..استمع معي ،والاك المولى بالعافية،لإمراة من غمار أهل السودان كالسرة بت احمد وهي تكتب من نوري لزوجها العامل المقهور في كل شيء بالخرطوم البحرية..خرج من السجن الذي دخله وهو يبحث عن حقه ليبقى عاطلا بالخرطوم ...انظر إلى الرجاحة والشورة والدعوة للعودة للجذور:
    بس يا الزين كان درت مشورتي
    اصلو كتالك ياهو كتالك
    تجي مندلي
    الواطة تراها
    وبي جاي جاي .. بندبر حالك
    ما الحيكومة الضاقت دمك
    عينا محل قبلت قبالك
    شورتك عندك
    عندك شورتك
    والببقالك .. الببقالك
    التمرات بعناها آ الزين
    خفنا السوس ونزالة السوق
    مبعوتالك عشرة جنيه
    والأشواق من هنا لا عندك"

    عم عبد الرحيم هو الحالة النموذجية ل"الزول السوداني" ...بلاد عظيمة وأمة عريقة..كان لأهلها آمال عريضة في حياة حرة مستقرة ذات خير ونماء ثم "تسلط "على البلاد ابناؤها فأحالوا آمالهم سرابا وخيرهم وزادهم فقرا ومسغبة ...اهترأت خارطتهم ولم تزل إرتدادات زلزال فقدان الجنوب تضرب أطرافها...هاجر أبناؤها وتشتتوا في أصقاع الدنيا ينشدون مجرد العيش الكريم بعد ان كانت بلادهم مأوى وملاذ الآخرين ...عم عبد الرحيم نموذج التضاد بين الرغبات والقدرات ..بين العوز والحاجة وما هو متاح لسدهما ..عم عبد الرحيم لم تقتله قاطرة السكك الحديدية بل قتلته حكومات لم تراع حقوقه:
    حكومات تجى...وحكومات تغور
    تحكم بالحجى...بالدجل الكجور
    ومرة العسكرى...كسار الجبور
    يوم باسم النبى...تحكمك القبور
    تعرف يا صبى...مرة تلف تدور
    ولا تقول برى..او تحرق بخور
    هم يا الفنجرى..يا الجرف الصبور
    كل السقتو مات ...باقى على التمور
    وارضك راقدة بور...لا تيراب وصل..لا بابور يدور

    لا تيراب وصل ولا بابور يدور..قصة عم عبد الرحيم..قصة السودان..نقطة.

    ومن ثم رحل حميد المولود في عام 1956 وكان قد تلقي تعليمه الأولي والأوسط بمدينة نوري والثانوي بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية..عمل في هيئة الموانىء البحرية بين عامي 1978و1992 ..توفي إثر حادث سير عند الكيلو "167" في طريق "شريان الشمال" في طريقه من نوري إلى الخرطوم في يوم الثلاثاء 20 مارس 2012. رحل حميد عن 56 عاما وترك أرثا إنسانيا عظيما ...له أربع مجموعات شعرية وهي "مصابيح السما" و"نورا والحلم المدردح" و"تفاصيل ماحدث" و"ارضا سلاح"...بعض قصائده أضحت علامات بارزة في ساحة الإبداع الشعري السوداني وأهمها:"حجر الدغش"، "نورا"، و"ست الدار" و"عم عبدالرحيم"، و"عمنا الحاج ودعجبنا" و"ياتو وطن" و"من حقي أغني" و"الضو وجهجهة التساب" و"لبن الطيور".

    رحل المبدع العبقري وهو يغني للمحبة والخير والجمال والسلام..يغني و"يقوقي" مع الحمام" أبيضا نقيا رحل ..مع الحمام رحل وهو يغني:
    "غلابه وأمان مو الطيابة
    ضكارى بصارى وكرام
    حباب الحبان في بابه
    وتدخلوا عليّ الحرام

    فقارى ولكن غنايا
    غنايا بهذا الغمام
    بهذا النيل كم تغايا
    وتيرابا نرميهو قام"

    محمد إبراهيم نقد: علن الحضور الفاعل في زمن الأختفاء

    "اليومُ أحداً
    كانَ اليومُ أحداً
    ساقوني خارجَ حبسي تحتَ الشمس.
    لأولِ مرةٍ .. ذاك اليوم
    ولأولِ مرةٍ في حياتي
    مذهولاً كيفَ أن السماء بعيدة جداً
    و زرقاء جداً
    وعريضةٌ جداً
    كنتُ ساكناًً
    ثم جلستُ على الأرضِِ خاشعاً
    أسندتُ ظهري على الجدار.
    لم أتدحرج في التيار تلك اللحظة
    تلك اللحظة .. لم أفكر بالحرية .. أو بزوجتي
    الأرض والشمس وأنا
    وكفاني"
    (ناظم حكمت)



    "بالليل وشيك فوق التدويرة هويني مشيك
    الراكب الكيك داخل في مجالك خبرو ركيك"
    (العارف بالله الشيخ عبد الرحيم البرعي: القوم بتجيك)

    في منتصف التسعينات وفي زيارة لسوريا دخلت مكتبة ميسلون الواقعة امام فندق الشام ..الآف الكتب والمصنفات في تلك المكتبة الوارفة ... كتب لعرب قدماء ومحدثين ..كتب مترجمة ..كتاب أثر كتاب ومجلد يحتضن مجلدا ..وانا اقلب بعض تلك الكتب والأسفار والإصدارات توقفت فجأة أمام كتاب صغير الحجم ..ترددت وقرات العنوان وأسم المؤلف مرتين ثم عاودت القراءة ...حين تاكدت صحت عاليا دون قصد ولا اردايا :"الله يفتح عليك يا نقد دنيا وآخرة"... احسست بزهو عجيب ولولا الخوف من الرمي بالعتة وزوال العقل لصحت في زوار المكتبة: "نقد هذا سوداني..هو زعيم الحزب الشيوعي السوداني.. يعيش تحت الأرض لثالث مرة ولكنها يقرأ ويبدع ويكتب"...ذاك كان كتابه المهم رغم صغر حجمه "حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" لمؤلفة العلاّمة حسين مروة.

    من دلائل احترام وتقدير الشعب السوداني لنقد أن الناس في حالته تحديدا كانت تتعامل معه على مستويين مختلفين تماما ..في المستوى الاول هناك نقد زعيم الحزب العقائدي والذي يبقى محل نظر وتقييم المهتمين بالشأن السياسي حيث يقاس أداؤه ويحكم عليه بأداء حزبه شأنه في ذلك شأن غيره من زعماء الاحزاب السياسية الاخرى لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ..المستوى الآخر لتعامل قطاعات واسعة من ابناء الشعب السوداني مع نقد كانت من خلال النظر إليه كقائد وزعيم وطني له إسهاماته الوطنية ومواقفه الفكرية ..زعيم له كاريزميته وسماته الشخصية التي امتد إثرها من الحيز الحزبي الضيق إلى رحاب الوطن الاوسع والأشمل ...على هذا المستوى تاتي كتابتنا عن محمد إبراهيم نقد كتنويري طليعي وكقائد وطني أعطى بلاده كل ما يمكن للإنسان ان يقدمه ..حياته كاملة غير منقوصة...محمد إبراهيم نقد ودوره في قضايا الحزب الشيوعي السوداني أمر يهم حزبه وجماعته ولكن الرجل كان يعمل في إطار آفاق أرحب وأوسع ولذا كان تقدير أعماله كبيراً في اوساط قطاعات وجماعات تتجاوز كبيرا وكثيرا نطاقه الحزبي وحيزه الأيديولوجي..نقد المختفى عن الحياة العامة في السودان لأكثر من ثلاث عقود استثمر هذا الوقت فيما ينفع البلاد والعباد فرفد الفكر السياسي السوداني بأعمال هامة تتصل بجوهر قضايا السودان المفصلية.

    وجوه نقد الزعيم السياسي الوطني متعددة ولعل ابرزها ثلاثة وجوه... الوجه الاول وجه البطل صاحب المباديء والثبات ...الوجه الثاني وجه المفكر الطليعي العابر للأزمنة والمكان والقضايا....الوجه الثالث وجه الإنسان السوداني المتحضر سلوكا وأدبا....ثلاث وجوه حببت الرجل للبسطاء من أبناء الشعب السوداني ومتعلميه سواء بسواء...حظي ببالغ احترام الناس وتقديرهم ..أحبوه لزهده وبساطته التي اخذت من بساطة أهل السودان...في نقد وأمثاله تتبدى واضحة جلية حقيقة أن عظمة الإنسان تكمن في بساطته ومنظومته القيمية وإنسانيته.

    في الوجه الاول نطالع محمد إبراهيم نقد سيزيف الحركة الشيوعية السودانية ...ناء بحمل صخرة عذاباتها إذ تسنم قيادتها في اعقاب مذبحة يوليو 1971...إنقلاب هاشم العطا وما تلاه من احداث في بيت الضيافة ومعسكر المدرعات بالشجرة هي من أيام السودان السوداء حقا ..أطماع السلطة أضاعت بعض أنبل واخلص شباب اهل السودان ...ولا تزال بعض الاحداث المصاحبة لتلك الفترة العصيبة من تاريخ السودان في طي الكتمان وفي أضابير الصندوق الاسود لتلك المرحلة ..مجازر دموية لم يعرف الصراع على السلطة في السودان مثيلا لها في عنفها...كان قدر نقد ان يتولى زعامة حزب تم تهشيمه بعنف وقسوة بالغتين ..كان عليه تضميد الجراحات وما اكثرها وأشدها وكان عليه إصلاح العطب وما اعمقه وأقساه وكل ذلك التضميد والإصلاح كان مطلوبا في ظروف لم تكن مواتية حتى لبقائه على قيد الحياة دع عنك محاولة لملمة اطراف حزب تمزق أشلاء ...وقف نقد ولسان حاله يحدو كما كل "رادود" كربلائي محزون مكدود:
    "وقعتم وسط أسقام الحياة
    هكذا ما بين أفعال الطغاة
    نور عيني كيف تمضي اليوم عني
    ولقد حام الردى بالقرب مني
    ولقد هدَّ الأسى والضيم ركني
    ولقد صار لدى الطغيان شأني"
    (الرادود سيد محمد العوادي ينشد شعر الشهيد على الرماحي في مناقب سيدي أبي عبد الله الحسين في صحن المسجد الكبير في النجف)

    بشهادة رفاقه وجماعته (بل والمنصفين من مراقبي المشهد السياسي السوداني) استطاع الرجل في ظل ما صورنا من ملابسات سالبة ومظلمة ان يلملم أطراف حزب تشتت عضويته بين المقابر والسجون والمنافي والمخابيء ...لملم أطراف جماعة ضربت من قبل بعض أبنائها فكان الضرب أوجع والحزن أعمق... ثبت نقد كأبطال أسبرطة القديمة وهو يحمي من تبقي من جماعته بالتدبير والتدبر.

    الوجه الثاني للرجل هو وجه المفكر ... في هذا الوجه تتجلى إضافات نقد الحقيقية للفكر السوداني والإنساني.. نقد رفد المكتبة السودانية بالعديد من الاسفار المتميزة والفريدة في بابها...من أبرز مؤلفاته حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية"، و"علاقات الارض في السودان: هوامش على وثقائق تملك الارض" و"علاقات الرق في المجتمع السوداني" و"قضايا الديمقراطية في السودان " حوار حول الدولة المدنية" هذا بالإضافة إلى العديد من الاعمال الفكرية المتصلة بقضايا حزبه.

    إضافات نقد الفكرية هي التي جعلته في مكانة متقدمة ورفيعة في الذاكرة الجماعية لأهل السودان...القضايا التي تناولها محمد إبراهيم نقد بالدراسة والتحليل كانت في مجملها قضايا حيوية تتصل بالمشكل السوداني الأولى والازلي...أربع قضايا محورية شغلت الرجل فتعامل معها تعامل كل مفكر مستنير مقتدر. قضايا الدين والأرض وملكيتها والرق والديموقراطية هي ، او ينبغي ان تكون، الهموم الاساسية لكل من يعمل بالسياسة في بلد كالسودان..أغلب رصفائه من السياسيين تعاموا مع هذه القضايا واخواتها اما بالسكوت عنها وغض الطرف عنها ( كقضية الرق مثلا) أو بالتعامل معها على أساس إنها من المسلمات التي لا يجوز التعامل معها بحسبانها من القضايا التي اوصدت أبواب الإجتهاد في حقها (وهذا باب في الإحتيال والتحايل معروف ومجرب)...نقد السياسي خالف مجايلية وشمر عن ساعد الجد وهو يبحث وينقب في الأضابير ويدرس ويحلل خلفيات وعلاقات الأرض والرق والإسلام والشيوعية والتصوف وقضايا الديموقراطية والدولة المدنية...هذا إبحار في لجج عميقة لا يقدر عليه إلا "الرواويس" العتاة ...هذه قضايا شائكة يتحاشاها أهل الفكر والسياسة ابتغاء النجاة من وخيم النتائج ومن وبال المساءلة ...نقد غير!!!..أبحر غير هَّياب ولا وجل ..عندما يمنحك المنان رجاحة العقل وميزان التفكير السوى لا خوف عليك من شطط مغالطات أنصاف المتعلمين ولا من معاظلة أهل اللجاجة وقصيري النظر والتدبر.

    ما يلفت النظر حقا في القضايا الفلسفية والفكرية الرفيعة التي عالجها الرجل انها كانت أيضا في صلب أجندة العمل السياسي السوداني...ولعل قضايا السودان المركزية لم تعاني من شيء مقدار معاناتها من غياب الأطر الفكرية الناضجة القادرة على طرح هذه القضايا بموضوعية وحيدة ووفق منهج علمي ينأي عن المؤثرات العقائدية والجهوية والقبلية والعرقية وحتى الشخصية...إن قضايا الأرض وملكيتها وقضايا الرق ظلت من القضايا المسكوت عنها عمدا من قبل أصحاب المصلحة في ديمومة العلاقات التي تشكلت تاريخيا وغير الراغبين في فتح أبواب جهنم...من ناحية ثانية تظل قضايا علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدين بالمجتمع من القضايا التي ظلت النخب والقيادات تتعمد إفالها وتحاشيها ..محمد إبراهيم نقد لم يدعي فصل مقال في ما طرحه من آراء ومقولات بشان القضايا التي تصدت لها أعماله الفكرية ولكن هذا ليس مهما المهم، بل الثابت حقيقة، انه القى بحجر هائل في بركة الحياة السياسية الفكرية الراكدة...في ظل اجواء ديموقراطية ومعافاة كان من الممكن لمثل أطروحات نقد أن تجد حظها في التداول والنقاش ...إن التحاور البناء والموضوعي كان، وسيظل، سبيل اهل السودان الوحيد لمواجهة إشكالياتهم المعقدة والمزمنة والبحث عن حلول ناجزة لها.

    إن المقام الحالي لا يستهدف سوى الإشارة العابرة للقيمة الفكرية العالية لأطروحات الرجل وسنكتفى بالقليل مما هو متاح من كتابة بشأنها على سبيل المثال لا الحصر ونركز على عملين من أعماله وهما "حوار النزعات المادية" وكتاب علاقات الأرض.
    في معرض تناوله لعمل نقد "حوار حول النزعات المادية" كتب رشيد الخيون ان الرَّجل ،إلى جانب أنه كان كائناً حزبياً يُجيد التخفي بقدرات مذهلة ،كان كاتباً ومثقفاً راقياً في شؤون الفكر والفلسفة، وعلى وجه الخصوص في الفلسفة الإسلامية"...وفي معرض حديثه عن ذات الكتاب استعاد الكاتب البحريني فهد المضحكي التعليق المطول لمحمود امين العالم في مقدمة كتاب نقد حيث قال العالم عن الكتاب والكاتب :"كانت مفاجأة مدهشة سارّة، ان أتبيّن بهذا الكتاب، جانباً جديداً بالغ الغنى والخصوبة للمناضل الكبير "محمد ابراهيم نقد" كنت اعرفه محلّلاً عميقاً عارفاً بأسرار مختلف حقائق الواقع السوداني والعربي في انحائه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكنت أتابعه بإعجاب شديد في سجون السودان المختلفة، او متخفياً من حكومات البطش والاستبداد مواصلاً اينما كان وكيفما كان قيادته للحزب الشيوعي السوداني، باعتباره اميناً عاماً له فضلاً عن مبادراته المتعددة الرصينة لتوحيد وتنشيط مختلف الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية الحيّة في السودان، من اجل سودان ديمقراطي متحرر متقدم. ولعلي التقيت به لقاءً سريعاً في زيارة خاطفة للسودان منذ سنوات استشعرت فيها بشخصيته الدمثة وتألقه الذهني على اني – اعترف – لم أكن اتوقع ان يكون وراء هذا كله هذا المفكر الكبير الذي يستوعب استيعاباً نقدياً عميقاً القضايا الاساسية للفلسفة الغربية والفلسفة العربية الاسلامية على السواء".

    في تقديمه لكتاب "علاقات الأرض" كتب نقد:"لعلاقات الأرض السائدة في سودان اليوم تاريخ وسيرة ذاتية لا يستقيم اختزالها في القرن المتسارع الى نهايته، وفي سجلات الحكم الثنائي 1898، ولعلاقات الارض هذه مستقبل لن يتيسر استشرافه دون استيعاب ماضيها، فكيف تشكلت وتخلقت علاقات أرض سودان ما قبل الفتح، المهدية، والتركية، السلطنة الزرقاء، الفور، المسبعات، تقلي، الممالك، المسيحية في المقرة وعلوة، وما تفردت به مروى احدى أمهات حضارات النيل وافريقيا، سؤال يلح على الخاطر، ينضح، ينوسر كالدمل المحتقن"...وعن ظروف كتابته قال:" في ضيافة كوبر عميد سلك السجون السودانية واصطحاب ما شح وقل من المصادر والمراجع صيغت هوامش وتعليقات، بحثا عن اليقين في اجابة على السؤال الملحاح"...هذه هي هموم المفكر والقضايا التي يعيش من أجلها..ملكية الأرض وما ينبي عليها من علاقات اقتصادية واجتماعية لا يتنبه لاهمية دراستها سوى النابهين من طبقة نقد.

    بالإضافة إلى كتبه المشار إليها راجعت الصفحة الفرعية للراحل نقد على موقع "الحوار المتمدن" حيث وقفت على العديد من الاعمال الفكرية الاخرى ولعل اهمها معالجته لمسألة " كيف حاصر الجمود أطروحات ماركس وأنجلز عن الاشتراكية".. وورقة بعنوان "حل أزمة السودان يتمثل في دولة مدنية"..وأخرى بشان ماهية ودور منظمات المجتمع المدني في السودان. في السطور التالية نوجز أبرز مضامين ودلالات هذه الاوراق.

    في ورقته الموسومة :"كيف حاصر الجمود أطروحات ماركس وأنجلز عن الاشتراكية؟" يقترح نقد إن الانعتاق من قيد الجمود يعني الدراسة الناقدة للفكر الاشتراكي منذ نشأته – قبل الماركسية وما عاصرها وما تلاها من إسهام مفكرين كثر، كان أبرزهم لينين كمفكر وقائد ثورة ورجل دولة، وما تسهم به مدارس اشتراكية معاصرة متعددة المشارب والرؤى"...خلص نقد إلى ان مقاصده من إعداد الورقة لا تنحصر فقط "في الدراسة الناقدة لماضي الفكر الاشتراكي على ضوء التجارب الاشتراكية، بل تتجاوزه نحو امتلاك معرفة أفضل بحاضره وإضافة معرفة جديدة لتشكيل مستقبله وتجديد رؤاه وآفاقه، بترقية مناهجه وآلياته وإشكالياته، بما يؤهله لاستيعاب معطيات العلم ومستجدات العصر". ويرى نقد "إننا لا نضيف جديداً حين نعيد ونؤكد العلاقة العضوية الوثيقة بين الفكر الاشتراكي وحركة العاملين والدفاع عن مصالح العاملين والكادحين والمسحوقين في النضال السياسي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ومن أجل أن يتحرر الإنسان من الاستغلال والعوز والحاجة والاستلاب، وأن ما يحقق ذاته وانسانيته، إنتاجاً وإبداعاً ومسئولية تضامنية عن مصير المجتمع الإنساني".

    وفي عمل فكري عميق بعنوان:"حل أزمة السودان يتمثل في دولة مدنية" أشار نقد إلى أن "تصنيف الدولة (دينية ـ علمانية ـ مدنية) لايعفينا من تطوير ثقافتنا ومعرفتنا بنظرية الدولة، في حد ذاتها، كظاهرة تاريخية اجتماعية، بدلا من القناعة الكسولة بتوصيفها او تصنيفها. ولعل افضل مدخل يتناسب وقدراتنا النظرية الاولية والمتواضعة، ان نبدأ بدراسة الدولة السودانية ونشأتها وأطوار تجلياتها المتعاقبة، دون ان نحشرها قسرا في قوالب وأطوار الدولة الاوروبية الحديثة (القرون الوسطى، عصر النهضة، عصر التنوير، ثم الثورة البرجوازية).. الخ لا ننفي او ننسخ ما هو عام في ظاهرة الدولة في تاريخ المجتمع الانساني، لكن لكل دولة ما هو خاص تنفرد به، وواجبنا ان نستخلص تفرد وخصوصية الدولة السودانية، ولا نحولها الى مسرح تستعاد عليه مسرحية الدولة الاوروبية، مأساة كانت ام ملهاة وفق تفسير كارل ماركس للقول الشائع: التاريخ يعيد نفسه؟!"
    من أبرز إضافات محمد إبراهيم نقد الفكرية مراجعته لدور منظمات المجتمع المدني من خلال عمله الموسوم:"المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول إلى شاهد زور".. في هذا العمل تحديدا تتجلى ليس فقط روح المفكر بل روح الباحث الساخر القادر على الربط بين الظواهر ببساطة عميقة وبسخرية عالية .. السؤال المحوري للعمل هو ماهية هذه المنظمات وطريقة تكوينها وهل هي منظمات تهدف لخدمة قضايا المجتمع ام للاسترزاق؟. .لتقريب المصطلح للأذهان يستعيد نقد ملهاة "البرجوازي النبيل"للكاتب الفرنسي الساخر، موليير ("مستجد النعمة" بتعريب نقد)...باختصار يقول نقد" اغتنى المسيو جوردان، بطل الملهاة، ولامس المجتمع المخملي للنبلاء وعلية القوم والاثرياء، وريحانة مجالسهم من أدباء وشعراء، فانبهر بأحاديثهم وذرابة السنتهم وسلاسة مصطلحاتهم العصية على قاموسه العامي العاجز عن مجاراتهم. فاستأجر معلماً ـ معادل «مؤدب الامير» في تراث الارستقراطية العربية الاسلامية، او "مثقفاتيا".. وكان الدرس الاول: يصنف الادب الى نثر وشعر، وما لا ينضوي تحت لواء الشعر فهو نثر! فانفجر مستجد النعمة ضاحكاً في حبور طفولي، حتى ألجمت الدهشة لسان الاستاذ، ثم افاق من دهشته وسأل تلميذه عن دافع الضحك، فأجاب: ما كنت اعلم انني ظللت طوال حياتي اتحدث نثراً، حتى عندما طلبت من خادمي ان يحضر لي حذائي"...هنا تنتهي قصة مسيو جوردان ويبدأ نقد مقارنة واقع مصطلح المجتمع المدني في السودان ..يقول نقد:" ظللنا ولما يزيد على نصف قرن نتداول مصطلحات: الجمعيات الادبية، الاندية الرياضية الثقافية الاجتماعية، اندية الخريجين، اندية العمال، الاحزاب السياسية. الحركة النقابية......... اللجان القومية للتضامن مع شعب مصر، كينيا...الروابط الادبية في عطبرة وسنار وكوستي والابيض.... التجمع النقابي، التجمع الوطني الديمقراطي، مجالس الآباء والأمهات، الروابط القبلية والاقليمية، تضامن قوى الريف، اتحاد الكتاب، الجمعيات الخيرية. لكنا تمايزنا عن مستجد النعمة، كوننا لم تحوينا دهشة ولم يشل تفكيرنا ارتباك، عندما قيل لنا: مصطلحاتكم على تكاثرها يحيطها ويؤطرها مفهوم او مصطلح المجتمع المدني، والمنظمات الطوعية ـ بين حاصرتين ـ غير الحكومية!".

    الوجه الثالث لنقد هو الوجه الإنساني ولعله سيد الوجوه الثلاثة وأعلاها رتبة عند أهل السودان ..هذا رجل حباه المنان محبة الناس الخالصة المجانية لوجه الله العفو الكريم ..أكرمه المولى بخصال المحبة أدبا ووقارا واحتراما وزانه بعقل راجح ..وطد الرجل أركان مواهبه ومزاياه فتثقف وثقف ..تعلم وعلم ..علم سر البشر وعلوم التواصل فظل بين الناس علما شاهقا "انواره آخذة بدون سلوك" .
    ملابسات حياته ووفاته كانت شهادة عليا للرجل ولعظمة الشعب السوداني في آن معاً...كانت اختبارا لوفاء أهل السودان لأبنائهم المخلصين الصادقين وحنوهم عليهم واعتزازهم بهم .. حياة نقد التي كان نصفها في التخفي من أنظمة البطش لا شك عندي مطلقا أنها عاشت ظروف إنكشاف المخبأ والتعرف على المختفي مهما بلغت مهارة الإخفاء وحيطة التخفى...أكثر من ثلاثين عاما عاشها الرجل متخفيا عن عين رقيب باطش غادر كان لابد ان يحتاج خلالها الرجل لكل ما يحتاجه كل البشر من خدمات صحية ورعاية طبية وخدمات إنسانية تواصلا مع الاهل والأسرة والناس عموما في السراء والضراء ...لاشك ان رفاقه قد بذلوا طاقات جبارة لحفظ الرجل وتلبية متطلبات التخفي ولكن مما لا شك فيه أيضا ان غيرهم أيضا قد بذل ما في وسعهم للتأكد من حماية الرجل بعيداً عن الأجهزة الامنية المطاردة له .. ولله در رجال ونساء من اهل السودان فيهم من طبب وفيه من خاط الملابس وفيهم من زين وفيهم من آنس الوحشة وفيهم من زود بالمعرفة ..فيهم من عرفوا مخبأ الرجل إن مصادفة او وشاية ولكنهم رجال ونساء السودان ...عرفوا فكتموا ولم تكن معرفة مجانية ولا كتمانا مجانيا..كان الثمن غاليا والجزاء والعقاب وبيلا ولكنهم رجال ونساء أهل السودان حين يأمنون وحين يؤتمنون ...كانوا يدركون تماما ان الرجل كان متخفيا بسببهم لا بسبب قضايا ذاتية وكانوا موقنين بصدق الرجل وحب الرجل للسودان فكانوا نعم المعين وكانوا نعم الرجال والنساء.
    ملابسات وفاة الرجل كانت شهادة أخرى لهذا الشعب العبقري ...رنة حزن عميقة عمت أغلب بيوت اهل السودان إذ الناعي ينعي نقد.. حزن حقيقي أمسك بتلابيب بشر غالبيتهم لا يعرفون إلا الصورة العامة للرجل ..حزن عميق وأسى بالغ غشى اهل السودان على رجل يعرفونه في الأطر العامة كرجل عام ولكن خصوصية الواشجة نبعت من إيمان الناس بصدق نقد وتجرده وإنسانيته وزهده وإخلاصه لمبدأ إسعاد الشعب السوداني ...أهل السودان هؤلاء الذين يعانون شظف العيش وقساوة الدنيا حباهم المنان بالاكباد الرطبة ورغد الاخلاق ومعرفة أقدار الرجال ...شعب قادر على التمييز بين الحقيقي والمصطنع وبين الزعيم والمتزاعم وبين الشواهين الحرة وبغاث الطير...شعب لا تخدعه المظاهر ولا الجاه المستعار المسروق من دمائهم ..لا تخدعه الكلمات الفارغة ولا المواعظ المعلبة ...يميزون حقا وصدقا بين الصادقين والكاذبين ...خرجوا يودعون نقد دون استنفار إلإ من الضمائر ودون إعلام إلا من الذات المقدرة لدور الرجل والمثمنة لتضحياته من اجلهم ..قدروا عطاء الرجل وتضحياته فخرجوا جميعا في فقد زعيم أدخروه لحوالك الأيام ومدلهمات الخطوب..يحتاجونه عقلا راجحا ورايا متوزانا إذ تاهت الخطي وتشعبت الدروب.. في مثل رحيل نقد يضرب النحاس وترفع نساء السودان أصواتهن الباكية وهن يمنحن نقد...ولصاحت صائحتهن محاكية بنونة وهي ترثي عمارة ود المك:

    ما هو الفافنوس
    ما هو القليد البوص

    كوفيتك الخودة أم عصا بولاد
    درعك في أم لهيب زي الشمس وقاد
    سيفك من سقايتو استعجب الحداد
    قارحك غير شكال ما بقربو الشداد

    تقول السيرة الذاتية للراحل محمد ابراهيم نقد المولود بمدينة القطينة 1930م انه تلقى تعليمه الاولى والوسطى بالعديد من مدن وتلقى تعليمه الثانوى بحنتوب الثانوية وأكمل دراسته الجامعية ببراغ.
    اختفى لمباشرة مهام العمل السياسي السري بعد الإطاحة بالنظام الديمقراطي في 17 نوفمبر 1958م واعتقل لمدة عام....أنتخب عضواً بالبرلمان عن دوائر الخريجين فى عام 1965م مرشحاً عن الحزب الشيوعي. ولم يكمل الدورة نسبة لصدور قرار حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان.... أصبح سكرتيراً عاماً للحزب الشيوعي السوداني عقب اغتيال عبد الخالق محجوب فى عام 1971م ثم اختفى من نظام مايوحتى انتفاضة ابريل 1985م... انتخب عضواً بالبرلمان عن الحزب الشيوعى السودانى عام 1986. وظل يباشر مهام العمل النيابي والسياسي حتى يونيو 1989م ... باشر العمل السياسي حتى انعقاد المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعي السوداني في يناير 2009م حيث تم انتخابه سكرتيراً سياسياً للحزب الشيوعي.

    رفع المقال:

    رحل وردي وحميد ونقد بعد عطاء مجيد وبذل كبير على مختلف الصعد الإبداعية الفكرية والسياسية والفنية ..رحلوا وتركوا لنا تراثا إنسانيا ضخما وكبيرا ...إن تمجيد ذكراهم تستوجب الحرص على دعم مشاريعهم الفكرية والإبداعية والعمل على إستمراريتها ..لقد خلفوا لنا مشروعات إبداعية فريدة ومتميزة تحتاج للتطوير وللإستكمال ..وككل مشروع نهضوى وطني تبقى هذه المشروعات (كما قال حميد) مشروعات مفتوحة على المستقبل لا قدسية فيها لمن أرسوا دعائمها ولا حجر على من يريد الإضافة عليها سواء شرطين أساسيين وهما أصالة الإضافة وابتغاء وجه الله والوطن .. رحل الأماجد واحتلوا ما يليق بعطائهم وبذلهم في ذاكرة الامة التي تنظر للمستقبل الأزهر والامل الانضر وهي تردد مع محمود درويش "وعود من العاصفة" :
    و ليكن ..
    لا بدّ لي أن أرفض الموت
    و أن أحرق دمع الأغنيات الراعفه
    و أعرّي شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة
    فإذا كنت أغني للفرح
    خلف أجفان العيون الخائفة
    فلأنّ العاصفة
    وعدتني بنبيذ.. و بأنخاب جديده
    و بأقواس قزح
    و لأن العاصفة
    كنست صوت العصافير البليده
    و الغصون المستعارة
    عن جذوع الشجرات الواقفه.
    و ليكن..
    لا بدّ لي أن أتباهى، بك، يا جرح المدينة
    أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة
    يعبس الشارع في وجهي
    فتحميني من الظل و نظرات الضغينة
    سأغني للفرح
    خلف أجفان العيون الخائفة
    منذ هبت، في بلادي، العاصفة
                  

07-21-2017, 10:10 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    يا الفوتك مو دحين: الطيب محمد الطيب: "متاوقة مشاترة" من نوافذ مغايرة . بقلم: د. محمد عثمان الجعلي (دبي)


    نشر بوساطة البروق ومدد الحروف في سودانيل يوم 24 - 04 - 2012



    برق الطاء:
    خبيب أخو الأنصار نعم المعاهد تقي نقي القلب عابد
    دعا دعوة تنهد منها القواعد شهيد لجنات النعيم مشاهد
    يسير إلى الجنات سبقا بفارط
    برق الميم:
    تلونا كتاب الله للآي ندرس وبالحمد سبحنا له ونقدس
    ومن حولنا الأعداء بالمكر تهمس وندعو عليهم وهو سهم مقرطس
    وإن يمكروا فالله بالمكر عالم
    برق الطاء:
    على حمزة تبكي البواكي وماتني على حمزة ليث الحروب الخبعثن
    وما مر يوم كحمزة محزن على المصطفى يا للشهيد المؤبن
    فلو عاش ما خر الحسين بمأقط
    (العلامة عبد الله الطيب المجذوب :برق المدد بعدد وبلا عدد)
    توطئة وإستئذان:
    هذه كلمات في مقام رحيل أخي وأستاذي الطيب محمد الطيب..استأذن القاريء الكريم إن وجد غلبة للجانب الشخصي في بعض أجزاء هذا العمل ..كغيري من العشرات بل المئات من أبناء الشعب السوداني كانت لنا مع الطيب علائق هي لوشائج الدم أقرب ...كان لنا بمثابة الأخ الشقيق يظللنا بدفء آصرته ويمنحنا وجوده الآسر وحضوره البهي درقة متينة من الأنواء والتصاريف ...كنا نقدمه في أفراحنا ككبيرنا وكان يتوسطنا ويتقدمنا في اتراحنا كأنه واحد منا....نلنا بفضل الله نعمة أخوته واستاذيته ونصحه وتوجيهه فليأذن القاريء إن وجد الإخوانيات تحتل حيزا في مقام الحديث عن رجل عام كالطيب محمد الطيب وعزائي في ذلك إنني اكتب عن الطيب و"أتاوق" "متاوقة مشاترة" من نوافذ متعددة أقلها النافذة العامة والتي كتب عبرها العديد من الأخوان بحذق ومهارة ومحبة للراحل الكبير.
    الهمباتي الأخير:
    "أُمّاتِي القِبيلْ بي حِنّهنْ لجّنّي
    كَرفة وقَلدة كيف شوق اللّبن رَجّني
    حُزناً جاني في مَيْع الصِّبا يلَجِّني
    أطلعْ مِنِّي يا جلدي المِنمِّل جِنيِّ
    واطلعْ مِنِّي يا حُزناً بِقى مكَجِّني"
    (محمد طه القدال: مسدار أبو السرة لليانكي ...والله نسأل أن يتغمد بواسع رحمته أخانا المرحوم تاج السر سليمان فقد كان مبتدأ المسدار وخبره في آن)
    من غير قدال يمكن أن أستسمحه في أن يعيرني قافيته الفريدة زاملة أعالجها تحويرا وتبديلا لتقلني هربا من "حُزناً جاني (مع الزمن) يلَجِّني" ومن "حزنا (من كترتو) بقى مكجني" ..حزن عميق أنوء به واستردفه وأنا اجهد وسعي في دروب البحث المكد عن مفردات تقيل عثرتي في التعبير عن فقد أخي الطيب محمد الطيب.
    وقفت أمام عتبة باب المقال فأستحضرت صورة صاحبي الطيب ...استعدت "كنتور" شخصية الرجل متفحصا فلم أجد مفتاحا أليق ولا وصفا أروع وأدق يعبر عن مجمل صفاته المهنية والشخصية والإنسانية مما جادت به قريحة اثنين من عمالقة الشعر الشعبي المعتق ....وجدت مبتغاي في مربعات عبد الله حمد ود شوراني والصادق ود آمنة بت النور فالتزمت خيمتهما ...الشاعران الفحلان برعا في وصف الطبيعة والبشر والخلائق جميعا ...أعدت قراءة محاورتهما ومجادعتهما وهما يفخران ب"الطربان" و"القدين" فلم اتبين أكانوا حقا يصفون ويمدحون زواملهم أم البشر الذين يحبون ...تأمل معي حب ود شوراني للطربان جمله:
    "كتح الصافي علاك يا اب سناما رك
    أبوك فارط الجدي الأخد الروينا وجك
    على ست الصبا الدكانا قاطع اليك
    رايف وفكفك الحسكة أم حديدا شك"
    وتأمل شعر ود أمنة وفخره بالقدين:
    "بعد اتفاضل الزهمول وسوطو جبك
    جريك عنا وسرعك برق ونايبك كك
    عادة جدك السوسيو عليها عرك
    بعيد زي غايس البرق اب هطيلا تك"
    ك"الطربان" نال الطيب حظه من "صافي" الزاد المعرفي الحقيقي فقد نهل من معين الشعب الثقافي الماهل الذي لا ينضب وموارد علمه التي لا سواحل لها ...نال الطيب حظه الوافر من علوم البشر والدنيا ..ف"كتح" منه واستسقى ... غادر صفوف التعليم النظامي باكرا ملتحقا بفصول مدارس الحياة ...مدرسته الكبرى كانت البشر ...أوغل في حياتهم ،تقاليدهم ،علاقاتهم وسلوكياتهم فنال حظه من كل ذلك ثقافة ودراية وعلما وإنسانية ...الطيب كان مثالا حقيقيا للمثقف العضوي كما رآه قرامشي ..أخذ من الناس فأنتج وأعاد الإنتاج لأصحابه في جدلية سامية وراقية راكزة على تعظيم القيم المضافة وإشاعة فائض القيمة.
    على صعيد الكسوب والتعلم والكد والاجتهاد أخد الطيب "الروينا" وجك ...كان "البرنجي" دائما وذلك عين ما لاحظه الفكي عبد الرحمن عن الطيب...في عملنا الموسوم "الحواشي على متون الإبداع" وفي الحاشية الخامسة تحديداً بعنوان "بل لله درك أيها الفلاح الفصيح أو :إتحاف الزمان بمقامات الفكي عبد الرحمن"..علقت على كلمة رفيعة البيان محكمة العبارة سطرها الفكي في شأن الطيب اسميتها "المقامة الطيبية"...قال الفكي :"الطيب محمد الطيب، طيبان يتوسطهما محمد، فأل حسن، الفجر حي على الفلاح، وجاء للحياة فلاح في البدن والعقل والروح، لم يحبو فمشى، ويمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع،يعد، يعرض فيمتع، الطيب في ذاكرة البلد". ..نعم الطيب "أخد الروينا وجك"... "جك" الطيب مجتهدا في دروب التراث مستهدفا كشف المستور في علاقات البشر والمجتمعات وذلك هو "ميس" سعيه وجهده ..ذلك هو الميس "القاطع اليك"...هرول الطيب "رايفا" متلفتا لمظان الحكمة الشعبية ومكامن الإبداع الشعبي وقد تحرر من كل كوابح البحث وموانعه ففكفك كل "حسكة" مانعة وملجمة لكل باحث طليعي أصيل.
    جهد الطيب الذي لم يتوقف لأربعة عقود في دهاليز مسارب التراث لا أجد له وصفا أعمق من وصف الصادق ود آمنة لزاملته "جريك عنا وسرعك برق ونابيك كك"...الجري والسرعة وتعب الجوارح كلها من عناء الترحال المتواصل لكشف المجهول .. عقبت على مقولة الفكي عبد الرحمن السابقة بقولي :" الطيب محمد الطيب شيخ زمزمي معتق نهل من حياض معرفة حقيقية لا يغيض ماؤها واستظل بجنان علم أصيل لا ينقطع فيؤه .. "يمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع، يعد، يعرض فيمتع" .. بالحيل .. بالحيل ..الطيب هو كاهن التراث وحامل مفاتيح ملغزات وخبايا الفولكلور ....حرس التراث وظل اميناً عليه منافحاً دونه ...رحمة الله تغشى أخانا الطيب الذي ذرع البلاد من حلفا لتركاكا ومن دار فور الحرة النبيلة لكل قبيلة على التاكا أو كما قال صلاح .. الطيب ذلك المليء أخوة حتى النخاع والمليء شهامة حتى مراتب من تغنى فيهم "طبيقه" وخدينه مبارك حسن بركات أخذاً من "بيت قصيد" الموروث الشعبي:
    "الجنيات بلاك في الحلة آفة عيش
    وود المك دا راجلاً بيعزم على المافيش"
    بين اليقظة والرؤيا: ود كدودة والماغوط وبينهما ستي نور
    قبل وفاته بشهرين وحين علمت بتردي حالته الصحية عاودني بل "تاورني" ذلك الاحساس الحزين البائس الذي غشاني وانا أجالسه الصيف الماضي بمنزل العمدة الأستاذ صديق علي كدودة المحامي بحي العباسية بأمدرمان ... كان يبدو متعبا ...كان متكئا ...وجهه للحائط وقد أولانا ظهره...كنت عند دخولي عليهم قد لاحظت إن بريق عينيه الغريبتين الذكيتين بدأ لي شاحبا .. سألته "الطيب انت تعبان"؟"..رد علي ولم يلتفت ناحيتي "لع"..قلت له :"متأكد؟".."قال لي بضيق شديد :"قلت لك لع"...قال لي صديق :"زولك بخاف من المرض ومن الموت"...قال لنا الطيب وهو ما زال يقابل الحائط:"يموت حيلكم".
    وهو في حالته تلك أوسعناه (صديق وأنا) أسئلة سخيفة وقصصا مريبة ومكايدات "قليلة حياء" ..تلك هي عادتنا التي لم يكن ليمنعنا عنها غضبه الحقيقي او المصطنع ولا عوارضه الصحية التي تلاحقت في السنوات الأخيرة...مطلق وجوده، متعافيا أو عليلا، ظل يهيء لنا سوانح وفرص محاولات مستحيلة للعودة للطفولة الأولى ...ونحن نطقطق حبات مسبحة العقد السادس يحلو لنا أن نستعيد (لا بل نعيد تركيب) أيام صفاء ولت واختطفتها تصاريف الحياة ...نستعيدها في حضور الطيب .. في حضوره البهي المشع وفي غياب الأغراب يحلو مجلسنا ..نمارس كل ألوان الطيش والنزق ..كل ما نخفيه عن الآخرين، الأقربين منهم والأبعدين، نمارسه أمام الطيب الذي يبدو سعيدا وأنا والصديق نتعارك أمامه ...نمارس "الجهالة" المقصودة لذاتها...كان يستهوينا أن نستدرجه لبعض ما يكره وكل ما نهوى ونحب ... في ظل تقدم العمر وانحسار هوامش الفرح وتباعد ايقاعها وتعدد منغصاتها كان وجود الطيب يوسع لنا ضيق الصدور ويرفع لنا ما كان متدنيا من أحوال النفس ...يحاول ان يكون جادا ...لا يتركه صديق ...الطيب كان يحب صديق حبا قل أن تجد له مثيلا ...يعجبه فيه ذلك الذكاء الفطري وروح الفكاهة الأصيلة والكرم ..يعجبه فيه تلك الخلطة الربانية العجيبة...خلطة تجمع بين شجاعة حد التهور ودمعة طرف العين ...تجمع بين فصاحة اللسان والإبانة الكاملة باللغتين من جهة وبين قدرة مهولة وكامنة على إدعاء التهجي وعلى الرطين باللهجات وتقمص سمات "البوامة" ...خلطة تجمع بين السترة الأفرنجية الكاملة والعمامة "صقير قيل" و"خوسة" الضراع...كل ذلك يعجبه في العمدة ود العمدة ولكن مبلغ حبه لصديق أنه مثل الطيب حكاء من طراز فريد ..صديق حكاء من طبقة "حاج الصديق وزن عشرة" الذي سنعرض له قبل ختام كلمتنا هذه وتلك طبقة مستحيلة ....مجلس الحكي الذي يتناوبه و"يتشالبه" صديق كدودة والطيب والفكي عبد الرحمن ومحمد عبد الله الريح وعبد الحليم شنان لا يشتهي جليسه وزائره بعده إلا الشهادة والموت!.
    حين أحس اللواء عبد الوهاب الجعلي بأن الطيب قد مل جهالتنا وسخفنا المتواتر انهي السجال بالعسكرية القديمة:"خلاص ياخي أمنع الكلام" فامتثلنا للأمر ...قال الطيب مخاطبا عبد الوهاب :"يا أمباشي قوم أنت امش أهلك وبالمرة سوق أخوك دا معاك أصلو وكت يلقى صديق طبعوا الخربان خلقة قاعد يزيد خراب" ..التفت إلى صديق قائلا:" قوم انت يا أفندي وديني البيت"...وانا اغادر منزل صديق ظهر تلك الجمعة تملكني تماما شعور قوي كريه بأنني ربما أكون قد رأيت "اخوي" الطيب للمرة الأخيرة.
    يوم وفاته هاتفتني أبنتي ستي نور من السودان ...أدركت من صوتها أن هناك أمرا جللاً...كانت ككل أهل بيتي وبيوت أبناء وبنات حاج أحمد أبي نعتبر الطيب واحد منا ...قالت بحزن حقيقي وصوت باكي وحشرجة بائنة "البركة في الجميع يا بوي عمي الطيب محمد الطيب مات"....لم تزد ولم أطلب الأستزادة ...ترددت ولم أقل لها نعم كنت أحس واتسمع نعيب غراب البين مذ رأيته في الصيف الماضي في منزل صديق كدودة ...وأنا أضع الهاتف تلك العصرية الباهتة اللون الماسخة الطعم تذكرت الماغوط حين أنشب السرطان أنيابه وأظافره في جسد سنية صالح زوجته والتي كانت بالنسبة له أما واختا وأبنة ...خطر لي الماغوط وهو يكتب بيد راعشة "سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح":
    "يا رب
    في ليلة القدر هذه،
    وأمام قباب الجوامع والكنائس،
    اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية..
    أساعد الينابيع في جريانها
    والحمائم المشردة في بناء أبراجها
    وأضلل العقارب والأفاعي
    عن أرجل العمال والفلاحين الحفاة
    ولكن.. أبق لي على هذه المرأة الحطام
    ونحن أطفالها القُصَّر الفقراء"
    رحل الطيب وبقينا نحن أطفاله القصر الفقراء
    رحل الطيب ولا تزال كهولتنا تنادي على توق مستحيل لأيام سعادة كان من الممكن إعادة استنساخها في حضور الطيب
    رحل الطيب فهرولت متولية ساعات الصفاء و"الخوة" أمام أيام زحف آليات السوق وحاسبات الربح والخسارة التي جاءت بكامل منسجها ونولها لتغزل علاقات البشر
    رحل الطيب فجفت أقلام الحديث الذكي ورفعت صحائف الكلم الشجي الخلي الذي يخضر القلوب ويرهف الإحساس فيمنع عنه جلافة الخلق ويدرأ عنا شر فساد الطبع
    رحل الطيب فاحتلت أرواحنا جيوش البلادة والسأم وهي تنتشر كما جدري الشمومة متسربة في خياشيم الأيام ورئة المجالس
    رحل الطيب فعم الحزن ديارنا وازددنا كبرا على كبر وعجزا على عجز
    رحل الطيب بعد رحلة إبداع عظيمة وبعد معاناة طويلة مع العلل ...لعل جمال بخيت كان يعنيه وهو يحكي عن السفر الطويل:
    "سفرنا طويل ....وضاع الصبر والتساهيل
    وتيار الأماني ضاع
    لا دا مركب ولا دا شراع
    ولا معنى لأي دموع
    ولا معنى لاي وداع
    دفعنا العمر في الرحلة
    وهيه رحيل
    سفرنا خلاص ما عادش طويل"
    (جمال بخيت: سفرنا طويل : ديوان شباك النبي على باب الله)
    صيوان العزاء:
    الفاتحة:
    فاطمة ذو النون
    الأقمار البنيات الثماني
    أنساب الطيب وأصهاره وأهله وعشيرته
    الفاتحة:
    للاحياء:
    عبد الوهاب الجعلي
    صديق على كدودة
    محمد عبد الله الريح
    صالح محمد صالح
    أمين عبد المجيد
    أحمد حسن الجاك
    صلاح أحمد إدريس
    محمد المهدي بشرى
    محمد طه القدال
    عبد المحمود محمد عبد الرحمن
    حسن أبو عائشة
    مهدي شيخ إدريس
    محجوب يحي الكوارتي
    المهلب علي مالك
    البقية في حياتكم وربنا "يجبر الكسر" و يصبر الجميع ولكن ...حرم "فرقة الطيب ما بتنسد"
    لأرواح:
    الفكي عبد الرحمن
    عبد الحليم شنان
    محمود دبلوك
    نفيسة بت أحمد الجعلي شقيقتي
    ها قد جاءتكم روح الطيب ...جاءتكم منشدة حائية السهروردي:
    أبدا تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح
    وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم والى لذيذ لقائكم ترتاح
    ها قد جاءتكم فلعلها تجدكم ،باذنه تعالي، في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ..اللهم آمين.
    أب كريق التراث ودود وعر الفلكلور :المتاوقة من نوافذ قطار كريمة:
    عام 1977 تعرفت عليه ...في محطة السكة الحديد بالخرطوم في طريقي لعطبرة ...ذلك الزمان كان لا يزال للسكة حديد شيء من عافية مستمدة من عافية البلد النسبية العامة ..كان لها مكتب كنترول وحجز ودرجة أولى ونوم ... في انتظار المغادرة جاءني عبد الوهاب أخي بيده اليسرى التذكرة والحجز وبيده اليمنى الطيب محمد الطيب في طريقه للدامر..."عثمان ربنا اكرمك بالطيب ودي ما بتتلقى بالساهل".
    سلام حباب...وأصطنعنا جهوزية السفر ...الصحف والمجلات ...فمكتبة محطة السكة الحديد بالخرطوم كغيرها من موانيء التسفار ونقاط تقاطع المواصلات كانت حافلة بألوان الثقافة المحلية والعربية والاجنبية...وما كنت احتاجها والطيب رفيق السفر ولكنها غفلة الأفندية.
    وقفنا في أنتظار قطار كريمة...بعد لأي هلت بشائره والناس يتدافعون ...خرج من الورشة للمحطة متهاديا وكأنه يسير على أيقاع "دليب" خافت ..تجاوز خط المناورة ملتمسا الخط الرئيس...بدأ في التهاديء مبطئا وكأنه ساقية تتوقف قواديسها تدريجيا لرهق "الأرقوق" وقد "ساق فجراوي" ...توقف القطار بعد أن اهتزت جوانبه ....دخل الناس ودخلت الحقائب و"المقاطف" ...رويدا رويدا هدأ المكان ...أخذ قطار كريمة نفسا طويلا ...تنحنح ...شهيق وزفير ..أطلق صافرتين طويلتين ومن ثم على بركة الله مجراها ومرساها...الناس يرتبون أوضاعهم داخل القمرات ...يحاولون ما استطاعوا تأمين أكبر حيز لهم في القمرات...يبدأون الرحلة بالشجار..."يا خوانا عندنا مرة كبيرة وعيانة خلوها معاكم"..."والله الفجة دي حاجزنها لي جماعة أهلنا ماشين يركبوا من بحري"..."طيب خلوها معاكم لا من نصل بحري"..."المرأة الكبيرة تدعي المرض ويحسب من رآها أنها لن تصل بحري ناهيك عن كريمة...حين أحست بأن لا جدوى من الأستعطاف طرحت ثوب التمسكن وأدعاء المرض جانبا وأسفرت عن شلوخ "لا وراء" وعن نفس حار "لا قدام" :"نان اول أنتو القطر دا اشتريتوهو ولا ياكن متلنا راكبين بالأجرة؟"..."باركوها يا جماعة ..باركوها يا جماعة""..قبل أن يصل القطار محطة بحري كان رفاق السفر قد تآلفوا وبدأوا طقوس التعارف السوداني..."انتو من ناس وين؟".."تعرفوا ناس عبيد الله ود أحميدي؟"..."يا سلام أكان كدي نحن أهل ...أها عبيد الله يبقى للحاجي دي ود عمها لزم".
    محطة بحري وناس بحري والختم ....دق دق دق ... كان أسمها الحلفاية ...وبعدين يا خي شغل بحري وقبلي دا ما حقنا .. القبلي عندنا في السما ما في الواطة قاعدين نقول "القبلي شايل" ...في الواطة نحن ناس سافل وصعيد ..بحري يعنى شمال دي أظنها بت ريف .. ضحك الطيب وهو يقول ما شفت في "المسلسلة" المصرية يقول ليك "شقة بحرية ترد الروح ترمح فيها الخيل ..فيها تلات مطارح وعفشة مية"...دق دق دق ..بحري والحلفاية وود ضيف الله ...الختم ود سيدي عثمان ..وقفنا عند ود ضيف الله واسترسلنا في الحديث عن بحري والمراغنة.
    ما بين محطة الخرطوم بحري ومحطة الكدرو تحدثنا عن أهرامات المدينة ..سيدي علي وتجاني الماحي ونصر الدين السيد وسليمان فارس "السد العالي" وخضر بشير وعبد المعين وعوض شمبات ومحجوب محمد صالح وبابكر عباس والجاك عجب ...مدينة ورموز...كان محور حديثنا هرم بحري الأول الختم ود سيدي عثمان برمكي أشراف مكة ..أستاذ الطريقة الختمية سيدى على الميرغنى .. ظل رابضاً في أعالي المدينة شامخاً كأسد طيبة بعرينه بحلة خوجلى يطل على المدينة من عل من بين ضريح السيد المحجوب وبيان الحسن أب جلابية .. أدار الحركة السياسية الوطنية من بين طيات الثقافتين العربية والافرنجية ومن خلال ترديد:
    "صلوا علي صلوا علي بحر الصفا المصطفى"
    صلوا عليه وآله أهل الوفاء
    عصريات الجمعة في مدينة بحري كانت مسرحا عظيما لإنشاد متواصل لخلفاء السادة المراغنة ..."السفينة" بموجها المتلاطم من المحبين تصدح ب "صلوا على" ...الأنشاد الكورالي في هذا القصيد النبوي يبلغ شأوا إعجازيا ...ينسرب صوت المقدمين ليستلم مصاريع الأبيات من الكوارل دون فواصل للأقفال فيبدو القصيد عملا ملحميا من الطراز الأول.
    الخلفاء يرددون وينغمون "عليك صلاة الله يا خير من سرى" وقد توشحوا ترانيم "الهاء البهية والنون نصف دائرة الأكوان" .. حين كان أهل المغرب يوارون ملكهم الحسن الثاني مثواه الاخير كانوا ينشدون عليك "صلاة الله يا خير من سرى"...الأبيات لسيدي الأمام الأكبر محي الدين بن عربي ...شطرها للختمية سيدي محمد سرالختم الميرغني وشطرها لأهل المغرب مشايخ التيجانية خلفاء سيدي أبو العباس أحمد التيجاني ...وتبقى في الحالين على ذات اللحن والأيقاع ... "عليك صلاة الله يا خير من سرى" إحدى درر القصيد النبوي العابر للقارات والجامع لحب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام... نعود لبحري والخلفاء ينغمون "عليك صلاة الله " وقد توشحوا بأسرار الحروف وقد عبق البخور وسرت قشعريرة الوجد الصوفى المتسرب من نفحات مقام "ستي مريم" في سنكات وضريح "الحربية" فى أعالى كرن وأغوردات .. مولانا الحسيب النسيب السيد على الميرغنى لم يكن رجل دين ومن أقطاب الصوفية فقط ،وكذلك لم يكن سياسياً مرموقاً حصيفاً فقط، ولم يكن محسناً منفقاً فقط .. ولكنه كان كل ذلك واكثر .. على الميرغني كان في شخصه وأهابه الفردي وبعيداً عن أطر الطريقة الصوفية والحزب السياسي رجلاً مؤسسة .. حول ضرايح أسلافه خططت المدينة شوارعها وحددت "ميسها" .. فى اتجاه الضرايح أديرت "مايكرفونات " المديح المطنب وفى اتجاهها أيضاً أديرت "مايكرفونات " الهجاء المسهب .. وفى الحالتين صارت الخرطوم بحرى "أم الدوائر" الإنتخابية وبيت قصيد السياسة وصنعاء الرأى والمشورة .. لوجود على الميرغنى كان حى "الختمية" وبسببه قام حى "الميرغنية"...دق دق دق .. و"نظرة يا أبو هاشم"....وانا أتحدث عن بحري كان الطيب يتحسس مطمورته الفلكلورية..هذا رجل يجيد الإنصات بذات قدرته الفذة على الحديث...مداخلاته عن رموز بحري أضاءت لي ما اعتم واستشكل في ذاكرتي عن مدينتي.
    رحلة القطار طويلة بحساب الزمن والمحطات ...قصيرة بحسبان قيمة رفيق السفر وفوائد التسفار معه.. ..خرجنا من بحري الختم إلى الكدرو ومن ثم شرع صاحبي في الإفاضة ....كتاب الطبقات...لجهلي وجهالتي لم أتركه يتبحر ..كنت قد اقتنيت نسخة الكتاب التي حققها العالم الكبير يوسف فضل...ووقعت في أخطاء الأفندية الأبجدية ...كعادتهم حين يلمون بطرف خبر بدأت الحديث ...كان يستمع طويلا ثم يسأل أسئلة قصيرة رصاصية ثم يعاود الأستماع ...كان "كمينا" لم أتبينه أول الأمر...لم أكن أدري أنه يتربص بقدراتي ومعارفي ....غريبة نحن ناشئة الأفندية نتكلم كلنا في آن ..لعله النفس القصير ...الأفندية "يتشايلون" الكلام ويرقعونه كل من الجزئية التي يعرف ....هذا الذي أنا في حضرته رجل مكير ...ظل ينظر إلى وأنا كمن رمى به بعير ود شوراني للأرض اتحدث ولا أتوقف .. لم يكن حديثا ..شيء من "هضربة"...دق دق دق .. بعد سنوات طويلة علمت أن الرجل كان يرمي شراكه لأم قيردون الحاجة:
    أم قيردون يا الحاجة
    بت الملوك يا الحاجة
    ترعى وتلوك يا الحاجة
    في الهمبروك يا الحاجة
    "القينقرد يا الحاجة" ..."بحرك شرد يا الحاجة" ...الحيلة عند العرب وما تعلمته من دهاء "مسرة بت الشيخ" ودبارة "زينب بت بشارة" "حبوباتي" اللتان اشرفتا على تنشئة ود المرحومة كفتني شر مقطع الأقفال "دودك ورد يا الحاجة"... الدهاء والدبارة شفعتا لي فحمدت الله على ما أنعم به علي من "حبوبات" نجيضات مستفيدا من تجاريب الفكي عبد الرحمن مع أم قيردون وعلى تسهيل نجاتي من شرك الطيب محمد الطيب..كررت الحمد والشكر إذ القطار يصرخ لاهثا طالبا الماء لجوفه ونحن على مشارف الشيخ الكباشي.
    من بحري الختمية لقبة الكباشي القادرية ...الشيخ العارف بالله إبراهيم الكباشي "خصيم السم"......إرزام الطبول واللغة السيريانية ذات الأسرار الربانية:
    "سككن ساكت
    قلب قادوسو
    جرارقو اتحاكت
    كباشينا
    تهت في لجة
    "كافو" دار الكون ما فضل فجة
    من وساع جاهو"
    الكباشي وود نفيسة...ود نفيسة وعبد الله الشيخ البشير .. عبد الله الشيخ البشير والطيب...الطيب يتوهج مترنما:
    "جيت فوق جبلو
    ما بقيت قبلو
    الكباشي القيدو في شبلو
    شوفو من النور كيف لبس حللو
    يسقي سر الله
    من بطن قللو"
    مدد يا الكباشي ..مدد يا ود نفيسة ...مدد يا عبدالله الشيخ البشير ...مدد يا الطيب .."يا فندي شوف جنس النضمي دا.."يسقي سر الله من بطن قللو"..يرددها الطيب بترنيم وتوقيع صوفي خالص..خاصية عرفتها فيه فيما بعد ..حين يعجبه الكلام يردده لنفسه ولمستمعيه..حدثني الطيب عن الطريقة القادرية وعن سيدي الباز الأشهب قطب بغداد وسلطان الأولياء عبد القادر الجيلاني ..."ساكن بغداد في كل بلد سوالو اولاد" ...حدثني عن الكباشي "القيدو في شبلو"...حديث ممتع منكه بلوامع القصص وزبدة الكرامات....أخذنا الحديث فإذا زاملة الحديد على مشارف الجيلي.
    عند الجيلي كان زادي المعرفي قد نضب أو كاد ..عرفت خطأي ..أخطأت في اختيار الموضوع والمحاور...والقطار يتأهب لدخول محطة الجيلي علمت يقينا أن الثعلب قد أوقعني في فخه المنصوب بحذق ودراية إعرابي "مدردح" يمشي في الصحاري ومضارب الصي مستعينا بالنجوم..."أدي العنقريب قفاك وخلي بنات نعش في المسيمع وأبرى العرجا"... دق دق دق .. محطة الجيلي والليمون والجوافة وقصة كتاب "الإنداية" ... كنت من ولعي به قد حفظت مقاطع كاملة منه ...قلت أصحح ما وقعت فيه من أخطاء وسوء أدب في حضرة الأستاذ ..حدثته عن أعجابي بوصف الكتاب لمائدة القمار عند عرب البطانة:
    "جيتك".."حبابك"..."أنزل ".."نزلت"...الصاقعة ..حرم طقاه...الكرسابة...
    "تاني جيتك"..جنيهين..
    جمل جمل ..جيتك..حبابك..تف ..تستاهل يا ابو التاية علا جملي حرم ما بسوقو راجل.
    أبو التاية: علي الطلاق أسوقو في عين الجعيص ..دا قمار ما لعب.
    كرار : قت لك ما بتسوقو ..كضاب كان راجل أمش عليهو .
    أبو التاية:كب أنا أخو أم عارض
    كرار : وين يا ود الك....
    أبو التاية: تمها حرم أسع أدلي أيدك بالسيف.
    كرار : ود الكلب.
    كاع طاخ طراخ أمسك الزول .. أنتل منو الخوسة ..فك العصا..الحق..خرت الخوسة..يا سلام الراجل اتعوق..الحقة يا أخوانا.. جيب الصعوط سد الدم..كتر الصعوط الدم دا كتر.. المصلي على النبي كلو يمرق حقتو ..جاي."
    لطلب العفو لم أكتفي ب"تسميع" القطعة عن ظهر قلب بل زدت عليها بأن جعلت منها فاصلا مسرحيا ساعدني فيه أنها أصلا صورة حية نابضة بالحركة لا تحتاج لشيء من فنون الإخراج .."أنا أخو أم عارض" كلمة خطيرة وبليغة دونها الدم و"الخوسة"... ضحك الطيب طويلا فحمدت ربي على أن "البرطلة" قد شفعت لي وتأكد لي أن مكر الأفندية غالب بأذن الله...الامتحان العسير ومكر الأستاذ ومكر الأفندية كان من الدروس التي علمني أياها الطيب ...كلما أوشكت أن أفتي في موضوع لم استعمره بالكامل رجعت لي صورة الطيب بقطار كريمة عام 1977 والقطار ينهد ما بين الكباشي والجيلي فأحمد الله مختارا ذهب السكوت.
    الجيلي والزبير باشا ود رحمة الجميعابي وجزيرة واوسي وأهلها المحس أولاد الشيخ إدريس ود الأرباب ...الطموحات التي لم تعرف حدودا ...بحر الغزال والنور عنقرة فارس الخلا ...تكمة بن زنقابور سلطان النيام نيام ونسيبه..بت مسيمس وأبو شوره شعرائه...مصر والخديوي وحرب القرم بين روسيا وتركيا ... سليمان الزبير وإدريس أبتر وغردون الصيني ...الثورة المهدية ونفي الزبير إلى جبل طارق..معركة توشكي وإنكسار جيش ود النجومي..رواية الطيب لسيرة الزبير باشا ود رحمة التي سمعتها في قطار كريمة ونحن نغادر محطة الجيلي قرأتها مكتوبة فيما بعد عندما عربها واعدها السفير خليفة عباس العبيد من نص المقابلة الصحفية للبريطانية فلورا شو ويحمد للدكتور حيدر إبراهيم نشر هذا العمل الكبير والهام.
    دق دق دق ...جبل جاري (قري) و"حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك" وحكاية .... دق دق دق ..."أنت يا جنا بتحضر في شنو؟" ...بحضر في إدارة الاعمال ...الأنظمة الإدارية وكلام في البيروقراطية ...يا خي البيروقراطية دي راقدة عند أهلنا ...المرة متمسحة (أي راقدة كالتمساح) راقدة والجدادة جنبها ما بتنهرها ...المرة تقعد تكورك ...تعالي يا بت ..تعالي يا بت ...تعالي يا بت قولي للجدادة دي كر".."الجدادة وكر" يا رحمة الله ما سمع بها شيخنا ماكس فيبر ولا عالجها "الأسطوات الكبار" ميرتون وسيلزنيك وقولندر ومن تبعهم بإحسان وبغير إحسان ..."الجدادة وكر" فاتت على عباقرة التنظيم الاجتماعي ...كتابات تالكوت بارسونز الملغزة المستفزة الملغومة واجتهادات اليهودي الشاطر إمتاي اتزيوني وسي رايت ميلز .. مساكين فاتتهم السانحة ولم يمتطوا قطار كريمة مع الطيب محمد الطيب ...."الجدادة وكر" وتنظيم العمل والتخصص الوظيفي و"الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" الكتاب العمدة لفيبر...كلام كبار سهرنا لحفظه وأزعجنا بشأنه الأنجليزي المؤدب ابن الناس صديقي فرانك بلاكلر واستاذي الاستعماري العتيد البروفيسور دنيس جابمان...جابمان كان من غلاة المحافظين متيما بإنجلترا القديمة محبا لونستون تشرشل آخر العتاة الجبارين ...تشرشل كان ضابطا صغيرا في جند الفريق هربرت كتشنر في "كتلة" كرري ...أسمى كتابه "معركة النهر"...حصد المكسيم الآلاف من جيش المهدي والأمير المقدام إبراهيم الخليل يصيح بمن بقي من المحاربين المجاهدين "سدو الفرقة ..سدو الفرقة"... تشيرشل قال عن جيش المهدية أنه أنكسر تحت قضبان القطار ...ويقول سيدي عبد الله الطيب المجذوب :" كان مجذوب بن أبي بكر مجاهدا حين التقت "خيل اللات بخيل الله" ذاك وصفه حين التقت خيل كتشنر برجال عثمان دقنة :
    قلبي مشتاق مشتاق للإمام مهدي الله طبي القاسما
    محطة الرويان ...وتتواصل حكايات المهدية ...وفجأة تعطس زاملة الحديد ...تش تش تش ...سيك ..سيك سيك...توقف الراوي عن الحديث الممتع متسائلا: القطر دا مالو؟ ..يتاوق من نافذة القطار ...المحطة قالوا فيها مناورة ..اكسبريس حلفا داخل ....أنزل يا جنا نشوف لينا شاي ... دق دق دق ... قلت كيف عن تشرشل؟ ..أيوه المهدية الجديدة ... الإمام عبد الرحمن وعكير الدامر...هنا جن صاحبي الذي كان وقورا ...وقف بعد أن كان جالسا:
    عهدنا معاك كنداب حربة ما بتشلخ
    وصرة عين جبل بي صاقعة ما بتفلخ
    كان إيدينا فيك من المسك تتملخ
    السما يتكي وجلد النمل يتسلخ
    الله أكبر ولله الحمد ...الله أكبر ولله الحمد ..."اخدلو هوشة "..."عمي بعشوم أعرض غادي"....أثبت بابكر بدري في "حياتي" رسالة ود النجومي الباهية البهية لجرانفيل باشا وهو يحاول أغرائه واستمالته بأن يوغر صدره عقب عزل الخليفة له وتعيين يونس الدكيم مكانه ...لم تنطلي الحيلة على الأمير المجاهد فأملى على كاتبه رسالته البليغة الدالة الشافية:" انا بايعت المهدي وخليفته على الجهاد وسأستمر مجاهدا فإن قتلناكم نجد عندكم ما حكيت لنا في كتابك وإن قتلتمونا لا تجدوا عندنا إلا جبة متروزة وحربة مركوزة".... "جبة متروزة وحربة مركوزة" ...الله أكبر ولله الحمد ويعرض الطيب في القطار ...في "من نافذة القطار" (الذي استعير اسلوبه في العرض) قال عبد الله الطيب عن الأنصاري الأشوس العوض ود عبد العال :"كان يجلس في مجلس الفقيه عبد الله في طرف ...ملتزما سمت التلميذ من الأدب على سنه المتقدمة، كان ضئيل الجسم صليبا عيناه تشعان بتحفز ينبيء عن حقيقة معدنه وفي يده "فرار" كان يقاتل به أيام كان مع الانصار ولم يفارقه حتى بعد "كسر القبة وقلب الجبة".
    محطة الميجا والطيب يسترجع حديث بابكر بدري وعبد الله الطيب ولكنه يصر على أخد "السندة" عند عكير ...يردد "السما يتكي وجلد النمل يتسلخ"....حين أعاد إنشادها أحسست بأن رفيقي صاحب بيعة حقيقية ...رددها مرارا وبأنفعال أنصاري صميم ..هاش هوشة انصاري بايع في قدير وحاصر هيكس في شيكان وشارك في بناء الطابية المقابلة النيل...فيما بعد علمت محبة الطيب لعكير يجمعهما العهد المهدوي ومسقط الراس في دامر المجذوب... على متن قمرة بديعة في قطار كريمة وما بين محطتي الميجا وحوش بانقا أدخلني الطيب محمد الطيب مدرسة عكير الشعرية وعالمه الشخصي المتعدد الألوان ... الطيب يحفظ شعر وحكايات عكير بحب ووله...لعكير من الشعر أطياف ومن اللغة أفواف وله في الناس معارف وبالدنيا عرف...عندما أحب جاءت كلماته جزلة مغايرة شديدة الطرب:
    يا مولاي بشكيلك شقاي وغلبي
    حظي الديمة من ند الأنيس قافلبي"
    في كل شعرنا الغنائي،قديما وحديثا، لم أجد وصفا يبلغ الإعجاز كأبيات عكير:
    أخدر ليهو ضُل فوقو المحاسن شرّن
    وأفلج فاطرو زي برق السواري إتكرّن
    إتقسّم مقاطِع في المشي وإتحرّن
    زي فرخ القطا الأماتو ركّن وفرّن
    في وصف الطبيعة قال عكير فحفظ الطيب وأنشد وقطار كريمة الشايقي يتسمع طربا:
    الحُقَن إتملن والدابي جاتو فضيحتو
    ومو خاتي إن مرق ضاقت عليهو فسيحتو
    إندشَّ السرح وكرفت هواهو منيحتو
    والمحريب شَهَقْ فتّح قزايز ريحتو
    وفي الحكمة أنشد عكير فأشجاني الطيب بأبياته :
    بيت المحل إن طار....يرك فوق محلو
    ودساس العرق ......نسل المراح من فحلو
    يسوي الزين معاك ......عسلن مدور نحلو
    ويجبرو علي الفسل سالف جدودو الرحلو
    ما بين الميجا وحوش ود بانقا أصلحنا مجلسنا فجلست كما العوض ود عبد العال في مجلس الفقيه عبد الله...تركت المسرح للطيب وسياحة عظيمة في ما أنتج: "تاريخ قبيلة المناصير"، "تاريخ قبيلة البطاحين"،"حياة الحمران من آدابهم"، "حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك"...المحاورات معه لا تنتهي وقصصه لا تمل ...العبقرية في إدغام الجغرافيا بالتاريخ إذ السودان الشمالي أمامنا كتاب مفتوح وقطار كريمة يتهادي ...وكلما أوغل في السير أمعن صاحبي في محاضرته ...يعاود الرجوع لعكير والأمام عبد الرحمن:
    فيك طبع الأسد صالحت او حاربت
    وفيك طبع البرامكة بعدت او قربت
    فيك طبع الملوك شرقت او غربت
    وفيك طبع الحكيم لقمان حلل وربطت
    دق دق دق ....القطار يتهادى على وقع حديث الطيب وأقاصيصه التي لا تنتهي ولا تمل ...قدرته على الحكي وتقمص الشخصيات موهبة ربانية لا تهبها المدارس ولا مناهج التعليم ...شيء رباني ...دق دق دق...برنامج صور شعبية وفكرته ..عبد الوهاب موسى والطيب محمد الطيب ودق دق دق ..حين أسترجع إضافات صور شعبية في إطار جهود بناء ثقافة التنوع تعود بي الذاكرة لقطار كريمة ومحطات ما قبل شندي ... تلك المحطات وما تعلمته من شيخي الطيب ظلت في ذاكراتي وسيظل ...كانت هي أساس المادة التي اشتغلت عليها وانا أكتب عن الطيب بعنوان "التراث رجلا: الطيب محمد الطيب والتركيبة السودانية : ما قبل ود ضيف الله وما بعد حنان بلو بلو" والتي تضمنها عملنا "رحيل النوار خلسة"..واستأذن القاريء الكريم في أن استعيد بعض ما أشرت إليه هناك وأن اعمل فيه ما يتناسب من تبديل وتعديل ....الطيب محمد الطيب ..انطق الاسم يأتيك التراث "دخاخين دخاخين" ..الطيب محمد الطيب ..قل الاسم تتراءى لك مقدمة برنامج "صور شعبية" : صبي الشرق ملاعب السيف، "الحكامة" تشدو ب "الكان داكا ..سيدي سيد الأراكا" معددة مناقب سيدي الخليفة حسب الرسول ود بدر..عريس وعروس بكامل الرونق والبهاء ..جدلة وحريرة وتوب سرتي وحناء ..قرمصيص ونخل وفأل حسن، صبيان الخلوة بألواحهم والشرافة، جماعة حمد النيل يرزم طبلهم وقد استبد الوجد بمقدمهم الذي يدور حول نفسه بتوازن وثبات هو خليط من حرفية راقصي "البولشوى" ومهارات لاعبي السيرك الصيني ..الطيب محمد الطيب قلها واستشرف تراث أمة...صور شعبية كان دليلا راسخا على "التجانس العملى" لأهل السودان واحد المشروعات الثقافية الرائدة على صعيد ترسيخ مفاهيم التراضي والقبول الأثني كمدخل أساسي لبناء الأمة السودانية متعددة الثقافات.
    قطار كريمة وحوش ود بانقا وبرنامج "صور شعبية" الذي قدمه الطيب طوال ثلاثين عاما وبمهنية واحترافية عالية ..."صور شعبية: برنامج عالمي تتشرف به التلفزيونات ذات الحسب والنسب والأرومة ..يحسب للطيب وللبرنامج أنه كان من الرواد في اقتحام هذا العالم على المستويين العربي والأفريقي...لو قدر لصور شعبية أن يعرض في تلفاز محترم من طبقة "البي بي سي" و"سيفليزاشين" لنال أرفع الجوائز ولزار منتديات ومزارات الإعلام والأفلام الوثائقية بل لعل الملكة اليزابيث الثانية كانت أنعمت على الطيب بوسام الإمبراطورية بدرجة فارس ..أو من يدرى، علها كانت ستنعم عليه بلقب "سير" ..برنامج "صور شعبية" ومدلولاته لم يتبينها أهل "ساس يسوس" وتلك فاجعة ..الطيب نقل السودان من منطقة لأخرى فأزال العجب والاستغراب وساهم في خلق الوعي "بالأمة السودانية" ..لم يترك الطيب أمراً محيراً ذا خصوصية إلا وحل عقدته فأضحى على يديه شأناً عاماً...لو لم يقدم الطيب للشعب السوداني إلا صوره الشعبية لكان ذلك وحده انجازاً يدخله زمرة أهل الفضل ولكان كافيا ليتبوأ الطيب مقعدا متقدما في نادي "جديرون بالاحترام".
    محطة حوش ود بانقا...كرامات وقصص وروايات ودق ..دق ..دق ..يبتسم الطيب ورفيقه يهيل الثناء على مجهوداته ومثابرته وجلده ... قطار كريمة يترنم بإضافات الطيب والمحطات تترى والقطر الشايقي يترنم بغناء التومة بت محمود وفاطني بت همت :
    جاب لي توب أسمو الحمام طار
    وجاب لي فركي دموع التجار
    وجاب لي كركب في البيت غيار
    إكراما للقوز ابتدعت السكة الحديد نظام "السندات" ...عند سندة القوز شرع صاحبي في الإفاضة عن الشايقية الذين جاوروا الجعليين واحتلوا بعض مناطقهم ... أول دروسي في الأثنوغرافيا على المسنوى الذاتي التطبيقي كانت على يد الطيب محمد الطيب وهو يسألني لماذا محمد عثمان الجعلي شايقي؟ ... تحول من الذاتي للعام وهو يحكي بمعرفة ودراية تامة هجرة الشايقية القسرية بأمر "الترك" لأرض الجعليين وجنوبها حتى مشارف الخرطوم بحري والحلفاية ...على يديه فهمت مسببات وجود الحوشاب والعونية والسوراب في غير مناطق الشايقية التقليدية ...الكثير مما رواه الطيب لي في قطار كريمة عام 1977 عن هجرة الشايقية وإعادة توطينهم في البسابير وحجر العسل ونسرى وود حامد وحجر الطير وود الحبشي فسره لي فيما بعد العمدة الفخيم محمد العوض ود بليلو غشت قبره شابيب الرحمة والغفران وأنا اجالسه عند ود كدودة وزادني به علما شيخنا ياسين ود زايد حفيد الشيخ الهدي بالكدرو.
    سندة القوز...القوز أكثر أسماء المناطق شيوعا في السودان... من عجب أن بمحافظة القنفذة السعودية منطقة أسمها القوز ...وفي الإمارات وبإمارة دبي تحديداً تشتهر القوز بالمنطقة الصناعية...أعود إلى قطار كريمة ونحن على مشارف سندة القوز... أقول له اسم القوز دون إضافة يتحول لأسم محلي فقط يعرفه أهل المنطقة ولا يتعداهم ولكنه يصير معرفة تامة بالإضافة ... لاهل الخرطوم القوز هو قوز ود دياب...لمناطق شندي القوز هو قوز المطرق قوز العلم حيث العلم القديم ..هناك أيضا قوز رجب وقوز كبرو ..في الشمالية تتكاثر القيزان ..قوز قرافي وقوز ود هندي ...توقف الطيب عند قوز شندي والفجيجة والصالحين من آل صغيرون والسادة الركابية... ومن ثم عرج على قيزان الشايقية ومن ثم الشايقية وتوقف عند غناء الشايقية...قطار كريمة والطيب يسترجع غناء أصول الشايقية من منابته في تنقاسي والقرير والغريبة والكرو والدهسيرة والزومة...لحمة الشايقية تهيمن عليه في مناطق شندي وضواحيها ...للطيب صوت رخيم يغني همسا وبخجل من شعر ست زينب بت الزلال ومستورة بت سعد الله:
    ناس أمي كمان شنو
    آ زول ناس أمي كمان شنو
    في سنوات لاحقة وحين يستبد به الطرب ويقع في أحابيل إغوائنا بالطمسة كان الطيب يردد بصوت جميل خافت مقاطع من غناء الشايقية والمناصير الملغوم:
    أم دقري
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    وتجيبي حق التموين تجي
    والقطار يهديء من سيره على مشارف شندي بدأت الخص سمات الرجل المهول...المحطة والثالثة ظهرا... مناديل مطرزة في ركنها القصي سهم كيوبيد... ...طاقية حمراء ..طعمية حارة وكتلة المتمة الحارة ....دق دق دق....شندي والمتمة ...إسماعيل باشا والدفتردار والمك نمر...محمود ود أحمد وعبد الله ود سعد ...قلت اقتص من صاحبي الجعلي المهدوي فترفع عن مهاتراتي والزمني حدي ....كان درسا في إمكانية تجيير المحبة الخاصة والمعتقد الخاص لصالح الوطن والامة ...ظل ذلك ديدن الطيب طيلة الأربعة عقود التي عرفته فيها ...سودانيا كامل الأهلية ...سوداني رتب مكوناته واعتقاداته ومعتقداته بتراتبية لا تقدم الفرد على المجموعة ولا المجموعة على الأمة ...المكونات الفردية عنده، ككل حكيم رائد، أوعية دافعة ومغذية لحب الوطن أديما وبشرا وثقافة ..جعليته وأنصاريته صيرتاه سودانيا راقيا مترفعا عن القضايا الجزئية والاهداف الصغرى متجها بكلياته لما هو أبقى وأرسخ وهو السودان الجامع في وحدة التنوع القائمة على التراضي والاحترام المتبادل.
    في عمله المستنير "الحامض من رغوة الغمام" أورد المدقق الموثق كمال الجزولي نص الحوار بين الزاكي طمل وخليفة المهدي كما رواه نعوم شقير.. الزاكي طمل يقول:
    ".. وأمدرمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها،فالأولى بنا أن نأخذ رجالنا وأسلحتنا ونرحل إلى كردفان، فإذا لحقنا جيش الحكومة إليها،وهو لا يفعل ذلك إلا بعد استعداد كثير وزمن طويل،هجرناها إلى (شكا) وهى (دارنا)،فإذا جاءنا إليها قاتلناه ودافعنا عن (وطننا) حتى انتصرنا أو متنا"! .....نعم،لم يكن الخليفة مغالياً حين استشاط غضباً على هذا الارتداد الجهير من (السودان) إلى (شكا)،من وسع (الوطن) إلى ضيق (القبيلة)،فأصدر أمره الفورى لمن على يمين الزاكى:
    "شيِّلو ام اضان"!
    أى ألطمه على صفحة وجهه،ففعل. ثم لمن على يساره:
    "وأنت أيضاً"
    ففعل. ثمَّ أمر به،فجرُّوه إلى (الساير) وكبلوه بالحديد،وسيِّدى الخليفة يضرب كفاً بكف مستعجباً:
    "يا سبحان الله،يستقبح عبد الله ود سعد الفرار،ويقاوم جيشاً ضخماً كجيش محمود بثلاثمائة رجل لأجل (حِلة) واحدة،ونحن رجال المهديَّة وأنصارها نجبن عن حرب جيش الكفرة المخذول لأجل (السودان) كله؟! أنا سأحارب حتى أنتصر أو يقتل جيشى كله فأجلس على فروتى عند قبة المهدى وأسلم أمرى إلى الله" .
    بمثل الدروس المستفادة من هكذا حوار استثنائي خرج الطيب من تجاريبه العميقة متجاوزا سخافاتي في إيقاد فتنة بين القبيلة والطائفة فردني وهو يحدثني عن رموز مدينة شندي وتركيبتها السكانية ....للطيب صبر وجلد غريبين وهو يسعى للحصول على المعلومة التراثية وتدقيقها ومن ثم حفظها ..في بحثه الدءوب عن المعلومة التراثية الطيب لم يكن ينتمي إلى جيله ولا إلى الأجيال السابقة القريبة ..ينتمي إلى السلف البعيد الذي كان يضرب أكباد الإبل مسيرة الأسابيع والشهور للحصول على المعلومة المتناهية الصغر أو لتدقيقها ..يلاقى الطيب كل هذا النصب والكبد في زمن لم تتوفر فيها نتائج ثورة المعلومات ولم تكن قد اخترعت فيه محركات البحث الإلكترونية من طبقة "قوقل" والتي تأتيك بالمعلومة قبل أن يرتد طرف الكي بورد.
    رحلة القطار ما بين التراجمة وكبوشية وجبل أم علي والعالياب حتى الدامر كانت اخصب فترات الرحلة المجيدة.,..تنوعت احاديث الطيب ما بين "التراجمة" المعنى و"ترجمة السرياني" "و"التراجمة" القبيلة التي جاءت من تخوم مدينة الرسول يثرب...كبوشية والحضارات القديمة في "البجراوية" والنقعة والمصورات...أصول الغناء السوداني الحديث وريادة كبوشية عبر محمد ود الفكي وعبد الله الماحي.. ود الفكي واختراق الغناء المديني الامدرماني ...عبد الله الماحي وروائع الحقيبة ...عبد الله الماحي يشدو ب " يا أماني وجار بي زماني لو اراكم اصبح سعيد" و"متي مزاري اوفي نزاري واجفو هذا البلد المصيف"...الشعر لمحمد ود الرضي .. ود الرضي والعيلفون وأم ضوا بان والدبيبة... الطيب وود الرضي والجاغريو ومبارك حسن بركات...الجاغريو و"طار قلبي".... الطيب آخي مبارك وأحبه....مبارك آخر سلاطين الغناء... يصهلل مبارك وهو يسرج بالغناء سابحا في بحور شيخه ود الرضي إذ يشدو ب"تيه وإتاكا" و"ليالي الخير" ...يرجع الطيب لكبوشية والتاريخ القديم والمجد الغابر ... دق دق دق ...العالياب وأهل الخلاوي والذكر والمديح ...من المحطة تبدو شامخة مئذنة جامع الدقوناب ووتسمع الأذن المحبة روائع الشيخ أحمد الدقوني وإبنيه طيفور وبابكر في مدح المصطفى ...ينشدون "من مكة ليل عرج" ويثنون ب "الصلاة والسلام على روح سراج الكون".
    والقطار على مشارف الدامر ...بدأت أراجع سيرة الطيب ...في إيجاز بليغ لخص عبد الله علي إبراهيم جهد الطيب محمد الطيب وإبداعاته في عالم التراث والفلكلور بكلمته النيرة الموسومة "الطيب طويل التيلة" فقال: "مثل الطيب لا تهز الحكومات ''إن قصرت وإن طالت'' له قناة. فعطايا الحكومة هي حيلة أصحاب المشروعات قصيرة التيلة. أما مخاطرة الطيب الثقافية فقد كانت من النوع طويل التيلة. ومشروعيتها أصلاً في رد المجتمع الآبق، حكومة ومعارضة وشعبا، عن الحق والعدل والسماحة إلى الجادة بالاستنجاد بحكمة من الماضي وبركته. فهي مما لايؤجل حتى ينقضي أجل الحكومة الظالمة بانتظار الحكومة العادلة. فمشروع الطيب هو باب في التوتر الإبداعي الذي يتمخض عنه المجتمع الجديد. فهو مشروع للنهضة لا للمقاومة ولا يفل حديده حديد. وصاحب مثل هذا المشروع ''مَدعِي مهمة'' أي مصاب بها لا فكاك له منها"..الا إن عبد الله قد أوجز في الكلام فأفاض في المعنى. وللتأكيد فقط نشير إلى إضافات الطيب المتميزة في عمله الكبير "المسيد" والذي زار فيه ما لا يقل عن عشرة دول باحثا ومنقبا ومتعقبا لتاريخ المسيد هذا غير رحلاته التي لم تتوقف داخل السودان لذات الغرض...لقد كان الطيب حقا وصدقا "طويل التيلة".
    عند تأهبه للنزول في محطة الدامر علمت يقينا بأن المولى قد أكرمني بالطيب كما قال أخي ونحن في بداية الرحلة ...كرم المولى غمرنى وانا آنس بالطيب أخا ورفيقا وصديقا وأستاذا لأكثر من عقود ثلاثة من الزمن الجميل ....قبل مغادرته أهداني الطيب زبدة تجربته وخلاصة نتائجه....علمني وسأظل شاكرا له ما حييت أهمية التراث ومركزيته في شتى المعارف الإنسانية ... "ما تبقى على كلام الخواجات وبس ...حرم شغلك دا كلو أساسو عندك هنا...لازم تقرأ وتستوعب تاريخ السودان ..شوف عندك مناشير المهدي ...أمش لي أبو سليم عندو كنوز ...شوف سعادة المستهدي للكردفاني ..أسال عن كاتب الشونة..أقرأ بابكر بدري ..حتى يوسف ميخائيل وسلاطين شوف شغلهم ...شغل الإدارة حقك دا راقد عندنا في البلد ...علم الإنجليز فيهو النجيض أغرف منو وما تاباهو لكن الني للنار"....الني للنار .. الني للنار....أفاض في التذكر والتوجيه وهو يهم بمغادرة القطار أدركت نعمة الله على بأن هيأ لي معرفة الرجل البحر والإنسان الكبير والأستاذ الضليع.
    بهار الإخوانيات: محن الطيب وشخصياته ذات العجب:
    مالك يا الزمن سويتنا في هوله
    لبست الناس تياباً حاشا مي هوله
    من حسسك تبش دماعنا مبهولة
    اللي الله راحت بقت البواجهوله
    (ود الرضي)
    في كلمة شافية له عن المرحوم الطيب كتب الأستاذ كمال الجزولي :" كم كان، فى زمانه، حديد المشاغبة، شديد اللماحيَّة، منتجاً حاذقاً لبهار الاخوانيَّات اللاذع وعطرها النفاذ! "..كم كان كمال مصيبا...توفيت شقيقتي وأمي وسندي نفيسة بت احمد الجعلي .. أقيم العزاء بدارها بمدني ..الدنيا رمضان ...حضر الطيب فيمن حضر...حضر في سيارة واحدة مع صديق كدودة ومحجوب كوارتي ...بعد المغرب هموا بالرجوع ... ونحن نسير معهم إلى حيث سيارة محجوب أخرجوا مساهمتهم في الفراش ...لاحظنا أن هناك صراعاً بين محجوب وصديق.... السبب؟ المبلغ الذي مع الطيب لا يبلغ المائة ألف وهو ما دفعه الآخران...الطيب طلب من محجوب إكمال المبلغ ...صديق هدد محجوباً بأنه إذا أكمل له المبلغ لن يرجع معه ...عندها كنا قد وصلنا السيارة...قال الطيب لعبد الوهاب :"يا امباشي هاك دي ستين ألف الباقي بلحقوا ليكم في فراش الخرطوم وكتين تجو باكر"...رفض عبد الوهاب تجزئة المبلغ وصاح فيه: "يا خي ما بتخجل جاي ملح وفاطر فطور رمضان في صينية ناس الخرطوم وترمستين شاي وترمسة قهوة وحبة سكري وحبتين بندول وداير تدفع مساهمتك في عزاء نفيسة الجعلي بالقسط؟"...بينما زميلاه يضحكان أمسكني من يدي وقال :"أنت يا كا البتفهم.. وانت جيت الليلة من بره وما حضرت عيا المرحومة ...شوف أولا بالتبادي أنا المرحومة دي دافع ليها في مرضا الأخير مية ألف"..صاح فيه عبد الوهاب:"خمسين بس "...رد الطيب بسرعة :"حرم خمسين مرتين"..قال عبد الوهاب:" لا.. الخمسين التانية دي بنات الجعلي حلفن منها"...رد عليه بصوت عالي:"حلفن؟ ...والله يا حكاية حلفن..يا خي حرم لو ما الكريم ستر بنات الجعلي كانن خرتن أصابعي مع القروش"..التفت إلى :" خليك من الأمباشي ...مية للمرحومة في مرضا ودحين ستين يبقن مية وستين ... وانا وجماعتي باكر في فطور رمضان عند الأمباشي"... توقف قليلا ورفع يديه :"الفاتحة يا أولاد حاج أحمد ..حرم بعد نفيسة راسكم أتقطع" ..وركب السيارة....هذا رجل صالح يألف ويؤلف...كان يعرف مدى الحزن الذي يعترينا فعالجه بترياقه ومنتوجه الخاص من بهار الأخوانيات....كان يدرك تماما فداحة فقدنا فأخذنا بعيدا عن دنيا الحزن قريبا من تخوم النسيان والتأسي.
    من أخوانيات الطيب "محكمة صديق" هذه محكمة صورية "موك" ...مقرها منزل الأستاذ صديق كدودة وهو القاضي...الأتهام والدفاع يتناوب تمثيله الطيب محمد الطيب والفكي عبد الرحمن وصالح محمد صالح والفاضل سعيد...يأخذون الامر بالجدية كلها ...المرافعات التي أطلعت عليها تمثل مستوى استثنائيا في الادب الرفيع... طلبت منهم التوثيق فرفضوا ربما لطبيعة "المناوشة" وما قد يكتنفها من استخدامات للغة خاصة عند الهجاء ...كشعر الكتيبة راحت مرافعات محكمة صديق ...أتاني الطيب مرة في دبي وكان مما جلبه مسودة مرافعة يعدها وصالح محمد صالح ضد الفكي عبد الرحمن والفاضل سعيد...قال لي:" همتك معانا يا خي أنا عند رجعتي راجياني محكمة حارة دحين ايدك معانا"...قرأت المسودة فوجدت فيها جهدا بلاغيا كبيرا ....هؤلاء القوم يعيشون يومهم ويتواصلون اجتماعيا ويقضون مهامهم الأدبية العامة ولكنهم يروحون عن نفسهم في نهاية الأسبوع بالطريقة التي يرون انها تسعدهم...حاولت جهدي أن اتحصل على المرافعات ولم أفلح...جربت أن أسرق بعضها ولكن الطيب كان "نجيضا كعادته"...المحكمة تنتهي بالحكم الذي يصدره صديق ولا مجال للأستئناف أو الطعن.
    لمن يعرفون الطيب يعلمون يقينا قدرته على الفكاهة العملية وقدرته على اكتشاف الشخصيات ذات العجب...الطيب قدم للناس العشرات من الشخصيات الغرائبية ولعل أبرزهم عقيد الخيل وحاج الصديق وزن عشرة وعبد الباسط أب سماحتن جوه وود الخبير...كل واحد منهم عالم كامل بذاته وشخصية لها العجب.
    الطيب أخذ عقيد الخيل بعربته ذات صباح...كان عقيد الخيل يطمح في أن يكون فنانا له شأن ...ذهب للطيب محمد الطيب ليقدمه لوسائل الإعلام...عندما ألح على الطيب لم يجد بدلا من أن يأخذه بعربته يوما وبدل أن يتجه به للإذاعة اتجه به لمتحف التاريخ الطبيعي حيث مديره محمد عبد الله الريح الذي كان يقدم برامجا تليفزيونية في مطلع الثمانينات ...أنزله الطيب أمام المتحف وأوصاه:" دخولك التلفزيون في يد ود الريح ...أصلك ما تمرق كان ما قابلته واخدك للتليفزيون ...لو قالوا ليك ما في أصلك ما تمرق ...أنا العلي عملتو والباقي عليك"...أنزله وغادر المكان ....أحب ود الريح عقيد الخيل وعلاقته به عرفها الناس من خلال:
    يا بوليس المدينة
    مدير الفن بقى لى غبينة
    ما عرفتو زول ما عرفتو طينة
    أو من خلال ربابته التي زينها وصدح على انغامها:
    الملكة الختت الأختام
    وعرفت "فلان" ظلام
    رحم الله عقيد الخيل وأحسن إليه.
    في مجالس الطيب محمد الطيب عرف الناس حاج الصديق أو "وزن عشرة" ..الصديق "وزن عشرة" عليه رحمة الله رجل بجماعة، حصيف، ماكر، ذكى، فكه صاحب دعابة عظيمة ونكات عملية .. "وزن عشرة" مادح ومؤدى وممثل وحكاء بقدر لا يصدق ..قادر على أداء الأدوار الناطقة بصورة إعجازية وقادر في ذات الوقت على أداء التمثيل الصامت "البانتومايم.في كلمته عن الطيب محمد الطيب أشار كمال الجزولي إلى تجربته (والطيب) في حضرة الصديق وزن عشرة ...يقول كمال:
    "وليبدأ العرض فى ليلة لا نظننا ننساها ما حيينا،تكشف فيها حاج الصِدِّيق عن مسرحىٍّ شديد الثقة فى نفسه، والتوقير لفنه. إنطلق يضحكنا ضحكاً كالبكا،وفينا مشايخ ما تنفكُّ أناملهم تداعب حبَّات مسبحاتهم،على أنفسنا وعلى الدنيا من حولنا،ببديع مفارقات يلتقطها،بعين الفيلسوف الناقد وخيال الفنان الخلاق،من شوارع القرية والمدينة،ومن بيوت الأغنياء والفقراء،ومن مناسبات الافراح والاتراح،ومن دقائق تجليَّات مشاعر المزارع حين يحلُّ أجل سداد الديون،بينما تتأخر صرفيات الحوَّاشات،ومن مواسم الحج،بكل ما تزدحم به من سحنات ولغات ولهجات وطائرات وقطارات وبواخر،بل ومن مَشاهِد أسفار قاصدة من مغارب الشمس إلى مشارقها،بأقدام حافية مشققة،وببعض كِسرات خبز مجفف،وبصغار مرتدفين فى ظهور الأمهات. وكان حاج الصِدِّيق يتنقل بين المَشاهِد،فى قمَّة براعته،باقتدار وسلاسة،مُقلداً عويل الريح،وبكاء الرضيع،وثغاء الماعز،وصفارة القطار،وبوق السيارة،وهدير محرِّك الطائرة،وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته،وسخط المزارع المغلوب على أمره،وغنج زوجة التاجر القروىِّ الثريِّ تحاول تسريب طلباتها الباذخة إلى حافظة نقوده المنفوخة! كان يفعل ذلك وحده،خلواً إلا من قسمات وجهه المرنة،واختلاجات جسده الناحل،وتوترات أطرافه المعروقة،وأقصى ما يختزن صدره الضامر من إرزام،وحباله الصوتيَّة من صداح. وكنا،من شدَّة تعجُّبنا منه،نكاد نطير إليه،طيراناً،من (صالة) السجادة إلى (خشبة) العنقريب،نعانقه،ونهنئه،وكذا نفعل مع الطيِّب،منتج عرض (الرجل الواحد) البهىِّ ذاك فى مسيد ود الفادنى،فقد مَنحَنا كلاهما،فى ليلتنا تلك،أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان".
    الطيب كان راوية عظيماً لقصص و"محن "الصديق وزن عشرة...كان صديقه يأتيه بالأخبار والقصص التي لا تشبه أخبار الناس وقصصهم...كنت أزعج الطيب بطلب قصص وزن عشرة ولكنه لم يكن يمل ترديدها مع قدرة عالية على إضافة هوامش متجددة على المتن الأصلي للرواية والقصة تزيدها حلاوة وطلاوة وأسرا للمتلقي.
    عبد الباسط "أب سماحة جوه" وجه آخر من وجوه إبداع الطيب...كتبت عنه وأنا أتناول سيرة محمد عبد الله الريح في عملنا "الحواشي على متون الإبداع" ...في الحاشية عن ود الريح كتبت:"الطيب محمد الطيب أدخل ود الريح عالم عبد الباسط "أب سماحتن جوه" غشت قبره شآبيب الرحمة والغفران .. كان ذلك في بداية السبعينات .. لم يكن الرجل وسيماً بل كان على عكس من ذلك .. لكنه كان مادحاً عبقرياً .. ينطلق "أب سماحتن جوه" في المديح فيغيب عن الدنيا بالكلية بينما يصيح فيه الطيب محمد الطيب : "قلع .. قلع " أى أخرج الصوت من داخلك .. في حالاته وانفعالاته تلك كان "أب سماحتن جوه" "يقلع" حقيقة .. بل كان يقلع إلى شرفات من الوجد لا تدانيها شرفات .. حينها تبين سماحته ووسامته الداخلية.
    ود الخبير شخصية أخرى لها العجب..حين أتى به الطيب لصور شعبية كان الرجل في الثمانين...عاش المهدية ...طفق يحدث الناس عن أحوال الشايقية عندما اتاهم يونس ود الدكيم حاكما..تحدث عن "الزبلعة" وأساليب الشايقية في التحايل على أوامر "سيدي يونس" خاصة فيما يتصل بالمزاج والكيف... كان يحكي وهو غير قادر على تصور معنى ان يكون ضيفا في التليفزيون وعلى الهواء مباشرة..أثناء الحكي أراد ان يتناول حقة التمباك ...صاح فيه الطيب "عمي محمد بعدين بعدين ..نحن في التليفزيون"...رد ود الخبير:"يعني شنو في التليفزيون؟"...إزداد الطيب عصبية :"الناس اسع قاعدين يشوفونا"...رد ود الخبير :" ناسا من وين؟ ووين قاعدين؟"...علم الطيب أن المعركة خاسرة فاستخدم القوة لمنع الشيخ الثمانيني من استعمال الصعوط المتلفز ...كان الطيب يبتسم أمام الكاميرا ويده تضغط على جيب ود الخبير لمنعه من "السفة"...بعدها بعشرات السنين كنت أمازحه بقصة ود الخبير... ود الخبير كان دليل الطيب لأنداية الشايقية ..كان صاحب باع طويل في مجالسها..هو صاحب "التوسل الشهير"...التوسل هو إعلان مجلس الشرب في الإنداية عند جماعة ود الخبير ...يصف الطيب دور ود الخبير في كتاب الإنداية ويورد نصوص توسله :"يقوم ود الخبير بافتتاح الجلسة رسميا ويدخل سبابته اليسرى في أذنه ويشرع في التوسل: ياالبشير في السبلاب، يا ميرغني وعبد الوهاب، يا راجل الظليطاب، يا أبزرقا كوكاب، يا وداعة الله في الحسيناب،يا ضبيع في الكشوماب، يا محي الدين في القدوراب يا العند الله قراب......يا حامد أبو امونة أب سفة بي عطرونة يا البطب المجنونة "....ثم يتوسل بالنساء:" يا مريسيلا بت الأرباب يا الساكنة رأس الساب يا ليبة ونفرين ويا بنات باشا الاتنين...يا أمات زيرا في الأرض شبرين يا المابتقابضن في دين أمات نورا يبق من الجمعة للأتنين".
    كلمات في وداع الطيب:
    طيلة أكثر من عقدين من الزمان كان لقاء الطيب أحد دوافع التشوق الزائد لقضاء الصيف بالسودان ...خلال الأعوام الماضية فجعت في فقد أخوالي (مجازا وحقيقة) الفكي عبد الرحمن ومحمود دبلوك ومن ثم رحل محمد الأزهري وحليم شنان وتبعه الطيب ...هؤلاء كانوا جماعتي وأهل ودي وحبي ومكان احترامي وتقديري ..بينهم ومنهم ومعهم تعلمت ما لا توفره المؤسسات ولا الدولة...هذا الرهط من الرجال حباه المنان محبة الناس والقدرة على إشاعة الود والعاطفة ..يأسرونك بفيض من اللطف والبشاشة الآسرة المطمئنة...رحلوا تباعا ونعلم يقين الله أنهم من طبقة ونوعية قل ان يجود الزمان بمثلها...نحمد الله كثيرا ان هيأ لنا معرفتهم واخائهم ولله ما اعطى ولله ما اخذ.
    في فقد مثل الطيب أراجع سير من أعطوا الوطن والناس ..وانا أكد لأجد كلمات تليق بوداع أخي وأستاذي الطيب تقاطعت كلماتي مع ابيات مضيئة للراحل الكبير جيلي عبد الرحمن وهو يرثي المناضل الكبير والوطني العظيم حسن الطاهر زروق ....يقول جيلي:
    "زنابق مترعة الرائحة
    زهرة الليل تخجل لا تأتلق
    وأنت تغيب وراء الأفق
    أنيس
    تجادلني رحمة وحياء
    تطالعني فجأة
    تغادرني فجأة
    وكل الفصول وعمري النزق
    فداء الذي قد تناءى
    وصلى ثناء لأقطارها النائحة
    وأشعل فينا ضحى البارحة"
    كجيلي عبد الرحمن وحسن الطاهر زروق وأرتال من شرفاء أهل السودان رحل أخي وصديقي الطيب محمد الطيب ...رحل الطيب تزين جيده قلائد الإنجاز الوطني المتميز وكساوي الشرف الشعبي الموشاة بحب الناس،مطلق الناس...كغيره من مشاعل المعرفة والنور والخير والجمال غادرنا الطيب ...رحل ولا شهادة فيه تعلو على شهادة العبقري صلاح أحمد إبراهيم في أمثاله ممن أفاضوا على أهل السودان من ذاتهم وإبداعهم وفنهم ...أعمال الطيب كأعمال أمثاله من الطليعيين يستظهرها السودان وأهله في كلمات صلاح الراسخة الباقية في الناس ما بقي العطاء وما بقي الوفاء:
    هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ على ظهرِ مطايا
    عبََرت دنيا لأخرى، تستبقْ
    نفذ الرمل على أعمارنا إلا بقايا
    تنتهي عُمراً فعُمرا
    فهي ند يحترق
    ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
    فلنا في حَالكِ الأهوالِ مَسْرى وطُرُق
    فإذا جاء الردى كََشّرََ وجهاً مُكْْفهراً
    عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرََق
    ومُصّرا
    بيدٍ تحصُدنا
    لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً وفََرقْ
    ...
    نترك الدنيا ولنا ذِكرُ ُ وذكرى
    من فِعالٍ وخلُق
    ولنا إرثُ من الحكمة والحِلم وحُبِ الآخرين
    وولاءُ حين يكذبُ أهليه الأمين
    ولنا في خدمة الشعب عَرَق
    ( صلاح احمد إبراهيم :نحن والردى)
    jaaly osman [[email protected]]
                  

07-21-2017, 10:38 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    يا الفوتك مو دحين: الطيب محمد الطيب: "متاوقة مشاترة" من نوافذ مغايرة . بقلم: د. محمد عثمان الجعلي (دبي)


    نشر بوساطة البروق ومدد الحروف في سودانيل يوم 24 - 04 - 2012



    برق الطاء:
    خبيب أخو الأنصار نعم المعاهد تقي نقي القلب عابد
    دعا دعوة تنهد منها القواعد شهيد لجنات النعيم مشاهد
    يسير إلى الجنات سبقا بفارط
    برق الميم:
    تلونا كتاب الله للآي ندرس وبالحمد سبحنا له ونقدس
    ومن حولنا الأعداء بالمكر تهمس وندعو عليهم وهو سهم مقرطس
    وإن يمكروا فالله بالمكر عالم
    برق الطاء:
    على حمزة تبكي البواكي وماتني على حمزة ليث الحروب الخبعثن
    وما مر يوم كحمزة محزن على المصطفى يا للشهيد المؤبن
    فلو عاش ما خر الحسين بمأقط
    (العلامة عبد الله الطيب المجذوب :برق المدد بعدد وبلا عدد)
    توطئة وإستئذان:
    هذه كلمات في مقام رحيل أخي وأستاذي الطيب محمد الطيب..استأذن القاريء الكريم إن وجد غلبة للجانب الشخصي في بعض أجزاء هذا العمل ..كغيري من العشرات بل المئات من أبناء الشعب السوداني كانت لنا مع الطيب علائق هي لوشائج الدم أقرب ...كان لنا بمثابة الأخ الشقيق يظللنا بدفء آصرته ويمنحنا وجوده الآسر وحضوره البهي درقة متينة من الأنواء والتصاريف ...كنا نقدمه في أفراحنا ككبيرنا وكان يتوسطنا ويتقدمنا في اتراحنا كأنه واحد منا....نلنا بفضل الله نعمة أخوته واستاذيته ونصحه وتوجيهه فليأذن القاريء إن وجد الإخوانيات تحتل حيزا في مقام الحديث عن رجل عام كالطيب محمد الطيب وعزائي في ذلك إنني اكتب عن الطيب و"أتاوق" "متاوقة مشاترة" من نوافذ متعددة أقلها النافذة العامة والتي كتب عبرها العديد من الأخوان بحذق ومهارة ومحبة للراحل الكبير.
    الهمباتي الأخير:
    "أُمّاتِي القِبيلْ بي حِنّهنْ لجّنّي
    كَرفة وقَلدة كيف شوق اللّبن رَجّني
    حُزناً جاني في مَيْع الصِّبا يلَجِّني
    أطلعْ مِنِّي يا جلدي المِنمِّل جِنيِّ
    واطلعْ مِنِّي يا حُزناً بِقى مكَجِّني"
    (محمد طه القدال: مسدار أبو السرة لليانكي ...والله نسأل أن يتغمد بواسع رحمته أخانا المرحوم تاج السر سليمان فقد كان مبتدأ المسدار وخبره في آن)
    من غير قدال يمكن أن أستسمحه في أن يعيرني قافيته الفريدة زاملة أعالجها تحويرا وتبديلا لتقلني هربا من "حُزناً جاني (مع الزمن) يلَجِّني" ومن "حزنا (من كترتو) بقى مكجني" ..حزن عميق أنوء به واستردفه وأنا اجهد وسعي في دروب البحث المكد عن مفردات تقيل عثرتي في التعبير عن فقد أخي الطيب محمد الطيب.
    وقفت أمام عتبة باب المقال فأستحضرت صورة صاحبي الطيب ...استعدت "كنتور" شخصية الرجل متفحصا فلم أجد مفتاحا أليق ولا وصفا أروع وأدق يعبر عن مجمل صفاته المهنية والشخصية والإنسانية مما جادت به قريحة اثنين من عمالقة الشعر الشعبي المعتق ....وجدت مبتغاي في مربعات عبد الله حمد ود شوراني والصادق ود آمنة بت النور فالتزمت خيمتهما ...الشاعران الفحلان برعا في وصف الطبيعة والبشر والخلائق جميعا ...أعدت قراءة محاورتهما ومجادعتهما وهما يفخران ب"الطربان" و"القدين" فلم اتبين أكانوا حقا يصفون ويمدحون زواملهم أم البشر الذين يحبون ...تأمل معي حب ود شوراني للطربان جمله:
    "كتح الصافي علاك يا اب سناما رك
    أبوك فارط الجدي الأخد الروينا وجك
    على ست الصبا الدكانا قاطع اليك
    رايف وفكفك الحسكة أم حديدا شك"
    وتأمل شعر ود أمنة وفخره بالقدين:
    "بعد اتفاضل الزهمول وسوطو جبك
    جريك عنا وسرعك برق ونايبك كك
    عادة جدك السوسيو عليها عرك
    بعيد زي غايس البرق اب هطيلا تك"
    ك"الطربان" نال الطيب حظه من "صافي" الزاد المعرفي الحقيقي فقد نهل من معين الشعب الثقافي الماهل الذي لا ينضب وموارد علمه التي لا سواحل لها ...نال الطيب حظه الوافر من علوم البشر والدنيا ..ف"كتح" منه واستسقى ... غادر صفوف التعليم النظامي باكرا ملتحقا بفصول مدارس الحياة ...مدرسته الكبرى كانت البشر ...أوغل في حياتهم ،تقاليدهم ،علاقاتهم وسلوكياتهم فنال حظه من كل ذلك ثقافة ودراية وعلما وإنسانية ...الطيب كان مثالا حقيقيا للمثقف العضوي كما رآه قرامشي ..أخذ من الناس فأنتج وأعاد الإنتاج لأصحابه في جدلية سامية وراقية راكزة على تعظيم القيم المضافة وإشاعة فائض القيمة.
    على صعيد الكسوب والتعلم والكد والاجتهاد أخد الطيب "الروينا" وجك ...كان "البرنجي" دائما وذلك عين ما لاحظه الفكي عبد الرحمن عن الطيب...في عملنا الموسوم "الحواشي على متون الإبداع" وفي الحاشية الخامسة تحديداً بعنوان "بل لله درك أيها الفلاح الفصيح أو :إتحاف الزمان بمقامات الفكي عبد الرحمن"..علقت على كلمة رفيعة البيان محكمة العبارة سطرها الفكي في شأن الطيب اسميتها "المقامة الطيبية"...قال الفكي :"الطيب محمد الطيب، طيبان يتوسطهما محمد، فأل حسن، الفجر حي على الفلاح، وجاء للحياة فلاح في البدن والعقل والروح، لم يحبو فمشى، ويمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع،يعد، يعرض فيمتع، الطيب في ذاكرة البلد". ..نعم الطيب "أخد الروينا وجك"... "جك" الطيب مجتهدا في دروب التراث مستهدفا كشف المستور في علاقات البشر والمجتمعات وذلك هو "ميس" سعيه وجهده ..ذلك هو الميس "القاطع اليك"...هرول الطيب "رايفا" متلفتا لمظان الحكمة الشعبية ومكامن الإبداع الشعبي وقد تحرر من كل كوابح البحث وموانعه ففكفك كل "حسكة" مانعة وملجمة لكل باحث طليعي أصيل.
    جهد الطيب الذي لم يتوقف لأربعة عقود في دهاليز مسارب التراث لا أجد له وصفا أعمق من وصف الصادق ود آمنة لزاملته "جريك عنا وسرعك برق ونابيك كك"...الجري والسرعة وتعب الجوارح كلها من عناء الترحال المتواصل لكشف المجهول .. عقبت على مقولة الفكي عبد الرحمن السابقة بقولي :" الطيب محمد الطيب شيخ زمزمي معتق نهل من حياض معرفة حقيقية لا يغيض ماؤها واستظل بجنان علم أصيل لا ينقطع فيؤه .. "يمشي فما تتعب رجلاه، يروح، يجمع، يعد، يعرض فيمتع" .. بالحيل .. بالحيل ..الطيب هو كاهن التراث وحامل مفاتيح ملغزات وخبايا الفولكلور ....حرس التراث وظل اميناً عليه منافحاً دونه ...رحمة الله تغشى أخانا الطيب الذي ذرع البلاد من حلفا لتركاكا ومن دار فور الحرة النبيلة لكل قبيلة على التاكا أو كما قال صلاح .. الطيب ذلك المليء أخوة حتى النخاع والمليء شهامة حتى مراتب من تغنى فيهم "طبيقه" وخدينه مبارك حسن بركات أخذاً من "بيت قصيد" الموروث الشعبي:
    "الجنيات بلاك في الحلة آفة عيش
    وود المك دا راجلاً بيعزم على المافيش"
    بين اليقظة والرؤيا: ود كدودة والماغوط وبينهما ستي نور
    قبل وفاته بشهرين وحين علمت بتردي حالته الصحية عاودني بل "تاورني" ذلك الاحساس الحزين البائس الذي غشاني وانا أجالسه الصيف الماضي بمنزل العمدة الأستاذ صديق علي كدودة المحامي بحي العباسية بأمدرمان ... كان يبدو متعبا ...كان متكئا ...وجهه للحائط وقد أولانا ظهره...كنت عند دخولي عليهم قد لاحظت إن بريق عينيه الغريبتين الذكيتين بدأ لي شاحبا .. سألته "الطيب انت تعبان"؟"..رد علي ولم يلتفت ناحيتي "لع"..قلت له :"متأكد؟".."قال لي بضيق شديد :"قلت لك لع"...قال لي صديق :"زولك بخاف من المرض ومن الموت"...قال لنا الطيب وهو ما زال يقابل الحائط:"يموت حيلكم".
    وهو في حالته تلك أوسعناه (صديق وأنا) أسئلة سخيفة وقصصا مريبة ومكايدات "قليلة حياء" ..تلك هي عادتنا التي لم يكن ليمنعنا عنها غضبه الحقيقي او المصطنع ولا عوارضه الصحية التي تلاحقت في السنوات الأخيرة...مطلق وجوده، متعافيا أو عليلا، ظل يهيء لنا سوانح وفرص محاولات مستحيلة للعودة للطفولة الأولى ...ونحن نطقطق حبات مسبحة العقد السادس يحلو لنا أن نستعيد (لا بل نعيد تركيب) أيام صفاء ولت واختطفتها تصاريف الحياة ...نستعيدها في حضور الطيب .. في حضوره البهي المشع وفي غياب الأغراب يحلو مجلسنا ..نمارس كل ألوان الطيش والنزق ..كل ما نخفيه عن الآخرين، الأقربين منهم والأبعدين، نمارسه أمام الطيب الذي يبدو سعيدا وأنا والصديق نتعارك أمامه ...نمارس "الجهالة" المقصودة لذاتها...كان يستهوينا أن نستدرجه لبعض ما يكره وكل ما نهوى ونحب ... في ظل تقدم العمر وانحسار هوامش الفرح وتباعد ايقاعها وتعدد منغصاتها كان وجود الطيب يوسع لنا ضيق الصدور ويرفع لنا ما كان متدنيا من أحوال النفس ...يحاول ان يكون جادا ...لا يتركه صديق ...الطيب كان يحب صديق حبا قل أن تجد له مثيلا ...يعجبه فيه ذلك الذكاء الفطري وروح الفكاهة الأصيلة والكرم ..يعجبه فيه تلك الخلطة الربانية العجيبة...خلطة تجمع بين شجاعة حد التهور ودمعة طرف العين ...تجمع بين فصاحة اللسان والإبانة الكاملة باللغتين من جهة وبين قدرة مهولة وكامنة على إدعاء التهجي وعلى الرطين باللهجات وتقمص سمات "البوامة" ...خلطة تجمع بين السترة الأفرنجية الكاملة والعمامة "صقير قيل" و"خوسة" الضراع...كل ذلك يعجبه في العمدة ود العمدة ولكن مبلغ حبه لصديق أنه مثل الطيب حكاء من طراز فريد ..صديق حكاء من طبقة "حاج الصديق وزن عشرة" الذي سنعرض له قبل ختام كلمتنا هذه وتلك طبقة مستحيلة ....مجلس الحكي الذي يتناوبه و"يتشالبه" صديق كدودة والطيب والفكي عبد الرحمن ومحمد عبد الله الريح وعبد الحليم شنان لا يشتهي جليسه وزائره بعده إلا الشهادة والموت!.
    حين أحس اللواء عبد الوهاب الجعلي بأن الطيب قد مل جهالتنا وسخفنا المتواتر انهي السجال بالعسكرية القديمة:"خلاص ياخي أمنع الكلام" فامتثلنا للأمر ...قال الطيب مخاطبا عبد الوهاب :"يا أمباشي قوم أنت امش أهلك وبالمرة سوق أخوك دا معاك أصلو وكت يلقى صديق طبعوا الخربان خلقة قاعد يزيد خراب" ..التفت إلى صديق قائلا:" قوم انت يا أفندي وديني البيت"...وانا اغادر منزل صديق ظهر تلك الجمعة تملكني تماما شعور قوي كريه بأنني ربما أكون قد رأيت "اخوي" الطيب للمرة الأخيرة.
    يوم وفاته هاتفتني أبنتي ستي نور من السودان ...أدركت من صوتها أن هناك أمرا جللاً...كانت ككل أهل بيتي وبيوت أبناء وبنات حاج أحمد أبي نعتبر الطيب واحد منا ...قالت بحزن حقيقي وصوت باكي وحشرجة بائنة "البركة في الجميع يا بوي عمي الطيب محمد الطيب مات"....لم تزد ولم أطلب الأستزادة ...ترددت ولم أقل لها نعم كنت أحس واتسمع نعيب غراب البين مذ رأيته في الصيف الماضي في منزل صديق كدودة ...وأنا أضع الهاتف تلك العصرية الباهتة اللون الماسخة الطعم تذكرت الماغوط حين أنشب السرطان أنيابه وأظافره في جسد سنية صالح زوجته والتي كانت بالنسبة له أما واختا وأبنة ...خطر لي الماغوط وهو يكتب بيد راعشة "سياف الزهور: مقطع من موت واحتضار سنية صالح":
    "يا رب
    في ليلة القدر هذه،
    وأمام قباب الجوامع والكنائس،
    اللامعة والمنتفخة كالحروق الجلدية..
    أساعد الينابيع في جريانها
    والحمائم المشردة في بناء أبراجها
    وأضلل العقارب والأفاعي
    عن أرجل العمال والفلاحين الحفاة
    ولكن.. أبق لي على هذه المرأة الحطام
    ونحن أطفالها القُصَّر الفقراء"
    رحل الطيب وبقينا نحن أطفاله القصر الفقراء
    رحل الطيب ولا تزال كهولتنا تنادي على توق مستحيل لأيام سعادة كان من الممكن إعادة استنساخها في حضور الطيب
    رحل الطيب فهرولت متولية ساعات الصفاء و"الخوة" أمام أيام زحف آليات السوق وحاسبات الربح والخسارة التي جاءت بكامل منسجها ونولها لتغزل علاقات البشر
    رحل الطيب فجفت أقلام الحديث الذكي ورفعت صحائف الكلم الشجي الخلي الذي يخضر القلوب ويرهف الإحساس فيمنع عنه جلافة الخلق ويدرأ عنا شر فساد الطبع
    رحل الطيب فاحتلت أرواحنا جيوش البلادة والسأم وهي تنتشر كما جدري الشمومة متسربة في خياشيم الأيام ورئة المجالس
    رحل الطيب فعم الحزن ديارنا وازددنا كبرا على كبر وعجزا على عجز
    رحل الطيب بعد رحلة إبداع عظيمة وبعد معاناة طويلة مع العلل ...لعل جمال بخيت كان يعنيه وهو يحكي عن السفر الطويل:
    "سفرنا طويل ....وضاع الصبر والتساهيل
    وتيار الأماني ضاع
    لا دا مركب ولا دا شراع
    ولا معنى لأي دموع
    ولا معنى لاي وداع
    دفعنا العمر في الرحلة
    وهيه رحيل
    سفرنا خلاص ما عادش طويل"
    (جمال بخيت: سفرنا طويل : ديوان شباك النبي على باب الله)
    صيوان العزاء:
    الفاتحة:
    فاطمة ذو النون
    الأقمار البنيات الثماني
    أنساب الطيب وأصهاره وأهله وعشيرته
    الفاتحة:
    للاحياء:
    عبد الوهاب الجعلي
    صديق على كدودة
    محمد عبد الله الريح
    صالح محمد صالح
    أمين عبد المجيد
    أحمد حسن الجاك
    صلاح أحمد إدريس
    محمد المهدي بشرى
    محمد طه القدال
    عبد المحمود محمد عبد الرحمن
    حسن أبو عائشة
    مهدي شيخ إدريس
    محجوب يحي الكوارتي
    المهلب علي مالك
    البقية في حياتكم وربنا "يجبر الكسر" و يصبر الجميع ولكن ...حرم "فرقة الطيب ما بتنسد"
    لأرواح:
    الفكي عبد الرحمن
    عبد الحليم شنان
    محمود دبلوك
    نفيسة بت أحمد الجعلي شقيقتي
    ها قد جاءتكم روح الطيب ...جاءتكم منشدة حائية السهروردي:
    أبدا تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح
    وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم والى لذيذ لقائكم ترتاح
    ها قد جاءتكم فلعلها تجدكم ،باذنه تعالي، في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ..اللهم آمين.
    أب كريق التراث ودود وعر الفلكلور :المتاوقة من نوافذ قطار كريمة:
    عام 1977 تعرفت عليه ...في محطة السكة الحديد بالخرطوم في طريقي لعطبرة ...ذلك الزمان كان لا يزال للسكة حديد شيء من عافية مستمدة من عافية البلد النسبية العامة ..كان لها مكتب كنترول وحجز ودرجة أولى ونوم ... في انتظار المغادرة جاءني عبد الوهاب أخي بيده اليسرى التذكرة والحجز وبيده اليمنى الطيب محمد الطيب في طريقه للدامر..."عثمان ربنا اكرمك بالطيب ودي ما بتتلقى بالساهل".
    سلام حباب...وأصطنعنا جهوزية السفر ...الصحف والمجلات ...فمكتبة محطة السكة الحديد بالخرطوم كغيرها من موانيء التسفار ونقاط تقاطع المواصلات كانت حافلة بألوان الثقافة المحلية والعربية والاجنبية...وما كنت احتاجها والطيب رفيق السفر ولكنها غفلة الأفندية.
    وقفنا في أنتظار قطار كريمة...بعد لأي هلت بشائره والناس يتدافعون ...خرج من الورشة للمحطة متهاديا وكأنه يسير على أيقاع "دليب" خافت ..تجاوز خط المناورة ملتمسا الخط الرئيس...بدأ في التهاديء مبطئا وكأنه ساقية تتوقف قواديسها تدريجيا لرهق "الأرقوق" وقد "ساق فجراوي" ...توقف القطار بعد أن اهتزت جوانبه ....دخل الناس ودخلت الحقائب و"المقاطف" ...رويدا رويدا هدأ المكان ...أخذ قطار كريمة نفسا طويلا ...تنحنح ...شهيق وزفير ..أطلق صافرتين طويلتين ومن ثم على بركة الله مجراها ومرساها...الناس يرتبون أوضاعهم داخل القمرات ...يحاولون ما استطاعوا تأمين أكبر حيز لهم في القمرات...يبدأون الرحلة بالشجار..."يا خوانا عندنا مرة كبيرة وعيانة خلوها معاكم"..."والله الفجة دي حاجزنها لي جماعة أهلنا ماشين يركبوا من بحري"..."طيب خلوها معاكم لا من نصل بحري"..."المرأة الكبيرة تدعي المرض ويحسب من رآها أنها لن تصل بحري ناهيك عن كريمة...حين أحست بأن لا جدوى من الأستعطاف طرحت ثوب التمسكن وأدعاء المرض جانبا وأسفرت عن شلوخ "لا وراء" وعن نفس حار "لا قدام" :"نان اول أنتو القطر دا اشتريتوهو ولا ياكن متلنا راكبين بالأجرة؟"..."باركوها يا جماعة ..باركوها يا جماعة""..قبل أن يصل القطار محطة بحري كان رفاق السفر قد تآلفوا وبدأوا طقوس التعارف السوداني..."انتو من ناس وين؟".."تعرفوا ناس عبيد الله ود أحميدي؟"..."يا سلام أكان كدي نحن أهل ...أها عبيد الله يبقى للحاجي دي ود عمها لزم".
    محطة بحري وناس بحري والختم ....دق دق دق ... كان أسمها الحلفاية ...وبعدين يا خي شغل بحري وقبلي دا ما حقنا .. القبلي عندنا في السما ما في الواطة قاعدين نقول "القبلي شايل" ...في الواطة نحن ناس سافل وصعيد ..بحري يعنى شمال دي أظنها بت ريف .. ضحك الطيب وهو يقول ما شفت في "المسلسلة" المصرية يقول ليك "شقة بحرية ترد الروح ترمح فيها الخيل ..فيها تلات مطارح وعفشة مية"...دق دق دق ..بحري والحلفاية وود ضيف الله ...الختم ود سيدي عثمان ..وقفنا عند ود ضيف الله واسترسلنا في الحديث عن بحري والمراغنة.
    ما بين محطة الخرطوم بحري ومحطة الكدرو تحدثنا عن أهرامات المدينة ..سيدي علي وتجاني الماحي ونصر الدين السيد وسليمان فارس "السد العالي" وخضر بشير وعبد المعين وعوض شمبات ومحجوب محمد صالح وبابكر عباس والجاك عجب ...مدينة ورموز...كان محور حديثنا هرم بحري الأول الختم ود سيدي عثمان برمكي أشراف مكة ..أستاذ الطريقة الختمية سيدى على الميرغنى .. ظل رابضاً في أعالي المدينة شامخاً كأسد طيبة بعرينه بحلة خوجلى يطل على المدينة من عل من بين ضريح السيد المحجوب وبيان الحسن أب جلابية .. أدار الحركة السياسية الوطنية من بين طيات الثقافتين العربية والافرنجية ومن خلال ترديد:
    "صلوا علي صلوا علي بحر الصفا المصطفى"
    صلوا عليه وآله أهل الوفاء
    عصريات الجمعة في مدينة بحري كانت مسرحا عظيما لإنشاد متواصل لخلفاء السادة المراغنة ..."السفينة" بموجها المتلاطم من المحبين تصدح ب "صلوا على" ...الأنشاد الكورالي في هذا القصيد النبوي يبلغ شأوا إعجازيا ...ينسرب صوت المقدمين ليستلم مصاريع الأبيات من الكوارل دون فواصل للأقفال فيبدو القصيد عملا ملحميا من الطراز الأول.
    الخلفاء يرددون وينغمون "عليك صلاة الله يا خير من سرى" وقد توشحوا ترانيم "الهاء البهية والنون نصف دائرة الأكوان" .. حين كان أهل المغرب يوارون ملكهم الحسن الثاني مثواه الاخير كانوا ينشدون عليك "صلاة الله يا خير من سرى"...الأبيات لسيدي الأمام الأكبر محي الدين بن عربي ...شطرها للختمية سيدي محمد سرالختم الميرغني وشطرها لأهل المغرب مشايخ التيجانية خلفاء سيدي أبو العباس أحمد التيجاني ...وتبقى في الحالين على ذات اللحن والأيقاع ... "عليك صلاة الله يا خير من سرى" إحدى درر القصيد النبوي العابر للقارات والجامع لحب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام... نعود لبحري والخلفاء ينغمون "عليك صلاة الله " وقد توشحوا بأسرار الحروف وقد عبق البخور وسرت قشعريرة الوجد الصوفى المتسرب من نفحات مقام "ستي مريم" في سنكات وضريح "الحربية" فى أعالى كرن وأغوردات .. مولانا الحسيب النسيب السيد على الميرغنى لم يكن رجل دين ومن أقطاب الصوفية فقط ،وكذلك لم يكن سياسياً مرموقاً حصيفاً فقط، ولم يكن محسناً منفقاً فقط .. ولكنه كان كل ذلك واكثر .. على الميرغني كان في شخصه وأهابه الفردي وبعيداً عن أطر الطريقة الصوفية والحزب السياسي رجلاً مؤسسة .. حول ضرايح أسلافه خططت المدينة شوارعها وحددت "ميسها" .. فى اتجاه الضرايح أديرت "مايكرفونات " المديح المطنب وفى اتجاهها أيضاً أديرت "مايكرفونات " الهجاء المسهب .. وفى الحالتين صارت الخرطوم بحرى "أم الدوائر" الإنتخابية وبيت قصيد السياسة وصنعاء الرأى والمشورة .. لوجود على الميرغنى كان حى "الختمية" وبسببه قام حى "الميرغنية"...دق دق دق .. و"نظرة يا أبو هاشم"....وانا أتحدث عن بحري كان الطيب يتحسس مطمورته الفلكلورية..هذا رجل يجيد الإنصات بذات قدرته الفذة على الحديث...مداخلاته عن رموز بحري أضاءت لي ما اعتم واستشكل في ذاكرتي عن مدينتي.
    رحلة القطار طويلة بحساب الزمن والمحطات ...قصيرة بحسبان قيمة رفيق السفر وفوائد التسفار معه.. ..خرجنا من بحري الختم إلى الكدرو ومن ثم شرع صاحبي في الإفاضة ....كتاب الطبقات...لجهلي وجهالتي لم أتركه يتبحر ..كنت قد اقتنيت نسخة الكتاب التي حققها العالم الكبير يوسف فضل...ووقعت في أخطاء الأفندية الأبجدية ...كعادتهم حين يلمون بطرف خبر بدأت الحديث ...كان يستمع طويلا ثم يسأل أسئلة قصيرة رصاصية ثم يعاود الأستماع ...كان "كمينا" لم أتبينه أول الأمر...لم أكن أدري أنه يتربص بقدراتي ومعارفي ....غريبة نحن ناشئة الأفندية نتكلم كلنا في آن ..لعله النفس القصير ...الأفندية "يتشايلون" الكلام ويرقعونه كل من الجزئية التي يعرف ....هذا الذي أنا في حضرته رجل مكير ...ظل ينظر إلى وأنا كمن رمى به بعير ود شوراني للأرض اتحدث ولا أتوقف .. لم يكن حديثا ..شيء من "هضربة"...دق دق دق .. بعد سنوات طويلة علمت أن الرجل كان يرمي شراكه لأم قيردون الحاجة:
    أم قيردون يا الحاجة
    بت الملوك يا الحاجة
    ترعى وتلوك يا الحاجة
    في الهمبروك يا الحاجة
    "القينقرد يا الحاجة" ..."بحرك شرد يا الحاجة" ...الحيلة عند العرب وما تعلمته من دهاء "مسرة بت الشيخ" ودبارة "زينب بت بشارة" "حبوباتي" اللتان اشرفتا على تنشئة ود المرحومة كفتني شر مقطع الأقفال "دودك ورد يا الحاجة"... الدهاء والدبارة شفعتا لي فحمدت الله على ما أنعم به علي من "حبوبات" نجيضات مستفيدا من تجاريب الفكي عبد الرحمن مع أم قيردون وعلى تسهيل نجاتي من شرك الطيب محمد الطيب..كررت الحمد والشكر إذ القطار يصرخ لاهثا طالبا الماء لجوفه ونحن على مشارف الشيخ الكباشي.
    من بحري الختمية لقبة الكباشي القادرية ...الشيخ العارف بالله إبراهيم الكباشي "خصيم السم"......إرزام الطبول واللغة السيريانية ذات الأسرار الربانية:
    "سككن ساكت
    قلب قادوسو
    جرارقو اتحاكت
    كباشينا
    تهت في لجة
    "كافو" دار الكون ما فضل فجة
    من وساع جاهو"
    الكباشي وود نفيسة...ود نفيسة وعبد الله الشيخ البشير .. عبد الله الشيخ البشير والطيب...الطيب يتوهج مترنما:
    "جيت فوق جبلو
    ما بقيت قبلو
    الكباشي القيدو في شبلو
    شوفو من النور كيف لبس حللو
    يسقي سر الله
    من بطن قللو"
    مدد يا الكباشي ..مدد يا ود نفيسة ...مدد يا عبدالله الشيخ البشير ...مدد يا الطيب .."يا فندي شوف جنس النضمي دا.."يسقي سر الله من بطن قللو"..يرددها الطيب بترنيم وتوقيع صوفي خالص..خاصية عرفتها فيه فيما بعد ..حين يعجبه الكلام يردده لنفسه ولمستمعيه..حدثني الطيب عن الطريقة القادرية وعن سيدي الباز الأشهب قطب بغداد وسلطان الأولياء عبد القادر الجيلاني ..."ساكن بغداد في كل بلد سوالو اولاد" ...حدثني عن الكباشي "القيدو في شبلو"...حديث ممتع منكه بلوامع القصص وزبدة الكرامات....أخذنا الحديث فإذا زاملة الحديد على مشارف الجيلي.
    عند الجيلي كان زادي المعرفي قد نضب أو كاد ..عرفت خطأي ..أخطأت في اختيار الموضوع والمحاور...والقطار يتأهب لدخول محطة الجيلي علمت يقينا أن الثعلب قد أوقعني في فخه المنصوب بحذق ودراية إعرابي "مدردح" يمشي في الصحاري ومضارب الصي مستعينا بالنجوم..."أدي العنقريب قفاك وخلي بنات نعش في المسيمع وأبرى العرجا"... دق دق دق .. محطة الجيلي والليمون والجوافة وقصة كتاب "الإنداية" ... كنت من ولعي به قد حفظت مقاطع كاملة منه ...قلت أصحح ما وقعت فيه من أخطاء وسوء أدب في حضرة الأستاذ ..حدثته عن أعجابي بوصف الكتاب لمائدة القمار عند عرب البطانة:
    "جيتك".."حبابك"..."أنزل ".."نزلت"...الصاقعة ..حرم طقاه...الكرسابة...
    "تاني جيتك"..جنيهين..
    جمل جمل ..جيتك..حبابك..تف ..تستاهل يا ابو التاية علا جملي حرم ما بسوقو راجل.
    أبو التاية: علي الطلاق أسوقو في عين الجعيص ..دا قمار ما لعب.
    كرار : قت لك ما بتسوقو ..كضاب كان راجل أمش عليهو .
    أبو التاية:كب أنا أخو أم عارض
    كرار : وين يا ود الك....
    أبو التاية: تمها حرم أسع أدلي أيدك بالسيف.
    كرار : ود الكلب.
    كاع طاخ طراخ أمسك الزول .. أنتل منو الخوسة ..فك العصا..الحق..خرت الخوسة..يا سلام الراجل اتعوق..الحقة يا أخوانا.. جيب الصعوط سد الدم..كتر الصعوط الدم دا كتر.. المصلي على النبي كلو يمرق حقتو ..جاي."
    لطلب العفو لم أكتفي ب"تسميع" القطعة عن ظهر قلب بل زدت عليها بأن جعلت منها فاصلا مسرحيا ساعدني فيه أنها أصلا صورة حية نابضة بالحركة لا تحتاج لشيء من فنون الإخراج .."أنا أخو أم عارض" كلمة خطيرة وبليغة دونها الدم و"الخوسة"... ضحك الطيب طويلا فحمدت ربي على أن "البرطلة" قد شفعت لي وتأكد لي أن مكر الأفندية غالب بأذن الله...الامتحان العسير ومكر الأستاذ ومكر الأفندية كان من الدروس التي علمني أياها الطيب ...كلما أوشكت أن أفتي في موضوع لم استعمره بالكامل رجعت لي صورة الطيب بقطار كريمة عام 1977 والقطار ينهد ما بين الكباشي والجيلي فأحمد الله مختارا ذهب السكوت.
    الجيلي والزبير باشا ود رحمة الجميعابي وجزيرة واوسي وأهلها المحس أولاد الشيخ إدريس ود الأرباب ...الطموحات التي لم تعرف حدودا ...بحر الغزال والنور عنقرة فارس الخلا ...تكمة بن زنقابور سلطان النيام نيام ونسيبه..بت مسيمس وأبو شوره شعرائه...مصر والخديوي وحرب القرم بين روسيا وتركيا ... سليمان الزبير وإدريس أبتر وغردون الصيني ...الثورة المهدية ونفي الزبير إلى جبل طارق..معركة توشكي وإنكسار جيش ود النجومي..رواية الطيب لسيرة الزبير باشا ود رحمة التي سمعتها في قطار كريمة ونحن نغادر محطة الجيلي قرأتها مكتوبة فيما بعد عندما عربها واعدها السفير خليفة عباس العبيد من نص المقابلة الصحفية للبريطانية فلورا شو ويحمد للدكتور حيدر إبراهيم نشر هذا العمل الكبير والهام.
    دق دق دق ...جبل جاري (قري) و"حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك" وحكاية .... دق دق دق ..."أنت يا جنا بتحضر في شنو؟" ...بحضر في إدارة الاعمال ...الأنظمة الإدارية وكلام في البيروقراطية ...يا خي البيروقراطية دي راقدة عند أهلنا ...المرة متمسحة (أي راقدة كالتمساح) راقدة والجدادة جنبها ما بتنهرها ...المرة تقعد تكورك ...تعالي يا بت ..تعالي يا بت ...تعالي يا بت قولي للجدادة دي كر".."الجدادة وكر" يا رحمة الله ما سمع بها شيخنا ماكس فيبر ولا عالجها "الأسطوات الكبار" ميرتون وسيلزنيك وقولندر ومن تبعهم بإحسان وبغير إحسان ..."الجدادة وكر" فاتت على عباقرة التنظيم الاجتماعي ...كتابات تالكوت بارسونز الملغزة المستفزة الملغومة واجتهادات اليهودي الشاطر إمتاي اتزيوني وسي رايت ميلز .. مساكين فاتتهم السانحة ولم يمتطوا قطار كريمة مع الطيب محمد الطيب ...."الجدادة وكر" وتنظيم العمل والتخصص الوظيفي و"الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" الكتاب العمدة لفيبر...كلام كبار سهرنا لحفظه وأزعجنا بشأنه الأنجليزي المؤدب ابن الناس صديقي فرانك بلاكلر واستاذي الاستعماري العتيد البروفيسور دنيس جابمان...جابمان كان من غلاة المحافظين متيما بإنجلترا القديمة محبا لونستون تشرشل آخر العتاة الجبارين ...تشرشل كان ضابطا صغيرا في جند الفريق هربرت كتشنر في "كتلة" كرري ...أسمى كتابه "معركة النهر"...حصد المكسيم الآلاف من جيش المهدي والأمير المقدام إبراهيم الخليل يصيح بمن بقي من المحاربين المجاهدين "سدو الفرقة ..سدو الفرقة"... تشيرشل قال عن جيش المهدية أنه أنكسر تحت قضبان القطار ...ويقول سيدي عبد الله الطيب المجذوب :" كان مجذوب بن أبي بكر مجاهدا حين التقت "خيل اللات بخيل الله" ذاك وصفه حين التقت خيل كتشنر برجال عثمان دقنة :
    قلبي مشتاق مشتاق للإمام مهدي الله طبي القاسما
    محطة الرويان ...وتتواصل حكايات المهدية ...وفجأة تعطس زاملة الحديد ...تش تش تش ...سيك ..سيك سيك...توقف الراوي عن الحديث الممتع متسائلا: القطر دا مالو؟ ..يتاوق من نافذة القطار ...المحطة قالوا فيها مناورة ..اكسبريس حلفا داخل ....أنزل يا جنا نشوف لينا شاي ... دق دق دق ... قلت كيف عن تشرشل؟ ..أيوه المهدية الجديدة ... الإمام عبد الرحمن وعكير الدامر...هنا جن صاحبي الذي كان وقورا ...وقف بعد أن كان جالسا:
    عهدنا معاك كنداب حربة ما بتشلخ
    وصرة عين جبل بي صاقعة ما بتفلخ
    كان إيدينا فيك من المسك تتملخ
    السما يتكي وجلد النمل يتسلخ
    الله أكبر ولله الحمد ...الله أكبر ولله الحمد ..."اخدلو هوشة "..."عمي بعشوم أعرض غادي"....أثبت بابكر بدري في "حياتي" رسالة ود النجومي الباهية البهية لجرانفيل باشا وهو يحاول أغرائه واستمالته بأن يوغر صدره عقب عزل الخليفة له وتعيين يونس الدكيم مكانه ...لم تنطلي الحيلة على الأمير المجاهد فأملى على كاتبه رسالته البليغة الدالة الشافية:" انا بايعت المهدي وخليفته على الجهاد وسأستمر مجاهدا فإن قتلناكم نجد عندكم ما حكيت لنا في كتابك وإن قتلتمونا لا تجدوا عندنا إلا جبة متروزة وحربة مركوزة".... "جبة متروزة وحربة مركوزة" ...الله أكبر ولله الحمد ويعرض الطيب في القطار ...في "من نافذة القطار" (الذي استعير اسلوبه في العرض) قال عبد الله الطيب عن الأنصاري الأشوس العوض ود عبد العال :"كان يجلس في مجلس الفقيه عبد الله في طرف ...ملتزما سمت التلميذ من الأدب على سنه المتقدمة، كان ضئيل الجسم صليبا عيناه تشعان بتحفز ينبيء عن حقيقة معدنه وفي يده "فرار" كان يقاتل به أيام كان مع الانصار ولم يفارقه حتى بعد "كسر القبة وقلب الجبة".
    محطة الميجا والطيب يسترجع حديث بابكر بدري وعبد الله الطيب ولكنه يصر على أخد "السندة" عند عكير ...يردد "السما يتكي وجلد النمل يتسلخ"....حين أعاد إنشادها أحسست بأن رفيقي صاحب بيعة حقيقية ...رددها مرارا وبأنفعال أنصاري صميم ..هاش هوشة انصاري بايع في قدير وحاصر هيكس في شيكان وشارك في بناء الطابية المقابلة النيل...فيما بعد علمت محبة الطيب لعكير يجمعهما العهد المهدوي ومسقط الراس في دامر المجذوب... على متن قمرة بديعة في قطار كريمة وما بين محطتي الميجا وحوش بانقا أدخلني الطيب محمد الطيب مدرسة عكير الشعرية وعالمه الشخصي المتعدد الألوان ... الطيب يحفظ شعر وحكايات عكير بحب ووله...لعكير من الشعر أطياف ومن اللغة أفواف وله في الناس معارف وبالدنيا عرف...عندما أحب جاءت كلماته جزلة مغايرة شديدة الطرب:
    يا مولاي بشكيلك شقاي وغلبي
    حظي الديمة من ند الأنيس قافلبي"
    في كل شعرنا الغنائي،قديما وحديثا، لم أجد وصفا يبلغ الإعجاز كأبيات عكير:
    أخدر ليهو ضُل فوقو المحاسن شرّن
    وأفلج فاطرو زي برق السواري إتكرّن
    إتقسّم مقاطِع في المشي وإتحرّن
    زي فرخ القطا الأماتو ركّن وفرّن
    في وصف الطبيعة قال عكير فحفظ الطيب وأنشد وقطار كريمة الشايقي يتسمع طربا:
    الحُقَن إتملن والدابي جاتو فضيحتو
    ومو خاتي إن مرق ضاقت عليهو فسيحتو
    إندشَّ السرح وكرفت هواهو منيحتو
    والمحريب شَهَقْ فتّح قزايز ريحتو
    وفي الحكمة أنشد عكير فأشجاني الطيب بأبياته :
    بيت المحل إن طار....يرك فوق محلو
    ودساس العرق ......نسل المراح من فحلو
    يسوي الزين معاك ......عسلن مدور نحلو
    ويجبرو علي الفسل سالف جدودو الرحلو
    ما بين الميجا وحوش ود بانقا أصلحنا مجلسنا فجلست كما العوض ود عبد العال في مجلس الفقيه عبد الله...تركت المسرح للطيب وسياحة عظيمة في ما أنتج: "تاريخ قبيلة المناصير"، "تاريخ قبيلة البطاحين"،"حياة الحمران من آدابهم"، "حلال المشبوك في الشيخ فرح ود تكتوك"...المحاورات معه لا تنتهي وقصصه لا تمل ...العبقرية في إدغام الجغرافيا بالتاريخ إذ السودان الشمالي أمامنا كتاب مفتوح وقطار كريمة يتهادي ...وكلما أوغل في السير أمعن صاحبي في محاضرته ...يعاود الرجوع لعكير والأمام عبد الرحمن:
    فيك طبع الأسد صالحت او حاربت
    وفيك طبع البرامكة بعدت او قربت
    فيك طبع الملوك شرقت او غربت
    وفيك طبع الحكيم لقمان حلل وربطت
    دق دق دق ....القطار يتهادى على وقع حديث الطيب وأقاصيصه التي لا تنتهي ولا تمل ...قدرته على الحكي وتقمص الشخصيات موهبة ربانية لا تهبها المدارس ولا مناهج التعليم ...شيء رباني ...دق دق دق...برنامج صور شعبية وفكرته ..عبد الوهاب موسى والطيب محمد الطيب ودق دق دق ..حين أسترجع إضافات صور شعبية في إطار جهود بناء ثقافة التنوع تعود بي الذاكرة لقطار كريمة ومحطات ما قبل شندي ... تلك المحطات وما تعلمته من شيخي الطيب ظلت في ذاكراتي وسيظل ...كانت هي أساس المادة التي اشتغلت عليها وانا أكتب عن الطيب بعنوان "التراث رجلا: الطيب محمد الطيب والتركيبة السودانية : ما قبل ود ضيف الله وما بعد حنان بلو بلو" والتي تضمنها عملنا "رحيل النوار خلسة"..واستأذن القاريء الكريم في أن استعيد بعض ما أشرت إليه هناك وأن اعمل فيه ما يتناسب من تبديل وتعديل ....الطيب محمد الطيب ..انطق الاسم يأتيك التراث "دخاخين دخاخين" ..الطيب محمد الطيب ..قل الاسم تتراءى لك مقدمة برنامج "صور شعبية" : صبي الشرق ملاعب السيف، "الحكامة" تشدو ب "الكان داكا ..سيدي سيد الأراكا" معددة مناقب سيدي الخليفة حسب الرسول ود بدر..عريس وعروس بكامل الرونق والبهاء ..جدلة وحريرة وتوب سرتي وحناء ..قرمصيص ونخل وفأل حسن، صبيان الخلوة بألواحهم والشرافة، جماعة حمد النيل يرزم طبلهم وقد استبد الوجد بمقدمهم الذي يدور حول نفسه بتوازن وثبات هو خليط من حرفية راقصي "البولشوى" ومهارات لاعبي السيرك الصيني ..الطيب محمد الطيب قلها واستشرف تراث أمة...صور شعبية كان دليلا راسخا على "التجانس العملى" لأهل السودان واحد المشروعات الثقافية الرائدة على صعيد ترسيخ مفاهيم التراضي والقبول الأثني كمدخل أساسي لبناء الأمة السودانية متعددة الثقافات.
    قطار كريمة وحوش ود بانقا وبرنامج "صور شعبية" الذي قدمه الطيب طوال ثلاثين عاما وبمهنية واحترافية عالية ..."صور شعبية: برنامج عالمي تتشرف به التلفزيونات ذات الحسب والنسب والأرومة ..يحسب للطيب وللبرنامج أنه كان من الرواد في اقتحام هذا العالم على المستويين العربي والأفريقي...لو قدر لصور شعبية أن يعرض في تلفاز محترم من طبقة "البي بي سي" و"سيفليزاشين" لنال أرفع الجوائز ولزار منتديات ومزارات الإعلام والأفلام الوثائقية بل لعل الملكة اليزابيث الثانية كانت أنعمت على الطيب بوسام الإمبراطورية بدرجة فارس ..أو من يدرى، علها كانت ستنعم عليه بلقب "سير" ..برنامج "صور شعبية" ومدلولاته لم يتبينها أهل "ساس يسوس" وتلك فاجعة ..الطيب نقل السودان من منطقة لأخرى فأزال العجب والاستغراب وساهم في خلق الوعي "بالأمة السودانية" ..لم يترك الطيب أمراً محيراً ذا خصوصية إلا وحل عقدته فأضحى على يديه شأناً عاماً...لو لم يقدم الطيب للشعب السوداني إلا صوره الشعبية لكان ذلك وحده انجازاً يدخله زمرة أهل الفضل ولكان كافيا ليتبوأ الطيب مقعدا متقدما في نادي "جديرون بالاحترام".
    محطة حوش ود بانقا...كرامات وقصص وروايات ودق ..دق ..دق ..يبتسم الطيب ورفيقه يهيل الثناء على مجهوداته ومثابرته وجلده ... قطار كريمة يترنم بإضافات الطيب والمحطات تترى والقطر الشايقي يترنم بغناء التومة بت محمود وفاطني بت همت :
    جاب لي توب أسمو الحمام طار
    وجاب لي فركي دموع التجار
    وجاب لي كركب في البيت غيار
    إكراما للقوز ابتدعت السكة الحديد نظام "السندات" ...عند سندة القوز شرع صاحبي في الإفاضة عن الشايقية الذين جاوروا الجعليين واحتلوا بعض مناطقهم ... أول دروسي في الأثنوغرافيا على المسنوى الذاتي التطبيقي كانت على يد الطيب محمد الطيب وهو يسألني لماذا محمد عثمان الجعلي شايقي؟ ... تحول من الذاتي للعام وهو يحكي بمعرفة ودراية تامة هجرة الشايقية القسرية بأمر "الترك" لأرض الجعليين وجنوبها حتى مشارف الخرطوم بحري والحلفاية ...على يديه فهمت مسببات وجود الحوشاب والعونية والسوراب في غير مناطق الشايقية التقليدية ...الكثير مما رواه الطيب لي في قطار كريمة عام 1977 عن هجرة الشايقية وإعادة توطينهم في البسابير وحجر العسل ونسرى وود حامد وحجر الطير وود الحبشي فسره لي فيما بعد العمدة الفخيم محمد العوض ود بليلو غشت قبره شابيب الرحمة والغفران وأنا اجالسه عند ود كدودة وزادني به علما شيخنا ياسين ود زايد حفيد الشيخ الهدي بالكدرو.
    سندة القوز...القوز أكثر أسماء المناطق شيوعا في السودان... من عجب أن بمحافظة القنفذة السعودية منطقة أسمها القوز ...وفي الإمارات وبإمارة دبي تحديداً تشتهر القوز بالمنطقة الصناعية...أعود إلى قطار كريمة ونحن على مشارف سندة القوز... أقول له اسم القوز دون إضافة يتحول لأسم محلي فقط يعرفه أهل المنطقة ولا يتعداهم ولكنه يصير معرفة تامة بالإضافة ... لاهل الخرطوم القوز هو قوز ود دياب...لمناطق شندي القوز هو قوز المطرق قوز العلم حيث العلم القديم ..هناك أيضا قوز رجب وقوز كبرو ..في الشمالية تتكاثر القيزان ..قوز قرافي وقوز ود هندي ...توقف الطيب عند قوز شندي والفجيجة والصالحين من آل صغيرون والسادة الركابية... ومن ثم عرج على قيزان الشايقية ومن ثم الشايقية وتوقف عند غناء الشايقية...قطار كريمة والطيب يسترجع غناء أصول الشايقية من منابته في تنقاسي والقرير والغريبة والكرو والدهسيرة والزومة...لحمة الشايقية تهيمن عليه في مناطق شندي وضواحيها ...للطيب صوت رخيم يغني همسا وبخجل من شعر ست زينب بت الزلال ومستورة بت سعد الله:
    ناس أمي كمان شنو
    آ زول ناس أمي كمان شنو
    في سنوات لاحقة وحين يستبد به الطرب ويقع في أحابيل إغوائنا بالطمسة كان الطيب يردد بصوت جميل خافت مقاطع من غناء الشايقية والمناصير الملغوم:
    أم دقري
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    الليلة يا ام دقري تبرشتي
    وتجيبي حق التموين تجي
    والقطار يهديء من سيره على مشارف شندي بدأت الخص سمات الرجل المهول...المحطة والثالثة ظهرا... مناديل مطرزة في ركنها القصي سهم كيوبيد... ...طاقية حمراء ..طعمية حارة وكتلة المتمة الحارة ....دق دق دق....شندي والمتمة ...إسماعيل باشا والدفتردار والمك نمر...محمود ود أحمد وعبد الله ود سعد ...قلت اقتص من صاحبي الجعلي المهدوي فترفع عن مهاتراتي والزمني حدي ....كان درسا في إمكانية تجيير المحبة الخاصة والمعتقد الخاص لصالح الوطن والامة ...ظل ذلك ديدن الطيب طيلة الأربعة عقود التي عرفته فيها ...سودانيا كامل الأهلية ...سوداني رتب مكوناته واعتقاداته ومعتقداته بتراتبية لا تقدم الفرد على المجموعة ولا المجموعة على الأمة ...المكونات الفردية عنده، ككل حكيم رائد، أوعية دافعة ومغذية لحب الوطن أديما وبشرا وثقافة ..جعليته وأنصاريته صيرتاه سودانيا راقيا مترفعا عن القضايا الجزئية والاهداف الصغرى متجها بكلياته لما هو أبقى وأرسخ وهو السودان الجامع في وحدة التنوع القائمة على التراضي والاحترام المتبادل.
    في عمله المستنير "الحامض من رغوة الغمام" أورد المدقق الموثق كمال الجزولي نص الحوار بين الزاكي طمل وخليفة المهدي كما رواه نعوم شقير.. الزاكي طمل يقول:
    ".. وأمدرمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها،فالأولى بنا أن نأخذ رجالنا وأسلحتنا ونرحل إلى كردفان، فإذا لحقنا جيش الحكومة إليها،وهو لا يفعل ذلك إلا بعد استعداد كثير وزمن طويل،هجرناها إلى (شكا) وهى (دارنا)،فإذا جاءنا إليها قاتلناه ودافعنا عن (وطننا) حتى انتصرنا أو متنا"! .....نعم،لم يكن الخليفة مغالياً حين استشاط غضباً على هذا الارتداد الجهير من (السودان) إلى (شكا)،من وسع (الوطن) إلى ضيق (القبيلة)،فأصدر أمره الفورى لمن على يمين الزاكى:
    "شيِّلو ام اضان"!
    أى ألطمه على صفحة وجهه،ففعل. ثم لمن على يساره:
    "وأنت أيضاً"
    ففعل. ثمَّ أمر به،فجرُّوه إلى (الساير) وكبلوه بالحديد،وسيِّدى الخليفة يضرب كفاً بكف مستعجباً:
    "يا سبحان الله،يستقبح عبد الله ود سعد الفرار،ويقاوم جيشاً ضخماً كجيش محمود بثلاثمائة رجل لأجل (حِلة) واحدة،ونحن رجال المهديَّة وأنصارها نجبن عن حرب جيش الكفرة المخذول لأجل (السودان) كله؟! أنا سأحارب حتى أنتصر أو يقتل جيشى كله فأجلس على فروتى عند قبة المهدى وأسلم أمرى إلى الله" .
    بمثل الدروس المستفادة من هكذا حوار استثنائي خرج الطيب من تجاريبه العميقة متجاوزا سخافاتي في إيقاد فتنة بين القبيلة والطائفة فردني وهو يحدثني عن رموز مدينة شندي وتركيبتها السكانية ....للطيب صبر وجلد غريبين وهو يسعى للحصول على المعلومة التراثية وتدقيقها ومن ثم حفظها ..في بحثه الدءوب عن المعلومة التراثية الطيب لم يكن ينتمي إلى جيله ولا إلى الأجيال السابقة القريبة ..ينتمي إلى السلف البعيد الذي كان يضرب أكباد الإبل مسيرة الأسابيع والشهور للحصول على المعلومة المتناهية الصغر أو لتدقيقها ..يلاقى الطيب كل هذا النصب والكبد في زمن لم تتوفر فيها نتائج ثورة المعلومات ولم تكن قد اخترعت فيه محركات البحث الإلكترونية من طبقة "قوقل" والتي تأتيك بالمعلومة قبل أن يرتد طرف الكي بورد.
    رحلة القطار ما بين التراجمة وكبوشية وجبل أم علي والعالياب حتى الدامر كانت اخصب فترات الرحلة المجيدة.,..تنوعت احاديث الطيب ما بين "التراجمة" المعنى و"ترجمة السرياني" "و"التراجمة" القبيلة التي جاءت من تخوم مدينة الرسول يثرب...كبوشية والحضارات القديمة في "البجراوية" والنقعة والمصورات...أصول الغناء السوداني الحديث وريادة كبوشية عبر محمد ود الفكي وعبد الله الماحي.. ود الفكي واختراق الغناء المديني الامدرماني ...عبد الله الماحي وروائع الحقيبة ...عبد الله الماحي يشدو ب " يا أماني وجار بي زماني لو اراكم اصبح سعيد" و"متي مزاري اوفي نزاري واجفو هذا البلد المصيف"...الشعر لمحمد ود الرضي .. ود الرضي والعيلفون وأم ضوا بان والدبيبة... الطيب وود الرضي والجاغريو ومبارك حسن بركات...الجاغريو و"طار قلبي".... الطيب آخي مبارك وأحبه....مبارك آخر سلاطين الغناء... يصهلل مبارك وهو يسرج بالغناء سابحا في بحور شيخه ود الرضي إذ يشدو ب"تيه وإتاكا" و"ليالي الخير" ...يرجع الطيب لكبوشية والتاريخ القديم والمجد الغابر ... دق دق دق ...العالياب وأهل الخلاوي والذكر والمديح ...من المحطة تبدو شامخة مئذنة جامع الدقوناب ووتسمع الأذن المحبة روائع الشيخ أحمد الدقوني وإبنيه طيفور وبابكر في مدح المصطفى ...ينشدون "من مكة ليل عرج" ويثنون ب "الصلاة والسلام على روح سراج الكون".
    والقطار على مشارف الدامر ...بدأت أراجع سيرة الطيب ...في إيجاز بليغ لخص عبد الله علي إبراهيم جهد الطيب محمد الطيب وإبداعاته في عالم التراث والفلكلور بكلمته النيرة الموسومة "الطيب طويل التيلة" فقال: "مثل الطيب لا تهز الحكومات ''إن قصرت وإن طالت'' له قناة. فعطايا الحكومة هي حيلة أصحاب المشروعات قصيرة التيلة. أما مخاطرة الطيب الثقافية فقد كانت من النوع طويل التيلة. ومشروعيتها أصلاً في رد المجتمع الآبق، حكومة ومعارضة وشعبا، عن الحق والعدل والسماحة إلى الجادة بالاستنجاد بحكمة من الماضي وبركته. فهي مما لايؤجل حتى ينقضي أجل الحكومة الظالمة بانتظار الحكومة العادلة. فمشروع الطيب هو باب في التوتر الإبداعي الذي يتمخض عنه المجتمع الجديد. فهو مشروع للنهضة لا للمقاومة ولا يفل حديده حديد. وصاحب مثل هذا المشروع ''مَدعِي مهمة'' أي مصاب بها لا فكاك له منها"..الا إن عبد الله قد أوجز في الكلام فأفاض في المعنى. وللتأكيد فقط نشير إلى إضافات الطيب المتميزة في عمله الكبير "المسيد" والذي زار فيه ما لا يقل عن عشرة دول باحثا ومنقبا ومتعقبا لتاريخ المسيد هذا غير رحلاته التي لم تتوقف داخل السودان لذات الغرض...لقد كان الطيب حقا وصدقا "طويل التيلة".
    عند تأهبه للنزول في محطة الدامر علمت يقينا بأن المولى قد أكرمني بالطيب كما قال أخي ونحن في بداية الرحلة ...كرم المولى غمرنى وانا آنس بالطيب أخا ورفيقا وصديقا وأستاذا لأكثر من عقود ثلاثة من الزمن الجميل ....قبل مغادرته أهداني الطيب زبدة تجربته وخلاصة نتائجه....علمني وسأظل شاكرا له ما حييت أهمية التراث ومركزيته في شتى المعارف الإنسانية ... "ما تبقى على كلام الخواجات وبس ...حرم شغلك دا كلو أساسو عندك هنا...لازم تقرأ وتستوعب تاريخ السودان ..شوف عندك مناشير المهدي ...أمش لي أبو سليم عندو كنوز ...شوف سعادة المستهدي للكردفاني ..أسال عن كاتب الشونة..أقرأ بابكر بدري ..حتى يوسف ميخائيل وسلاطين شوف شغلهم ...شغل الإدارة حقك دا راقد عندنا في البلد ...علم الإنجليز فيهو النجيض أغرف منو وما تاباهو لكن الني للنار"....الني للنار .. الني للنار....أفاض في التذكر والتوجيه وهو يهم بمغادرة القطار أدركت نعمة الله على بأن هيأ لي معرفة الرجل البحر والإنسان الكبير والأستاذ الضليع.
    بهار الإخوانيات: محن الطيب وشخصياته ذات العجب:
    مالك يا الزمن سويتنا في هوله
    لبست الناس تياباً حاشا مي هوله
    من حسسك تبش دماعنا مبهولة
    اللي الله راحت بقت البواجهوله
    (ود الرضي)
    في كلمة شافية له عن المرحوم الطيب كتب الأستاذ كمال الجزولي :" كم كان، فى زمانه، حديد المشاغبة، شديد اللماحيَّة، منتجاً حاذقاً لبهار الاخوانيَّات اللاذع وعطرها النفاذ! "..كم كان كمال مصيبا...توفيت شقيقتي وأمي وسندي نفيسة بت احمد الجعلي .. أقيم العزاء بدارها بمدني ..الدنيا رمضان ...حضر الطيب فيمن حضر...حضر في سيارة واحدة مع صديق كدودة ومحجوب كوارتي ...بعد المغرب هموا بالرجوع ... ونحن نسير معهم إلى حيث سيارة محجوب أخرجوا مساهمتهم في الفراش ...لاحظنا أن هناك صراعاً بين محجوب وصديق.... السبب؟ المبلغ الذي مع الطيب لا يبلغ المائة ألف وهو ما دفعه الآخران...الطيب طلب من محجوب إكمال المبلغ ...صديق هدد محجوباً بأنه إذا أكمل له المبلغ لن يرجع معه ...عندها كنا قد وصلنا السيارة...قال الطيب لعبد الوهاب :"يا امباشي هاك دي ستين ألف الباقي بلحقوا ليكم في فراش الخرطوم وكتين تجو باكر"...رفض عبد الوهاب تجزئة المبلغ وصاح فيه: "يا خي ما بتخجل جاي ملح وفاطر فطور رمضان في صينية ناس الخرطوم وترمستين شاي وترمسة قهوة وحبة سكري وحبتين بندول وداير تدفع مساهمتك في عزاء نفيسة الجعلي بالقسط؟"...بينما زميلاه يضحكان أمسكني من يدي وقال :"أنت يا كا البتفهم.. وانت جيت الليلة من بره وما حضرت عيا المرحومة ...شوف أولا بالتبادي أنا المرحومة دي دافع ليها في مرضا الأخير مية ألف"..صاح فيه عبد الوهاب:"خمسين بس "...رد الطيب بسرعة :"حرم خمسين مرتين"..قال عبد الوهاب:" لا.. الخمسين التانية دي بنات الجعلي حلفن منها"...رد عليه بصوت عالي:"حلفن؟ ...والله يا حكاية حلفن..يا خي حرم لو ما الكريم ستر بنات الجعلي كانن خرتن أصابعي مع القروش"..التفت إلى :" خليك من الأمباشي ...مية للمرحومة في مرضا ودحين ستين يبقن مية وستين ... وانا وجماعتي باكر في فطور رمضان عند الأمباشي"... توقف قليلا ورفع يديه :"الفاتحة يا أولاد حاج أحمد ..حرم بعد نفيسة راسكم أتقطع" ..وركب السيارة....هذا رجل صالح يألف ويؤلف...كان يعرف مدى الحزن الذي يعترينا فعالجه بترياقه ومنتوجه الخاص من بهار الأخوانيات....كان يدرك تماما فداحة فقدنا فأخذنا بعيدا عن دنيا الحزن قريبا من تخوم النسيان والتأسي.
    من أخوانيات الطيب "محكمة صديق" هذه محكمة صورية "موك" ...مقرها منزل الأستاذ صديق كدودة وهو القاضي...الأتهام والدفاع يتناوب تمثيله الطيب محمد الطيب والفكي عبد الرحمن وصالح محمد صالح والفاضل سعيد...يأخذون الامر بالجدية كلها ...المرافعات التي أطلعت عليها تمثل مستوى استثنائيا في الادب الرفيع... طلبت منهم التوثيق فرفضوا ربما لطبيعة "المناوشة" وما قد يكتنفها من استخدامات للغة خاصة عند الهجاء ...كشعر الكتيبة راحت مرافعات محكمة صديق ...أتاني الطيب مرة في دبي وكان مما جلبه مسودة مرافعة يعدها وصالح محمد صالح ضد الفكي عبد الرحمن والفاضل سعيد...قال لي:" همتك معانا يا خي أنا عند رجعتي راجياني محكمة حارة دحين ايدك معانا"...قرأت المسودة فوجدت فيها جهدا بلاغيا كبيرا ....هؤلاء القوم يعيشون يومهم ويتواصلون اجتماعيا ويقضون مهامهم الأدبية العامة ولكنهم يروحون عن نفسهم في نهاية الأسبوع بالطريقة التي يرون انها تسعدهم...حاولت جهدي أن اتحصل على المرافعات ولم أفلح...جربت أن أسرق بعضها ولكن الطيب كان "نجيضا كعادته"...المحكمة تنتهي بالحكم الذي يصدره صديق ولا مجال للأستئناف أو الطعن.
    لمن يعرفون الطيب يعلمون يقينا قدرته على الفكاهة العملية وقدرته على اكتشاف الشخصيات ذات العجب...الطيب قدم للناس العشرات من الشخصيات الغرائبية ولعل أبرزهم عقيد الخيل وحاج الصديق وزن عشرة وعبد الباسط أب سماحتن جوه وود الخبير...كل واحد منهم عالم كامل بذاته وشخصية لها العجب.
    الطيب أخذ عقيد الخيل بعربته ذات صباح...كان عقيد الخيل يطمح في أن يكون فنانا له شأن ...ذهب للطيب محمد الطيب ليقدمه لوسائل الإعلام...عندما ألح على الطيب لم يجد بدلا من أن يأخذه بعربته يوما وبدل أن يتجه به للإذاعة اتجه به لمتحف التاريخ الطبيعي حيث مديره محمد عبد الله الريح الذي كان يقدم برامجا تليفزيونية في مطلع الثمانينات ...أنزله الطيب أمام المتحف وأوصاه:" دخولك التلفزيون في يد ود الريح ...أصلك ما تمرق كان ما قابلته واخدك للتليفزيون ...لو قالوا ليك ما في أصلك ما تمرق ...أنا العلي عملتو والباقي عليك"...أنزله وغادر المكان ....أحب ود الريح عقيد الخيل وعلاقته به عرفها الناس من خلال:
    يا بوليس المدينة
    مدير الفن بقى لى غبينة
    ما عرفتو زول ما عرفتو طينة
    أو من خلال ربابته التي زينها وصدح على انغامها:
    الملكة الختت الأختام
    وعرفت "فلان" ظلام
    رحم الله عقيد الخيل وأحسن إليه.
    في مجالس الطيب محمد الطيب عرف الناس حاج الصديق أو "وزن عشرة" ..الصديق "وزن عشرة" عليه رحمة الله رجل بجماعة، حصيف، ماكر، ذكى، فكه صاحب دعابة عظيمة ونكات عملية .. "وزن عشرة" مادح ومؤدى وممثل وحكاء بقدر لا يصدق ..قادر على أداء الأدوار الناطقة بصورة إعجازية وقادر في ذات الوقت على أداء التمثيل الصامت "البانتومايم.في كلمته عن الطيب محمد الطيب أشار كمال الجزولي إلى تجربته (والطيب) في حضرة الصديق وزن عشرة ...يقول كمال:
    "وليبدأ العرض فى ليلة لا نظننا ننساها ما حيينا،تكشف فيها حاج الصِدِّيق عن مسرحىٍّ شديد الثقة فى نفسه، والتوقير لفنه. إنطلق يضحكنا ضحكاً كالبكا،وفينا مشايخ ما تنفكُّ أناملهم تداعب حبَّات مسبحاتهم،على أنفسنا وعلى الدنيا من حولنا،ببديع مفارقات يلتقطها،بعين الفيلسوف الناقد وخيال الفنان الخلاق،من شوارع القرية والمدينة،ومن بيوت الأغنياء والفقراء،ومن مناسبات الافراح والاتراح،ومن دقائق تجليَّات مشاعر المزارع حين يحلُّ أجل سداد الديون،بينما تتأخر صرفيات الحوَّاشات،ومن مواسم الحج،بكل ما تزدحم به من سحنات ولغات ولهجات وطائرات وقطارات وبواخر،بل ومن مَشاهِد أسفار قاصدة من مغارب الشمس إلى مشارقها،بأقدام حافية مشققة،وببعض كِسرات خبز مجفف،وبصغار مرتدفين فى ظهور الأمهات. وكان حاج الصِدِّيق يتنقل بين المَشاهِد،فى قمَّة براعته،باقتدار وسلاسة،مُقلداً عويل الريح،وبكاء الرضيع،وثغاء الماعز،وصفارة القطار،وبوق السيارة،وهدير محرِّك الطائرة،وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته،وسخط المزارع المغلوب على أمره،وغنج زوجة التاجر القروىِّ الثريِّ تحاول تسريب طلباتها الباذخة إلى حافظة نقوده المنفوخة! كان يفعل ذلك وحده،خلواً إلا من قسمات وجهه المرنة،واختلاجات جسده الناحل،وتوترات أطرافه المعروقة،وأقصى ما يختزن صدره الضامر من إرزام،وحباله الصوتيَّة من صداح. وكنا،من شدَّة تعجُّبنا منه،نكاد نطير إليه،طيراناً،من (صالة) السجادة إلى (خشبة) العنقريب،نعانقه،ونهنئه،وكذا نفعل مع الطيِّب،منتج عرض (الرجل الواحد) البهىِّ ذاك فى مسيد ود الفادنى،فقد مَنحَنا كلاهما،فى ليلتنا تلك،أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان".
    الطيب كان راوية عظيماً لقصص و"محن "الصديق وزن عشرة...كان صديقه يأتيه بالأخبار والقصص التي لا تشبه أخبار الناس وقصصهم...كنت أزعج الطيب بطلب قصص وزن عشرة ولكنه لم يكن يمل ترديدها مع قدرة عالية على إضافة هوامش متجددة على المتن الأصلي للرواية والقصة تزيدها حلاوة وطلاوة وأسرا للمتلقي.
    عبد الباسط "أب سماحة جوه" وجه آخر من وجوه إبداع الطيب...كتبت عنه وأنا أتناول سيرة محمد عبد الله الريح في عملنا "الحواشي على متون الإبداع" ...في الحاشية عن ود الريح كتبت:"الطيب محمد الطيب أدخل ود الريح عالم عبد الباسط "أب سماحتن جوه" غشت قبره شآبيب الرحمة والغفران .. كان ذلك في بداية السبعينات .. لم يكن الرجل وسيماً بل كان على عكس من ذلك .. لكنه كان مادحاً عبقرياً .. ينطلق "أب سماحتن جوه" في المديح فيغيب عن الدنيا بالكلية بينما يصيح فيه الطيب محمد الطيب : "قلع .. قلع " أى أخرج الصوت من داخلك .. في حالاته وانفعالاته تلك كان "أب سماحتن جوه" "يقلع" حقيقة .. بل كان يقلع إلى شرفات من الوجد لا تدانيها شرفات .. حينها تبين سماحته ووسامته الداخلية.
    ود الخبير شخصية أخرى لها العجب..حين أتى به الطيب لصور شعبية كان الرجل في الثمانين...عاش المهدية ...طفق يحدث الناس عن أحوال الشايقية عندما اتاهم يونس ود الدكيم حاكما..تحدث عن "الزبلعة" وأساليب الشايقية في التحايل على أوامر "سيدي يونس" خاصة فيما يتصل بالمزاج والكيف... كان يحكي وهو غير قادر على تصور معنى ان يكون ضيفا في التليفزيون وعلى الهواء مباشرة..أثناء الحكي أراد ان يتناول حقة التمباك ...صاح فيه الطيب "عمي محمد بعدين بعدين ..نحن في التليفزيون"...رد ود الخبير:"يعني شنو في التليفزيون؟"...إزداد الطيب عصبية :"الناس اسع قاعدين يشوفونا"...رد ود الخبير :" ناسا من وين؟ ووين قاعدين؟"...علم الطيب أن المعركة خاسرة فاستخدم القوة لمنع الشيخ الثمانيني من استعمال الصعوط المتلفز ...كان الطيب يبتسم أمام الكاميرا ويده تضغط على جيب ود الخبير لمنعه من "السفة"...بعدها بعشرات السنين كنت أمازحه بقصة ود الخبير... ود الخبير كان دليل الطيب لأنداية الشايقية ..كان صاحب باع طويل في مجالسها..هو صاحب "التوسل الشهير"...التوسل هو إعلان مجلس الشرب في الإنداية عند جماعة ود الخبير ...يصف الطيب دور ود الخبير في كتاب الإنداية ويورد نصوص توسله :"يقوم ود الخبير بافتتاح الجلسة رسميا ويدخل سبابته اليسرى في أذنه ويشرع في التوسل: ياالبشير في السبلاب، يا ميرغني وعبد الوهاب، يا راجل الظليطاب، يا أبزرقا كوكاب، يا وداعة الله في الحسيناب،يا ضبيع في الكشوماب، يا محي الدين في القدوراب يا العند الله قراب......يا حامد أبو امونة أب سفة بي عطرونة يا البطب المجنونة "....ثم يتوسل بالنساء:" يا مريسيلا بت الأرباب يا الساكنة رأس الساب يا ليبة ونفرين ويا بنات باشا الاتنين...يا أمات زيرا في الأرض شبرين يا المابتقابضن في دين أمات نورا يبق من الجمعة للأتنين".
    كلمات في وداع الطيب:
    طيلة أكثر من عقدين من الزمان كان لقاء الطيب أحد دوافع التشوق الزائد لقضاء الصيف بالسودان ...خلال الأعوام الماضية فجعت في فقد أخوالي (مجازا وحقيقة) الفكي عبد الرحمن ومحمود دبلوك ومن ثم رحل محمد الأزهري وحليم شنان وتبعه الطيب ...هؤلاء كانوا جماعتي وأهل ودي وحبي ومكان احترامي وتقديري ..بينهم ومنهم ومعهم تعلمت ما لا توفره المؤسسات ولا الدولة...هذا الرهط من الرجال حباه المنان محبة الناس والقدرة على إشاعة الود والعاطفة ..يأسرونك بفيض من اللطف والبشاشة الآسرة المطمئنة...رحلوا تباعا ونعلم يقين الله أنهم من طبقة ونوعية قل ان يجود الزمان بمثلها...نحمد الله كثيرا ان هيأ لنا معرفتهم واخائهم ولله ما اعطى ولله ما اخذ.
    في فقد مثل الطيب أراجع سير من أعطوا الوطن والناس ..وانا أكد لأجد كلمات تليق بوداع أخي وأستاذي الطيب تقاطعت كلماتي مع ابيات مضيئة للراحل الكبير جيلي عبد الرحمن وهو يرثي المناضل الكبير والوطني العظيم حسن الطاهر زروق ....يقول جيلي:
    "زنابق مترعة الرائحة
    زهرة الليل تخجل لا تأتلق
    وأنت تغيب وراء الأفق
    أنيس
    تجادلني رحمة وحياء
    تطالعني فجأة
    تغادرني فجأة
    وكل الفصول وعمري النزق
    فداء الذي قد تناءى
    وصلى ثناء لأقطارها النائحة
    وأشعل فينا ضحى البارحة"
    كجيلي عبد الرحمن وحسن الطاهر زروق وأرتال من شرفاء أهل السودان رحل أخي وصديقي الطيب محمد الطيب ...رحل الطيب تزين جيده قلائد الإنجاز الوطني المتميز وكساوي الشرف الشعبي الموشاة بحب الناس،مطلق الناس...كغيره من مشاعل المعرفة والنور والخير والجمال غادرنا الطيب ...رحل ولا شهادة فيه تعلو على شهادة العبقري صلاح أحمد إبراهيم في أمثاله ممن أفاضوا على أهل السودان من ذاتهم وإبداعهم وفنهم ...أعمال الطيب كأعمال أمثاله من الطليعيين يستظهرها السودان وأهله في كلمات صلاح الراسخة الباقية في الناس ما بقي العطاء وما بقي الوفاء:
    هذه أعمالُنا مرقومةُ ُ بالنورِ على ظهرِ مطايا
    عبََرت دنيا لأخرى، تستبقْ
    نفذ الرمل على أعمارنا إلا بقايا
    تنتهي عُمراً فعُمرا
    فهي ند يحترق
    ما انحنتْ قاماتُنا من حِمْلِ أثقال الرزايا
    فلنا في حَالكِ الأهوالِ مَسْرى وطُرُق
    فإذا جاء الردى كََشّرََ وجهاً مُكْْفهراً
    عارضاً فينا بسيفِ دمويّ ودَرََق
    ومُصّرا
    بيدٍ تحصُدنا
    لم نُبدِ للموتِ ارتعاداً وفََرقْ
    ...
    نترك الدنيا ولنا ذِكرُ ُ وذكرى
    من فِعالٍ وخلُق
    ولنا إرثُ من الحكمة والحِلم وحُبِ الآخرين
    وولاءُ حين يكذبُ أهليه الأمين
    ولنا في خدمة الشعب عَرَق
    ( صلاح احمد إبراهيم :نحن والردى)
    jaaly osman [[email protected]]
                  

07-21-2017, 10:47 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    د. محمد عثمان الجعلي

    روّاس مراكب القدرة

    "ضو البيت": وداعا أيها الزين

    د. محمد عثمان الجعلي

    ( [email protected] هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته )

    الجزء الأول

    (دبي :مايو 2009)

    المدارج والعتبات:

    رواس مراكب القدرة:

    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".

    (مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)

    العشق:

    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ

    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ

    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""

    (إبن الخيمي)

    المحبة :

    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".

    (الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)

    الإنتماء:

    "السَمكةُ،

    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

    تَظلُ تحملُ

    رائِحة البَحر"

    (مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181)

    إهداء وعزاء خاص:

    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم

    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..

    ثبت على عمله والتزم الجماعة..

    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..

    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...

    داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...

    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

    المناداة: مرجانة في تماهي الذات في الوطن

    "كثيرون من العشاق يأتون حيّك

    والدم في قلوبهم يسَّرب من عيونهم، ثم يرحلون

    وحدي، عند أعتابك أبقى كالغبار

    فيما الآخرون يأتون كالريح ويمضون"

    (مولانا جلال الدين الرومي: "حين أناديك يا أنت، فندائي بيني وبينك حجاب")

    "إن أي مسعى يبدأ دائما بحظ المبتدئ وينتهي دائما باختبار المقتحم"

    (باولو كويلو : الخيميائي)

    "ليلنا أسودَّ وطال

    نَهارُنا بالكدحِ والإملاقِ

    داج

    هيئوا أنفسكم ..

    مُلكنا من دونِ مُلكٍ

    مُلكنا من غيرِ تاج

    افتحوا أعينكم..

    شوّش الرؤية في أرواحكم

    هذا السناج..

    وأنا قد بِتُّ أُدركُ مَنْ أنا

    وأنا قد بتُّ أفهم

    ما الذي يعنيه كنهُ الوردةِ..

    النبضِ .. السنا

    وأنا قد بتُّ أفهمُ

    ما الذي يمليه.. قيدُ

    القٍبلةِ .. الوطنِ .. الزجاجْ"

    (إيمان آدم خالد: من قصيدة "وطن زجاج" :ديوان "تجاوز بغابة الخيزران")

    هادئا كطبعه أناخ شيخنا الطيب الركاب....لطيفا كالنسيم عبر إلى الشاطئ الآخر ..كالطيف انسرب من بين أعين قراء أدمنوا حرفه اليانع ولغته الجزلة الحية وآذان مستمعين سكنت وجدانهم كلماته المضيئة الحكيمة.. ذهب الرجل مخلفا الباقيات الصالحات الطيبات من أعماله والذكر الحسن ...غادر الفانية بعد أن بقي احدوثة حسنة بعده.

    رحل “ضو البيت” بعد أن سعى جهده لإنجاز مشروعه الوطني الكبير في ترسيخ دعائم عشق الوطن ورفعة شأنه...ذهب بعدما حقق لوطنه ما عجزت عنه حكومات وأحزاب ومنظمات وجيوش وأنظمة.. غادر الفانية وقد نجح في ربط وجوده الكوني الفاعل بالسودان في إيجابية مجيدة بناءة قصرت دونها همة وخيال الرعاة الذين ساسوا الديار فقوضوا قواعدها وهدموا أركانها وأورثوها الدمار.

    من رحمة الله على البلاد وأهلها أن هيأ لها من أبنائها مثل الطيب ضواً للبيت ليضيء لها شمعة باهرة في دياجير ظلمة إخفاقاتها ونكساتها السياسية والإنسانية.. “ضو البيت” كان، ضمن كوكبة نيرة خيرة من أبناء البلاد، ترياق أهل السودان لمتلازمات الفشل وعناوين التقصير...كان حالة استثنائية نادرة لمن سعى فرداً مفرداً لرتق ما تهتك من جسد وروح بلاد لم يبدع أبناؤها في شيء كإبداعهم في تطوير آليات تدميرها والفتك بها...سعى “ضو البيت” فرداً مفرداً لنصرة بلاده، عِدَّتُه مواهب ربانية في العقل والروح فأحبه الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ..عجمهم وعربهم..أحبه الناس وأحبوا من وراءه بلادا تنجب مثل “ضو البيت” :

    "في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وأنا أجلس بمقهى في مدينة الدار البيضاء المغربية اقترب مني شاب مغربي..قال لي :"أنت من السودان؟" قلت نعم"..قال لي:"السودان لا بد أن يكون بلدًا رائعًا لينجب الطيب صالح"..ملأني حديثه زهواً فدعوته للجلوس..قال لي :" قرأت أعمال الطيب صالح كلها وهو عندي أعظم روائي عربي" .. جالسته قرابة الساعة وكان أعجب ما سمعت منه :"إن شخوص الطيب صالح – وعدَّد بعضًا منها – موجودة في الريف المغربي"..حينها فقط أدركت معنى أن يكون الكاتب عالمياً والأدب إنسانياً ...حينها استوعبت معنى أن تتناسل طنجة من مروي وأن تندغم ود حامد في مراكش وان تتواصل الشكينيبة و"الزريبة" مع فاس ومكناس وأن يتآخي في الله أبو هاشم سيدي علي وسيدي أبو الحسن الشاذلي، ومعنى أن ينشد العارف بالله سيدي عبد الرحيم وقيع الله البرعي:

    القوم بتجيك من بلاد بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك

    ذاك كان حديث شاب مغربي مثقف أكدت عليه بعد رحيل الطيب كلمات الأستاذ مأمون فندي في بكائيته وهو ينعي الطيب: "في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمتُّ وهمهمتُ بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغيَّر الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا".

    ذات النقطة ركز عليها الأديب سعيد الكفراوي في رسالته الدامعة في نعى الطيب صالح..يقول:"رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وبت مجذوب وضو البيت ، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني".

    وإذا كانت بيئة الطيب السودانية قريبة من البيئة المصرية فإنها كانت أيضا قريبة من البيئة الموريتانية...يقول الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد محمود ودادي: "بعد قراءتي لـ"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدءوب...وكان "الزين" بالذات في رواية "عرس الزين" تجسيدا لشخصية عشت معها في القرية، جعلتني كلما حننت إلى صبوتي، أعيد قراءة هذه الرائعة".
                  

07-21-2017, 10:54 AM

عبد الصمد محمد
<aعبد الصمد محمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1402

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)


    من أروع ما قرأت مؤخراً
    شكراً كتيراً
                  

07-21-2017, 06:26 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: عبد الصمد محمد)

    تسلم يا عبد الصمد
    جني
                  

07-21-2017, 06:26 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: عبد الصمد محمد)

    من رسائل الراحل الرائع د. محمد عثمان الجعلي إلى شخصي المكلوم .. بقلم: د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد

    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 03 شباط/فبراير 2016
    الزيارات: 1227
    [email protected]
    شتات الشتات : ما بين جلاس مركز مروي ودنفر من أعمال كلورادو

    تقديم

    أخي الحبيب د محمد عثمان الجعلي
    • نعم "إنك ميت وهم ميتون" فالموت حق وهو يدركنا ولو كنا في بروج شيدة
    • من المنطق يا صاحب الكلام المزهر إزاء رحيلك المفجع أن تعصف الريح بأزاهر الكلم الذي يبحث عن معاني توفي حق الحزن عليك وهي التي طالما أوفت لحق الحب لك ، فدنان الكلمات الآن خاوية والبساتين ثكلى ونرى خروج الكلمات ومخارجها تبحث عن مخرج لا لقلة ما يقال فيك وعنك أو صدق ما يعبر عنك وانما لأن الكلمات التي تعبر عنك هي فئة خاصة يصعب مجيئها ...فئة وان أنتجت الحب والدعاء لك إالا أنها تقدم في حضرتك إعتذارا واجب القبول وإستئنافا بين الغرض بأن نمنحها الفرصة حتى تتمكن من استيلاد معان جديدة تكون خاصة بك أنت وحدك. إن الكلمات تطلب منا استخدام من ينوب عنها الآن للقيام بمهمة التعبير العسيرة لذلك سأقبل طلبها كمحب لك محترما رغبتها في المضي بعيدا إلى عوالم أخرى لنحت معان جديدة تليق بمقدمك الأخير مستقرا استقرارا أبديا هانئا في تراب الوطن. في غمرة أحزاني العاتية أورد هنا نذرا من رسائلك الى شخصي المكلوم :

    ابن الشيخ الذاكر

    أخي البرعي عبد الرحيم سمي شيوخ القصيد النبوي "يمنا" و"زريبة"

    أيا فتي تاهت خطاه فاستوت على بلاد "كتر"

    من دنفر إذن؟

    "يا الفي فضاء الله

    مقسوملك الترحال"

    يا رعى الله أياما "خدر "كنا نظن فيها أن ذروة سنام الغربة قطع المالح القلزم.. قطعه قبلنا الآباء والأجداد..قطعوا لجته وشيخنا الكبير حاج الماحي يمد الصوت العبقري الشجي مدحا في الحبيب المصطفى مؤديا " القبة التلوح أنوارا". كانت دمّع حاج أحمد أبي تنزل بل تهمي تف .. تف وأولاد الشيخ يوقعون المديح على الطار الكبير وهم يصورون النصب والكبد الذي عاناه حجاج بلاد تكرور والبرنو وقد انحدروا من سهول كادونا وتخوم كانم وهم " يتكرنون" على ساقين من إيمان ويقين ناهدين إلى قنديل المدينة الهاشمي العدنان كما في " واشوقي عليك يا أحمد عظيم الشان"

    لا أجد وصفا أدق ولا معنى أجزل من وصف حاج الماحي لمعاناة "التكارين " وشوقهم لبطاح مكة وبيت الله والصلاة في روضة المدينة ام سور ..تدبر معي كلام الشيخ الكبير في "اليوم الحجاز لاح ضوا براقو":

    حبك في قلوب الأمة حراقو

    جاب تكرور مدرمس يمشي ساساقو

    حازمين البطون ولباسو دلاقو

    كل زولا قريعة وفي ايدو مزراقو

    نعم طال عمرك .. كنا نحسب أن منتهى الغربة عند باب شريف وسوق الندى وبني مالك وان أبعدنا " فميسنا " البطحاء ومنفوحة الرياض وغبيرتها وان تجاوزنا المدى وأفحشنا في الغربة كانت منتهاها في دبي وما والاها من امارات عربية . هذه غربة كان حد حدودها وسقف أبعادها مواقيت الإحرام : " عرق العراق يلملم اليمن وبذي الحنيفة يحرم المدني والشام جحفة إن مررت بها"

    تلك غربة –أبيت اللعن- كان يغنى لها على الربابة ويبكى عند الارتحال لموافاة مواعيدها...غربة تنشد فيها أشعار وتذرف دمعات ويحن فيها حنين الناقة للفصيل بل و"للقعود"

    من دنفر اذن؟؟ فمن قصيدتك تلك قرأت:

    " بين الحزن والشوق

    تحتاري يا دمعة

    يا الفي فضاء الله

    مقسوملك الترحال

    لا طلة لا هجعة"

    أيها البرعي

    مثل غربتك هذه يكتب فيها أبناء الرومي وليس ابنه الوحيد بكائيات تنشد وقوفا على الطلول الدارسة وتنوح فيها ربّات الخدور نواح أهل النجف وسدنة العتبات الشريفة اذ السنين يا صديقي كربلاء وسيدي أبو عبد الله الحسين (عليه وعلى العترة الشريفة السلام ) مقتولا شهيدا.

    كلورادو اذن ؟؟... نعم الزاد ونعم الترحال

    "وتزودوا فان خير الزاد التقوى "

    يممت شطر كلورادو وتركت خلفك ليس البندر الفوانيسو بيوقدن بل تركت كل بندر وكمل فانوس وقاد و" مبقبق"

    "الدرب انشحط واللوس جبالو اتناطن

    والبندر فوانيسو البيوقدن ماتن

    يا ود أمات هضاليم الخلا البنجاطن

    أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن"

    لعل القائل طه الضرير أو الطيب ود ضحوية أو كما قلت أنت :

    " لا لمة لا هجعة

    الليل وكت يغشاك

    يلقى السكون ذكرى

    وحبل الصبر ركعة

    البرعي

    حياك الله

    اطلعت على القصيدة الرائعة على صفحات " سودانايل " الموقع الألكتروني الذي أهدوني سبيله حيث ينشر لي نقلا عن صحيفة " الصحافة "

    طالعت هذا العمل فتوقفت عنده وعند صاحبه.

    لمحت هذا الاسم أولا فتفجرت أنهار من ذكرى وبحار من ذكريات . تذكرت فيمن وفيما تذكرت صحيفة " الخرطوم " وصفحة المفكرة وجماعة جدة من "الحرافيش "وأنيق حرفك اذ كنت تغشاها حجا وعمرة . كنت تغشاها غبا عملا بالجيد من المأثور" "زر غبا تزداد حبا"

    أنيق حرفك دلني عليك ومن ثم أمسكت "صنارة " المعرفة بسبب وأسباب : الكامل ومن قبل أخي عبد الله ابراهيم ... يا رعى الله الأيام .

    أنا بدبى منذ عامين

    مدينة تزدهي بالألق

    وتأتلق بزهو الشباب

    وتتأنق بتيه "المروة"

    "عيب الزاد ولا عيب سيدو"

    وعيب ساكن المدينة ولا عيبها

    العيب أنني حضرتها وقد هرمت

    أخذت مني رياض الخير ما كان أسودا من شعري

    وأهدتني بياض اللمم.

    قال صاحبنا قديما يعزي نفسه والآخر :

    تقول العاذلات علاك شيب

    أهذا الشيب يمنعني مراحي

    وأجيبه عن تجربة :

    أى نعم يمنعه ودين محمد

    أخذ مني بعض "ربعك " وقتي وقايضوني به سأما وضجرا

    اشتروا ثمين وقتي بثمن بخس ...اجتماعات ذات طول قليلة العائد كثيرة الأسقام

    حرموني من تجويد "النور البراق"

    كم أنا كلف مغرم مدنف بإنشاد الخليفة الكانكيج للبراك

    عند وفاة الخليفة محمد علي عبد الرحمن (البرو) وكان ذا مهابة وصولة وله يد سابقة ولاحقة في اثنتين : الكرم وتأديب اللئام مات ودفناه هوايد ليل. حفر فضل محمد سعد القبر وكعادته رقد فيه قبل إنزال الجثمان وهو داخل القبر صاح في المشيعين:

    " ناشدتكم الله ما اندفن قبل ما الكانكيج يقرالي لوح من البراك" . بعدها بأسبوع واحد فقط لا غير يقرأ باكيا لوحا من البراك ملتمسا الشفاعة في المسجى أمامنا في انتظار الدفن وكان فضل محمد سعد.

    أخذت التصاريف وقتي وحرمتني ممن ومما أحب ...درر عتيق والعبادي تجري على حناجر مبارك حسن بركات وبادي محمد الطيب . أخذت مني اجتماعيات الرياض بعض ولعي وعشقي كتابات أدونيس وأشعاره ...أشعار حسن طلب وعفيفي مطر وعاطف خيري. شعر المعتوهين الضليلين الشوامخ : نجم الأبنودي وحميد.

    ولكنني لست نادما ...لا بل على العكس أنا حامد وشاكر للمولى تجربة أكننها زادا ومحبة إن قيض الله امتدادا في العمر وفسحة في الأيام.

    وختاما استودعك الذي لا يخون الوداعة ولا تضيع ودائعه آملا أن ألتقيك في سانحة أخرى ولا تحرمنا من حلو البديع وجيد القريض فهما مما حباك الوهاب " وأما بنعمة ربك فحدث"

    أخوك /د محمد عثمان الجعلي

    دبى -2002

    الرسالة الثانية:

    البر عي

    ابن الشيخ الذاكر

    حياك المولى وأبقاك واري زند الأمل:

    أنعشتني اليوم ببريدك الذي غمرني بسعادة ذات شعب بهية ثلاثية الأبعاد ...

    سعادة مبعثها الرسالة وفيها دفء التواصل الذي افتقدناه كثيرا وترنحت خطاه ما بين بر المشغولية وسفين التقادم والتراكم الاغترابي سعادة منشأها علم يقين بمنجزك الإبداعي وأنت تصدر "أوتار من القلب" ...هذا إنجاز حقيقيي اقدره كثيرا وقد بقي "رحيل النوار خلسة" عندي حبيسا للأدراج لأكثر من عشر سنوات قبل أن ينتزعه أحد الميامين ويصر على نشره فيما بقيت "حكايات آل السايح " و"الحواشي على متون الإبداع " وغيرها من الأعمال حبيسة كل قرص صلب ومرن !!. هنيئا لك بالمنجز وهنيئا لنا وهنيئا للقارئ السوداني الفخيم الذي يقدر هذه الأعمال الإبداعية بأكثر مما نظن!. سعادة علم اليقين هذه ترقد ،طال عمرك، مترقبة اكتمال بدرها بورود شقيقتها حق اليقين وهي تحمل بشارة ميلاد الكتاب حرفا أنيقا وورقا صقيلا.

    سعادة ثالثة تأصلت في تكريمك لرسالتي المتواضعة لك وجعلها "بوابة" لعملك وهذا تقدير عظيم و"استشانة" لا متناهية بقدرها ("استشانة" من بديع ما نحت صديقي الموسوعي المحامي صديق كدودة من كلام أهله بالجزيرة نسري جنوب شندي: يقولون أن فلان "استشان بنا" أي قدرنا كثيرا وجعل لنا شأنا")...يشرفني كثيرا أن تتبرك حروفي إليك بشيء من دعوات الشيخ الذاكر وان تتدثر بشيء من عبق صوفي يبقى تميمة لنا من إمرة النفس بالسوء وضعفها وشحها وهواها.

    أبن الشيخ:

    أين أنت في مراحل إصدار الكتاب؟

    إذا كانت هناك إمكانية للمراجعة فهناك بعض الأخطاء الطفيفة في الرسالة

    وإذا صدر الكتاب فعلا لا عليك و"أي الكتاب الكامل"؟

    التحايا لك ، وكما قالت عمتك فاطمة بت محمد خير:

    "السلام ليك

    وللمعاك في الاوضة جالسين

    السلام يغري الطرابيش والقلاشين

    والسلام من عين شمش لا حد فلسطين"

    ملحوظة:

    البركة فيكم وفينا في صاحب "حارم وصلي مالك" و"الفراش الحائر" و"لا وحبك"...غنى عثمان حارم وصلي مالك عام 1947 أي قبل أكثر من ستين عاما...ولو سألتني عن أغنيتي المفضلة لعثمان حسين لما ترددت أن أقول "حارم وصلي مالك"...عتيق شاعر مجنون ..طبقة مختلفة..هو بحتري شعر الحقيبة ولا ريب:

    "طرفي إذا تأمل

    في حسان المواكب وضياء الكواكب

    والبدر المكمل

    برضي أراها دونك

    بل وحياة عيونك

    أنت لطيف وأجمل"

    قدرة عتيق وأيضا - بدرجة أقل عبد الرحمن الريح- على ألقاب قواعد التشبيه التقليدية كما في نصوص البلاغة العربية بلغت شأوا عظيما هذا إلى جانب إن صوره الشعرية تتضمن إعجازا تعبيريا حقيقيا كما في "أيام صفانا"...أقول قولي هذا وأظل منافحا دون رؤيتي اليقينية السابقة إن صالح عبد السيد "أبو صلاح" هو متنبئ الحقيبة (والشعر الغنائي السوداني بأكمله).

    ....سال مداد كثير حول رحيل عثمان حسين...غلبت عليه العواطف الجياشة والود والحب الصادقين ...ظاهرة عثمان وكذلك أب داؤود أتوقف عندها دائما في نقطة مركزية ...كانا دون تعليم يذكر وصدحا بالغناء الفصيح المنغم الخالد بمخارج حروف واضحة تماما ودون لحن في اللغة وبتطريب عال ...( لا حظ إن التاج كان كذلك مع اختلاف كبير هو أن التاج جاء من مدرسة السادة السمانية في أم مرح وقد جود اللغة والقصيد النبوي) ...عثمان وأبو داؤود ظاهرتان فنيتان تحتاجان معالجة متخصصة ...قيض المولى لأبي داؤود على المك فنال حظه والله أسال أن ينبري متخصص ليبحث في كنوز عثمان حسين كلمة ولحنا وأداء.

    أخوك الجعلي

    [email protected]

    (عدل بواسطة jini on 07-21-2017, 06:58 PM)
    (عدل بواسطة jini on 07-21-2017, 06:58 PM)

                  

07-21-2017, 10:31 PM

abdalla elshaikh
<aabdalla elshaikh
تاريخ التسجيل: 03-29-2006
مجموع المشاركات: 4001

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    UP
                  

07-21-2017, 10:48 PM

طارق جبريل
<aطارق جبريل
تاريخ التسجيل: 10-11-2005
مجموع المشاركات: 22556

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: abdalla elshaikh)

    انا لله ياخ
                  

07-22-2017, 11:41 AM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: abdalla elshaikh)

    ارجو من الاخ بكري التكرم برفع الخيط البديع
    الف شكر اخ حيدر
                  

07-22-2017, 01:02 PM

عبد الصمد محمد
<aعبد الصمد محمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1402

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: Osman Musa)

    Quote: ارجو من الاخ بكري التكرم برفع الخيط البديع
    الف شكر اخ حيدر
                  

07-25-2017, 00:08 AM

abdalla elshaikh
<aabdalla elshaikh
تاريخ التسجيل: 03-29-2006
مجموع المشاركات: 4001

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: عبد الصمد محمد)

    يا جنّي يا رايع !!
    للجعلي كتابة فارقه بعنوان تغريبة بني شقيش و هي حكي سوسيولجي عن حالة الشتات السوداني نشرها أخونا المرحوم الناقد أحمد الطيب عبدالمكرم بجريدة الخرطوم بالقاهرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي فلو عندك قدره أرفدنا بيها !!
                  

07-25-2017, 04:49 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: abdalla elshaikh)

    التغريبة يا صديقى للدكتور محمد عبدالله الريح صديق عمره وخدنه.
    جني
                  

09-09-2017, 03:09 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    مَنْصـوْر خَـالِـد: خَطـَراتٌ ناعِمَـةٌ في الثقـافةِ والفَـن .. بقلم: جَمَـال مُـحَـمّــد إبراهيْـــم*

    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 16 آذار/مارس 2016
    الزيارات: 1236

    مَنصور خالد: خَطراتٌ ناعِمَةُ في الثقافةِ والفن. .
    1- مفتتح الكلام :
    أقلّ قراءِ منصور توغلاً عميقاً، في كتبهِ كثيرة الصفحات، أو في مقالاته القصيرة، لن تُخطيء أعينهم ذلك الحرص من قبله، على الإلتزام بلغةٍ بلغتْ شأواً عالياً من الدّقة والحصافة والبهاء. إنّ أكثر من يتناولون التأريخ الإجتماعي أو السياسي لبلدٍ ما، ينحون إلى الإهتمام بالوقائع والأحداث، دونَ كثير اعتناءٍ عند أكثرهم، بأسلوب الكتابة، بلاغةً وتجويدا. عند منصور تجد أنّ كتاباته في التاريخ الإجتماعي والسياسي، تعتمد أسلوباً أدبياً راقياً، يأخذ من اللغة أجمل كلماتها، وأقواها سحراً وجاذبية، مُستعيراً من تراثها النثري والشعري، ما يضفي على مقاصد وصفه وتحليلاته ، القوّة في الحجّة، والسداد في الإقناع. وهو بذلك يُذهب عن ذلك التأريخ جفافَ السرد، ويُبعد عن تلك الوقائع رتابتها.
    ولربّما اختلفَ معه مَن طالع آراءه وبعض حججه، أو بعض مرامي نقده السّاخر، لكن يظلّ ذلك المُطالعُ أسيراً للغةٍ، بلغتْ درجة سامية من السلاسة والجمال والشاعرية ، وهو ما قد حقـق لمنصور تميّز أسلوبه، وفرادة بنيان عباراته، وأكثرها – كما نلاحظ- هيَ من نحتِ قلمه، ومن تلاوين حبره. إنك إنْ قرأتَ بضعة أسطرٍ من مقالٍ لمنصور، فستعرف بصمة أسلوبه بيّنةً ، قبل أن تقرأ إسمه على ذلك المقال. . لإن استسهلَ بعضُ الصحافيين، وأكثر من دبّج المقالات والكُتب التي تناولت قضايا التاريخ وأمور الوطن، الكتابة بلغةٍ خلتْ من لغة الإبداع الأدبي ، فكأنّ اللغة الأدبية السامية الرصينة عند هؤلاء، هي وقفٌ على الأدباءِ كُتاب الروايات وناظمي الشعر. أما عند منصور، فإنك تجد حرصاً على سموّ اللغة قد يفوق حرص كتّاب الأدب والروايات على ذلك السموّ. ولقد ميّز منصور أسلوبه ببيانٍ ناصع، منذ نشره مجموعة مقالاته التي ضمّنها لاحقاً أول إصداراته، وهو كتابه الشهير "حوار مع الصفوة".1 فهو وإن إستند على إرث في الأدب العربي تليد، تجده يخاطب بلغة العصر، أفقاً مستقبلياً مُنتظرا. .
    كتبَ جمال محمد أحمد، وهو يُسهب بمقدمتيه لكتاب منصور ذاك، الذي صدر في أول طبعاته عام 1974:
    (أثلجتْ غضباته صدور أكثر الشباب، لأنهُ واحد منهم، يتميّز عنهم ببيانٍ يقنع، يُعبّر عن ذاتهم كما يُعبّر عن ذاته، فهي تحسّ ما يحسّ، ولا تملك ما يملك هوَ من معرفة بتجارب عالمنا العربي والأفريقي يتصدّى لدقائق الحكم والإدارة والتعليم والثقافة. يستلهم تجاربه الثرّة يخيف الواحد بنشاطه الجسدي والذهني، تأتيك رسائله من أطراف الأرض يبث فيها مشاعره وأفكاره ويحدثك عن الذي قرأ من سياسة وأدب. لا ندري متى وجد الفراغ، وعن الذين لقى من أئمة الفكر والسياسة..)2
    إنهُ حديث رجلٍ عرف منصور عن قرب، وعرف مِقدار مطالعاته في مختلف أحوال الفكر والثقافة والسياسة. ذلك ما يفسّر موسوعية ذهن منصور وتجلياتها في كتاباته الفكرية، يرصّعها بهوامش مرجعية ، وبإحالات فيها من التراث المعتق، مثلما فيها من إشارات إلى محطات الفكر المعاصر. تحمل هوامشُ كتاباته ما يحمل المتن من فوائد إضافية . .
    سأعرض في هذه الورقة إلى خواطر لمنصور، حول اهتماماته الأدبية والفنية، ممّا صرّح به في بعض كتاباته، أو أشار إليه في حوارات صحفية عديدة أجريت معه، وممّا عرفتُ عنه من نظرٍ في هذا المجال. رصد الكاتب الصحفي عبد الماجد عليش بعض هذه الجوانب، وضمّنها كتابه : "منصور خالد: ملاحظات ، أسئلة بدون إجابات".(2014) 3، والذي اعتمدتهُ مرجعاً ضمن مراجع أخرى لورقتي هذه. تبدو أكثر هذه الخطرات، فارقة ولا تندرج ضمن نسق كتابات منصور السياسية ، غير أنّها تعزّز في الحقيقة، من موسوعية اهتماماته الفكرية ، وتجعل منه رجلاً يمشي بين الناس متماهياً معهم، بفكره ورؤاه ومزاجه. أتناول على التوالي بعض اهتماماته، محاور أربعة هي في الرثاء وفي "غناء الحقيبة" وفي أدب السيرة الذاتية وفي التشكيل والرسم والموسيقى.
    2- في أدّبِ الرِّثاء:
    جاء في القاموس المحيط رثى ورثوت فلاناً، بكيتهٌ وعدّدتَ محاسنه، وبين الرِّثاء والنّعي بونٌ واسع، إذ النّعي في القاموس هو الإنباء بخبر الموت فحسب. ومنصور يرتي أصدقائه المقرّبين ، أولئك الذين أسهموا بقدر في الساحات العامة ، فيرصد في رثائياته طرفاً ممّا خبر عنهم من محاسن ومساهمات، وَيُعدّ ما يكتبه إضافة تكمّل نظراته في التأريخ الاجتماعي لحركة التغيير في البلاد. والرثاء قد يبعد عن النظر الموضوعي، إذ يتناول المحاسن دون غيرها، ولكن برغم ذلك ، فإن للرّصد وللتوثيق فيه مكاناً مقدراً وصادقا.
    لعلّ أوضح تجلّيات منصور الأدبية السامية، وأسلوبه الجاذب الباهر، رأيتها متمثلة فيما قرأنا له من مرثياتٍ نثرية حميمة، عمّن عرفَ ولازمَ وصادقَ وقارب. وكتاباتُ منصور في أدبِ الرِّثاء- وهو جنسٌ أدبي أعطاه منصور من فحولة اللغة ومن ملكته الفذة في اصطياد الكلمات والمعاني اللؤلؤية قدراً كبيرا- هو ما يحسب إضافة غير مسبوقة لهذا الجنس من الكتابة. ولقد استصحب في رثائياته أسلوبه في التوثيق لجليل أدوار هؤلاء الرّاحلين، بما يكمّل نهجه في كتابة جوانب التأريخ الإجتماعي للبلاد، وفي ذات الوقت لا يحول ذلك دون التعبير عن مشاعر الحزن الجيّاشة لواقعة الرّحيل وللخسارة في الفقدان.
    أحدّثُ هنا عن بعض نماذج منها بغية تبيان تلك المقاصد. لا أورد لك مرثياته الشهيرة ، مثل تلك التي سطّرها في الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، أو في نقيب الطّرَب السودانيّ أحمد المصطفى، أو في زرياب السودان خوجليّ عثمان. لكنّي أحيلك إلى بعض نماذج من رثائياته الباهرة .
    كتب مُختزلاً يصفَ مِيتة صديقه السفير صلاح عثمان هاشم، وهو مُكبٌّ على كتابه :
    ( ولهذا فإنْ ماتَ صلاح وحيداً فما مات في وحدةِ الغربة، كما حسب بعضُ أهله وصحابه، بل مات مع جلسائه الذين اصطفى، وخير جليسٍ في الزمان كتابُ. . ويا لها من ميتة جاحظية. . )4.
    ثم تقرأ له عن الفنان التشكيلي السينمائي حسين شريف، فلا ترى دمعات تذرف بلغةٍ باكيةٍ فحسب، بل رؤية ثاقبة لأسلوب فنانٍ "يقتحم أحراش الواقع" :
    (.. كان مرسمه في القاهرة هو الواحة التي ألجأ إليها هرباً من عالم السياسة وهو عالم تحكمه شريعة، أفضل منها شريعة الغاب. داهمني نبأ وفاته وأنا في نيفاشا فبكيته في داخلي ولم أعزّي فيه أحداً غير إسماعيل عبدالله الفاضل عبر الهاتف، فاسماعيل أعرف بالحسين ممّن عداه. عند حسين في القاهرة، كنا نتحدث مراراً عن الفن والغناء ، نتوقف عند من رحلوا منا وفي مقدمتهم علي المك وأبو داؤد. في مرسمه، كنت أتوقف كثيراً عندما يرسم لأن في تصويره اقتحام غريب لأحراش الواقع ) 5.
    زاوية منصور التي ينظر عبرها إلى فاجعة الرحيل، زاوية مؤثرة فتخاله يحثك أن تقف معه عليها ، لترى حميمية علاقته بالراحل الذي خصه بكلمات باكيات، فترى الفاجعة بعينيه.هو يستعيد الحميمية التي عاشها ورحلت مع من رحل.
    كتب منصور عن الوزير السفير الرّاحل موسى عوض بلال :
    (ما أكثر ما كنتُ أسعى إلي ذلك الصديق أبحث عن ما يُسلي كلما تكأكأت على الناس عساكر الهمّ في عهد الحكم الذي تشاركناه. . ذلك عهدٌ أتاح لنا أن نخالط الأبرار الأخيار، كما قضى علينا بأن نُعاشر قوماً آخرين لا يُرتجون في شِـدّة، ولا يصبرون عند كريهة، وبين أولئك كنت ورفاق آخرين، غريباً غربة أميّة بن أبي الصّلت :
    وَما غربة الإنسانِ في غير داره ولكنها في قرب من لا يُشاكِلُ)
    أما صفيّهُ الطيب صالح، فيقول عنه :
    (..أكثر ما يدهشني فيه هو أنّهُ أقلّ الناس عبئاً على مجالسيه، وأكثرهم صبراً على الفارغين من كلِّ شيء، علّني لا أغالي إن قلت : إنني لم أرَ للطيب ضريباً في الصّدق مع النفس). 6
    ويبدي الأستاذ عليش رأياً، رأيته مفارقاً للموضوعية، وهو أنّ منصور في مرثياته، يصدر عن قدراته العقلية، أكثر ممّا يصدر من قلبه وعاطفته وشعوره الخالص.7 لكأنّ عليشاً أراد من كاتبٍ عكف على التعبير بلغةٍ ساميةٍ، حملتْ بصمته لسنين عددا، أن يتنازل عنها ليكتب مراثيَ بلغةٍ أدنى، حتى يقال إنه يرثي أصفياءه وقامات البلاد السامقة، بقلبٍ صادق.
    3- منصور و"غناءُ الحقيْبة" :
    في سعيهِ للتوغّل في ذلك الذي شكّل وجدان مدينته التي نشأ فيها ورافقه الأمدرماني على المك، عاشق ترابها ، ظلّ منصور يرصد "غناء الحقيبة" في أم درمان، كيف تطور فن التطريب فيها من "الحُمبي" الصوتي و"الحلقمة" غير الكلامية، إلى غناءٍ بشعرٍ ملحون كتبه بلسان العامة ، شعراءٌ خرج أكثرهم من مرحلة الخلوة والتعليم التلقينيّ الأول. نهل أكثرُ أولئك النفر من الشعراء الشعبيين، من الأدب العربي والشعر الفصيح خاصة ، بهمّة ذاتية عالية، ولم يصقل مواهبهم معلمون في المدارس أوالكليات، ولكنك تجد منهم المنخرطين في مهنٍ بسيطة، فيهم النجّار والكهربجي والحوّاتي والبقال والحدّاد، لكن تجد شعر المعلقات راسخاً في صدورهم. لكأنّ هذه المهن التي يعرفها ويتعامل مع منتسبيها غِمار الناس، هي التي اجتذبتهم لدورٍ ينتظرهم في الصياغة التلقائية لوجدان المدينة الناهضة من وعثاء الفترة التي سبقتْ الحكم الثنائي، وهي فترة حكم الخليفة "عبد الله التعايشي" في دولة المهدية، أواخر سنوات القرن التاسع عشر، والتي ما كان متاحاً فيها المجال لتطوير الغناء أو التطريب الصوتي والموسيقي. لعلّ أقصى ما أطرب الناس ذلك الزمان، هو إنشاد المادحين في المناسبات الدينية، و"ضربهم النوبة " حتى "تئن" في أيام المولد النبوي الشريف ، كما في قول الشاعر محمد المهدي المجذوب في قصيدته الشهيرة عن تلك الاحتفالات. 8
    لا تبرح ذاكرتي في سنوات الصبا الباكر في مدينتنا أم درمان، مارشات شباب طائفة الختمية، يعفّرون تراب الطريق، وهم يُنشدون : "شيء لله يا حسن."
    لاغروَ أن نجد "غناء حقيبة الفن" الذي عرفناه لاحقاً، بهذا الوصف الذي أطلقه عليه الشاعر السفير صلاح أحمد محمد صالح، قد خرج من خاصرة الأماديح الدينية، ومن حلقات المادحين، وإنشاد المتصوّفة الشعبيين. ولأنّ مثل هذا الغناء قد فارق المعتاد، مُرتحلاً من الدينيّ إلى الدنيويّ، فقد واجه إدانة إجتماعية ضارية أوّل عهده. ثم إنك تتلمّسَ روح التسامح قد سرت رويدا رويداً في روح مدينة زاخرة بتنوع إثني وألسنة شتى ، بلغ تأثيرها أكثر أنحاء الوسط النيليّ في السودان.
    حين يتهادى صوتُ عوّض ورفيقه إبراهيم شمبات، ينشدان من شعر القبطيِّ ابن حيِّ المسالمة في أم درمان، مُسعد حنفي:
    (الناعسات عيونن
    نور جبينن هــلّ
    ما بين تبرِ صافي
    وأخضراني اللون..)
    أو حين تطربك غنائيات ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعه، من شعر الأمدرماني سيد عبد العزيز :
    (لَي نيّـة في قمــر السّــما..
    مَقاصدِي هوْي ما أجسَمَه
    حـيّ المسـالمة ومسـلمة..)،
    كيف لا يبين للرّائي روح المدينة ينبض تسامح أهليها قي طيّات ذلك الغناء الشجيّ..؟ لمنصور وقفاتٌ على مثل هذا الغناء الذي يمثل بتجذره في أم درمان، وجدان الوسط النيلي.
    غير أننا نلاحظ أنّ منصور كثيراً ما أشار إلى نيته إخراج كتابه عن فنِّ "غناء الحقيبة"، ولكن تأخّر ذلك كثيراً. ولربّما نجد عذراً في ذلك، لرجلٍ تأسره ملكة التوثيق الدقيق، والركون إلى المراجع الرصينة، فيما أكثر تاريخ فنّ الغناء السوداني القديم، والذي يرجّح أن تكون بداياته في العقد الثاني من القرن العشرين، بقيَ تراثاً شفاهياً مُحرزاً في الصدور، ولم يتم توثيق أكثر مراحل تطوره، في مراجع مكتوبة متاحة، إلا في ما ندر.
    ويُرجع منصورُ اهتمامه بالتأريخ لفنِّ "غناء الحقيبة"، إلى تشجيع وجده من صديقيه : (على المك الذي كانت له اليد الطولى في جمع نفائس الغناء السوداني بغية التوثيق لها، وعثمان حسن أحمد المؤرّخ الحاذق والعليم بأسرار الثقافات وسير الرجال)، حسب تصريحه في حوار صحفي نشرته صحيفة "الرأي العام"، وأشار إليه عليش في كتابه.9 ويرى منصور أنّ في ذلك الاهتمام، نابع من الإهتمام بقراءة التأريخ الاجتماعي لأم درمان بالنظر إلى فن "غناء الحقيبة"، ذلك الذي عرفته أم درمان وتطوّر في حواريها، وبأصوات من قدموا إليها وأقاموا في تلك المدينة الناشئة، والخارجة من جراحات معركة كرري عام 1898م . وشهدتْ مدينة أم درمان بعد ذلك، حراكاً وطنياً مقاوماً للسلطة الحاكمة التي يمثلها الإداريون البريطانيون، ومن عاونهم بدرجة أقلّ من المصريين في سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات التالية من القرن العشرين الميلادي المنصرم. كان للغناء الذي عُرف لاحقاً بـ"غناء الحقيبة"، سهماً غير منكورٍ، وموازٍ بقدر كبير لجماعات المطربين ومنافساتهم، تماهياً مع المنتديات التي توسعت ونمَتْ لتشكّل، عبر جماعة "أبي روف" وجماعة "الهاشماب"، تحزّباً يشابه تحزبات الحركة الوطنية. لهذا النوع من الغناء سهم إيجابي، برغم النظرات الظالمة التي رمى بها مجتمع مدينة أم درمان، تلك الفئة من المطربين ، فانتهى أكثرهم إلى مصائر مأساوية ، ربّما لم يكتب لبعضهم من تقديرٍ يذكر، إلا بعد سنوات من نيل البلاد إستقلالها.
    لنا أن نتوقع من منصور، إبن أم درمان والتي كثيراً ما افتخر بنشأته فيها، أن ينشر ما أعدّ عن فن "غناء الحقيبة" والمطربين والشعراء الذين كانوا وراء ذلك الفن ، مرفوقاً بتحليل موضوعي يضع "غناء الحقيبة" في مكانه الصحيح في مَشاهد الحركة الوطنية السودانية، التي مهّدت وصول البلاد إلى عتبات الاستقلال عام 1956. قال بلسانه، أنه سيتفرغ إلى ذلك.."متى ما فرغنا من سخف السياسة".10 نعرف أنّ منصوراً قد احترز من "غناء الحقيبة" كنوزها وأكثر، وأنّـهُ وجد سبيلاً أعانه على الوصول إلى منابعِ ذلك الفن ، غيرَ أننا نأمل أن لا يطول انتظار قرائه لهذا السِّفر الهام، الذي سيعين على فهم كيمياء تلك المدينة في تبرها وترابها. وما إشارتي إلى أم درمان، إلا لأنها بؤرة الوسط النيلي السوداني ومصهر التثاقف الذي يُقدّر أن يكون له الأثر البيّن في تشكيل مفردات الهوية.
    نُقدّر أنّ مثل تلك الكتابات، تفارق خطّ منصور الذي ألِفَ، وذلك التأنّي عنده، مصدره الحرص على إحكام التوثيقِ والتصنيفِ وإثباتِ المراجع، لكلّ ما يريد أن يقول أو يحلّل، وذلك ديدن ذهنِ مَن لا يُلقى الكلام على عواهنه. في سنوات الحراك الوطني، وخلال العقود الأولى في القرن العشرين ، كان للشعر وللغناء وللطرب الموسيقي حراك موازٍ . سترى لشعارات المرحلة: "السودان للسودانيين" أو شعارات الاتحاد مع مصر، ظلال عند شعراء الشعب مثل "العبادي" و"خليل فرح" و"ود البنا" و"أبوصلاح" وسواهم، كما تجد ظلالها عند مطربي تلكم السنوات مثل "كرومة" و"فضل المولى زنقار" و"سرور" و"إبراهيم عبد الجليل" إن ذهن منصور لن يغفل عن كلّ ذلك.
    4- بَيْن الخاصّ والعام في السيرة الذاتية:
    إن كتابة "السيرة الذاتية" تعتبر جنساً أدبياً مستحدثاً، لم يتجاوز عمره إلى الآن (2015م) المائتي عام 11. وإنْ عرفنا أنواعاً من كتابات عربية سجّلت مذكرات لأدباء ورجال دولة منذ سنوات بعيدة، إلا أن كتاب "اعترافات جان جاك روسو" في القرن الثامن عشر الميلادي، هو الذي دشن هذا الجنس الأدبي في الغرب. أما في المشرق، فقد دشنه في الأدب العربي الدكتور طه حسين بكتابه "الأيــام" (القاهرة، 1942 ). ولقد ثار جدل متواصل حول حقيقة وطبيعة هذا الجنس الأدبي، غير أنه لا خلاف حول تفرّده كإبداعٍ أدبي قائم بذاته. فهل سيُقدم منصور خالد على كتابة سيرته الذاتية التي قد تقترب من "الخاص"، أم سيكتب ما يمكن أن يوصف بالـ"مذكرات" التي تقترب من "العام". . ؟
    في بعض الحوارات التي أجريت معه، عبّر منصور عن تردّده في كتابة سيرته الذاتية ، وربما لا نحسب ذلك ممانعة عن كتابتها ، ولكنا نرى في ذلك تحفظاً من قبله ، حتى يجد الصيغة التي تعينه في الركون إلى أسلوب جديد يخصّه ويتخيّره لكتابة سيرته الذاتية. لقد عبّر منصور صراحة عن إصراره على عدم تناول الخاص في سيرته، إذا ما قدّر له أن يكتبها فستكون "شذرات" من سيرته الذاتية. ذلك يوافق الغرض من كتابة سيرته الذاتية التي من المناسب أن نشير إليها بحسبانها مذكرات، وذلك لاتصالها بتجربته الشخصية في العمل السياسي العام، وهو الذي كثيراً ما أشار أن لا شيء يهمّ الآخرين في "الخصوصي" من سيرة حياته. لقد ذكر ذلك الرأي في لقاء صحفي له مع الأستاذ كمال حسن بخيت، ونشر في صحيفة "الصحـــافة" في عام 2001 ونقله عليش في كتابه عن منصور خالد. 12
    من الطبيعي أن لا نخضع رغبته هذه إلى مزيد من حكِّ الجلد بأظفارٍ متشكّكة. لكنّي رأيتُ أنّ هذا النوع من السّرد الذي يسترسل فيه الكاتبُ متناولاً وقائع حياته الشخصية، هو في حدّ ذاتهِ نمطٌ من أنماط الكتابة الإبداعية، ما عهدناه مِن قلم منصور. ذلك نمط من الكتابة يتطلّب نوعاً من الدربة والحذق والتجريب المتصل بفنون السرد الحكائي. لا أرى مثل تلك الملكات ممّا مما يميل إليها بيسر كاتبٌ تخصّص قلمه في تناول سيرة وطنٍ لا سيرة شخصيات، أمور عامّة لا خاصّة، وبقدرٍ طاغٍ من التحليل، والتشخيص الأقرب إلى التشريح، وبمباضع تتوغّل عميقاً في اللحم الحيّ، في وقائع سياسية لمسيرة بلدٍ، يختلط فيها السياسي باالثقافي وبالاجتماعي. هذا قلم منصور الذي قال عنه مُحقاً د. محمد خير عثمان: "منصور كاتب مُبارز. . لا يدخل الحلبة إلا والعصا معه.." 13
    نرجو أن لا يُفهم أن في هذا الزّعم، ما يقلل من امتلاك منصور للغة الباهرة التي تعبّر عن فكره، أو تفرّد أسلوبه البديع في التناول، مثلما أوضحنا أول هذه الورقة . كلا . إن كتابة السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية ، تتطلب قدرات تختلف عن قدرات التحليل والإبانة والتشريح النقدي . إن الحكّائين هم أفضل من يكتب السيرة، ذاتية كانت أم غيرية. أشار الكاتب المغربي محمد شكري إلى إشكالية تصنيف بعض أعماله، مثل كتابه "الخبز الحافي"، فقال : "أنا لا أقول إنها رواية ولا أقول في نفس الوقت إنها سيرة ذاتية مكتوبة بتاريخ مسلسل، فهي سيرة ذاتية مروية، أو سيرة ذاتية بشكل روائي".14
    وتؤكد تلك الإشارة ما جاء من الكاتب الفرنسي جورج ماي: " أن أدب الكتابة عن الذات استعار جلّ تقنيات الرواية الحديثة (...) كاتب السيرة أديب فنان، كالشاعر والقصصي في طريقة العرض والبناء، إلا أنّهُ لا يخلق الشخصيات من خياله"..15 ويُضيف د.مصطفى الصاوي بأفصح من ذلك بقوله، "إنّ أدب الكتابة عن الذات، يحتوي بعض ملامح الإبداع الروائي"..16
    من الممكن تصنيف كتاب "الثلاثية الماجدية" ( الخرطوم،(2000) كـ"سيرة أسرية" ذات نفسس صوفي. إلى ذلك يقول منصور عن تأليف ذلك الكتاب: "إن هناك دافع مهمّ وهو أن هذا التراث بدأ يتبدّد نتيجة التعامل الاهلي معه بإهمال أو كأحراز كان يجب الاحتفاط بها داخل السحارة . ." 17 ذلك يعكس حرصاً أكيداً عند منصور، في دعوته للخروج من دائرة التوثيق الشفاهي الآيل للنسيان، إلى التوثيق المكتوب، القابل للحفظ في أشكال، تتجاوز شكل "السحارة" الذي أشار إليه في تعليقه، ويتدرج إلى براح يتيحه على الشبكة العنكبوتية التسجيل الرقمي وسواه من أشكال حفظ المواد الثقافية . ذلك جهد محمود ويوفر ديمومة لتراث يشكل طرفا من تاريخنا الإجتماعي.
    5- عَن التشكيل والموسيقى :
    لكَ أن تجولَ بعينيك في دار منصور في قلب الخرطوم، فترى أيّ متحف غنيّ بكلِّ فريد من آيات الفن التشكيلي حولك. سترى المنحوت من الفن الأفريقي ، مثلما تجد لوحات كبار تشكيلييّ السودان، على كلِّ جدارٍ في تلكم الدار. "ابراهيم الصلحي" و"شبرين" و"كمالا" هنا. والراحلان "عثمان وقيع الله" و"حسين شريف" وسواهما أيضا. أعمال سودانية ووجوه أفريقية كثيرة. حصانٌ خشبي منحوت بحجمٍ طبيعي وكأنه حصان طروادة، ينتصب في الواجهة. أعمالٌ تشكيلية من ثقافات شتى، لا تجتمع عند أحدٍ إلا أن تكون عند منصور خالد. عنده تتكامل جماليات الفكر مع تجليات الفنون. .
    تجد لمنصور ذائقته الموسيقية التي توافق مزاجه، وهوَ مزاج أقرب إلى الإنطواءِ المُثمر منه إلى الانفتاح المجانيّ، ويُحدّث أنّـهُ يلوذ بكتبه وبالموسيقى، يسمعها عند أهليها الألمان والروس.18 لكنّهُ- وهو الذي طربَ لـ"كرومة" ولـ"سرور" في صباه- لا يُخفي إعجابه بشباب الغناءِ الناهض في السودان، كعاصم البنا أو علي السقيد أو جمال فرفور. . إنّ الذهن الذي يُعلي من تنوّع الثقافات في مناحيها كافة، يرى تجلياتها- لا في السياسة فحسب- بل في فنّ الغناء والموسيقى والرسم والنحت والتشكيل، وله الذائقة التي تتسع لكلّ ذلك . .
    سلوا الفنان الصلحي وسلوا الفنان شبرين، وسلوا كمالا. .
    لمّا كان الصلحي نائباً للمستشار الثقافي في سفارة السودان في لندن، أوائل سبعينات القرن الماضي، رأى منصور- وهو رأس الدبلوماسية السودانية- في قدرات الرّجل الخلاقة المبدعة، ذلك الجانب الذي يؤهّله لخدمة الثقافة والفنون في السودان، بأكثر من فعاليته المتواضعة في تلك السفارة. زكّاه منصور لوزير الإعلام أنذاك، ليتولى مهمّة إنشاء مصلحة للثقافة تلحق بوزارة الإعلام ، ويقدّر لها أن تخدم وتدعم أيضاً الدبلوماسية الثقافية في وزارته، وهي ما يشار إليها بلغة اليوم بـ "الدبلوماسية الناعمة". تلك الرؤية الثاقبة هي التي حدَتْ به ليزكّي إبراهيم الصلحي ويرشحه لتولّي تلك المهمّة الجديدة في وزارة الإعلام. أشار الفنان الصلحي في سيرته الذاتية، أنه تم استدعاؤه من لندن للخرطوم، لينشيء مصلحة للثقافة تتبع لوزارة الإعلام، بناءاً على اقتراحٍ من د.منصور.19 ما كانت لتسقط من ذاكرة منصور، عبقرية زميله في مدرسة "وادي سيدنا" ، إبراهيم الصلحي، الذي كان يساعده في إصدار جريدته الحائطية ويزيّنها برسوماته الإيضاحية، وهما صِبية في تلك المدرسة الثانوية المميزة. 20
    من التشكيليين الذين كانوا محلّ احتفاءٍ مِن قبل منصور، تقف امرأة فنانة باذخة المقام، هي كمالا ابراهيم إسحق. إنها امرأة وضعتْ أوضح بصمّة في ساحات الثقافة، في العقود الثلاثة التي أعقبت الإستقلال والتي شهدت بزوغ التيارات الثقافية والفنية مثل "مدرسة الخرطوم" ومدرسة "الغابة والصحراء" و"السودانوية" وسواها. جاءت كمالا بتخصّصها المميّز والنادر في الفن التوضيحي وفن الجداريات. وما أن تولّى منصور ملفّ الدبلوماسية السودانية، أوائل السبعينات من القرن الماضي، ومنطلقاً من رؤية ثاقبة، وإدراكٍ واعٍ لدور الثقافة والفن في صياغة خطابٍ دبلوماسيٍّ يلهج بهوية السودان، بفسيفسائيتها العروبوية والأفريقانية، حتى كان للتشكيل وجودٌ على جدار وزارته ، فكانت لكمالا ابراهيم اسحق فرشاتها التي زيّنت مكتب وزير الخارجية، ثمّ رسمت على الجدار الأرضي الجنوبي لوزارة الخارجية السودانية ، ما يشكّل عنواناً فنيّاً لدبلوماسية ناهضة .
    لم يقف اهتمام منصور على لوحات كمالا الإيضاحية تلك، لكنه استحثّ سفاراته أن تكون مكاتبها وردهاتها ، معارض دائمة تحدّث عن فنون السودان التشكيلية وثقافاته. كان للفنانة كمالا والفنان عبدالرحيم حاج الأمين دورهما في إعداد لوحات "الفريسكو" لنحو ثلاثين سفارة من سفارات السودان. بعد اتفاقية السلام في عام 1972، والتي كان لمنصور بذله المشهود فيها، فقد استفتحت وزارة الخارجية تحت قيادته، صفحة جديدة تُحدّث عن سودان يملك من مقومات الثقافة والفنون ما يعزّز تطلعه لاستدامة سلام دائم في السودان.
    ثم هناك أحمد شبرين، صِنو الصّلحي في "مدرسة الخرطوم". .
    لقد كانت لمنصور رؤيته لاعتماد دبلوماسية الثقافة والفنون، ذراعاً مهمّاً من أذرع وزارة الخارجية السودانية. .
    6- مًستخلص :
    تدور أكثر كتابات د.منصور حول القضايا السياسية في السودان، وإن لاحظنا أنّ انشغاله بالشأن العام، لم يبعد ذهنه الموسوعي عن اهتماماتٍ إضافية بالتأريخ الإجتماعي لمسيرة البلاد، واتصال ذلك أيضاً بنظرته لحركة الآداب والفنون وتشابكاتها مع الحراك السياسي. إنّ مفكراً سياسياً مثل د.منصور، لا يقف على على حدود ما خبره وتخصّص فيه ، بل تناول موضوعات إضافية تتصل بالتعليم وبتوثيق بعض الجوانب الناعمة في الحياة السودانية، كرثائه لبعض الأخيار ممّن عرف، ومثل كتاباته عن التصوَّف وفنّ الغناء والفنون التشكيلية، وما لها من أثرٍ في تشكيل الشخصية السودانية وتلوين وجدانها. يُشكّل كتابه "الثلاثـيــة الماجديــة" ( 2000م) وكتاباه المزمع إصدارهما، عن "غناء الحقيبة"، وعن تجربته الحياتية العامة، إسهاماتٍ في هذا الاتجاه. ونلاحظ أنّ الكتابين الأخيرين، يمثلان نمطاً جديداً، ليس ممّا اعتاد عليه قلم د. منصور. ذلك ما قد يفسر في تقديرنا تأخير إصدارهما ، إذ من الطبيعي أن كاتباً مثل د.منصور، لن يستعجل إخراج مثل هذه الكتابات، لما تتطلبه من جهدٍ إضافيّْ في جمع المواد وتمحيصها، وفي التحليل الموثق وضبطه، برغم من ملاحظتنا أنه وجد التفرّغ الذي تمنّاه بعد تخلصه من هموم السياسة، بعد استغراقه فيها أكثر سنواته .


    إنتهى
    ينااير 2016

    هــوامــــــش

    1- منصور خالد : حوار مع الصفوة –الخرطوم ، 1974.
    2- جمال محمد أحمد : مقدمة لكتاب منصور خالد: حوار مع الصفوة - 1974، مرجع سابق ، ص 16.
    3- عبدالماجد عليش: منصور خالد: ملاحظات ، أسئلة بدون إجابات: الخرطوم، عام 2014 .
    4- منصور خالد: النخبة السودانية وإدمان الفشل- 1986- صفحة 314.
    5- عبدالماجد عليش: 2014 مصدر سبق ذكره، ص 318 ، نقلاً من صحيفة "حريات" عدد 23/12/2008.
    6- محمد المهدي المجذوب: "نار المجاذيب" ، الخرطوم ، 1969، قصيدة المولد-ص87 325.
    7- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 312.
    8- محمد المهدي المجذوب: "نار المجاذيب" ، الخرطوم ، 1969، قصيدة المولد-ص87.
    9- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 315.
    10- عليش : مصدر سابق، ص 405.
    11- مصطفى الصاوي: السيّر والمذكرات في الأدب السوداني"، م. ع. م. - أم درمان، 2012 ، ص
    12- عليش : مصدر سبق ذكره، ص 362.
    13- محمد خير عثمان: "المدخل إلى بخت الرضا وأوراق أخرى"، مدارك للطباعة والنشر- الخرطوم، 2014، ص250.
    14- محمد شكري: "مفهومي للسيرة الذاتية الإنشطارية" ، مقال في كتاب: الرواية العربية واقع وآفاق- دار ابن رشد، بيروت 1981، ص 221.
    15- جورج ماي : "السيرة الذاتية" :1979 (ترجمة عربية) ، ص82.
    16- مصطفى الصاوي: "مصدر سبق ذكره، 2012 ، ص 190.
    17- عليش : مصدر سابق، ص374.
    18- عليش: 2014، مصدر سابق، ص 413.
    19- ابراهيم الصلحي: قبضة من تراب، الخرطوم، 2012، ص 61.
    20- إبراهيم الصلحي : المصدر السابق، ص 192.


    * جمال محمد إبراهيم سفير متقاعد وكاتب، نشر عدداً من الدراسات والمقالات في الصحف السودانية والعربية، وصدرت له في 2008 دراسة عن نشأة وزارة الخارجية السودانية، إلى جانب عدد من الأعمال الروائية والشعرية والأعمال المترجمة.

    [email protected]
                  

09-09-2017, 03:14 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    Quote: رحَل صاحبُ القلم الذي لم يَجِف ولم يَرتَجِف

    جَل .. المُصاب

    عند رحيل الأستاذ عبد القادر حمزة، صاحب البلاغ وشيخ الصحافة في مصر، شَيعَه عباس العقاد بشعر مبين، ومن جميل وصفه لشيخ الصحافة الراحل:

    جَل المُصاب بفقد عبد القادر ** ويَحَ البيان على المبين الساحر

    المستعين على السياسة بالحجى ** والعلم والقلم القوي القاهر

    والحجة العليا التي ما طأطأت *** يوماً لمنتقم ولا لمُناظر

    هذا وصف لا أجد أبلغ منه في التعبير، أو اكثر مطابقة لمقتضى الحال في الإبانة،عن مناعِت شيخ من شيوخ الصحافة السودانية، رحل عنا قبل عشر أيام مضين، ولما نَرعَوِ بعدُ إلى جميل الصبر على فقده.

    * محجوب .. المَعْلَم والمُعَلم

    لم يكن كاتبنا الذي نبكيه اليوم كاتب مقال تحليلي يكشف فيه عن خفايا السياسة، أو صحاب مباحث نقدية يجادل فيها خصومه الفكريين لإثبات صواب، أوإفحام مُناظر. كان مَعْلَماً ومُعَلماً في مجال من مجالات الصحافة هو المركز التي تتشعب منه الفروع: الأخبار. نعم هو المركز ولهذا نُسبت إلى الخبر الإضمامة من الورق التي تصدر بإنتظام وتنقل لقارئها ما يدور في شتى الميادين (Newspaper). في ذلك المجال فاق محجوب النظراء في الأحاطة بالخبر، والتثبت من مصدره، وإستجادة سباكته، وقبل ذلك التمييز بين ما هو خبرٌ صُلب (hard news) وما هو هش (soft news).

    على يدي محجوب تربت أجيال من ناشئة الصحفيين، أصبح لبعضهم شأن إذ كان صحفياً ثَبْتاً يلتزم في أدائه كل المعايير والقيم التي تضبط العمل الصحفي، فمن أبجديات الصحافة: بسط الحقيقة دون تزويق، والولاء للقارئ، لا لأحد غيره، والمصداقية التي لا تتأتى إلا بتقصي الأمور وإقامة الحجة على صدق كل ما يُصدر الصحفي و يورد، وقبل كل ذلك الأمانة المهنية. الأخيرة خصلة تُكسب بَعناء وتفقد بيسر وبساطة كما كشف ويكشف لنا الزمان. كان محجوب عثمان راعياً لتلك القيم، ملتزماً تلك المعايير مما حمله على أن لا يلوث الخبر برأي، أو يدنسه ببهتان. فعند أهل المهنة الرأي حر والخبر مقدس. طيلة معرفتي به لم أره _رغم إنتمائه الحزبي_ يجعل لهواه الحزبي سلطانا على ما كان يروى من خبر، فالصحفي الأمين لا يجعل نفسه عبدأً لحزب أو يمكن سيدأً من إعتباده، ناهيك عن أن يسخر صحيفته للإستعباد.

    علاقتي بمحجوب ضاربة في القدم، فأول لقاء معه كان في مبدأ عمله الصحفي بجريدة الرأي العام، ولما أزل يومذاك طالباً في جامعة الخرطوم. كنت، فيما توفر لي من فراغ، أستريض النفس وأنمي القدرات في مجالات كثر كانت تستهويني، ومنها الصحافة. تعرفت يومئذ على نفر غير قليل من شباب الصحافة، وكان من بين من ألفت نفسي منهم محجوب حتى ثبتت في قلبينا مودة كما “ثبتت في الراحتين الاصابع”. لهذا لم يكن الراحل يتجشم أدنى مشقة لكي يحرضني على تناول موضوعات وقع في ظنه أنني أملك أن أضيف بها جديداً على القارئ. من ذلك حضه لي على تسجيل رحلاتي إلى الخارج، وكنت منذ ذلك الزمان الباكر أهوى السفر في داخل السودان وخارجه سعياً لإستكشاف المجهول. ولعل أول سلسلة مقالات نشرت لي بصحيفة سياره كان هو ما نشرته تباعاً الرأي العام بتقديم من محجوب عن زيارات شبابية قمت بها إلى إيطاليا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا والدنمارك. تلك المقالات تولى، من بعد، مكتب النشر جمعها وإصدارها في كتيب.

    إرتحل محجوب، من بعد، إلى الأيام وظل في منبره الجديد الذي أصبح له من المالكين، يلحف على بالكتابة، ونشر عني مقالات عددا منها ما لا يتفق البتة مع عقيدته السياسية، ولا يتماثل مع رؤاه الفكرية. محجوب وصاحباه: بشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح أفلحوا في أن يجعلوا من الأيام مؤسسة أكثر منها دار نشر، الأيام لم تَعُد صحيفة، بل أضحت بيت خبرة يؤهل الذين إنضموا إليه فنياً ومهنياً وأخلاقياً، ولكل مهنة قيم تضبط السلوك ومعايير تحكم الاداء إن لم يلتزم بها سالكو المهنة أصبحوا ذوي أطمار لايؤبه لهم، والطِمر هو الثوب البالي.

    كثر من زملائه الحزبيين، لا سيما من أبناء جيلي، كانوا يتساءلون عن سر العلاقة بين “الزميل” محجوب وهذا الفتى “البرجوازي”، أو قل مشروع البرجوازي. كنت أعجب لأولئك الذين لا يرون في الإنسان غير وجه واحد منه، ولا يدركون أن في الحياة ما هو أمتن وابقى من السياسة لإدناء النسب بين الناس، والتأليف بين ميولهم وأمزجتهم. فالنفوس يتجاذبها حب الفن والخير، ويقرب بينها حب الشعر والغناء، ويدنيها من بعضها البعض حب الحسن والجمال، وقبل ذلك حب الله ونبيه. كأنى بهؤلاء لم يسمعوا قول القائل: “أحببته لله في لله”، أو كأنهم لم يتلقوا شخصاً سره ما رأى فضرب على صدره وقال: “أحب النبي”. في صحبتنا تلك كان يسعنا الماء والشجر ونحن نصغي، عند السماع، إلى ما نظمه الصاغ محمود ابوبكر والأستاذ عبد القادر إبراهيم تلودي. هذه علائق يصعب كثيراً على من ضاقت مواعينهم إدراكها، ولو أراد الله بهم خيراً لوسع لهم في الماعون.

    * غياب ومَعَاد

    غاب محجوب عن سوح النشاط الفكري في الخرطوم خلال ما يربو على العقد من الزمان ثم عاد ليستقبل سوداناً آخر: “لا الأهل أهل، ولا الديار ديار”. هو نفسه أصبح شخصاً آخراً. فالصحافة التي وهب حياته لها قد تطورت تطوراً ملحوظاً في جانب، ودُمرت تدميراً فاحشاً في جانب آخر. فمع التطور المهني غير المنكور برزت إلى الساحة صحف دورها الأول والأخير هو نسج الأباطيل، وخلط الوقائع بالشائعات. صحف لا تعرف أن للخبر قدسية كما كان محجوب يعرف، ولا ترى في حرية الرأي إلا الإستباحة كما ينبغي أن لا تكون، ولا تروى خبرأً إلا من جهة الفساد، ولا تُفتي في أمر إلا وتُغرِب في الفتوى دون وازع من ضمير أو هدى من كتاب منير. غايتها في الحالتين هي الإعتام لا الإعلام. وبحمد الله فقد عصم ربي عن هذه الظاهرة الوبيئة صحفاً عديدة، وصحافيين كُثراً آثروا البقاء حيث يجب عليهم البقاء، ضميراً للشعب. مع ذلك اضحت الأقلية الفاسدة المسحوقة هي الأعلى صوتاً. تلك الصحف وصفها نزار قباني “بالجرائد التي تخلع ملابسها الداخلية لكل حاكم من بطن الغيب جاء، ولكل مراب يلمع في راحتيه الذهب”. حَسبُنا الله ذو المعارج من أناس لا يستحيون من الكشف عن عوراتهم من أجل كسب مادي، فالحياء يُلجم حتى الفقراء المحاويج عن ذلك. ذلك الألم النفسي كان قاسياً على محجوب، ومازال قاسياً على كل حادب على الصحافة السودانية ذات التاريخ المجيد.

    إلى جانب الألم النفسي لحقت بصديقنا الراحل، علي المستوى الجسدي، آلام وأوجاع تضاعفت في سني عمره الأخيرة وقد توج الشيب هامته في جلال ومهابة، كما يتوج الجليد مرتفعات الألب، ناصعاً وسامقاً. عاود محجوب الإطلال على قرائه، وهو في صنكة، وما نمى لعلمهم ما كان عليه من أوجاع لو مُني بها رضوى لأهتز. كان جسمه ِبعَرض سقم إلا أن البديهة كانت حاضرة. وكان الداء يهتضم كليته إلا أن الفؤاد لم يُنخَب والبصيرة لم تضل. حمل نفسه، رغم تلك الأدواء، على أن لا يغيب عن قرائه حتى لا يكتب مع الشياطين شيطاناً أخرساً. ولو كان محجوب يكتب ما عَنّ له ليسود الصحاف لهان عليه الأمر، ولكنه كان يكتب عن قضايا الناس والألم يعتصر قلبه والداء ينهش جوفه. ما أقسى الكتابة بقلم يغمسه الكاتب في شرايين قلب أدمته تباريح الهوى في شبيبته، وأضنته بُرحاء المرض عند المشيب.

    * في دار أبي سفيان

    إزدادت معرفتي بالراحل وثاقة في سنوات الإغتراب، ولكم حمدت له سعيه للقائي في لندن حيث أقمت ردحاً من الزمان، وفي نيروبي حيث قضيت بضع سنوات، ثم في القاهرة التي أزمنت فيها، في قاهرة المعز كانت لنا أيام مع من تحن لهم النفس، ويهفو القلب، ويسكن الفؤاد ويطمئن. كانت اللقيا أغلب الأحيان عند أستاذي الأثير محمد توفيق احمد ورفيق دربه في سني عمره الأخيرة محمد نور السيد. كانا يتشاطران داراً أضحت كدار أبي سفيان، كل من دخلها أمن العثار. كنا نسعى اليها كلما أفتقدنا المسرة عند قوم جمعتنا بهم السياسة ولكن فرق بيننا وبينهم أن جمعهم كان لا يُدخل في النفس أو القلب إرتياحاً، ومنهم من كان بالمسرة ضنين حتى على نفسه. نلجأ إلى تلك الدار ننزل فيها نزول كريم على كريم، ومن كمثل توفيق في الحفاوة بالأصدقاء، والوفاء للصحاب، والإيفاء بالعهود. في القاهرة توفاه الله وبوفاته فقد الوطن واحداً من أكبر عاشقيه. ثم من كمثل نور في الإيناس بالطرائف، وتشمير الساعد في مصيفه ومشتاته لإكرام الأضياف. ولئن ذكرت اليوم نوراً فلأنه بقى من أكثر اصدقاء محجوب حنواً به، ورفقاً عليه، ومواساة لرجل كانت ثروته الوحيدة التي يُكاثر بها الآخرون، ويتكثر بها على الجاحدين، هي صحبه الأوفياء. كان محجوب، في قرارة نفسه، يكره الجاه والوجاهة، ولا يتبرم بشئ قدر تبرمه بالمال. مع ذلك كان يوقن إيقاناً تاماً أن الشرف قد أدركه كما أدرك المنصور. روى محمد بن سلام الجمحي أن جارية للمنصور رأته مرقوع القميص فقالت: “خليفة وقميصه مرقوع”. قال ويحك أما سمعت أبن هرمة:

    قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه *** خَلِق وجيبُ قميصه مرقوع

    كان محجوب هو الفقير الغني، فالرجل بلا مال فقير، ولكن الأفقر منه رجل ليس لديه إلا المال. في أعماق نفسه كان محجوب صوفياً. أحب الحياة على طريقته، وأصطحب الناس على طريقته، وجالد المرض على طريقته، ثم عاش وكأنه لم يولد، ومات وكانه لم يعش، أي عاش ومات على طريقته. كان في أعماق نفسه أيضاً يدرك أن مآله قبر متواضع. ومخطئ من يظن أن في القبور مستقر، فالقبور يتوارثها هالك عن هالك ثم تندثر ويطأها البشر بلا رفق ، أو لم يحدثنا شيخ المعرة :

    “خفف الوطء ما أظن اديم الأرض إلا من هذه الأجساد”

    ذهب محجوب ولعل اول دين نؤديه عنه بعد مماته هو المزيد من الشكر لرجال ما أنفك يشكرهم حتى رحل. الأطباء الذين توفروا على علاجه بصدق واريحية وحِنة بالغة. الثلاثي البارع الذي تنطس في دقائق مهنته: شاكر زين العابدين، عمر إبراهيم عبود، الفاضل محمد عثمان ومعهم د. سليمان حسين سليمان مدير مستشفى سوبا الذي رفض رفضاً باتاً إرهاق محجوب بأية نفقات مالية طوال فترة علاجه. هؤلاء هم الذين ظلوا يباشرون علاجه يوما بيوم دون كلل أو ملل، وفي صبر دؤوب وأهتمام بالغ حتى أخذ الله وديعته. أذكر أيضاً الدكتور خالد إبن صديق العمر والدار الجَنب أحمد عبد العزيز الذي إستنقذ محجوباً ورد له الحياة من مرحلة خطيرة عبر بها وبعد عملية جراحية لشريان صناعي دامت سبع ساعات. من تلك العملية أفاق محجوب معافى وعاش إلى حين ثم مضى، والحَينُ قد يسبق جهد الحريص. رحم الله شيخ الصحافة، ولا غالب إلا الله.
                  

09-09-2017, 03:31 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اللغة الباذخة كاداة من أدوات السعادة ومت� (Re: jini)

    مقال الدكتور منصور خالد

    جريدة السياسة الكويتية
    يناير 1985


    وقد كان فوت الموت ســهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعـر
    فأثبت في مستنقع المـوت رجلـه وقال لها من تحت أخمصك الحشر
    غدا غدوة والحمد نسـج ردائــه فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجـر
    مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشـتهت أنها قبر

    وما كان لمحمود أن يرد عنه غائلة الموت بالجزع، فما جزع من المصائب إلا من اتهم ربه.. وما كان ليدفع عنه البلوى بالانخزال أمام المهووسين، وبدع الدجاجلة، واضطغان الذين ما استطاعوا عبر ما يقارب نصف قرن من الزمان أن يجابهوا الرأي برأي أوثق.. فإن فعل خان ماضيه، وتنكَّر لتعاليمه، وقد عرف الناس الراحل الكريم، على لينِ عريكتِه، رجلاً أصمعيَّ الفؤاد، صلب القناة.. إن الذي يأبى على نفسه من الدنيا الفضول - ولا يطلع غيره على ما لا يعلمه عنه إلا الله، لا ينكسر أمام الموت كما يفعل "إمام" آخر الزمان الذي أكداه السعي وراء الحياة، فراراً في كل معركة، ولواذاً عند كل لقاء، وتهالكاً أمام كل مجابهة، فأين مروءة محمود من مِرائه، وأين حلم محمود من غلوائه، وأين تواضع محمود من خيلائه، وأين جرأة محمود من انخزاله وانزوائه..

    إن اغتيال محمود محمد طه، شهيد الفكر، لرزءٌ أكبر من أن توفيه الدموع السواجم. وما اغتال محموداً دهرٌ خئون، وإنما انتاشته سهام صدئة، أطلقها قضاة تالفون، ودعاة عاطبون، وحاكم فاجر، معتل العقل، آن له أن يلجم..

    لقد ذهب محمودٌ إلى رحاب سنية، وجنابٍ حانٍ، وهو راضٍ، وكيف لا يرضى بذلك، الرجل الذي يودع فلذة كبده، وعينه لا تدمع، وهو يقول لمن جاء لعزائه "لقد ذهب ابني إلى أبٍ أرحم"!! نعم! ذهب محمود إلى ذاك الأب الأرحم، وبقينا نحن في خُلْف شعورٍ وزمانٍ عقيمٍ عقم الخصي الأوكع الذي قتل أباً شجاعاً فتاكاً - نعم! بقينا نحن في زمان كزمان الصوفي المتبتل أبوبكر الواصلي، زمانٌ ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة، فما أشد أهل السودان اليوم حاجةً، وقد استبدت بهم الدواهي العظام، والكروب العضال إلى ذوي الرأي السديد والعزم الحديد.. أوغبن في الرأي وخورٌ في العزيمة؟! معاذ الله!

    لقد كانت دعوة محمود، على اختلاف الرأي حولها، دعوة مفكر حر، ما حمل يوماً عصا، حتى ليتوكأ عليها وهو الشيخ الذي قارب الثمانين، وكانت رسالته لمثقفي السودان، الذين أجدبت فيهم الأفئدة، وظمئت العقول، وأظلمت الألباب، كانت رسالته للمثقفين حتى يملكوا زمام أمرهم، ويوغلوا في دينهم المتين برفق، بدلاً لتركه للسفلة، السقاط، من المتاجرين بالدين والمطمورين بالخرافة، والمبخوسين حظاً بين الناس يوم قسمت العقول..

    وفي البدء كانت الكلمة، وقد بدأ محمود كلمته بالدعوة لخلق الجمال "لأن الله جميل يحب الجمال" ولا مكان للحب والجمال في نفوس الحاقدين والحاسدين، ناهيك عن القتلة السفاحين، وقد كتب شهيد الفكر في أول عدد من الصحيفة "الجمهورية" في الخامس عشر من يناير 1954 تحت عنوان "خلق الجمال":

    ((نحن نبشر بعالم جديد، وندعو إلى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل، معرفةً عملية، أما ذلك العالم الجديد، فهو عالمٌ يسكنه رجالٌ ونساءٌ أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات، فهم في جميع أقطار هذا الكوكب، متآخون، متحابون، متساعدون، قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم وفيما حولهم من الأشياء، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب، تسمو بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة، تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر))

    ففي البدء كانت هذه الكلمة، التي تدعو لعالم لحمته الحرية، وسداه الحب، ولا حرية مع الطغيان والخرافة، ولا حب مع الغل والحقد. وما قال محمود شهيد الفكر بأنه يعرف هذا العهد الجديد، كما يردد الأدعياء القاصرين، الذين يسعون لكتابة الفصل الأخير من تاريخ الإنسان، وإنما قال "نحن نبشر به"، وما قال محمود بأنه سيخلق هذا العالم الجديد الحافل بالزهر والثمر، كما يدعي الذين يتحدثون عن البعث الجديد وهم يذلون البشر بالتبول على رؤوسهم، وإنما قال "نحن ندعو إلى سبيل تحقيقه"، وما قال محمود وهو الأديب الأريب، لا الثأثأ الفأفأ، بأنه سيد العارفين الذي لا تكتنف دعاويه ذرة من شك، وإنما قال "إنا نعرف ذلك السبيل". ومن أجل كل هذا أحب الناس محموداً مع اختلافهم عليه. كان هذا هو البدء، ثم مضى في أخريات أيامه، - عوداً على البدء- يدعو مثقفي السودان للحوار الفكري، الحر الطليق، حول أمور دينهم ودنياهم، بدلاً من تركها للموميات المحنطة، والمنافقين المتكذبين باسم الإسلام. فقد عرف أهل السودان، كما عرفنا الدعاة الأطهار، وقد خلت نفوسهم من الغل، وسلمت أفئدتهم من الحسد، وطهرت ألسنتهم من الإسفاف، وتجافت أرواحهم عرض الدنيا الزائل، لا كشاف أئمة آخر الزمان الذين ما تركوا معصية إلا وولغوا فيها. ومن هذا رسالته (( النهج الإسلامي والدعاة السلفيون)) ديسمبر 1980 والتي جاء فيها:

    (( إن على المثقفين ألا يتركوا ساحة الفكر، لعقليات تريد أن تنقل تحجرها إلى الحياة باسم الدين، وتريد أن تصفي باسم تحكيم الإسلام سائر مكتسبات هذا الشعب التقدمية التي حققتها طلائـعه المثقفة عبر صراعها الطويل من أجل الحرية والمساواة، ثم على المثقفين أن يتخلصـوا من مواقفهم السلبية المعهودة نحو مسألة الدين فيكسروا الاحتكار الذي ضربه الدعـاة الدينيون حول الدين. إن المثقفين، في الحقيقة، لهم أولى بالدين من هؤلاء الدعاة الأدعياء الذين حجَّروا، وجمَّدوا الدين، ذلك بأن المثقفين يمثلون روح العصر، بأكثر مما يمثلها هؤلاء)).

    لقد أحسن شهيد الفكر الظن بدعوة نميري للإسلام، وما كانت تلك الدعوة إلا كلمة حق أريد بها باطل، فما أراد النميري الإسلام إلا سوط عذاب، وآلة تعذيب يقهر بها الخصم، ويروع بها المناهض. وما كان لذي الصبوات في شبابه، والنزوات في كهولته أن يفعل غير هذا، بل ما كان غريباً - والحال هذه- أن يمضي صاحب الدعوة المزعومة للبعث الإسلامي، دافعاً بالسودان إلى بدعٍ لم تعرفها الدولة الإسلامية إلا في عهود الانحطاط التتري والشعوذة الأيوبية، والطغيان المملوكي.. فما عاد الإسلام هو الإسلام، ولا أصبح السودان هو السودان، ودون الناس هذه المخلوقات الديناصورية التي أخرجها النميري من حظائرها. والتي لا مكان لها في عالم اليوم، إلا في متاحف التاريخ الطبيعي.. كما أحسن شهيد الفكر الظن بمثقفي السودان وهو يستحثهم للدفاع عن حقـهم في الحياة، وفي التفكير، وفي الإرادة الحرة الطليقة، فوقفوا - أغلبهم ذاهلين- أمام بدع الجاهلية، وضلالات المهووسين وتقحم المتفيقهين.. وكل ذلك باسم الدين، والدين منهم براء!! ومع كل هذا الهوس والتعصب المذموم، المزعوم، صمت هؤلاء الأدعياء المنافقون على انتهاب بيت المال على يد خازنه، وصمتوا على بيع ديار المسلمين في مزاد مقفول لمشترٍ واحد هو "الخاشقجي"، وصمتوا على تجاوز الحاكم لأحكام السماء في تعامله مع ذوي البأس من غير المسلمين، كما فعل مع المصارف الأجنبية حول الربا، وصمتوا على هرطقة الحاكم وهو يساوي نفسه بالرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات، وصمتوا على تجاسر الحاكم وهو يفترض لنفسه عصمة في دستور حاكه بيده، والعصمة لم يعرفها الإسلام إلا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عصمه بارئه، وصمتوا على خيانة بيضة الإسلام وهو يتقاضى الثمن الربيح على تهجير يهود إثيوبيا لإسرائيل. صمتوا عن كل هذا، فالإسلام في عرفهم هو القطع والجلد والتشهير بالشارعين في الزنا.. وعلم الله أن الزناة الحقيقيين هم زناة الفكر والقلم، "وستكتب شهادتهم ويسألون"..

    وعلَّ مثقفي السودان، قد رأوا ما يمكن أن يقود إليه الهوس الديني وشهدوا ما يمكن أن يؤدي إليه صمت الشياطين الخرس عن الحق.. ويا ليت أهلي يعلمون! يا ليتهم يعلمون، أن الطاغية الذي لا يقتصد في محاسبته رجل مسالم هو أول الناس إجفالاً عندما يلوح له بالعصا، فما سلَّ "الإمام" سيفه إلا أمام أعزل، وما طالب الطعن والنزال إلا في ساحة خلاء.. ودون الناس توسله وتضرعه للصنديد جون قرنق في أدغال الجنوب، ودون الناس انكساره أمام الأب فيليب عباس غبُّوش؛ وما انكسر البطل إلا لأن الشيخ الذي أحوجت سمعه الثمانون إلى ترجمان قد قالها ولم يُبال!! "إن مسَّني أحد بضر فسنجعل الدماء تجري أخاديد".. ودون الناس تهالكه بالأمس أمام الأطباء.. وهو يكذب وفي لسانه لسع الحية.. أوهناك من يصدق بعد كل هذا بأن هذا العاطب معتل العقل يتصرف من وحي دينه؟! فالله يعلم بأن إمام السودان الذي يتكئ اليوم على عصاة مهترئة اهتراء منسأة سليمان، لظالم بلا إرادة، وصارمٌ بلا عزم، وحـليم بغير اقتدار، ومحارب بسيف من خشب، كسيف سميِّه "أبي حية النميري". وما غدره وطغيانه إلا طغيان ضعيف مرتجف. إن العصبة الظالمة التي تتحلق حول إمام آخر الزمان "كافورنا هذا" إنما تجهل، كما يتجاهل، بأن شهيد الفكر سيبقى ضميراً مؤرقاً، ومصباحاً مسرجاً، في هذا الديجور الحالك الذي يعيش فيه أهل السودان؛ سيبقى في غرسه البشري الذي أورق، وفي نبته الفكري الذي اكتهل، وسيبقى في نفوس كثير من السودانيين كنموذج للرجل الذي تجافى مزالق السـقوط، وما فتئ يحترم في الناس أغلى ما يملكون - عقولهم-. وسيبقى إسم محمود بعد كل هذا حياً في نفوس الذين لا ينامون على الهوان، بما سيثيرها فيهم من بغض للظلم وإدانة للعدوان واستنكار للهوس، وإنكار للغدر..

    لقد اغتال النميري، والعصبة التالفة من خلفه من كل مشعوذ ومنافق ومتاجر بالدين، لقد اغتال كل هؤلاء باسم الإسلام والمسلمين مفكراً حراً، أعزلَ من كل سلاح، إلا القلم، ومع هذا، فما تركوا لهؤلاء المسلمين فرصة الابتهاج بهذا الذبح الثمين، بل هرَّبوا جثمانه خشية ما لا تحمد عقباه. لقد أخرج النميري العسس والعيون والسلاح والحديد فكذَّب بذلك كل دعاويه ودعاوي من حوله من المنافقين، فما أراد النميري بجرمه الشنيع الفاحش هذا، وما تبعه من مظاهرة بالقوة، إلا إرعاب أهل الشمال، بعد أن تركه أهل الجنوب، يسلِّح على نفسه، حتى ذهب لبيع السودان كله نفطاً وقطناً وتراباً حتى يبتاع بثمنهم سـلاحاً، يدفع عنه، لا عن السودان، العوادي - وحربه في الجنوب حربُ بغيٍ، وما بغى المرءُ إلا على نفسه!! ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية: (( "تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا على ستمائة من المتمردين" أما نحن فنقول "لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً")). وعلَّ إمام الباطل يعرف في نهاية الأمر، أنه يتاجر برأسمال غيره، وما تاجر برأسمال غيره إلا المفلس، فالجيش جيش الشعب، والسلاح سلاح الشعب.. ولن يرضى هذا الشعب لنفسه أن يكون وقوداً لحرب جائرة، أشعلها حاكمٌ ظنينُ عقلٍ.. كما لا يرضى لنفسه، أن يكون أداة بطش في يد طاغية لا ظهير له.. فيوم أن تجيء الحاقة فلا غوث لعاطب ولا ملاذ لتالف، ولا يحسبن الظالمون بأن دم أبي الشجاع سيذهب هدراً ليبقى فيها ليسرح خصيٌ أوكع، أو لتمرح إماءٌ لكع.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de