تهبُ الحياة ثمة أشياء نختلف في تقييم أهميتها و تضنُ على المرء بما لا غنىً عنه، فذاك الشاب وسيم القسمات هادئ الطباع صاحب العربة البيجو ال 404 في أوجّ سيرتها سكنه حزنٌ و أسىً رافقه مذ وُلد و في صباه و شبابه النضر .. إلتقيته بحياتي مرتين فقط لا ثالث لهما، أولاهما لم أستلطفه إذ قابل حرارة تحيتي و سلامي ببرودٍ دُهشت له و أعجزني تقبله، قرأ هو سريعاً تضاريس وجهي و تغيره المفاجئ، حاول جاهداً إصلاح ما أفسده بغير قصد لكن بلا طائل فقد كنت حينها ملتزماً لإنطباعيتي في الحكم على الآخرين. ثاني و آخر مرة ألتقيه كانت بدعوة منه بمنزلهم الفخيم بالخرطوم 2 و لأنه لم يترك أثراً طيباً في لقاءنا الأول رفضت دعوته، إلا أن صاحبي الذي عرفني إليه و لشئ في نفسه أصرّ علي و بذل مجهودا ًمضنٍ لإقناعي بمرافقته، إذ كان ملحاحاً كأنه متسول، و كنت أكره حينها أن يسألني أحدهم شئياً و لا أستجيب، فصحبته غير باغٍ و لا عاد. وُلد ذاك الشاب الوسيم بلا أب، أو بالأحرى بلا أبٍ يعرفه، حتى والدته لم تعلم له أباً. أمه تلك المرأة الفاتنة، بارعة الجمال رغم تراكم السنوات عليها إلا إنها ظلت وفيةً لحسنها و جمالها الآخذ، لم يرضخ جسدها لعوامل الطبيعة القاسية و تغيراتها، بل كانت تزداد نضارةً و بهاءاً كلما مضى بها في مسيره قطار العمر، كانت صغيرةً غريرة حينما همّ والدها و أشقائها بقتلها نصرة لشرفهم المسلوب، تدخلت الأقدار الرحيمة لتنجيها ببدنها الفاتن القويم، لكن ذات الأقدار ألقت بها بمستنقعاتٍ آسنة، إمتهنت تلك البرئية الحسناء البغاء مهنةً لها لتسد رمقها فأرتمت بين أحضان الرجال الى أن تكوّر بطنها الصغير مرةً أخرى، تخاذل عنها الجميع و تنكروا لها. وضعت وليدها ذاك بعد عدة أشهر كان مثل البدر في تمامه إذ أخذ من جمالها و حسنها ما شاء الله له، كان بمثابة هدية السماء إليها و بقعة ضوء في سمائها حالكة الظلمة.. تدخّل القدر الرحيم مرة أخرى وهبها زوجٌ ستيني عطوف كريم به غناً و ثراءٌ فاحش، أغدق عليها و أكرمته، ذاقت معه طعماً لحياة كريمة، إلا إنه قضى نحبه بعد سنواتٍ قصيرة تاركاً لها مالاً وفيراً و ذلك المنزل الفخيم بالخرطوم 2. ما أن وطئت أقدامنا عتبة منزلهم حتى استبقلونا بترحابٍ و حفاوةٍ بالغين دلت عليه أسارير وجهيهما و طاولة الطعام المكتنزة التي ضاقت و أتسعت بشتى أنواع البروتينات و الڤايتمينات و النشويات و أصنافاً أخرى من الطعام لم نعلم لها نسباً. فرغنا من طعامنا الهضيم ذاك فدلفنا عبر ممر ضيق الى صالة أخرى فسيحة خافتة الإضاءة، أثاثها فاخرٌ و وثيرٌ كما بسابقتها فُرشت بفرش أعجمي و تتوسطها طاولة متوسطة الحجم وُضعت عليها أنواع عديدة من زجاجات خمرٍ مستورد باهظ الثمن، وجد صديقي ضالته، فقد كان سِكّيراً يعاقر الخمر صباحاً و مساء لكنه بحسب وضعه المالي لا يشرب إلا الردئ منها المصنّع من تالف التمر الصغير، جلسنا حول الطاولة، فقدم لي الشاب الوسيم كأساً ممتلئةً لنصفها، رددتها له بتهذيب بالغ و حزم فأنا لا أشرب الخمر. شربا هو و صديقي، الله وحده يعلم عدد الكؤوس التي إحتساها ذلك الصديق الشره، بدأت الخمر بعد حينٍ تلعب برأسيهما لحظت ذلك من ثقل لسانيهما و صعوبة طريقتهما في الحديث. صمتا برهةً ثم باغتني الشاب بسؤالٍ نزل على مسامعي مثل صاعقة مدوية، هل تعلم أني ابن حرام !! كرر عليّ السؤال مرات عدة لم يصمت حتى أجبته، نعم، أعلم. بكى بعدها بكاءاً مريراً غزيرا، أي ذنب جنيت؟ لماذا لا يحبني الناس، أنا لم أوذِ أحداً قط في حياتي، لماذا يكرهونني أيحاسبونني على قدري، على ذنب لم أرتكبه و لم يكن لي به يد، يمنعون عني أبناءهم كما لو كنت رجساً أو بي مرضٌ معدٍ ثم عاود البكاء و بكيت معه حتي صديقي المخمور شاركنا البكاء. أوتعلم قبل عدة سنوات، بعدما فهمت و ليتني ما فهمت. ذهبت يوماً قاصداً بيت جدي و جدتي و أخوالي خالاتي و كلي شوقٌ و حبٌ و حنينٌ يهزني و يعصف بي، تخيلت أشكالهم و حتي نغمات أصواتهم، وقفت بباهم ساعة أحس دفء المكان و حضن العائلة قبل أن أطرق عليهم، فتحت لي جدتي علي ما أظن رأيت فيها لمحة من أمي إلا أن أمي لا يبلغ حسنها و ضياها أحد، إحتضنت تلك العجوز بقوة و طبعت قبلة على رأسها كنت و كأنني في حلم جميل كان شعوراً لم ءالفه من قبل جريت مسرعاً الى داخل الدار مثل طفل عانقت جدي و أحتضنته حتى كدت أكسر أضلاعه ثم قبلته في رأسه، قبلت و عانقت كلٌ من بالبيت وسط دهشة و ابتسام الجميع، شعرت بفخرٍ و زهوٍ ما عرفتهما بحياتي لطالما كنت منكسراً .. أخذت أنفاسي المتدافعة بحبهم و حنين جارف أمتد لسنوات، كنت أجول بعيني أرجاء البيت أحببت حتى جدرانهم و أثاثهم و كل شئ بدارهم، هدأت من ولهي قليلاً و عرفتهم بنفسي. صمت بعدها قليلاً و غالبه البكاء ثم أردف بصوت متقطع حزين: ذاب جبل الجليد ذاك فجأةً، عبست وجوههم و فغرت أفواههم، تحول الابتسام الذي كان بأعينهم الى اندهاش و نظرات إحتقار تطاير منها شرر مثل كراتٍ من نار خاصة من جدي الذي سبني و لعنني و نعتني بإبن الفاجرة و كأنما نسى أو تناسى أن تلك الفاجرة إبنته كما هي أمي، حتى جدتي التي ظننت بها خيراً تبرأت من أمي و مني، فصحت فيها أيُ قلبٍ تملكين يا إمرأة!؟ أحد أخوالي الذي استبشرت به خيراً فقد بدت عليه مظاهر تدين بلحيته الكثة و جلبابه القصير، استعار لفظاً من أيات كريمات أستعمله بغير موضعه واصفاً أياي به : إنك عملٌ غير صالح ! بكيت و صرخت في وجهه إن كنت أنا ثمرة عجفاء فأنتم الماء الذي سقى شجرتها و الأرض التي كفلت غذاءها.. طردوني شر طردة و توعدوني إن أتيتهم مرة أخرى فلن أعود سائراً على قدماى !! أشفقت حينها على أمي و تألمتُ لها أكثر من ألمي على نفسي و عدتُ أدراجي بوجهٍ و قلبٍ غير اللذين أتيتُ بهما .. قل لي بربك ماذا جنيتُ و ما فعلتُ. لم أجد ما أواسيه به غير دمعي، ذرفتُ دمعاً أكثر من ذاك الذي بعينيه، سألته بالله أن يصمت، صمت برهة و أحتسى جرعة من كأس كان بيده، ثم عاود حديثه المرير: أذكر ذات مرةٍ قابلت إمرأةً مسنة تسير بالطريق و تنوء بحمل ثقيل عليها، ذهبت إليها مسرعاً و حملتُ عنها الى أن أوصلتها بيتها، شكرت لي ما صنعتُ لإجلها و دعت لي: الله يبعد عنك أولاد الحرام يا ولدي!! كأنما طعنت قلبي حينها بألف سكين، بكيت من قلبي، ما بالهم أولاد الحرام ؟ أوليسوا بشراً من لحمٍ و دم، أنا ابن حرام. هوٌنتُ عليه بكلماتٍ أرتجلتها إرتجالاً: مصطلح ابن الحرام هذا مصطلح مجازي لا يؤخذ بمعناه الحرفي، إنما يدلُ على سوء المرء أو سوء عمله، فأولئك السياسيون أغلبهم نتاج زواج شرعي و مع هذا فهم أولاد الحرام .. ارتشف جرعة أخرى من كأسٍ بيده ثم أستطرد في حديثه هل تعلم أني أحب كل الرجال و أكرههم في ذات الوقت، أري في ايٍ منهم أبي، أحبُ أمي كثيراً و أكرهها، أحبها لأنها أمي و لأن لا أحد سواها يكترث لأمري أو يحبني، لا أحد، و أكرهها فهي من تسببت في معاناتي و عقدتي و إيلامي، أُحس أحياناً أنها ضحية مغلوبة على أمرها و أعرف تماماً إنها ما كانت الا عاهرة. قطع قلوبنا بحديثه ذاك و أفرغ مقلتينا من الدمع، حول مجلسنا و ليلنا ذاك الي ليلٍ موحش بهيم، ظل علي حاله ذاك يصرخ و يندب و يبكي حظه و يلعن قدره، تركناه هائماً مستلقٍ علي الأرض، جرجرت صديقي الذي إنكفأ علي وجهه لم استطع حمله فتركتهما معاً و مضيت سائراً في الطريق الي منزلنا و الأفكار تعصف برأسي و الدمع يهطل و يجف .. دخلت البيت و الليل في ثلثه الأخير، وجدت أبي مضطجعاً علي سريره بفناء المنزل وقفت قبالته أتأمله وهو يغط في نومٍ عميق مثل طفل، شكرته سراً و جهراً، هممت بعناقه و تقبيله لكن ماذا سيظن بي إن فعلت! لا أعتقد أنه سيحسن بي ظناً خاصة و قد عدت بعدما انتصف الليل و لربما بعض من رائحة الخمر تعلقت بثيابي، فضلت الذهاب الي سريري أكتمُ فخري به و امتناني له. لم ألتقِ ذلك الشاب الوسيم ثانيةً، ربما كنت عاجزاً عن لقاه فنسيت أمره، مرّ على تلك الليلة الدهماء ما يقارب العامين كنت حينها على وشك تخرجي أجلس مع صديقة لي بالجامعة، ناحلة الجسم طيبة القلب بها فصاحة و لساناً لاذعاً مثل سوط، لست أدري ما الذي ذكرني به فقصصت عليها قصة الشاب الوسيم كاملة، إغرورقت عيناها بالدموع، مسحتهما بمنديل ورقي استعملته قبلا ثم ألقت به، فكرت مليّاً ثم فركت يديها الصغيرتين بحركة شيطانية إعتدلت في جلستها قليلاً ثم قالت: هذا الشاب الوسيم مشروع زوج مثالي، نظرت إليها باستغراب فأكدت حديثها أن نعم، إنه الزوج المثالي الذي أنشده، لابد إنه عاطفي و رومانسي، طيب القلب، هادئ الطباع قليل الكلام و ليس ثرثاراً مثلك، إن تزوجته فسأنجب له الكثير من الأبناء و البنات ينسينه نفسه و مآسيه تلك، هذا بجانب البيت الفخيم و السيارة الفارهة و الأثاث الوثير سنعيش برغدٍ من العيش، كل شي سيكون مثالياً، حتى الطعام سيكون وفيراً شهياً و حتماً ستساعدني تلك الساقطة في إعداده.. فقاطعتها بحدة كيف تصفين أم زوجك بهذه العبارة الجارحة؟ لم تأبه لمقاطعتي و استطردت في حديثها ثمة مزايا أخرى بهذا الزواج فلا أخوات زوجٍ يكدن لي و يفتعلن المشاكل بسبب و بدونه، أيضاً لا عماتٍ و لا خالات يلمزن و يتهامسن و يتغامزن في كل كبيرة و صغيرة، و الأهم من كل ذلك لا أقارب يتبطحون بالأيام الطوال و الأسابيع على أسرة غرفنا بلا عملٍ يرتجى، ألم أقل لك سيكون زواجاً مثالياً في كل شئ، ثم لا مناسبات عائلية من أتراحٍ و أفراح تعج بالمتطفلين من الأقارب الذين يصوبون أعينهم و ألسنتهم بسهامٍ مسمومة، و أطفالهم المدللين الذين يقلبون البيت رأساً على عقب و لا ينتهرون .. قاطعتها مرة أخرى تتحدثين و كأنك تزوجت منه، هل سيوافق أهلك على هذا الزواج؟ أجابتني بضحكة ساخرة، والدي رجل تقدمي متفتح الذهن و مع بغضه للأرستقراطيين و حنقه على أبناء الطبقة البرجوازية و الإنتهازية الواعية إلا أنه رجل ديمقراطي يسهل إقناعه، أما والدتي فهي إمرأة بسيطة ساذجة لا رأي لها، ربما المعضلة الوحيدة قد تأتي من تعنت خالي الشقيق الأكبر لأمي ذاك السلفي المتزمت، الذي تبدو عليه مظاهر التدين بتعصب و بلا وعي لكن سأجد له حلاً .. حسبت أنني أعجزتها بسؤالٍ أخر حينما ذكرت لها أن ذلك الشاب لم يكمل دراسته الجامعية . نظرت إليّ باشمئزاز ثم صاحت بوجهي: أنظر الى نفسك، أنا على يقين أنك ستكمل دراستك الجامعية و مع هذا لئن تقدمت إلىّ فلن أقبل بك زوجاً فحاضرك لا ينبئ بخير و مستقبلك لا يبشر إلا بسوء حال، أفضلُ أن أظل عازبة على الإرتباط ببائس مثلك .. هنا تحركت غرائزي الدفاعية لا شعورياً: يا لكِ من كادحة وقحة أوتظنين أني ساطلبك للزواج يوماً، لن أفعل و إن قُطع نصف لسانك، ثم استعرت عبارة لصديقٍ لي لن أتزوجك و إن أعطوني معكِ عشرون كيلوغراماً من اللحم أضعهما عليك كيف و أينما أشاء.. فقد كانت تلك الكادحة المسحوقة نحيلةٌ جداً كأن بها داءاً عضال.. لم تشأ أن تجاريني بمناكفتي أياها، بدت أكثر جدية في أمر إرتباطها بذاك الشاب الوسيم، ناقشتها كثيراً و أقنعنتني و الأهم من ذاك كان قناعتها هي اتفقت معها على ترتيب لقاء لهما. مساء ذاك اليوم توجهت الي بيت ذاك الشاب الوسيم، قابلتني والدته عند الباب أمضت بضعة دقائق ثم تذكرتني، سألتها عن إبنها فأجابتني بدمعة على خدها أولاً ثم تحركت شفتاها بصوت متقطع هو الآن بمستشفى الأمراض العصبية و النفسية إثر نوبة عصبية حادة ألمّت به قبل عدة شهور أفقدته وعيه و عقله وحتى وزنه هو الآن بين الحياة و الموت .. صرخت بعدها و انهارت، غادرت لا ألوي على شئ، تذكرت فجأة عبارة مكتوبة على جدار إحدى قاعات الجامعة: عقلاء عالم المجانين هم ضحايا أساء فهمهم مجانين عالم العقلاء!! بعدها بثلاثة أسابيع أو نحوها كان ذلك الشاب الوسيم قد فارق دنيانا هذي وانتقل الى جوار رؤوف رحيم لا يظلم عنده أحد، و كأن لسان حاله يقول أنا ما كنت منكم يوماً، و ما عدت كذلك الآن. بكيته كثيراً و بكيت معه مجتمعنا. وُلد غريباً و عاش غريباً بعالمٍ غريب و مات غريباً بعالمٍ أكثر غرابة، فطوبى للغرباء و أولاد الحرام ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة