|
Re: مفكر سعودي: العرب أعاقوا الحضارة (Re: طارق عبد الله)
|
رأيي في كلام المفكر البليهي أنه يحمل قدرا كبيرا من الصحة حيث ان إسهام العرب في الحضارة الانسانية كان ولا يزال محدودا للغاية مقارنة بأمم أخرى مثل الفراعنة والإغريق والرومان والفرس والأوروبيين ويرجع ذلك كما ذكر الكاتب إلى غياب التفكير النقدي ولعل السبب هو طريقة نشأة ونمط حياة الانسان العربي والذي هو في العموم نتاج لمجتمع لايؤمن كثيرا بأهمية النقد والتفكير بل على العكس يفرض قيودا صارمة على أبنائه تصل حتى لشكل الملابس وطبيعة العلاقات الاجتماعية وغيرها، فالعربي اما سيد يطاع أو تابع يطيع. استمر هذا الوضع تقريبا طيلة تاريخ العرب باسثناء فترة اول عصر الاسلام الذي دعا للمساواة وتزكية المجتمع وشجع اعتاق الأرقاء والغى التفاضل بين الناس على أساس الأنساب وللمفارقة دعا أيضا الى اعمال العقل والتفكير، وظهرت العديد من الأمثلة التي تؤكد سمو وعظمة مبادئ الدين الجديد مثل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والعفو عن أهل مكة يوم الفتح على الرغم من افعالهم ضد المسلمين وغيرها. بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت بذور الفتنة والتطلع الى الحكم تطل برأسها لدرجة قتل الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، وبعدها بدأ العصر الأموي الذي تميز عن سابقيه بكونه ملكا عضوضا وليس خلافة وببدء ظاهرة تحالف رجال الدين مع السلاطين والمستمرة ليومنا هذا مستغلين انقياد معظم الناس لما يقوله هؤلاء دون مناقشة او تفكير. من هنا يصعب على المرء الاعتقاد بأن مجتمعا بهذه السمات قد ينتج مفكرين يساهمون في نقله الى وضع أفضل، وإن وجد مثل هؤلاء المفكرين فسوف يواجهون اقسى انواع المقاومة والتنكيل من الدولة والمجتمع على حد سواء. أما في خصوص ما يطلق عليها الحضارة الاسلامية، فأنا لدي ابتداء تحفظ على ربط الحضارة والتي هي نتاج انساني تراكمي بدين معين لما فيه من التضليل واغماط حق الآخرين، وعودة للموضوع فإن فترة ازدهار العلوم لدى المسلمين تلت ترجمة الكتب اليونانية والهندية القديمة في بيت الحكمة ببغداد في عهد الخليفة العباسي المستنير المأمون والذي شجع العلم التطبيقي والفلسفي والانفتاح على الحضارات الاخرى بخلاف سابقيه الأمر الذي وضع لبنة لظهور اسماء مثل البيروني والرازي وجابر بن حيّان وغيرهم، الا ان من المثير للاهتمام ان معظم العلماء المسلمين كانوا من العجم وليسوا من العرب وان الحضارة الاسلامية اندثرت مع غياب هؤلاء مما يعزز رؤية الاستاذ البليهي ان هؤلاء كانوا خارج الإطار العربي السائد وان ظهورهم استثناء وليس قاعدة، أيضا من المثير للسخرية ان نرى مسلمي هذا الزمان يفاخرون بهذه الأسماء لتغطية فشلهم في تقديم إنجاز في عالم الْيَوْمَ في حين ان هؤلاء العلماء اتهموا بالردة والزندقة وغيرها من قبل اسماء لها الكثير من الاتباع و المريدين المتعصبين احيانا كالذهبي والغزالي وابن تيمية، مما يدعم نظرية ان الانسان العربي متعصب وعصي على التغيير. خلاصة الكلام ان تغيير الواقع العربي لايمكن ان يتم بدون تشجيع قيم النقد والتفكير المستقل بدون املاءات فلو نظرنا الى الشعوب الاخرى لوجدنا فترات دموية وكالحة في تاريخها أيضا، الا ان الفرق يكمن انها تعلمت من التجارب ووضعت التاريخ في إطاره الطبيعي والموضوعي وتطلعت للأمام بعكس العرب الذين لا يزالون يتقاتلون نتيجة لأحداث وقعت قبل اكثر من ١٤٠٠ سنة ونسوا قول الله تعالى: { تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مفكر سعودي: العرب أعاقوا الحضارة (Re: طارق عبد الله)
|
وهذا هو الدكتور النور حمد في مقالاته(نقد العقل البدوي) في هذه المقالة يتناول بمقارنة الاوضاع بين حقبتين في تاريخ السودان الحقبة النوبية(علوة) والحقبة السنارية(المملكة الزرقاء) ما تناوله هو صدمة للعقول المتحجرة د. النور حمد سوف أعالج في هذه الحلقة بعض الجوانب التي سبق أن أشرت إليها في الحلقة السابقة. تتعلق هذه الجوانب بملاحظة مركزية، سبق أن أشرت إليها في الحلقة السابقة، وهي أن الأعراب الذين وفدوا إلى السودان لم يأتوا من مراكز الحضارة الإسلامية وحواضرها، وإنما أتوا من البرية. ولذلك، لا غرابة أن تصبح السلطنة الزرقاء سلطنةً قليلة الانجاز في مضمار التحضر، وألا تصبح حقبتها حقبة عالمة يمكن أن تقارن بمستوى العلم في الحواضر الإسلامية المشارقية والمغاربية. لقد أمضى القوم ثلاثة قرون في الصراع على السلطة، وحين زحف عليهم الغزو الخديوي وقوض حكمهم الذي استمر لثلاثمائة عام، ذهبوا دون أن يخلفوا وراءهم شيئًا يذكر. فالأعراب الذين تحالفوا مع الفونج، وكلاهما رعاة، لم يكونوا، أهل علم وحضارة. يقول وليام آدمز أن من قهروا النوبة وأخذوا ملكهم لم يكونوا مبشرين ولا أهل علم، وإنما كانوا بدويين أميين. (ويليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ص 483). لم يكن القادمون الجدد، مدفوعين بغير الحصول على السلطة، من أجل الامتلاك والثراء، كعادة الرعاة، عبر التاريخ، في الغزو والاستحواذ، خاصةً، حين يجاورون بنية حضارية متقدمة، يلمحون فيها علامات ضعف عسكرية. ذكر ابن خلدون مرارًا في ما كتب، أن العرب، “أبعد الأمم عن سياسة الملك”. ولعل ابن خلدون يعني “الأعراب”، وليس العرب على إطلاق العبارة. وبطبيعة الحال، يصبح ما قاله ابن خلدون عن بعد العرب عن السياسة الملك صحيحًا، إذا نظرنا للعرب في القرون السابقة للإسلام. فعرب، وسط وشمال الجزيرة العربية، لم يعرفوا، حينها، المُلك، فقد عاشوا قبائل من الرعاة المتحاربين، المتجولين عبر الصحراء في التخوم المهملة، الفاصلة بين الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية. غير أن حالهم تغير بتمدد الإمبراطورية الإسلامية وباختلاطهم بأهل الحضارات القديمة كالفرس والمصريين. ولذلك، لا تشمل كلمة “أعراب”، في ما أرى، كل العرب، خاصةً بعد أن نشأت الدعوة الإسلامية، وتحولت الدعوة إلى حضارة عربية اسلامية، حولت كثيرًا من أعراب البادية إلى أقوامٍ متحضرين. فالإسلام هذب كثيرًا من البدو، وأخمد جذوة توحشهم. فكلمة “أعراب” تعني، من وجهة نظري، “الرعاة”، من العرب، كما تعني الرعاة من حيث هم. بعبارة أخرى، لا تشمل كلمة “أعراب” كل العرب، كجنس. ودعونا نتأمل، مرةً أخرى، هذه الآية القرآنية الغريبة في هجاء الأعراب: “الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله”. إنها آيةٌ غايةٌ في الدلالة على بُعد “الأعراب” من الله، ومن نبيل القيم. فهم، وفق النص القرآني، من السوء بحيث أصبح من الخير لهم، ألا يعرفوا تعاليم الإسلام، وأن يبقوا على ما هم عليه، رحمةً لهم ورأفة بهم، وفقًا للنص القرآني: ” وما كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حتَّى نبعثَ رسولا”. (سورة الإسراء، آية 15). يقول ابن خلدون عن “العرب”، وتعني عندي “الأعراب”، إنهم إذا ملكوا أمةً من الأمم، جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في الأيدي. (عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار الفجر للتراث، ص 197). عاش ابن خلدون، (3321-1406م، بعد قرابة الثمانية قرون من بداية الحضارة العربية الإسلامية. ولقد مكنه ذلك من رصد حوادث تاريخها وتحليل تحولاتها، ما جعله يصف العرب بما وصفهم به، من كونهم “أبعد الأمم عن سياسة الملك”، بحسب تعبيره. ويبدو أن العرب بعد أن تحضروا وتهذبوا، نوعًا ما، بالإسلام، وصاروا ملوكًا، في ما بعد، لم يسلموا من تسرُّب عقلية الرعاة الموروثة إلى ممارساتهم كحكُّام. يقول ابن خلدون، في هذا المعنى، أدرك العرب وقتٌ فصلت فيه بينهم وبين الدولة أجيال. فنبذوا الدين، ونسوا السياسة ورجعوا إلى قفرهم وتوحشوا كما كانوا، وعادوا إلى حالهم الأول من البداوة. ويضيف ابن خلدون: “وقد يحصل لهم، في بعض الأحيان، غلبٌ على الدولة المستضعفة، فلا يكون مآل ما يستولون عليه من عمران سوى التخريب”. (المصدر السابق، ص 197-198). وتنطبق كل أقوال ابن خلدون، التي أوردتها هنا، تمام الانطباق على تحالف القواسمة والفونج، الذين هاجموا سوبا، عاصمة دولة علوة، وخربوها، حتى أصبح تخريبها مضربًا للأمثال.
كان نشوء دولة الفونج، إلى حدٍّ كبير، ارتدادًا حضاريًا، قياسًا بما كان عليه حال المملكتين النوبيتين، علوة والمقرة. ويبدو أن القيمة الوحيدة التي يراها من يرون أن سنار هي العلامة الأكبر في تحول القطر السوداني إلى الإسلام، قيمةٌ منحولة، لا تسندها أيٌّ من شواهد البحث العلمي المحايد في التاريخ المكتوب. فقد غلبت على كثير من كتابات السودانيين عن تاريخ السودان، العاطفة، ورهاب مفارقة القطيع، والمجاملة، بأكثر مما غلب عليها الحياد العلمي الأكاديمي، والنظرة الموضوعية. إسلام سنار، كنظام حكم، وإدارة دولة، ومنظومة قيم سلطانية، واجتماعية، وطقوس، ضعيف الصلة بتعاليم الإسلام. وهذه الهالة الإسلامية المفخمة التي ترى بها أكثريتنا سنار، ليست سوى جبة جديدة، جرى نسجها مؤخرًا، ثم أُلبست، استعاديًّا، لتلك الحقبة الغاربة.
كانت “سوبا”، عاصمة دولة علوة، مدينةً باذخةً، بمقاييس زمانها. فقد رُوي أنها كانت جميلة المباني، تتجلى هندسة العمارة في كنائسها، المزينة بالرسوم المسيحية، وبالزخارف والنقوش. وقد عُرفت مملكة علوة بالصناعات، التي تمثل واحدةً من أبرز علامات التحضر. يقول أحمد محمد علي الحاكم، إن الخزافين السودانيين بلغوا في مملكة علوة، قمةً رفيعةً في فن الخزف. ويقول، إن التحليل الدقيق للأنماط الزخرفية التي زينوا بها انتاجهم الخزفي، يعكس أنهم استوحوها من نماذج زخارف العهود الإسلامية (الفارسية، أو الفاطمية، أو المملوكية). (أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية: منظور تاريخي، درا جامعة الخرطوم للنشر، 1990، ص 95). كما أن هناك ميراث صناعي تحدر من مملكة مروي التي عرفت بالخزف الرائع، وبصناعة المجوهرات، وصهر الحديد. وقد أورد أحمد إلياس حسين، نقلاً عن ابن سليم الأسواني وابن حوقل، إشاراتهم إلى أنهار علوة الخمسة، وأراضيها الزراعية الواسعة، ومواردها، ومدنها، وسكانها. فقد وصفوها بأنها كانت مملكةً واسعة الثراء، غنية بالزراعة، وفيها مزارع للكروم، كما أنها غنية بالثروة الحيوانية، وبصناعة المعادن، وبالعديد من الأنشطة التجارية. (أحمد إلياس حسين: السودان: الوعي بالذات، وتأصيل الهوية، (ج 2)، شركة مطابع العملة، 2012، ص 242). هذا الثراء العريض والرغد والمعادن النفيسة، هو ما جعل عرب القواسمة والفونج يتحالفون على نهبها. وعلى التحقيق، لم يكن إنهاء المسيحية وتمكين الإسلام هو الهدف الرئيس من تلك الهجمة.
وللتدليل على ما تقدم، دعونا ننظر في عادات وتقاليد سنار، وكيف أنها بعيدة، كل البعد، عن تعاليم الإسلام. وأرجو أن يكون هذا الاستعراض للطبيعة الحقيقية لسلطنة الفونج، حافزًا لكي تعيد أكثريتنا النظر في ما ظلت تظن. يربط كثيرون منا، ربطًا عضويًا، بين خراب سوبا وتحول السودان إلى دولة “اسلامية”. وهذا غير صحيح. فالإسلام أدخله ورسخه المتصوفة، في وقت متأخر نسبيًا من عمر السلطنة الزرقاء. فهم من أخرجوا قطاعًا معتبرًا من الشعب السناري من التوحش إلى الإنسية، بعد أن شكّلوا نطاقًا قيميًا داخل الدولة، مغايرٌ في طيسعته لنطاق الحكام، وكسبوا له مساحة معتبرة. ومع ذلك كان الشد والجذب بينهم وبين حكام سنار مستمرًا بلا انقطاع، ولكن، على تفاوت في موقف كل فريق منهم من السلطة. وسوف أتوسع قليلا في هذه النقطة في حلقات قادمة.
ربما، لو لم يهجم الفونج والعبدلاب على سوبا، ويسووها بالأرض، لساد فيها الاسلام بهدوء، ولتمازج مع ثقافتها، ولواصلت بنيتها الحضارية نموها الطبيعي التدريجي. ما أحدثه عرب القواسمة والفونج كان تخريبا. ينقل ويليام آدمز عن رحالة، كان عائدًا من الحبشة، متجهًا إلى مصر، أنه مرّ بسوبا عام 1523؛ أي بعد حوالي العشرين عامًا من الهجوم عليها، فوجدها خرابًا. يقول هذا الرحالة، ويدعى ديفيد ربوني، أنه وجد من بقوا أحياءً من سكان سوباً، يعيشون في “رواكيب”. (وليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ص 475). الشاهد أن تحالف الفونج والعبدلاب أرجع عقارب الساعة إلى الوراء، في ما يتعلق بنمو السودان الحضاري. ونفس تلك الخصائص التي أبقت السلطنة الزرقاء بلا انجاز حضاري يذكر، هي ذات القيم، ونفس البناء العقلي والنفسي، الذي يقعدنا اليوم عن التطور. كانت سلطنة الفونج أقل، بكثير، من حيث البنية الحضارية الكلية، عن المملكتين النوبيتين اللتين سبقتاها؛ “المقرة” و”علوة”. يقول آدمز، أيضًا، إن النوبيين لم يكونوا وثنيين مثلهم مثل المصريين والسوريين. فهم نتاج لإرث حضاري قديم، وهو إرثٌ أكثر تقدمًا مما أتي به إليهم الذين أصبحوا يحكمونهم، (آدمز، ص 483). قدم، ما يلي، عرضًا لبعض الممارسات والعادات والطقوس التي سادت في سلطنة الفونج، التي تدل على أن الإسلام لم يمثل فيها سوى قشرة خارجية رقيقة. يقول سبولدينق نقلا عن أحد زائري سنار ذكر في نهاية القرن السابع عشر، أي بعد أكثر من مائة عام من قيام سلطنة سنار، إن السلطان يوصف: “بأنه مسلم، ولكن ليس لديه قوانين وشرائع المسلمين”. ويضيف سبولدينق، أن سياسة سنار اتسمت بالتسامح الديني والاعتراف بحقائق التنوع الثقافي لرعايا الدولة، وأن ذلك يخالف، من وجهة النظر الموضوعية، الكثير من قيم وتعاليم الإسلام الرسمية. وأن تلك السمات بقيت دون أن يطالها تغيير، بسبب أن التعاليم الإسلامية لم تكن تشكل واقعًا داخليًا لتلك المجتمعات. (جي اسبولدينق، عصر البطولة في سنار، ]ترجمة: أحمد المعتصم الشيخ[ هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، الخرطوم، السودان (2011) ص 20.
هناك الكثير من العادات والتقاليد والطقوس والممارسات التي تؤكد شخصية سنار الثقافية الإفريقية، التي لا تعكس التعاليم الإسلامية، بقدر ما تعكس طقوس الديانات الأرواحية الإفريقية. وتتضح مفارقة تعاليم الشريعة الإسلامية أكثر ما تضح في زي النساء. فنساء العوام، خاصة الفتيات، لم يكن يحق لهن أن يسترن لما يزيد عن ما بين الخصر والركبة، (المصدر السابق، ص 85.). وقد ظلت هذه الممارسة، جاريةً في السودان في المناطق الريفية، حتى منتصف القرن العشرين، وربما بعد ذلك بقليل، خاصةً في بعض الأماكن الرعوية النائية. فقد بقيت الفتيات غير المتزوجات على ذلك التقليد، حتى وقتٍ قريب. إذ ظللن يتمنطقن في وسطهن بسيور من الجلد، تتدلى من حزام يلف الوسط. وتسمى تلك التنورة المكونة من السيور الجلدية، “الرّحط”. ولا حاجة بي إلى القول إن هذا الزي مخالفٌ، تمام المخالفة، لتعاليم الشريعة الإسلامية.
لم يستثن من فرض عري الصدر والساقين، إلا نساء البيوت السنارية المالكة والطبقة الحاكمة. فهن الوحيدات اللواتي يُسمح لهن بالاستتار. ولمس هذا العري المفروض من أجل فرز الطبقات الاجتماعية، الرجال، أيضًا. فقد كان عليهم تعرية الجزء العلوي من أجسادهم، لدى مقابلة النبلاء. وعمومًا، فإن أي شخصٍ يحاول العلو والخروج من وضعيته كأحد العوام، بأن يمتلك ملابس مخيطة، أو يقتني أشياء ثمينة، يُعد مرتكبًا لجريمة تُسمى “السِّبْلة”، وتوقع عليه، من ثم، أشد العقوبات. ويروي سبولدينق أن النبيل، المانجل، إدريس ود رجب وجد بعض رعاياه يلبسون ملابس مخيطة، تشبه ملابس العرب، فصادرها منهم ومزقها. (نفسه، 85 – 86). وغالبًا ما يكون ما شاهدناه حتى وقتٍ قريب، من لف الثوب الرجالي على الجسد، بلا سروال، أو “عرّاقي”، لدى الرجال من رعاة وسط السودان، بعضًا من بقايا الامتثال اللاواعي للمنع السناري المشدد، لارتداء العامة المخيط من الثياب.
أيضًا، من التقاليد التي تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة شنيعة، “القتل الطقسي” للملوك وأقربائهم. فعندما يتوفى السلطان يتم اختيار أحد أبنائه خلفًا له، ويجب، حينئذٍ، إعدام اخوته كلهم. ويقول الرحالة كرمب إن السبب وراء ذلك الإجراء هو ألا يظهر منافسٌ للسلطان، يهدد السلام والأمن والاستقرار. ولقد مارس القتل “العبدلّاب”، الذين يُنظر إليهم بأنهم عربًا مسلمين. يقول ماكمايكل، إن من عادات العبدلّاب أن يظل مَلِكُهم عرضةً للموت، في أي وقتٍ، وتحت أي ظرف. فإذا رغب واحدٌ من أبناء عم الملك في قتل الملك، يتقدم إلى الملك بإشعارٍ يحدد فيه الموعد الذي يأتي فيه لتنفيذ القتل. وعلى الملك ألا يرفض الطلب، إذ يُعدُّ ذلك جبنًا وجزعًا، (ماكمايكل، تاريخ العرب في السودان، (ج2)، مركز عبد الكريم ميرغني، أمدرمان، 2012، ص 270). هذه الممارسات الوثنية الأرواحية، التي كانت تمارس على مستوى قيادات الدولة، كافية جدًا لتجعلنا نعيد النظر في “إسلامية” سنار، وفي “عروبة” ساكنيها، على النحو الشائع في أوساطنا اليوم. فقتل الملك الطاعن في السن، أو المريض، الذي كان يمارسه العبدلاب، يطابق، حرفيًا، طقوس قتل “الرَّث”، لدى قبيلة الشلك، وهو مما لا يمت إلى الإسلام، بأي صلة.
الغريب أن الملك العبدلابي الذي يكون في انتظار القتل، يصلي ركعتين، استعدادًا للقتل. يقول ماكمايكل، يستعد ملك العبدلاب لحادثة القتل المعلنة، بأن يحلق رأسه، ويصلي ركعتين، ويجلس وسيفه في حِجْره. فيأتي ابن العم، ويطلب الإذن من الملك بالدخول، فيؤذن له، فيقف ابن العم خلف الملك ويضرب عنقه. ولا يتفوه الملك عبر إجراءات ذلك القتل الطقسي بأي كلمة. بعد ذلك يأتي زعماء القبيلة ليضعوا قلنسوة المُلك على رأس ابن العم، الذي نفّذ القتل. وهذا الطقس مخالفٌ للقرآن الذي يقول: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” )سورة الإسراء، أية 33). ويعلق ماكمايكل على تلك الممارسة، قائلا إنها ممارسة إفريقية، مستندة إلى الحق الإلهي في الحكم. فالزعيم يجسد الروح الإلهية، فإن بدت عليه علامات الشيخوخة، أو العجز البدني، أو المرض، وجب قتله، ليحل محله من لم تضعف قواه البدنية، أو العقلية، بعد. ويقول ماكمايكل، نقلا عن الرحالة بروس، إن الفونج ينحدرون أصلا من قبيلة الشُلُك، بقرينة هذه الممارسة لدى كليهما، وغيرها من الممارسات، الأخرى، (نفسه، ص 270). ناءً على ما تقدم يمكن القول، وبوثوقٍ كبير، إن سلطنة الفونج في سنار (1504-1821) والتي يُنظر إليها بوصفها جذرًا لـ “عروبة السودان واسلاميته”، بحاجة إلى الكثير من إعادة النظر في أوضاعها عبر تدقيقٍ علمي جدّي، ومساءلة للنظرة الرومانسية العروبية الحالمة، التي ظل كثيرون منا يرونها سلطنة “عربية إسلامية”، وكأنها واحدةً من سلطنات وممالك المشرق والمغرب العربي. تلك النظرة يشوبها، الغرض السياسي الخارجي في استتباع شعوب السودان لمركزية أجنبية خارجية. فتاريخ السودان تعرض للتزييف، من أجل إلحاق أهل القطر بالفضاء المشرقي العربي المسلم. (راجع أحمد إلياس حسين، السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية، (ج 1) ص، 46-47). لقد جرى تزييفٌ كثيرٌ لحقائق تاريخ السودان. وهي تجاوزات لا تخطئها عين باحثٍ جاد. فالتاريخ الحقيقي هو ما يجري تأسيسه على بحوث الأنثروبولوجيا، والأثنوجرافيا، وليس على السرديات الكتابية والشفاهية، وحدها. فالسرديات كثيرًا ما تتحيز، وتجنح، نحو إعطاء صورة مشرقة، بل ربما تفوت على الساردين، لمختلف الأسباب، أمورٌ جوهرية.
لم تكن دولة الفونج رغم استعرابها وإسلامها شبيهةً بدول النطاق العربي المشرقي. بل إن تسويقها الشكلي لنفسها كدولةٍ عربيةٍ إسلامية كان في الأساس لأسباب سياسية محضة. ومن ذلك خوفها من الغزو الذي هددها به السلطان سليم، (سبولدينق، ص 120). في تلك اللحظة أعلن الفونج أنهم عرب، بل ومن بني أمية. ومن وقتها شاعت، كتابة أشجار النسب، التي تعيد أصل الجميع إلى الجزيرة العربية. وفي نهاية الأمر، لم يعصم دولة الفونج تسويق نفسها كدولة عربية إسلامية، من أن تصبح، في نهايات حقبتها، التي امتدت أكثر من ثلاثة قرون، هدفًا للغزو الخديوي الإسلامي المشرقي، الذي وضع نهاية لها، وألحق شعبها وممتلكاتها قسرًا بالدولة الخديوية.
لم يكن “إسلام السلطنة الزرقاء وحده الذي مثل قشرة خارجية. فاللغة العربية المكتوبة التي سادت في الحقبة السنارية، كانت لغةً ضعيفةً متعثرة. وتمثل حالة اللغة العربية في العصر السناري واحدًا من الشواهد على أن الذين اجتاحوا السودان كانوا رعاة أميين، لا يعرفون كتابة الفصحى. ويبدو جليًا من الآثار السنارية المكتوبة، أن اللغة التي وصلت مع العرب الوافدين، كانت لغةً بدويةً شفاهية، اختلطت بالمفردات النوبية وغيرها من مفردات اللغات السودانية. فضعف ما وصلنا من الكتابة في السلطنة الزرقاء، واضح جدا. وسوف أورد مثالا شعريًا واحدا ورد في الطبقات يتسم بعدم معرفة العروض، وبضعف البناء الشعري وبأخطاء النحو. وهو نصٌّ عدّد فيه شاعر كان تلميذًا للشيخ أبو إدريس، مناقب شيخه أبي إدريس، عقب وفاته. يقول الشاعر: صوفي الصفات فذاك شيخي، أبو إدريس الورع العجول لأخراه سريعًا مستعدٌّ، أو عن أعمال دنياه عطول لا يشتاق للَّذات فيها من مأكولٍ ومشروب العسول لمرضات ربه سهر الليالي، أحب الجوع واكتسب النحول. وقد أورد ود ضيف الله في كتاب الطبقات، الكثير مما يشابهها في الركاكة وعدم المعرفة بعروض الشعر العربي وبحوره وأوزانه، بل وعدم المعرفة بقواعد النحو، كما سلفت الإشارة. ومبعث إيراد ود ضيف الله لتلك الأشعار ظنُّه، أنها مما يعتد به من الشعر، لعدم معرفته هو، أيضًا، بقواعد الشعر. وقد سبق أن ناقش محمد المكي إبراهيم الشعر السناري، وبين ضعفه في كتابه، (الفكر السوداني: أصوله وتطوره)، فليراجعه من شاء. لم تتحسن اللغة العربية المكتوبة في السودان، إلا بعد الغزو الخديوي، نتيجة للإلحاق الكلي، للقطر السوداني بالقطر المصري. ما ذكرته هنا ليس بغرض الزراية بشعراء الحقبة السنارية، وإنما بغرض التدليل على أن الإسلام واللغة العربية، رغم شيوعهما في سنار، كانتا في طورٍ بدائي. فإسلام سنار أُخذ معظمه من الرعاة، ولغتها العربية أُخذت، هي الأخرى، شفاهًا، من رعاةٍ أميين، أو شبه أميين. لم تعكس سنار حضارة عالمة، حتى بمقاييس وقتها، بقدر ما عكست بطولاتٍ داميةٍ لمحاربين أشاوس.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مفكر سعودي: العرب أعاقوا الحضارة (Re: Saifaldin Fadlala)
|
ديل مقالين كتبتهن في ذات المنحى ونشرن في الصحف الالكترونية ..
Quote: صدقا هل الحضارة الإسلامية حضارة نقلية أم مبتدِّعة ؟ بقلم / محمد علي طه الملك قد يبدو السؤال من الوهلة الأولى مثيرا للحميّة الدينية ، وربما انحيازنا للثقافة العربية وتراث أساطينها غير أن السؤال جدير باعمال النظر فيه ومراجعته على ضوء مؤلفات عديدة كان لها السبق في التأسيس لمفهوم الحضارة الإسلامية ، ولهم أسانيدهم المدعومة بمنطق بعض المدارس الفلسفية ، غير أن عرض المفهوم على ضوء منجزات الحضارة الإسلامية بوجه خاص في المجال التطبيقي ، يدفع بالتأكيد لمثل هذا التساؤل . بدءًا يجمل عرض التعريفات التي أوردتها المدارس الفلسفية لمصطلح الحضارة ، قبل الانتقال لمناقشة السؤال والإجابة عليه . تعريف مصطلح الحضارة ـ Civilization : تباينت تعريفات المصلح بين المدارس الفلسفية ، ولكن قبل عرض تلك التعريفات تجدر الإشارة للإلتباس الذي يحدثه التقارب أو التداخل بين مصطلح الحضارة و مصطلحات أخرى مثل الثقافة والمدنية ، هناك طائفة من الباحثين تطلق لفظة الثقافة على تنمية الذوق الرفيع ، وبعضهم الآخر يطلقه على نتيجة هذه التنمية أي على مجموع عناصر الحياة ، أشكالها ومظاهرها في مجتمع من المجتمعات ، كذلك يطلقه بعضهم على نتيجة هذا الاكتساب ، أي على حالة التقدم والرقي التي وصل إليها المجتمع ، وإذا كان بعض العلماء يطلق لفظ الثقافة على المظاهر المادية ، ولفظ الحضارة على المظاهر العقلية والأدبية ، فإن بعضهم الآخر يذهب إلى عكس ذلك فيقرر أن لفظ الحضارة يدل على جملة المظاهر المادية ، بينما تدل الثقافة على مجمل النشاطات العقلية والروحية) (1). وإذا كانت الثقافة لدى بعض المفكرين أوسع من الحضارة ، فإن البعض الآخر يرى أن الحضارة أوسع من الثقافة ، لأن الحضارة عندهم هي الثقافة مضافاً إليها القوة التي بدونها تصبح الحضارة عبارة عن طور دفاعي عن الوجود الثقافي. ويؤكد أصحاب هذا الرأي على الفكرة التالية: (إن الحضارة تقوم على فكرة حضارية، ذات كيان متناقض ، وغير متطابق في كل جهاته ونقاطه مانحة إياها الحياة ، ويطلقون على هذه الفكرة الحضارية اسم (روح الشعب) أو (روح الأمة) والتي تطبع بطابعها المميز، ولا تنهض على هذه الفكرة الحضارية ، من وجهة نظرهم إلا حضارة واحدة.) (2). لتوضيح أكثر لصور التباين بين تعريفات العلماء والباحثين ، أعرض ما ذهبت إليه مجموعتين المانيتين الأولى من أنصارها كل من (راتناو ، و توماس )، حيث عرّفا الحضارة بأنها (مجموعة من المظاهر الفكرية التى تسود المجتمع ) وهما بذلك قصرا التعريف على الجوانب الفكرية المعنوية ، بما يطابق تعريف الثقافة ، أما المجموعة الأخرى ومنها كل من (ماكفر وشفيستر وادوارد تايلور) عرفوا الحضارة بأنها (ما توصل اليه مجتمع من المجتمعات فى الفنون والعلوم والعمران ) وهؤلاء بدورهم يقصرون التعريف على الناتج المادي للأمة فيصبح تعريفهم متداخلا مع المدنية (3). في الواقع وإن كان بعضهم قد وحد بين الحضارة والثقافة ، أو بين الحضارة والمدنية ، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن يتطابق مصطلح الحضارة مع كلا المصطلحين أو مع أحدهما ، بحيث يصعب النمييز بينهما ، وبالمقابل فإننا لا نستطيع أن نفصل بين هذه المصطلحات الثلاثة فصلاً تاماً ، لأنها مرتبطة ببعضها أشد الارتباط ، على ذلك يمكن القول بأن العلاقة بين هذه المصطلحات قائمة على أساس التداخل والتمايز في آن ، ولإزالة شيء من الالتباس القائم بين هذه المصطلحات المتداخلة من جهة ، والمتمايزة عن بعضها من جهة أخرى ، قال بعض الباحثين : (إن الثقافة تشمل الجانب الروحي والفكري والمعنوي من نشاط الفرد والجماعة ، في حين أن الجانب المادي العملي يقع تحت عنوان المدنية ، ويتمثّل في الحرّف والمهن والزراعات والصناعات المختلفة ، والأدوات والتجهيزات التي يحتاج إليها فيها ، وكل ما يلزم الإنسان في معاشه وحله وترحاله وسائر مناشطه العملية والترويحية ، أما حضارة أمة من الأمم فهي تعني مجموع مكونات ثقافتها ومدنيتها ، إن الثقافة تشكل روح الحضارة وعقلها وقلبها ووجدانها ، بينما تشكل المدنية مادتها وجسمها وهيكلها ، إذاً الثقافة ليست الحضارة وإن جزءأ منها ، وليست المدنية بل هي باعثتها والموجهة لها ، خلاصة هذا الشرح للعلاقة بين الحضارة والثقافة والمدنية تبلغنا نتيجة مفادها أن لكل حضارة مكونين رئيسين هما الثقافة والمدنية (4). يقول الباحث ـ جمال الحمداوي ـ في ورقته المعنونة (المقاربة الثقافـية أسـاس التنميـة البشرية) من المعروف أن الحضارة هي نتاج بشري مرتبط بالجهد الإنساني ، والعمل الدؤوب في زمن تاريخي وهي من شقين مادي (تكنولوجي) يشتمل على كل ما أنتجه الإنسان عمرانيا وتقنيا وآليا لإسعاد البشرية وشق ثقافي (كلشر) ، بحيث تشمل الحضارة كل ما هو معنوي وروحي وقيمي من أفكار ودين وفنون وعادات وطقوس ، وكل ما خلفته البشرية من تراث وآثار مادية ومعنوية ومنقولة وعالمية . ولعل من أوائل الذين قدموا تعريفا جامعا للحضارة العلامة ابن خلدون (5) ، إذ عرفها بأنها ( نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار ، ويضفى على حياة أصحابه فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة وإدارة شئون الحياة ، والحكم وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية) ويعرفها( توينبي ) بأنها ( مجموعة الأفكار والرؤى والقيم السائدة التي توجه الإنسان ، والتي تترك بصماتها وتلقي بظلالها على المنظومة الذهنية وأساليب وطرق التفكير لدى الإنسان ، وعلى الدولة والمجتمع ، وهي سمة المجتمع بما يحتويه من أفكار ومبادئ وعادات وتراثيات ، وطبيعة الحياة من الجهة النظرية والفكرية والعملية ، فالحضارة هي مجمل ما يحتويه الإنسان من ثقافة )(6). يلاحظ من التعريفات الأخيرة الجمع بين العنصرين المعنوي والمادي بما يجعل التعريفات أكثر كمالا وهو نفسه التعريف الذي بنت عليه العديد من المصادر ، حيث جاء تعريفها في معجم اكسفور : The process by which a society or place reaches an advanced stage of social development and organization. وعرفها ( وول ديورانت) مؤلف موسوعة قصة الحضارة قائلا : ( الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي ، وتتألف من عناصر أربعة هي موارد الاقتصاد والنظم السياسية والتقاليد الأخلاقية ومتابعة العلوم ) (7). من على مشاكي تلك التعريفات ، نطل لمناقشة السؤال المطروح حول مدى تطابق وتوافق منجزات الإسلام كدين ، واجتهادات علماء المسلمين مع مصطلح الحضارة ، حتى نتبين ما للوصف الشائع ( الحضارة الإسلامية ) من مصداقية تاريخية . كثيرون هم من عامة الكتاب والعلماء ، درجوا على إسباغ وصف الحضارة الإسلامية ، على منجزات التراث العربي والفكر الديني واجتهادات علماء المسلمين ، منذ أن أكتملت رسالة الإسلام وتوقف الوحي ونهض إثرها المسلمون ، فكيف جاء تعريفهم للحضارة الإسلامية : يعرفها الدكتور أحمد عبد الرازق بأنها : ( مجموعة من المفاهيم عند مجموعة من البشر وما ينبثق عن عن المفاهيم من مثل وتقاليد وأفكار ونظم وقوانين تعالج المشكلات المتعلقة بأفراد هذه المجموعة البشرية بعبارة أخرى مختصرة ـ هي جميع مظاهر النشاط البشري الصادر عن تدبير عقلي ) (8). يلاحظ من مقدمة التعريف أعلاه ميولا نحو التعريف العام لمصطلح الحضارة ، على الرغم من استخدام لفظ (مفاهيم ) عوضا عن عن عبارة (جهد بشري ) لدى الباحث جمال الحمداوي ، غير أنه عاد في مختصره وأضفى معنً أوسع باستخدام عبارة ( نشاط بشري ) . في ذات السياق يعرف الدكتور أحمد شلبي الحضارة الإسلامية بأنها ( ما قدمه الإسلام للمجتمع البشري من فكر يرفع شأنه وييسر أمور حياته ، ونقول للمجتمع البشري وليس للمجتمع الإسلامي فحسب ، إذ أن الإسلام قدم مآثره للبشر جميعا ، وبعض هذه المآثر يتضح مع غير المسلمين أكثر مما يتضح مع المسلمين (9) ) واضح من تعريف الدكتور أنه يعزي مفهوم الحضارة الإسلامية للإسلام كعقيدة ، متفاخرا بمآثر الإسلام على البشرية بحيث اقتدى بها غير المسلمين ، وعلى نسق مغاير ورد تعريف آخر يقول (بأنه مجمل ما قدمه المجتمع الإسلامي للمجتمع البشري من قيم ومبادئ في الجوانب الروحية والأخلاقية فضلا عما قدمه من منجزات واكتشافات واختراعات في الجوانب التطبيقية والتنظيمية ) . جوهر الفارق بين التعريفين أن التعريف الأخير يسبغ الجانب الاجتماعي على مفهوم الحضارة الإسلامية ، دون إغفال للجانب الثقافي الروحي والجانب المادي الذي أشار إليه بالاكتشافات والجوانب التطبيقية ، غير أن التعريفين يعليان شأن الجانب المعنوي الروحي ، لكونهما عماد تشكيل الشخصية المسلمة ، أما الجانب العلمي التطبيقي ، فلا جدال من أن علماء المسلمين من أمثال الرازي وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم والفارابي وغيرهم من التطبيقيين والفلاسفة ، كانوا يقتبسون من علوم حضارات أخرى قديمة ، كاليونانية والرومانية وقبلهما الفرعونية ، حيث تأثر علماء المسلمين في عصر الازدهار والترجمة بالفلسفة الإغريقية تأثراً واضحاً وأصبحت الفلسفة الإغريقية تمثل مصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية في عصرها الذهبي من هنا كان علماء المسلمين يتميزون بسعة الأفق والتكوين الموسوعي في بنائهم الفكري ، فكان الواحد منهم فقيهاً في الدين متقناً لفنون الجدل والكلام أديباً طبيباً كيميائيا رحالة جغرافيا (10) ، وكان عطاؤهم و جهدهم تطويرا لفنون حضارات أخرى ومعمارهم ، أسبغوا عليه أسلوبا جديدا يوافق تعاليمهم الدينية فبدا مستقلا . جاء عن الفيلسوف ( توينبي ) قوله : أن الباحث في الحضارة الإسلامية سيجد نفسه أمام حضارة لها خصوصيتها الذاتية وهويتها المتميزة ، كما أن لها نقاطاً تتقاطع بها مع الحضارات الأخرى ، وجاء في مقدمة الدراسة التي أعدها الباحث زياد عبد الكيم نجم : إنها حضارة جمعت بين الدين والدنيا ، وبين الروح والمادة بلا إفراط أو تفريط، ، وكانت الوسطية من أهم سمات هذه الحضارة ، والتي آمن بها أبناؤها كمنهج فكري ، وجسدوه سلوكاً عملياً في شتى مناحي حياتهم خصوصاً في طور نموها وازدهارها ، مما جعل الحضارة الإسلامية محط أنظار الكثير من الباحثين، سواء أكانوا من أبناء هذه الحضارة أم من أبناء حضارات أخرى ، حيث تم تناولها بالدراسة والبحث من قبل مفكرين ومؤرخين وباحثين من اتجاهات فكرية متعددة ، فأتت هذه الدراسات بآراء متنوعة ومختلفة ، وصل بعضها إلى حد التناقض ، حيث قرأ كل منهم هذه الحضارة من موقعه ، وفي ضوء الأيديولوجيا التي يعتنقها ، فوقع الكثير من دارسيها ولا سيما من أبنائها بين ضربين من المواقف ، رغم التدرج قرباً وبعداً بينهما ، فقد ذهب فريق نحو تعظيم الذات ونفي الآخر، فبقي أسيراً لألق الماضي وسحر بريقه ، وذهب الفريق الثاني إلى تضخيم الآخر وتقزيم الذات ، بعد أن رأى ما وصلت إليه الحضارة الغربية الحديثة ، وما آل إليه واقعنا اليوم (11 ). يبدو من ذلك أن الحضارة الاسلامية ، معني بها المنجز الروحي والمادي للمجتمع الاسلامي و نظم الخلافة الإسلامية ، أما الإسلام فهو دين وليس حضارة ، بمعنى أن الإسلام هو منظومة قيم وقوانين ناظمة للمجتمع فلو عُزّل الجانب الروحي لن يبقى سوى نظم الخلافة الإسلامية ، وهي نظم مبتدعة إستمدت شرعيتها من مبدأ الشورى القرأني من جانب ، واقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم تيمنا بما بايعه عليه اصحابة من جانب آخر، مع ذلك هنالك شق يتعين الوقوف عنده وتقديره بشفافية وتجرد . معلوم أن نهضة المسلمين في عصور إزدهارهم ، كان زمانها التاريخي في العصور الوسطى المتقدمة والمتأخرة ، وإلى قدر ما حتى سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية ، ذاك هو الحيز الزماني الذي يمكن التعويل عليه في وجود حيوي لحضارة إسلامية ، حتى وإن كانت مقتبسة في شقها المادي ، أما أن رغبنا البحث عن دور الحضارة الإسلامية كعطاء ومنجز خلال القرون الثلاثة الماضية منذ القرن التاسع عشر فلا نجد لها توقيعا يلفت الانتباه ، الأمر الذي جعل المسلمين منذ ذلك الوقت مجرد أمة متلقية ناقلة ومستهلكة لفكر ومنجزات الآخرين ، سواء كانوا من ملتهم من السلف أو من خارجهم . على ضوء ما سلف ، يمكن القول أن إستخدام مصلح الحضارة الإسلامية في هذا العصر، لا يشير سوى لنوع من إنعاش ذاكرة التاريخ بحضارة فقدت ريادتها ، وأضحت حضارة بايتة في شق إسهامها المادي ولم يبق من شقها الثقافي ما يعول عليه سوى الجانب الروحي المتعلق بالرسالة ، فهل يمكن التعويل على فرضية وجود صراع بينها وبين حضارة القرن الحالي ؟ في تقدري إن كانت الحضارة الإسلامية معنية ضمن ما عرف بصراع الحضارات ، فالمراد بالتأكيد لن يكون سوى منجزها الثقافي الروحي ، بحسبانه المنجز الوحيد الذي ظل يتمدد على حساب سواه من عقائد لا بقوة عطاء أومنجزات معتنقيه الحضاري ، بل بسر خصائص ذاتية أودعها الله فيه ، إن الله يهدي بنوره من يشاء ، ومتمّ نوره ولوكره الكافرون ، فلمسلمون فقرهم جلي عند المقايسة مع واقعهم العصري ، فقراء حتى فيما يتعلق بتنقيح اجتهادات أسلافهم الفقهية المتداولة من أوان إزدهار الحضارة ، فتراكمت الأسئلة المعرفية وهي أسئلة في غاية الحساسية ، جاوبت عليها حضارة العصر ، بينما إنقسم حيالها المسلمون بتعددهم المذهبي ، بين منصرف عنها ورافض لها أو راض عنها . عمدة القول أن المسلمين لم تعد لهم حاجة في هذا العصر ، لبذل جهودهم في التنقيب عن دورهم الحضاري الماضوي المعروف سلفا ، فهو تاريخ لن تنكره البشرية ، أما القول بإحياء حضارة أفلّت أو في طريقها للافول ، لا يعدو كونه كمن يتمنى العودة لمرابع الصبا بعد هرم ، ولعل تجارب البشرية لم تثبت بعد حياة للشيء بعد موات . علينا كمسلمين أن نقلع عن هز شجرة التاريخ ، وأن نركز أبحاثنا عن وسيلة تدمجنا في حاضرنا بمدلولاته المعبرة عن العصر ، دون بعد أو انفكاك عن رسالة القرآن وقيمه العقدية ، بحسبانها الرسالة الروحية الباقية ما بقي لهذا الوجود من بقية . ختاما ليست غايتي من هذا البحث أن أثبط روح البحث والتقصي التاريخي لتراث ومنجزات الحضارة الإسلامية ، كضرب من ضروف المعرفة التوثيقية ، غير أنني أنتقد التعويل عليها كدافع لنهوض الأمة فالأمم لا تنهض باجترار ما ضيها كيفما كان زاهرا ، بل بتقييم حاضرها و البحث فيما يسعى بها نحو رقيها ، ولا رقي سوى بمقدار ما تقدمه من مثل وقيم إنسانية ومنجزات تسعد البشرية ، فهل بمقدورنا تقديم منجز بشري يضاهي منجزات العصر ونحن جلوس على مقابر التاريخ ؟
...........
مراجع 1 ـ ـصليبا ، جميل ، المعجم الفلسفي ، الجزء الأول ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 1978 م. 2 ـ حميدان ، إيمان ، فلسفة الحضارة عند هربرت ماركيوز ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، 2005 م. 3 ـ زيادة، معن، الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الأول، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط ،1986م. 4 ـ زياد عبد الكريم نجم / أرنولد توينبي / نظرية التحدي والاستجابة ـ الحضارة الاسلامية نموذجا . 5 ـ ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ، ط2 ، 1988 م. 6 ـ زياد عبد الكريم نجمم / أرنولد توينبي / نظرية التحدي والاستجابة ـ الحضارة الاسلامية نموذجا . 7 ـ قصة الحضارة، الجزء الأول، ترجمة: زكي نجيب محمود، مطابع الدجول، القاهرة ، ط 5 ، 1971 م. 8 ـ أحمد عبد الرازق أحمد : الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ، القاهرة : دار الفكر العربي، 1990. 9 ـ أحمد شلبى : موسوعة الحضارة الاسلامية / الجزء الاول ، الطبعة السادسة 1989 . 10 ـ فلسفة التربية / د . محمد عبد الرءوف عطية ـ كلية التربية جامعة ام القرى . 11 ـ زياد عبد الكريم نجم / أرنولد توينبي / المرجع أعلاه. .................... صدقا هل الحضارة الإسلامية حضارة نقلية أم مبتدِّعة ؟ (2) بقلم / محمد علي طه الملك في الجزء الأول من هذا المقال الذي نشر بهذه الصحيفة وصحف الكترونية أخرى ، كاتبني وحثني عدد من المعلقين والقراء ، بغية إضفاء مزيد من التقصي والإبانة لفضاءات الإجابة على السؤال المطروح وها أنا أجلس مرة أخرى أستنطق المراجع والبحوث المتاحة أمامي على قلتها ، عليّ أوفق بمشيئة الله . في الجزء الأول انتهت خلاصة التعريفات لمصطلح الحضارة بأنها جماع النشاط البشري بشقيه الثقافي والمدني للمجتمع في زمان معين ، وعُرفت الحضارة الإسلامية منسوبة للتعريف العام مضاف إليه في الشق الثقافي العقيدة الإسلامية ، كمحور يشكل هوية المسلم ويوجه نشاطه الفكري ويضبط سلوكة الإجتماعي . وجود الدين أي دين سواء أكان توحيديا أو مشركا ضمن البناء الثقافي في أي مجتمع ، ظل من الأمور التي لم يخطؤها أي بحث أو دراسة أجريت عن الحضارات السابقة لحضارة هذا العصر، بمعنى أن حضارة هذا العصر وحدها التي لم يسهم الدين كمقوم ودافع روحي في تفجير طاقتها ، لذا فإن نعتها بالحضارة المادية (1) نعت لا يجافي الحقيقة ، وإن انصرف نحو تعييب قصور الجانب الروحي عنها كذلك لم تكن الحضارة الإسلامية في مسارات نهوضها التاريخية نشازا عن مثيلاتها السابقات ، حيث شكّلت العقيدة بمحورها الغيبي وغايتها التوحيدية موئلا لفضائها الثقافي . هذه المقاربة بين حضارة العصر وسابقاتها بما في ذلك الحضارة الإسلامية ، جرى القصد من ورائها إبراز وتأكيد حقيقة بعينها ، هي أن الحضارة ليس بالضرورة أن تنهض مصحوبة بعقيدة ضمن مقومها الثقافي ، فالحضارة الحديثة إزدهرت ماديا دون أن تدير تروسها أو تفجر طاقتها روح عقدّية ، ومن ثم فإن الحاق لفظ الحضارة الإصطلاحي بالإسلام ، ليصبح المنطوق ( الحضارة الإسلامية ) لا أجد مسوغا له ، لا سيما وأن الإسلام دين ، ولفظ الحضارة لفظ وصفي يقبل التضاد ، كأن تقول حضارة متقدمة أو متخلفة وتلك صفات بالغة الحساسية إذا ما استخدمت تجاه المعتقدات ، فإن كان من بد ـ فإن استخدام مصطلح (حضارة المسلمين ) هو الأوفق ، لكون الوصف إن جاء سالبا يصبح الموصوفون هم البشر وليس عقائدهم. غني عن القول أن الحضارات كيفما تباعدت مسافة زمنية أو جغرافية ، لا تنعزل عن بعضها ، سواء في شقها الثقافي أو المدني ، دعوني أشير لمثالين معلومين في ثقافتنا المحلية ، دولاب الساقية والمركب الشراعي ، الأول حسب تقنيته الصناعية مؤلف من حلقات ذات تروس ، تتداخل مع بعضها لتنقل الحركة إلى الحلقة الحاملة لجرار الماء ، هذه التقنية هي نفسها عماد التقنية الميكانيكية الآلية إلى يومنا هذا ، أما المركب الشراعي فقد انتقل بذات تصمييم وهندسة هيكله الخشبي وذراعه الشراعي ، إلي السفن الشراعية العابرة للمحيطات ، قبل أن تحوّلها النهضة الصناعية إلى سفن آلية الحركة ، إذن انتقال أو نقل المعارف في شقها التطبيقي بين الحضارات البشرية لم يكن يحول دونها حائل ، من هنا لا أرى شططا عندما توصف منجزات علماء المسلمين العلمية والفلسفية بأنها نقلية ترد إلى مصادرها في حضارات شعوب أخرى، غير أن الأمر يبدو مختلفا وربما ينزع للاصطراع عندما يتعلق بالشق الثقافي ـ بوجه أخص ـ حين يكون الدين أي دين موئلا لثقافة ما ، ذلك لأن الديانات تستوي بصفة عامة في نزوعها نحو تطويق فضائها المعرفي بكوابح تحول دون الحرية الفكرية ، فيصبح المعتنق ترسا في آليتها يعز عليه الانخلاع عن المسار دون خسائر جسيمة ، ومن بدائع سنن الوجود أن تصبح هذه الخاصية الدفاعية بذاتها الآلية التي تثبط أو تُجمّد روح الخلق والتجديد ، بالقدر الذي يتساوق مع حركة الاجتماع البشري وقوى الطبيعة غير الساكنتين. كان العلماء والفلاسفة بدافع شخصي وجهود فردية لا تسندها المؤسسة السلطانية ولا تعيرها اهتما إلا فيما ندر، كانوا على قدر التحدي في البحث والنفاذ إلى علوم زمانهم ، ولكن بدورهم لم يكن بمقدورهم تسويق منتجهم العلمي دون تقيّد بتلك المشيئة بكثير عنت ، والأمثلة الموثقة يضيقق عنها مساحة هذا المقال ، ولم تكن حظوظ العلماء المسلمين أفضل من رفاقهم إن لم تكن الأسوأ ، مع ذلك فلامندوحة من الاعتزاز بإسهامهم الذي أثرى مقدمات النهضة العلمية والفكرية عن طريق الترجمة (2) ، غير أن ذلك لا يفي المطلوب لإسباغ مصطلح الحضارة إستنادا على تلك الجهود ، ذلك لسببين : الأول ـ أن منجزات اؤلئك العلماء علمية كانت أم فكرية ، تندرج تحت مفهوم الثقافة ، وهو مفهوم أضيق من حيث السعة عن ماعون مفهوم الحضارة . السبب الثاني ـ استحلب أولئك العلماء أفكارهم وأنجزوا أعمالهم بجهود شخصية ، دون إسهام من مؤسسسة إسلامية أو دولة مقبلة لا مدبرة عن معارف عصرها غير الدينية ، مما أفقد بحوثهم الدعم المادي والرعاية المؤسسية ليربو ويزدهر وينتج أثره في الحياة العامة ، بل نجد على النقيض من ذلك ، حيث تحاوشتهم المحن من كل صوب ، يتبعها الاضطهاد وتلمزهم الزندقة أين حلوا ، فذاك ابن رشد من أوائل علماء الطب والرياضيات ، يُنفى من وطنه اشبيلية إلى المغرب وتحرق كتبه ، ويعقوب الكندي الذي اتهم بفكر المعتزلة فأمر الخليفة المتوكل بضربه وحرق مؤلفاته ، وابن سينا والجاحظ وغيرهم كثر ، ولا أجد سببا لما كان يُعرّض العلماء للاضطهاد من قبل السلطة الرسمية وفقهائها المعاضدين ، سوى الخشية على سطوة استلابهم لوعي الرعية ، وهو ذاته المنهج الذي لم يتجاوزه المسلمون إلى الآن ، لذا نجد أن عصر الحداثة لم يكن له أن يرى النور لو لم تشنج أوربا فكرها الكنسي في عصر النهضة والإصلاح ، وتفصل بين السلطتين الروحية والزمنية ، فاردةً للحريات أشرعتها بما في ذلك حرية الاعتقاد ، على الرغم من أن قصب السبق في هذا المضمار سجله القرآن في سورة الكافرون. يستخلص من ذلك أن دور السلطة وفقهائها في سائر عصور نهضة المسلمين ، لم يكن مبشرا ومستبشرا بنهضة العلم المدني والعلماء ، وكان أقل ما يواجهوا به تهمة الزندقة كمدخل يبرر حرق مؤلفاتهم ، ولعل بحث واستقصاء هذه العلة التي أقعدت تطور المسلمين ، يجدها قابعة في نظم الحكم الإسلامي ، فهي نظم نشأت تجمع بيد خلفائها وأمرائها السلطتين الروحية والزمنية ، الأمر الذي أخضع مصائر وأرزاق فقهاء الدين ومفسريه لسلطة الحاكم ، فخرّجوا اجتهاداتهم وفتياهم بما يرع مصالح الحكام لا الرعية ، فالرعية أمرها موكول للفقهاء يعظونهم بطاعة الولاة بأسانيد فقهية ، كتب الدكتور مصطفى محمود في ذات السياق متخذا من مقولة كارل ماركس الذائعة مدخلا فقال : (كثير من الناس عندما تسمع هذة العبارة يتولد لديها شعور سلبى تجاهها وهى( الدين افيون الشعوب ) بالطبع كلنا سمعنا هذة العبارة وسيجيب الكثيرين ان ماركس يعنى بها مهاجمة الدين والدعوة للالحاد ولكن لو استكملنا معا النصف الثانى من العبارة (الدين افيون الشعوب وزفرة المستضعفين فى الارض) هل تغير شىء؟ هل تغير المعنى؟ حسنا الى من لم يلاحظ ماركس عندما قال هذة العبارة لم يكن الافيون فى ذلك الزمن سوى مسكن للالام ، لم يكن يقصد مهاجمة الدين بذاتة ولكن عنى هنا رجال الدين الذين يحرصون على استغلال الدين فى قلوب وعقول الناس لتحقيق مصالح الطبقات البرجوازية المستفيدة من تخدير الشعوب عن حقوقهم المسلوبة . فقط اريد ان استرجع معكم كيف يأفن الدين فى المجتمع لخدمة طبقة معينة عندما نشاهد شيوخ وأئمة يتحدثون للفقراء ويطالبونهم بالصبر والقناعة وعدم التظر الى ما فى يد الغير ويبشرونهم بانهم سيدخلون الجنة قبل الاغنياء ب70 خريفا ! ). ربما وضع الدكتور إصبعه على جرح تاريخي ظل متقيحا إلى يومنا ، كّنهَّ مرجعيته رائد علم العمران البشري العلامة ابن خلدون ، حين عزا أسس نظم الحكم وقيام الدولة في ديار المسلمين إلى العصبية (3) وهي عصبية تم تقنينها في سقيفة بني ساعدة ، عندما تفتقت قرائحهم عن شرطي القرشية والهجرة لتولي الخلافة (4) ، ولعل الناظر لتاريخ نظم الحكم الإسلامية ومنجزاتها طوال عصورها الموصوفة بالإزدهار والغلبة ، يجد الأبرز توثيقا فيها سِيّر الحكام وولاتهم وجملة من الغزوات والفتوحات منسوبة إليهم ، تلك وحدها الجالسة في مقدمة الحصاد التاريخي للمسلمين ، صحيح أن الفتوحات غاية رساليه توظف لها إمكانات الدولة وجندها من المسلمين ، غير أن النظرة القيمية لعائد تلك الفتوحات العظيمة لدى الحكام والفقها جاءت سالبة ، لا تتجاوز محصلتها الغنائم والضرائب أو الجزية ، وضم أرض لدار المسلمين دون اعتبار أو رؤية مبصرة للتوابع من مداخيل ثقافية ، وإرث نظم ديوانية منضبطة ، وبشر مأهلون في ضروب شتى من المعارف وموارد هائلة ، وزكائب من أشغال العلماء ، الأمر الذي أفقد المسلمين فرص تأسيس نظم ودواوين حكم متقدمة على نظم الشعوب التي أخضعوها ، تبدأ من حيث انتهوا إليه من فنون الحكم وإدارة اقتصاد الدولة وتطوير وسائل العيش وترقية البنيات التحتية ، بحيث تصيب الرفاهة المجتمع بأسره ، واحقاقا للحق لم أجد مثل هذه النظرة القيمية تبدو شاخصة إلى قدر ما سوى لدى من فتحوا الأندلس ، ذلك قبل أن تسري بينهم آفة العصبية وتحيلهم إلى دويلات متصارعة سهُل ابتلاعها. اختلف الباحثون حول طبيعة نظم الحكم الإسلامي على تباينها ، من عصر الخلافة الراشدة إلي عهد الخلافة العثمانية ، منهم من وصفها بالنظم التيوقراطية ، ومنهم من وصفها بالأوليجارشية ، ومنهم من قال بانها نظم أرستقراطية بالغة الإستبداد ، ومنهم من اكتفي بوصفها إسلامية (5) ، بل ذهب البعض لأعمق من ذلك ، وهم ينفون الصفة السياسية عن الإسلام ، ويرونه دينا فسحب ، وفي هذا السياق يقول الشيخ على عبد الرازق ( كل ما جاء به الإسلام إنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ، سواء أوجدت للبشر مصلحة مدنية من هذا الشرع أم لم توجد ، والإسلام لم يهتم بتدبير أمور الدنيا ، ولم يتعرض للحكم ، ولم يُعن بالسياسة لأن هذا من أغراض الدنيا ) (6 ) ، وذهب الدكتور حسين فوزي النجار لذات المنحى قائلا ( أن محمداً كان يؤكد الفصل بين ما يوحى إليه وبين ما يسوس به المسلمين من نفسه ، والإسلام لا يجمع بين الدين والدولة ، وأن محمداً لم يبعث ليقيم ملكا وينشئ دولة ، وما كان إلا نبيا ورسولا إلى الناس كافة (7). ولإن كانت نظم الحكم كما وثقها المؤرخون ، نهضت على مرجعية عصبية ، ومضت على سنن الغلبة والوراثة ، تصبح حضارة المسلمين قعدت عن استحداث نظام في هذا المضمار، على الرغم مما بسطته الرسالة بين أيديهم من شورى كانت تعني أول ما تعني فتح الأبواب أمام الناس لتسهم برأيها وتبني مؤسساتها ، لا فتحها بالمفاضلة لأقلية مقربة قصرّت سابغها انتصارا لعصبية ، هذا بحانب ما أدنته الفتوحات من خبرات لنظم تليدة من السند للنيل للفرات ، عوضا عن ذلك تبنوا نظما عصبية أولية ، سبقهم إليها الاجتماع البشري من آلاف السنين ، منذ ارتقت تكويناتهم سلم الحياة الجماعية . رُبّ قائل لم تكن هذه النظم بلا مؤسسات من ديوان للحكم له مؤتمن و وزير ، وبيت مال ودواوين للجند والقضاء والحسبة وتراتيبية إدارية ومقاطعات إداريه عليها ولاة ..الخ ، كل ذلك موثق لا ينكره أحد، غير أنها لم تكن على سراط من دينها وشأن رعاياها ، فأهل السلطان في العهود الأولى ما كان يعنيهم كثيراً بيان الشرع لهداية الناس في حياتهم الخاصة ، وعلاقتهم الاجتماعية والمالية ، إنما يريدون أن تُخلّي لهم ولاية السلطة بحكم الأمر الواقع عن قوة لا شرعية ، وتصريف السياسيات والأموال العامة ، وأخذ من يكره أو يقاوم سلطانهم بما يصدّه إلى سكوت مكبوت ، بل يلتمسون في ذلك فتاوى تبارك ذلك الواقع باسم الدين (8) ، والحال كذلك لا أجد وصفا لتلك النظم بغير أنها نظم حذقت المعلول من ضروب سياسة الحكم مما أسقط سيرة التحامها بالنظم المنتجة للحضارة بكليتها الاجتماعية ، بعيدا عمّا وفره الإسلام من تعاليم وظفّت لتقويم السلوك الاجتماعي والأخلاقي للمسلمين ، فكان الناتج اشتغال الفقهاء في إطار تنافسهم بتفاصيل فقهية بددت طاقتهم البحثية ، وصرفت أذهانهم عن التفكير في تطوير مستويات الحياة فيما يمس حاجة الإنسان من وسائل مادية تسهم في الارتقاء بمعاشة. لعل الناظر في حصيلة المسلمين من فنون ومعمار ، أيضا يجدها التمست مرجعيتها في حضارات أخرى حيث نشأ الإسلام في بيئة صحراوية ، وبين أقوام يغلب عليهم البداوة ، وكان الأشهر في بيئتهم فنون الشعر والخطابة ، غير أن الفن المعماري كان له وجود مقدر في جنوبي الجزيرة العربية ، إذ سادت بها حضارات قبلية لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فضلا عن حصون ومبانٍ زانت بعض الحواضر القديمة مثل يثرب ، وكانت حصون يثرب وقفا على سكانها اليهود ، على ذلك يمكن القول أن أول بناء أقامه المسلمون هو بيت ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب ( المدينة) ، لقد شكل هذا البناء على بساطته قاعدة تصميمية سار عليها المسلمون في بناء مساجدهم (9)، ولعل الناظر للفن الإسلامي بمختلف اشتقاقاته ووظيفته يجده مطبوعا بالهوية الإسلامية ، مع ذلك لا تنكر المصادر أن أصول الفنون الإسلامية مجتزأة من حضارات أخرى ، فارسية وساسانية وبيظنطية وقبطية ، وهندية ، باستثناء فن الخط العربي الذي أسس لقاعدته كتاب المصاحف ، لقد حصر الدكتور محمد هاشم النعسان أبرز العمائر شيوعا في العمارة الإسلامية في المدارس والضرائح والخانكة والسبيل والخان والسوق والحمامات والقصور(10) ، يستشف من ذلك أن الفن الإسلامي كان ذو صفة أميرية ، مصبوغ بملمح صفوي لا يطوله العامة ولا يتطلع إليه الشعب . لقد نشط العديد من الباحثين والكتاب بدافع الغيرة والعاطفة الدينة ، على تأصيل مفهوم حضاري للإسلام فجاءت بحوثهم وكتاباتهم في كثير من الأحيان تزاوج بين المدنية ذات الهوية المادية ووظيفة الإسلام الرسالية (11) ، غير أن مضاهات وقائع التاريخ ومقاربتها لا تنحو إليهم ، ولا تقطع بنشوء حضارة بمعناها الإصطلاحي كان للمسلمين فيها اليد العليا ، بل ثقافة روحية توحيدية ناظمة لعلاقاتهم الاجتماعيه يعوزها نظام مدني وسياسي لم يكن من غايات الرسالة كرسالة لكافة العالميين (12)، ذلك كيفما اجتهد المسلمون على إسباغ هويتهم على مدنيات مستلفة من شعوب أخضعوها بسنن الجهاد ، من هنا جاء سعي الحكام حفيا بدنيا يصيبونها بمعزل عن رعاياهم باسم الدين، أظهرت نظمهم السياسية ومدنيتها أميرية صفوية الطابع. ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, (1) أ . د عبد الحليم عويس/ الإسلام وحضارته في مواجهة الحضارة المادية والفوضوية / مقال منشور بموقعه الالكتروني حسن عبد الحي / الانبهار بالحضارة الغربية المادية / مقال منشور بموقع الألوكة الثقافية . (2) موسوعة عباقرة المسلمين / رحاب خضر عكاوي / دار الفكر العربي بيروت 1993م (3) ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ، ط2 ، 1988 م. (4) تاريخ اليعقوبي /ج 2 ط 1375هـ. (5) د. إسماعيل البدوي ، نظام الحكم الإسلامي مقارنا بالنظم السياسية المعاصرة ، دار الفكر العربي 1986م . (6) الشيخ علي عبد الرازق ، الإسلام وأصول الحكم ، مطبعة مصر 1925م. (7) د. حسين فوزي النجار ، الإسلام والسياسة بحث في أصول النظرية السياسية ونظام الحكم في الإسلام ، مطبوعات دار الشعب القاهرة. (8) د. حسن عبد الله الترابي / النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع . (9) د .سعاد ماهر محمد، العمارة الاسلامية على مر العصور، جدة 1985. (10) د . محمد هاشم النعسان / أسس ومبادئ العمارة الإسلامية / مقال . (11) انظر كل من / د . أحمد عبد الرازق : الحضارة الإسلامية فى العصور الوسطى. سعيد عاشور وآخرون : دراسات فى الحضارة العربية الإسلامية –الكويت 1986م. (12) د. حسين فوزي النجار ، المرجع أعلاه.
|
| |
|
|
|
|
|
|
|