البيت الصغير ، الأرضية التي كانت حتى وقت قريب مفروشةً بحبيبات الرمل الذهبي الناعم ، السقف المعروش بسعف النخيل المصفوف بعناية بالغة ، رائحة المساء التي تأتي بعد أن تعانق المياه الأرض بشوق العاشق لاحتضان حبيبته عند غياب أعين المتلصصين ، بخار الماء المتصاعد من الأرض التي تنتظر مساء كل يوم حتى تستحم بلا خجل أمامنا ، الحب المتدفق من أنامل المراهقين الذين يحملون ( العناقريب ) حتى يكتمل فرش ( الحوش ) في انتظار الزائرين ، و تبادل الأحاديث البسيطة بكل عفوية أثناء ارتشاف أكواب الشاي الممزوجة بالحليب و البهارات المخصصة له ، طباخة الشاي فن لم يعد له وجود ، إندثرت هذه العادة مع العديد من الأشياء التي إندثرت في هذا الزمان الغريب . الزمان النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي ، و أنا أمارس هوايتي المفضلة بالخروج من منزلنا و التسلل عبر الشارع إلى ذلك الحوش المسور الغير مأهول بالسكان ، أدلف إليه و أتوجه مباشرة للحائط المبني من طين الأرض الذي يفصل بين ذلك ( الحوش ) ، وبين بيت العم ( سالم ) ، أتسلق الحائط و أقفز داخل منزلهم كالمعتاد فأنا أحب أن أدخل إلى منزلهم عن طريق الحائط .. لا أدري لماذا ! وهم يستقبلونني دوماً ببشاشة و رحابة صدر، أجلس و أجلس أتبادل معهم أطراف الحديث و الرسم علي أرضية الغرفة، و إنتظر بلهفة عودة خالتي ( مستورة ) من العمل ، حتى نتناول طعام الغداء المكون من ( فته ) الكسرة بالماء وبعض بقايا الرغيف مع عجينة الفول السوداني ( الدكوة ) بالبهارات، نتحلق كلنا حول تلك المائدة البسيطة الغنية بالحب . تلك الأسرة الرائعة التي قدِمت من جبال النوبة زرعت في داخلي أول تعاليم الإشتراكية الفطرية و ساهمت في توجيهي الى الاتجاه الصحيح ، و أثبتت أن الكرم و مكارم الأخلاق هي غرائز فطرية في البشر ككل ، و أن الثقافة العربية التي تحاول أن تجعل مكارم الأخلاق عربية الهوية ليست سوى ثقافة مزورة بنت مجدها بالتعتيم علي الثقافات الأخرى . لم أتجرأ أن أدعو أي فرد من تلك الأسرة ، للقدوم وتناول أي نوع من أنواع الطعام في بيتنا المبني من ( الإسمنت ) فعلاقتنا العائلية باردة كحوائط منزلنا تماماً ، فأختي الكبيرة لا تريد أن يزعجها أحد وهي تستلقي علي كرسي الجلوس وتشاهد القنوات الفضائية ، التي كانت حكراً علي طبقه معينة من المجتمع في ذلك الزمان ، و أمي أيضاً لا إعتقد أنها مستعدة لتستقبل أصدقائي و هي التي تمنعني من الذهاب إليهم و توبخني بعنف إن رأتني العب كرة القدم مع أحد أبناء تلك الأسرة ، لا أدري ما السبب الذي يجعلها تفعل ذلك ، فبيتنا الكبير يمكن أن يسعنا جمعياً و الطعام الذي عندنا يمكن أن يشبعنا كلنا ، لكن الطعام الذي في بيتنا لم يصنع بحب مثل الطعام الذي في بيت العم ( سالم ) ، يا لقسوتي وتفكيري الأناني ، إنهم يقاسمونني زادهم البسيط الذي لا يكفيهم بحب وأنا لا استطيع أن أتقاسم معهم وجبة طعام بسبب القيود الطبقية الظالمة التي تسيطر علي عقول المجتمع . لازلت أذكر ذلك اليوم الذي قفزت إلى منزلهم كالعادة ، و وجدت والدة العم ( سالم ) وقد جاءت في ذلك اليوم من قريتهم التي نسيت إسمها لكني أعرف أنها من ضمن القرى المحاصرة و التي تتلقي نصيبها من القصف بالطائرات الحكومية كل يوم ، بمعجزة إلهية تمكنت ( حبوبة ) من الهرب من القرية برجل محروقة بمادة كيميائية جعلت قدمها بعد أن شفيت من الحروق، متورمة ومتضخمة ، وشبه عاجزة عن الحركة إلا بمساعدة عصا تتوكأ عليها، وما زلت أذكر ( سفنجتها ) مربوطة بقطعة قماش في أسفل قدمها حتى تظل ثابتة ولا تنزلق أثناء تحركها . لماذا ؟ لماذا تقوم قوات بلادي بقتل الأبرياء من المدنين والعزل ؟، دار هذا السؤال في مخيلتي و أنا لم ابلغ الثانية عشر من العمر في ذلك الزمان ، تذكرت في تلك اللحظة ذلك البرنامج السخيف الذي يتابعه أخي الأكبر ( ساحات الفداء ) و عرفت أن آخي مخدوع مثل الكثيرين ، وأن الأبطال الذي يحاول ذلك البرنامج تسويقهم ، ليسوا سوى سفاحين وقتلة مأجورين ، و الدليل الماثل أمامي هو هذه السيدة التي كانت أكثر سكان تلك القرية حظاً و خرجت من تلك القرية التي قُتل أغلب سكانها، عندما نجت هي بمعجزة إلهية . لم يكترث أحد منهم بوجودي معهم في ذلك اليوم ، ولم يقم أحد بمداعبتي أو تبادل أطراف الحديث معي فقد كانت صدمتهم اكبر من كل شيء عندما عرفوا أنهم صاروا بلا أقارب ، فكل أفراد شجرة العائلة تم إحراقهم وقتلهم بواسطة طائرات النظام الإسلامي . عقلي الصغير يكاد ينفجر فهؤلاء أيضاً مسلمون و ( حبوبة ) رغم آلامها مازلت تصلي بخشوع رغم أن ذلك البرنامج السخيف يعلن أن هذه الحرب هي لنصرة الإسلام ، لم يستوعب عقلي الصغير هذه التناقضات ، جلست علي الأرض و تقافز الدمع من عيني ، لم استطع أن أخبر أحداً بما اشعر به ، لم أتوقف عن البكاء إلا في حضن خالتي ( مستورة ) التي طلبت مني العودة إلى المنزل ، لأن الوقت قد تأخر . عدت للمنزل و لم أتكلم مع أحد من إخوتي أو أمي أو أبي لكن قررت أن أضع حداً لأكاذيب النظام ، وقمت بكسر التلفاز حتى لا يقوم ذلك البرنامج اللعين ببث الأكاذيب داخل منزلنا ، و خداع أخي الأكبر . قامت أمي بتوبيخي ، و عند منتصف النهار كان عندنا تلفاز أكبر و أكثر حداثة من التلفاز السابق .
الرئيسية / المقالات والتحليلات / المتمرد ( ٢ ) عزام مرسي المتمرد ( ٢ ) في المقالات والتحليلات أكتوبر 26, 2016
ندرت زياراتي لبيت العم ( سالم ) ، رغم حوجتي لمشاركتهم لحظات الدفء و الحب أثناء تناول الطعام ، لكن لم أكن استطيع أن أدعوهم لتناول كوب من الماء في منزل عائلتي، فأنا مجرد طفل متمرد يعيش في عالم غير متوازن، محكوم بالقَبَليَّة البغيضة و التناقض العجيب في تنفيذ تعاليم الدين و عدم المساواة في كل شيء، هذا هو القاسم المشترك بين الجميع ، لفترة طويلة افتقدت السعادة و الحب و المشاعر الدافئة و الأمان الذي كنت اشعر به وسطهم ، افتقدت مزاح (صفاء ) معي وهي تطلب مني أن أعطيها شعري الناعم و أخذ شعرها الأفريقي المتشابك بقوة ، إنها لا تعرف كم كنت أتمنى لو استطيع أن آخذ شعرها الجميل وكم أحب قسوته وتجعده ، هي لا تعرف أني كنت أحاول أن أجعد شعري بمشروب ( البيبسي ) ، لكن للأسف لم أكن احصل سوي علي مضايقة الحشرات التي تطارد بقايا السُكر العالق في البصيلات بسبب ذلك المشروب ، الذي كنت استخدمه كمقوي ومثبت للشعر ، في ذلك الوقت لم نسمع بعد بما يسمي ( الجل . ( ( صفاء ) كانت تكبرني بثلاثة أعوام ، نبتت ثمار البرتقال علي صدرها الممتد كما ساحل البحر الأبيض المتوسط، البراءة التي تشع من نقاء عينيها شجعت قاطفي البرتقال غير الشرعيين لمحاولة الحصول علي تلك الثمار خلسة ودون مراعاة لمشاعر الطفلة التي لم يكن لها ذنب في خصوبة تربتها قبل موسم الزراعة الطبيعي ، خلف الشفاه الإفريقية الشهية إختبئت مجموعة من اللآلئ البكر ناصعة البياض التي لم تتدخل في صفها أيدي البشر ، كانت ابتسامتها لا توصف و لا تقارن . في بعض الأحيان كنت أرافقها لشراء ( الدكوة ) أو الصابون من البقالة الموجودة في وسط الحي الذي نسكن فيه ، كانت نظرات الجميع تطاردها و بعض العبارات التي استعصي علي فهمها في ذلك الوقت ، كانت تتململ في الذهاب للبقالة لكن تحت إصرار خالتي ( مستورة ) كانت توافق علي الذهاب شرط أن اصطحبها أنا أو أحد إخوتها الصغار ، كانت تقف خارج البقالة و أنا أتناول الأغراض من يد صاحب البقالة الذي كان يتضايق من وجودي معها ، في ذلك اليوم ذهبت معها كالعادة لكن صاحب البقالة طلب مني أن أحضر له الراديو من ( الراكوبة ) التي شيدها علي بعد أمتار علي حائط المنزل الملاصق لبقالته حتى يأخذ فيها قيلولته نهاراً ويبيت فيها عندما عند انتصاف الليل .ركضت. بسرعة حتى أجلب الراديو، تركت ( صفاء ) لوحدها معه تشتري الحاجيات. لم أجد أثراً للراديو ، تنبهت أني سمعت موسيقى برنامج ( عالم الرياضة ) المميزة تنبعث من وسط البضائع في البقالة ، لم افهم لماذا طلب مني البحث !، ربما كان يمازحني !، ركضت عائداً بسرعة فإذا بي أشاهده وهو يحاول أن يقطف برتقال ( صفاء ) بالقوة، كانت تقاومه بصمت و دموعها الغزيرة تسقي وجنتيها في خوفٍ وخجل، لم أفهم طبيعة المشهد القذر، لكني تأكدت أن ( صفاء ) ليست بخير، و أنها تعرضت لشيء ما بالغ القسوة، لم أستوعب في ذاك الوقت أنني شاهد عيان علي طفولة تنتهك، لم أتمالك نفسي عندما رأيت دموع ( صفاء ) عرفت أن مكروهاً قد حدث لها ، لم اشعر بنفسي إلا و أنا أقذفه بزجاج ( البيبسي ) الفارغ ، أتذكر أن صفاء أمسكت يدي و ترجتني أن نعود للمنزل ، سالت بعض الدماء من جبهة ذلك الشخص البغيض ، شعرت بالخوف لأنه سيضربني و يسبب لي المتاعب مع عائلتي، لكن لم أتمالك نفسي لأن الدفاع عن أختي ( صفاء ( واجب مقدس . لم نخبر أحد بما حدث ، ليتنا أخبرناهم لكن الخوف كان بداخلنا كأننا نحن المخطئين ، كان صمتنا السبب في الكارثة القادمة . ماتت ( حبوبة ) فجأة لم يُعرف السبب ، ربما لم يكن هنالك سرداق عزاء ، عدد أقاربهم في العاصمة اللعينة لا يتجاوز أصابع اليد، بضعُ نسوة من الحي دخلن لبيت العم سالم من باب المجاملة لا أكثر ، غابت السعادة عن ذلك البيت الصغير ، امتدت آثار الحرب اللعينة إلى غرفة النوم الوحيدة التي كانوا يتقاسمونها بسعادة و حلت الكآبة بديلاً لها . في اليوم الرابع و أنا برفقه احد زملاء الدراسة وجدت خالتي ( مستورة ) تقوم بنظافة منزلهم ، قمت بمساعدتها قليلاً قبل أن تقوم والدة زميلي بتوبيخها، كانت تنظر إلي الأرض فقط كنت أنا محور الحديث ، لم تكن أم زميلي راضية عن الخالة ( مستورة ) لأنها سمحت لي بمساعدتها، كانت تتفوه بعبارات عنصرية بغيضة، لم أتحمل قسوة هذا المنظر ، لماذا التعالي والغرور لماذا يستعبد البعض البعض الآخر ، لماذا لا تستطيع خالتي أن ترد علي تلك الإهانة، شعرت بالذنب لأني كنت السبب لتعرضها لهذه الاهانة، سألتها بعد أن ذهبت والدة زميلي للداخل لماذا تسكت علي مثل تلك الكلمات !، لم تجُبني فقط دعت الله أن يسامح والدة زميلي ، بعد أن أنهت أعمالها رأيتها تأخذ الخبز المتبقي لدي هؤلاء ، حتى تعد لأطفالها وجبتهم الوحيدة التي كنت أشاركهم فيها بكل الحب . كم كانوا كرماء معي وكم كنت أنانياً ، أقاسمهم ما لا يكفيهم ، و أشارك مثل غيري في القسوة عليهم ، ومزاحمتهم في طعامهم القليل . ….. يتبع
عزام مرسي المتمرد ( ٣ ) لم يكن ( حمد ) صاحب محل البقالة هو الوحيد الذي يتحرش ( بصفاء )، تلك الزهرة التي تفتحت في بستان الحي الكئيب المليئ بالحشرات القذرة التي تتجني علي الزهور اليانعة النابته خارج أسوار بساتين اصحاب النفوذ من التكتلات الشماليه والشبه عربية، تلك الطفلة التي نالت حظها من التحرشات اللفظية و الجسدية لانها تنتمي الي أقلية سكنت عاصمة البلاد التي تغرق في العنصرية البغيضة حتي الآن . كعادته الخبيثه كان ( حمد ) يستغل الفرص التي تتاح له حتي يتحسس جسد الصبية و يضمها لجسده بقوة أثناء خلو الشارع من المارة، متلذذاً بالعذاب و الالم و الضعف الذي تعاني منه الطفلة العاجزة عن الدفاع عن نفسها حتي بالصراخ . في ذلك اليوم اللعين وقعت عينا إحدي نساء الحي علي ذاك المشهد القذر، لكنها و كعادة المجتمع الذكوريَ الافكار أطلقت شائعاتها علي ( صفاء ) وأخبرت الجميع ان الصبية تمتهن الدعارة كعادة ابناء جلدتها ، هكذا تدمرت حياة الطفلة وحياة مجتمع كامل من البشر بمثل هذة الشائعات اللعينة التي دفعت جميع ذئاب ذلك المجتمع لمحاولة افتراس ( صفاء ) .
قام ( حمد ) ببيع محل البقالة، كان خيار الانتقال هو الخيار الامثل له حتي يحافظ علي تجارته و يمارس شذوذه في مكان جديد أخر ، مستقلاً ثقه الناس في لونه و لسانه الفصيح .
أما المسكينه صفاء فقد صارت هدفاً لضعفاء النفوس من أشقياء الحي الذين سمعوا بالحادث. تم الاتفاق علي إستدراجها بواسطه احد الشباب الذي غرر بها بإسم الحب، وهي التي لم تصدق أن قام أحدهم بالحديث معها بمثل هذه اللغه الودودة من قبل ولم تسمع هذة الكلمات الجميله ، كانت مثل القراءه التي تذهب طائعةً الي حتفها وسط النار ، لقد غرر بها ذلك الشقي ثم عرضها و تم ( فتها* ) في حادثة اغتصاب جماعي متعارف عليها في ذلك الوقت القبيح بإسم ( الفتة ) ، وهذا النظام يقوم علي أن يقوم أحد الاشخاص بإستدراج الفتاة لاحد الاماكن او المنازل الخالية ، ويظهر بقيه المشاركين ويقومون بتخويف الضحية و إجبارها علي ممارسة الجنس معهم بالقوة ، ثم بعد ذلك يقومون بسرد تفاصيل جريمتهم وكأنهم قامو بعمل بطولي عظيم . لم تجد صفاء أي حل سوي أن تختم يومها البشع، الذي يستعصي فهم او تصور ما حدث في تفاصيله علي مخيلة البشر الأسوياء ، حتي وإن كانت تلك المخيلة ملوثة بمشاهد أفلام الفيديو الاباحية المنتشرة في ذلك الوقت و حتي الان. بكأس من الصِبغة إختارت صفاء ان تسافر من دنيا قانون الغاب، لعل الملائكة يتفهمون حكايتها و هوانها في تلك الدنيا العنصريه الهمجيه القاسية . بكيت كثيراً علي صفاء ، لم أعرف لماذا ماتت فأنا مجرد طفل لم يكترث احد ان يخبرني انها ملت من أن تكون جارية للجميع ، لقد كرهت حياتها بسب ان الجميع فقط ينظر لما بين ساقيها و ما توسط صدرها ، كَرهت هوانها كَرهت كونها لا تمتلك اخوة او أقارب يدافعون عنها و يقومون بحمايتها من الذئاب البشرية، الذين يُصلون كل اسبوع بجلباب ناصع البياض ! لمن يصلون ياتري ؟ هل لنفس الإله لست أدري. بعد اسبوع و انا في طريق عودتي لوحدي كالعادة من المدرسه رأيت عربة ( الكارو ) تقف محمله ببعض الأغراض جوار منزل العم ( سالم )، و خالتي ( مستورة ) تقوم بمساعدة صاحب العربه علي تحميل مجموعة اخري من الأغراض ، عرفت بأنهم سيغادرون الحي ، لم أتمالك نفسي وجدت نفسي ابكي بصوت عال جداً ، إحتضنتني الخاله ( مستورة ) و قالت لي ، لا تنس أن ترش قبر صفاء بين الفترة و الاخري بالماء و ان تضع علي القبر بعض سعف النخيل الاخضر ، انتابتني نوبه اخري من البكاء و كانت الاخيرة و للأبد ، لم أبكي بعد ذلك اليوم ابدا ولا حتي يوم وفاة أبي لم تنزل من عيني قطرة دمع واحده . بعد اعوام و أنا في طريق عودتي هذة المرة ، من المدرسه الثانوية، و برفقتي احد زملاء الدراسه يسكن علي بعد بثلاثه شوارع مني، اعتدت بأن ارافقه في طريق العودة في بعض الاحيان. توقفت عند الشارع الذي تغيرت معالمه كثيراً ففي مكان منزل العم ( سالم ) المتواضع تم بناء فيلا جميله من ثلاثه طوابق لكن لم يسكن فيها أحد حتي الان، فقط عرفنا انها احدي الفلل التي يبنيها احد التجار المشهورين لبناته حتي يضمن لهم مستوي معيشي مميز بعد الزواج . لم يعجبني شكل البناء ولا فخامته، و اشتقت لباب الصفيح المسنود بقطعه ثقيلة من الخشب ، رأيت نفسي و صفاء نجاهد حتي نسد الباب بقطعه الخشب حتي لا يخرج احد اخوتها الصغار للشارع ، فجأة رأيت صفاء في الطابق الثاني من الفيلا و هي تلوح لي بيدها مبتسمه ، لم أصدق نفسي وصرخت من كل أعماقي بإسمها ، قاطعني زميلي قائلاً ، صفاء ؟ أتقصد تلك ( العاهرة ) التي قتلت نفسها قبل سنوات ! . انتبهت اني كنت اخاطب زجاج الفيلا الملون في الطابق الثاني ، لكن استوقفتني كلمة ( العاهرة ) نظرت إلي زميلي بغضب و طلبت منه ان يتأدب و إلا سأقوم بضربه ، لكنه أصر علي موقفه قائلاً بالدارجية السودانية ( يازول انت عامل فيها ما عارف ولا شنو ، البت دي كان بفتوها فلان وفلان وفلان ) و اذا لم تصدقني يمكن ان تسأل أي شخص و يسيخبرك بالحقيقة. طلبت منه بصوره حازمه ان لا يكرر هذا الحديث علي مسامعي حتي وان كان صحيحياً ، تركته دون ان اقول له اي كلمه اخري ، دخلت لمنزلنا وتوجهت مباشرةً لأخي الاكبر و سألته عن صحه الحديث الذي سمعته فأكد لي هذا الحديث ببساطه، عندها فقط سامحت صفاء لانها اختارت عالم اخر بعيد عن هذا العالم الوحشي . انتابتني رغبة شديدة للعب كرة القدم في ذلك اليوم ، كان احد الأشقياء المشاركين في جريمة اغتصاب صفاء مولع بلعب كرة القدم ، كنت اتمني ان توقعني ( العزله* ) ضمن الفريق المنافس له لكن شاء القدر ان لعبنا ضمن فريق واحد، لم أكن أمرر له كرة القدم ، هو بحكم انه يكبرني بسبعة أعوام كامله كان يصرخ في وجهي مطالباً مني أن أمرر له الكره لكني كنت أتجاهله و اكتفي بتمريرها لشخص اخر او الإكثار من المراوغه حتي ينتزعها لاعبي الفريق الخصم ، قام هذا الشاب بتوجيه عدة شتائم قاسيه لي ، لكني كنت أتلذذ و انا أراه يفقد السيطرة علي أعصابه و هو يراني في قمة البرود لا أبدي أي ردة فعل لهذة الشتائم ، في المره الاخيرة التي رفضت ان أمرر له الكره ركض نحوي و هو يكيل سيل من الشتائم و دفعني بكلتا يديه طالباً مني مغادرة الملعب او سيقوم بضربي ، عندها فقط أخبرته انه لو قام بلمسي مرة اخري فأنا من سيقوم بضربه ، تحلق جميع الشباب لحضور هذا الشجار بيني أنا المراهق الصغير الذي نادراً ما أتي والعب معهم كرة القدم و بين الشاب العشريني الذي أنهي دراسته للتو في جامعه مرموقة و لعب لفريقها الرياضي . كان موقفهم سلبي تماماً لانهم كانو يمنون انفسهم بأنهم سيرون هذا المراهق مدداً علي الارض مكسور الخاطر، لكنهم لم يعلموا ان شعوري بالظلم الذي تعرضت له اختي ( صفاء ) ورغبتي في الانتقام لها قد مدني بطاقة لا يمكن ان تتصورها عقولهم و أن جسدي الهزيل يمكن ان يحتمل هذة الطاقة و يتحكم بها . قام ذلك الشاب البغيض بدفعي مره اخري مصدراً اوامره لي بالخروج من الملعب ، دون ادني تردد قُمت بركله بين ساقيه بكل ما أوتيت من قوه و عندما أحني رأسه من الألم واضعاً كلتا يديه بين ساقيه لتخفيف الالم، عاجلته بركلة قويه بوجه حذائي الرياضي جعلت الدم ينزف من أنفه المكسور، ولم أتوقف عن ركله في مواضع اخري من جسدهِ الا بعد تدخل الحاضرين ، نظرت الي جسده المسجى علي الارض و قلت له لقد أتيت اليوم هنا من أجلك أيها الحقير، وسأعود دائماً من أجلك و من أجل من هم علي شاكلتك ، لم يفهم أحد ما أعنيه سوي أخي الأكبر الذي شاهد أخاه الصغير يلقن احد أكبر ( أشقياء ) الحي درساً قاسياً بسبب جريمة حدثت في الماضي ولم يسمع عنها الا اليوم . كنت أنا ذلك المراهق و الأخ الأصغر الذي أعلن تمرده علي أشقياء الحي، وعلي طريقة تفكير بقيه افراد الحي . ذلك الشقي المدعو ( سيد ) كان يتحرش بالقُصر من الذكور أيضاً مستغلاً جهلهم بطبيعه الامور و مستغلاً تغاضي المجتمع عن هذة الأشياء و فقه الستر للفضيحة . في صبيحة اليوم التالي عند توجهي الي مدرستي الثانوية ، فإذا بأحد طلاب الصف الثامن ينتظرني امام منزلنا ، تعجبت جداً من انتظاره لي في ذلك الوقت المبكر و ايضاً لاني لا تربطني معه اي علاقه او صله ، لكنه سارع بالحديث معي قائلاً انه كان في قمة السعادة لاني قمت بضرب ( سيد ) بالأمس و اخبرني ان سيد و اخرين يحاولون التحرش به جنسياً وذلك لانه ليس لديه أخ كبير ، لم أتمالك نفسي من هول الصدمة ، عرفت علي الفور ان ما سمعته هو من إفرازات حكم ( الجبهة الاسلامية ) التي بتصرفاتها الغبية و الغريبه ساهمت في ظهور هذة الممارسات الشاذة ، طلب مني ذلك القاصر بكل براءة بأن أصبح أخاه الأكبر، وافقت علي الفور و قلتله مخاطباً لا تخاف من أي شئ ابداً بعد اليوم ، أراد ان يودعني و يذهب لمدرسته حتي لا يتأخر ، رفضت ان أتركه يذهب لمدرسته بل أخبرته بأننا يجب أن نذهب لمكانٍ ما قبل ان يذهب لمدرسته . كنت أفكر فقط في أن هنالك غيره من الاطفال يتعرضون لنفس التحرشات لكن لا يستطيعون ان يتكلموا خوفاً من ذويهم قبل كل شئ، كان ذلك الصبي لا يعرف ما يدور في رأسي و أنا أمشي معه بسرعه نحو منزل ذلك الشقي ( سيد ) و اذا بي أطرق باب المنزل بقوة كبائع اللبن ، فتحت والدته الباب لنا ، وتعجبت عندما رأت مراهق و طفل قاصر يطلبون منها أن تنادي ولدها العشريني ، تحججت المرأه بأن إبنها مازال نائماً و تفاجأت عندما طلبت منها بحسم وصوت أكبر من عمري بأن توقظه في الحال ، لم تجد حيله امام إصراري سوي أن تذهب لتلبية طلبنا ، بعد دقائق حضر ( سيد ) مرتدياً ملابس نومه وما زالت أثار الضرب ظاهره علي وجهه الذي ظهر الرعب عليه عند رؤيتي و أرتعب أكثر عندما رأي معي الصبي الصغير بملابس المدرسة ، نظرت إليه و بكل الجدية التي أمتلكها أخبرته أن عهد الأشقياء في هذا الحي قد انتهي ، و أني في المره القادمة سوف اقوم بضربة و تبليغ الشرطة عنه و عن بقيه الأشقياء مثله ، لم يكن يتوقع هذة الزيارة او هذا الحديث كان يرتعب من أن يسمع أحد من عائلته الحديث الدائر بيننا ، أقسم أنه لم يقم بالتحرش بالطفل و أنني و الطفل فهمناه بصورة خاطئه ، وقام بالاعتذار من الطفل امامي ، لم اجعل الطفل يتقبل اعتذاره. فقط اكتفيت بتحذيره مره اخري ، وطلبت من الصبي ان يركض نحو المدرسه حتي لا يتأخر أكثر من اللازم . و توجهت أنا نحو مدرستي و أنا اشعر بالحزن فكل ما كبرت أكبر كلما عرفت هذا العالم علي شناعته و اتساخه اكثر . يبدوا ان تحذيري ( لسيد ) كان أقوي من اللازم فبعد شهور قليله إختفي ( سيد ) ، ذات مساء و انا أدخن لوحدي، مسنداً ظهري علي عمود الكهرباء الذي اقف بجواره دائماً، أخبرني أحد شباب الحي أن ( سيد ) قد التحق بمعسكر تدريبي و سوف يصبح بعد اكمال التدريبضابط شرطة ، مازحني قائلاً : ( سوف يشتاق لي عندما يقوم ( سيد ) بسجني ) ، ضحكنا كثيرا ً، و قلت له ان لاينسي ان يحضر لي الدخان والكتب داخل السجن لاني علي وشك الجلوس لامتحانات اكمال المرحله الثانويه و التقديم للجامعه . ...... يتبع * الفته :- كلمة دارجية تطلق علي ممارسة الجنس الجماعي سواء برضي الطرف الاخر او بالإكراه . * العزله : كلمة دارجي يقصد به عمليه توزيع الراغبين بلعب الكرة علي جهتين حتي يمكن من لعب مباراه كامله .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة