وداعاً ياحبايب..!!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 08:58 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-16-2016, 04:44 PM

حسن العمدة
<aحسن العمدة
تاريخ التسجيل: 03-03-2014
مجموع المشاركات: 56

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وداعاً ياحبايب..!!

    04:44 PM May, 16 2016

    سودانيز اون لاين
    حسن العمدة-دولة الامارات العربية المتحدة
    مكتبتى
    رابط مختصر

    وداعاً ياحبايب
    لست أدي كيف أبتدئ النهاية العظيمة التي سأعيشها الى الأبد، سأحكيها لكم ولكن كيفما يعن لي، ولكم أن تعذروني، من يقف على النهايات العظمى أو الدنيا في زماننا هذا معذور و مشكور وفقا لعرفنا المستور وتديننا الصوفي، تخفى عيوبه الى الأبد عن عيون الناس ولا يرون إلا حسناته ومآثره في البدايات ومابعدها وما فوق الثرى...(أذكروا محاسن موتاكم)..
    اليوم التاسع من فبراير في العام 2010 قدر لي أن أغادر دنياكم وأصعد الى الضياء في ملكوت الله، منتقلا من العالم الكثيف الى عالم لطيف، على كل حال أنتم تعلمون كم كانت حياتي بينكم قاسية ، ربما مواقفي الصلبة فيها هي التي جعلتها كذلك، مما دفعني لأن أدفع ثمن ذلك روحي نفسها، ولكن مغادرتي كانت جيدة، كانت فخيمة وباذخة بما يكفي لملء شوارع امدرمان بالهتاف، ربما تفوق ما تمنيته، لم يؤلمني فيها الا فراق أحبتي، أبي وأمي وأخوتي وزملائي ورفاقي أبوبكر، يعقوب وأيوب و ود العمدة و أشرف كنجة وشمس الدين ونصر الدين كمال و عبد الغني الواعي و ود الريد و دلدوم وطه القصير وسلمى وعزيزة وونسة وإخلاص و نضال حبيبتي، آخر من إلتقيتها قبل أن أغادركم، كانت تجلس معي في الميدان المطل على شارع الوادي، كان يفصلنا عن مساكن من سبقوني الى هنا فقط شارع، مجرد طريق أسفلت، يفصل بين الدنيا والآخرة، بين كلية التربية والمقابر، تعبده السيارات المتهالكة والمنهكة ويعبره المتعبون سيرا على الأقدام، الطلاب القادمون الى كلية التربية يحدوهم أمل في الغد المشرق وحمل راية العلم ونشر حب الوطن والخير الى أجيالنا القادمة التي سترتاد نفس الأماكن التي كنا نرتادها، سيجلسون في بيت النمل والسياحي والدار والشعبي، سيبكون الظلم ويعلوهم الغضب المجنون ويتنادون ليعتصموا ويحتجون سيهتفون نفس الهتافات التي كنا نرددها، سيقادون مثلنا جماعات و أفرادا الى مكاتب التحقيقات، ثم الى كوبر، دبك، وشالا، بعضهم سيبكي وبعضهم سيصمت ولكني على يقين يريحني في مرقدي الأبدي هذا بأنهم سيرددون مثل الرائع محجوب شريف: "ودانا لي شالا .. وعزتنا ما شالا" سيتحدون الموت عند المحن، سأظل منتظراً من يأتيني منهم، شامخا كالطود العظيم بصعوده للضياء، ورحمة العادل الحق، وذكريات الحياة البائسة القاسية المرة الطويلة، الموتى رفاقي هم يسكنون هنا وهناك ، قربي في مقابر الثورة الحارة 54، او هناك قرب حبيبتي بمقابر أحمد شرفي، ينامون وادعين هانئين لا يمتد إليهم طرفهم وأفئدتهم مليئة باليقين وبصرهم حديد، ولا يؤرقهم سوى حركات القادمون سيرا على الأقدام يجيثون خلال مساكننا بلا إستئذان ليوفروا جنيهات عزت في جيوبهم لأبنائهم ثمنا لوجبة أو دفتر أو كراس، نادرا ما يجودون علينا بالدعاء والفاتحة والإخلاص، إلا في الأعياد حين يأتي أقارب السكنى، وأقاربي، وهم يحملون معهم نقودهم المعدنية ليوزعونها كصدقة على الفقراء الذين يكونون دائما على الموعد يلتقطون حفنة الجنيهات ليسكتوا بها جوعا ويخيطوا بها لباسا إهترأ، كانوا يأتون يطلبون الصدقة في أيام الجمع وأعياد المسلمين من مرقدي هنا، و في الآحاد يذهبون الى مقابر النصارى، فقد كانت الصدقات فيها أوفر وليست معدنية في الغالب، يعطونهم ويخبرونهم بأن يسوع يحبهم وأن الله المحبة، ولكنهم لا يكترثون له سواء كان يحبهم أو يكرههم، فصوت أمعائهم يعلو على كل شئ، يحسبون أنهم ملعونون في الحياة ويعيشون على أكتاف الاموات، وجدوا كذباب يحوم حول من ماتوا وأهليهم علهم يأتون منهم بلقمة دافئة في شتاء الحياة القارس، وجدوا كدود نبت من الأرض فجأة ليختلطوا بروث البهائم و غرف المآتم وسيرة الفناء.
    لم تسعهم الحياة ولم يأذن لهم الموت بالدخول الى عالمه القدسي الجليل، مثل آلاف البؤساء من أبناء وطني الذين عاشوا تحت الخيران والبيوت المهدمة وأدمنوا المسكنات والمسكرات والمميتات السيلسيون، السيبيرتو، الحبوب المهلوسة منتهية الصلاحية، العرق الردئ الممزوج بكربون البطاريات.
    تركوا البقاء والفناء وأختلقوا لأنفسهم عالم فوضوي بائس لا يحق فيه حق ولا يظلم فيه الناس بصورة إنتقائية، الناس سواسية في الظلم، الكل هنا ظالمون، والكل مظلومون، والكل قتلى ومقتولون، يخافون السلطة والسيارات المظللة والضوء، يخافون من المتربصين الذين يأتون ليلا ليأخذوا بناتهم، خيلة كاسوري، تلالة ساطور، سلسونة بت عكار، شرف الشوارع حي التي كانت تردد دائما في حلها وترحالها: "دقوا النحاس من ضي ... صوت الشوارع حي" حتى أسماها الناس من حولها باسم "صوت الشوارع حي"، وأخريات سقطن من ذاكرة الليل الى شوارع مظلمة يسكنها الدود، الخوف، العهر، الفوضى والبؤس وفرح مشوه لقيط، ليأتين آخر الليل منهكات من الفعل، ممزقات، مستباحات، يغطي الدم مابين أفخاذهن وصدورهن، لكل منهن قصة ولكل اسم رواية، هن زهرات الإنطفاء الجميلات برغم ذبولهن وتمكن السموم من أجسادهن البضة، كن منكسرات حد الفناء، يتحركن كالأشباح، تجد أحداهن ترضع ابن لها أو للشارع من ثدي ناضب، كن بلا حماية ولا يعرف أحد عن عودتهن نبأ يقين حين يختطفن بغتة لدى إنطفاء الضوء، في غفلة العيون والضمائر والأفئدة، كن يعشن الموت الطري، يفرح رفاقهن بعودتهن سالمات، يحتفلون، يوزعون القماش المتسخ المشرب بالسيليسيون، وما تيسر من بقايا السجائر الذي يلقيه المترفون نهاراً وحبوب الهلوسة التي يسمونها بالـ "الخرشة" ، يخافون الحياة ويحافظون على أنفسهم من الموت الذي يتأفف عنهم، حين يخرجون من خيرانهم المملوءة بالماء الآسن وفضلات البشر والدواب، من بين الروث يلتقطون قطع الخبز التي ضلت أفواه المترفين وسقطت على حين غرة من القدر، تجد أحدهم يخبئها من رفاقه ليقتسمها مع أطفال صغار سقطوا من رحم القدر لنزوة أب مجهول وأم آثرت أن تسلم من لعنة الخطيئة في لحظة النشوة المجنونة تلك، فأنكرت إقامة أحدهم في رحمها، قام بعض المترفين بمحاولة محوهم من الوجود، لتبدو عاصمتنا حضارية، لا متشردون بها، وزع عليهم سلسيونا مسموماً، مات منهم العشرات، ولكن الإنسانيون ملأوا الكون صراخا من أجلهم.. أعطوهم حقهم في الحياة البائسة المليئة بالغثيان والحمى والجنون والقذارة، دعوهم يعيشون ..لا يهم أنكم محوتم الأدلة، اشتريتم الذمم وبعتموها، برأتم بعضكم بعضا، ووقفتم بجلال الليث أمام الشاة المرتجفة، لاوجيع لهم، ولا قوة لهم، تقيهم قطع الكرتون البالية المتسخة حر الشمس والمطر، و السيليسيون يغرس في أمعائهم وهم الشبع ، والوهن، ولكن لا شئ يحميهم من بطشكم وجبروتكم، سوى يد الله القوية القادرة على إحلال العدل، وإنزال العقاب، أتركوهم وشأنهم.. لاتقتلوهم.. الله يارب..!!
    وجدوا هنا وهناك تحت الحوائط المنهكة، أو بين أكياس القمامة، في العراء، في البراري، في لعنة القدر وزمان المسغبة و إنكار أبناء الذوات لخطيئاتهم ليدفع ثمنها من لا يملك حولا ولا قوة، ليضيع في زحمة الأشياء وينطفئ... هؤلاء هم من يؤنسون وحشتي، لا يقرأون الفاتحة لي ولا يدعون لي بالخير ولا بالشر، ولا يكترثون لمحبة يسوع أو غيره، تجدهم يجلسون قرب شاهد قبري ويعطون ظهورهم على اللافتة التي كتب على صفحتها أحبابي
    " قبر الشهيد/ محمد موسى بحر الدين وكل من عليها فان – نسألكم الفاتحة"
    لقب الشهيد وضعه الأحباب لأنني مت من أجل ما آمنت به في حياتكم الدنيا، آمنت بالحرية والسلام والعدالة وكنت أحلم بأن أنعم بها وينعم بها أطفالي ولكن شاءت الأقدار لي الصعود عزيزا سيدا، ففعلت راضيا، لم أكن لأرفض عرضا مغريا لموت مثل موتي ولكني فقط أفتقدكم يا حبايب..!!
    لا شك أن نضال حبيبتي لما علمت بموتي مقتولا صدمت وربما سقطت مغشيا عليها، هي عادتها عندما تفقد عزيزا عليها، إني فخور بأنني عزيزا عليها ولكني آسف لجعلها تحزن، فهي رقيقة كنسمة، تحب الحياة والعلم والشعر وكتابة الخواطر في دفترها المكسو بغلاف أخضر وزهرات حمراء يانعة مثل لون خدها حين تضحك مبتهجة، كانت خواطرها بريئة محببة منسوجة بالألوان والزهرات والرياحين والنيل والحب والعناق، لم تكن مخيلتها مدنسة مثل ذاكرتي بأزيز الرصاص وصرخات التعذيب و صفير طائرات الأنتنوف والسوخوي وبقايا البشر الملقاة في المدى الفسيح، لم تعلم عن الإختباء في كهوف الجبال، الجوع ورائحة الجثث المتحللة والطيور الجوارح تملأ السماء والموت يضحك ساخرا في المدى الأسود اللعين!، كانت تمثل الجانب النظيف من البشر، كانت تمنحني النقاء والطهر والحب، سأفتقدها هنا كثيراً، سأفتقد ترديدها لأغنية مصطفى سيد أحمد ..
    "يا ايد اخوي علي أيد أبوي علي أيدي أنا
    علي ايد وايد
    تجدع بعيد في لجة من راس ميضنة
    حيكومة الفقر الضلال
    الكضبن والصهينة"
    تحب مصطفى سيد احمد لدرجة أني كنت أغير منه، رغم حبي له أنا أيضاً فأنا أعتبره بحق رسول الدهشة في كل المواسم و تراجيديا الموت في زمن الفشل الكلوي، حزن مقيم في وطني
    يوم وداعي لكم يا حبايب كان يوما عظيما، ألمه كان عظيما جدا فوق كل إحتمال، ولكنكم ياحبايب جعلتموه يليق بنهاية مشرفة كنت أتمناها، فقد إرتحت من تلك الوجوه التي تترأى لي الآن بدمامتها بلا ملامح بلاعيون أو افواه، كانت تصرخ ولكني لم أكن أسمع، كان جسدي يؤلمني .. ثم يؤلمني أكثر ثم توقف الألم وصارت الوجوه تتمطى أمامي كأنها صورة وجوه منعكسة من سطح ماء يهتز، النار تحرق أجزاء من جسدي، الكهرباء تصعق، سنان رقيقة حادة كانت تدخل في يدي ولكني لم أكن أشعر بشئ ولا أسمع صراخي فقط أرى صورا تتمدد وتنكمش و.. تلاشى كل شئ
    إنفتحت أمامي كوة ضوء في حائط القبر مظلم، تفتحت أمامي صفحات الذاكرة المتعبة، كدفتري الجامعي فبت أقلب الأيام و أقرأ منها ما حدث لي منذ زمن بعيد..
    أبي الحاج (موسى عبد الله بحر الدين)، رجل عرفته نيالا بالوداعة والصدق والتدين، كثير الذكر لله يحمل سبحته تلك ليل نهار، سبحة أبي تلازمه منذ زمن بعيد، ويستخدمها أيضا للضرب غير المبرح لمن يخطئ مننا بغير قصد، كان لطيفا، رائعا بلا تكلف، كنت أتعلق بلحيته عندما كنت صغيراً و أقرأ له سور القرآن القصيرة، حتى حفظت جزء عم، كان يبتسم لي ويمنحني الحلوى، كان محبا للقرآن والصلاة، ورعا تقيا، لا شك أنه بعد أن سمع خبر مقتلي، إنفجر بالبكاء، هو شيخ أسف، يبكي عندما يقرأ القرآن ولكن رغبة خفية كانت تمنيني أن أراه يبكي لفراقي، لأتيقن من حبه لي، أنا أحبه، ولم اقصد إيلامه أبدا، ولكني فعلت بموتي هذا، ليتني أستطيع العودة إليه ليفرح، ولكني لن أستطيع الموت طريق في إتجاه واحد لايمكن التراجع عنه، قرار تتخذه لمرة واحدة، ولكن ما كان قد كان، أذكر أنه كان دائما يضحك عندما يذكر الموت أمامه ويقول بأن أمه كلتومة كانت توصيه بأن يستغل فرصة الموت المشرف ويموت ليبقى خالداً لدى الشرفاء من العالمين، كان يسأل الله دائما حسن الختام.. وداعا يا أبي .. لندعو الله بأن نلتقى في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر
    وداعاً ياحبايب
    لست أدي كيف أبتدئ النهاية العظيمة التي سأعيشها الى الأبد، سأحكيها لكم ولكن كيفما يعن لي، ولكم أن تعذروني، من يقف على النهايات العظمى أو الدنيا في زماننا هذا معذور و مشكور وفقا لعرفنا المستور وتديننا الصوفي، تخفى عيوبه الى الأبد عن عيون الناس ولا يرون إلا حسناته ومآثره في البدايات ومابعدها وما فوق الثرى...(أذكروا محاسن موتاكم)..
    اليوم التاسع من فبراير في العام 2010 قدر لي أن أغادر دنياكم وأصعد الى الضياء في ملكوت الله، منتقلا من العالم الكثيف الى عالم لطيف، على كل حال أنتم تعلمون كم كانت حياتي بينكم قاسية ، ربما مواقفي الصلبة فيها هي التي جعلتها كذلك، مما دفعني لأن أدفع ثمن ذلك روحي نفسها، ولكن مغادرتي كانت جيدة، كانت فخيمة وباذخة بما يكفي لملء شوارع امدرمان بالهتاف، ربما تفوق ما تمنيته، لم يؤلمني فيها الا فراق أحبتي، أبي وأمي وأخوتي وزملائي ورفاقي أبوبكر، يعقوب وأيوب و ود العمدة و أشرف كنجة وشمس الدين ونصر الدين كمال و عبد الغني الواعي و ود الريد و دلدوم وطه القصير وسلمى وعزيزة وونسة وإخلاص و نضال حبيبتي، آخر من إلتقيتها قبل أن أغادركم، كانت تجلس معي في الميدان المطل على شارع الوادي، كان يفصلنا عن مساكن من سبقوني الى هنا فقط شارع، مجرد طريق أسفلت، يفصل بين الدنيا والآخرة، بين كلية التربية والمقابر، تعبده السيارات المتهالكة والمنهكة ويعبره المتعبون سيرا على الأقدام، الطلاب القادمون الى كلية التربية يحدوهم أمل في الغد المشرق وحمل راية العلم ونشر حب الوطن والخير الى أجيالنا القادمة التي سترتاد نفس الأماكن التي كنا نرتادها، سيجلسون في بيت النمل والسياحي والدار والشعبي، سيبكون الظلم ويعلوهم الغضب المجنون ويتنادون ليعتصموا ويحتجون سيهتفون نفس الهتافات التي كنا نرددها، سيقادون مثلنا جماعات و أفرادا الى مكاتب التحقيقات، ثم الى كوبر، دبك، وشالا، بعضهم سيبكي وبعضهم سيصمت ولكني على يقين يريحني في مرقدي الأبدي هذا بأنهم سيرددون مثل الرائع محجوب شريف: "ودانا لي شالا .. وعزتنا ما شالا" سيتحدون الموت عند المحن، سأظل منتظراً من يأتيني منهم، شامخا كالطود العظيم بصعوده للضياء، ورحمة العادل الحق، وذكريات الحياة البائسة القاسية المرة الطويلة، الموتى رفاقي هم يسكنون هنا وهناك ، قربي في مقابر الثورة الحارة 54، او هناك قرب حبيبتي بمقابر أحمد شرفي، ينامون وادعين هانئين لا يمتد إليهم طرفهم وأفئدتهم مليئة باليقين وبصرهم حديد، ولا يؤرقهم سوى حركات القادمون سيرا على الأقدام يجيثون خلال مساكننا بلا إستئذان ليوفروا جنيهات عزت في جيوبهم لأبنائهم ثمنا لوجبة أو دفتر أو كراس، نادرا ما يجودون علينا بالدعاء والفاتحة والإخلاص، إلا في الأعياد حين يأتي أقارب السكنى، وأقاربي، وهم يحملون معهم نقودهم المعدنية ليوزعونها كصدقة على الفقراء الذين يكونون دائما على الموعد يلتقطون حفنة الجنيهات ليسكتوا بها جوعا ويخيطوا بها لباسا إهترأ، كانوا يأتون يطلبون الصدقة في أيام الجمع وأعياد المسلمين من مرقدي هنا، و في الآحاد يذهبون الى مقابر النصارى، فقد كانت الصدقات فيها أوفر وليست معدنية في الغالب، يعطونهم ويخبرونهم بأن يسوع يحبهم وأن الله المحبة، ولكنهم لا يكترثون له سواء كان يحبهم أو يكرههم، فصوت أمعائهم يعلو على كل شئ، يحسبون أنهم ملعونون في الحياة ويعيشون على أكتاف الاموات، وجدوا كذباب يحوم حول من ماتوا وأهليهم علهم يأتون منهم بلقمة دافئة في شتاء الحياة القارس، وجدوا كدود نبت من الأرض فجأة ليختلطوا بروث البهائم و غرف المآتم وسيرة الفناء.
    لم تسعهم الحياة ولم يأذن لهم الموت بالدخول الى عالمه القدسي الجليل، مثل آلاف البؤساء من أبناء وطني الذين عاشوا تحت الخيران والبيوت المهدمة وأدمنوا المسكنات والمسكرات والمميتات السيلسيون، السيبيرتو، الحبوب المهلوسة منتهية الصلاحية، العرق الردئ الممزوج بكربون البطاريات.
    تركوا البقاء والفناء وأختلقوا لأنفسهم عالم فوضوي بائس لا يحق فيه حق ولا يظلم فيه الناس بصورة إنتقائية، الناس سواسية في الظلم، الكل هنا ظالمون، والكل مظلومون، والكل قتلى ومقتولون، يخافون السلطة والسيارات المظللة والضوء، يخافون من المتربصين الذين يأتون ليلا ليأخذوا بناتهم، خيلة كاسوري، تلالة ساطور، سلسونة بت عكار، شرف الشوارع حي التي كانت تردد دائما في حلها وترحالها: "دقوا النحاس من ضي ... صوت الشوارع حي" حتى أسماها الناس من حولها باسم "صوت الشوارع حي"، وأخريات سقطن من ذاكرة الليل الى شوارع مظلمة يسكنها الدود، الخوف، العهر، الفوضى والبؤس وفرح مشوه لقيط، ليأتين آخر الليل منهكات من الفعل، ممزقات، مستباحات، يغطي الدم مابين أفخاذهن وصدورهن، لكل منهن قصة ولكل اسم رواية، هن زهرات الإنطفاء الجميلات برغم ذبولهن وتمكن السموم من أجسادهن البضة، كن منكسرات حد الفناء، يتحركن كالأشباح، تجد أحداهن ترضع ابن لها أو للشارع من ثدي ناضب، كن بلا حماية ولا يعرف أحد عن عودتهن نبأ يقين حين يختطفن بغتة لدى إنطفاء الضوء، في غفلة العيون والضمائر والأفئدة، كن يعشن الموت الطري، يفرح رفاقهن بعودتهن سالمات، يحتفلون، يوزعون القماش المتسخ المشرب بالسيليسيون، وما تيسر من بقايا السجائر الذي يلقيه المترفون نهاراً وحبوب الهلوسة التي يسمونها بالـ "الخرشة" ، يخافون الحياة ويحافظون على أنفسهم من الموت الذي يتأفف عنهم، حين يخرجون من خيرانهم المملوءة بالماء الآسن وفضلات البشر والدواب، من بين الروث يلتقطون قطع الخبز التي ضلت أفواه المترفين وسقطت على حين غرة من القدر، تجد أحدهم يخبئها من رفاقه ليقتسمها مع أطفال صغار سقطوا من رحم القدر لنزوة أب مجهول وأم آثرت أن تسلم من لعنة الخطيئة في لحظة النشوة المجنونة تلك، فأنكرت إقامة أحدهم في رحمها، قام بعض المترفين بمحاولة محوهم من الوجود، لتبدو عاصمتنا حضارية، لا متشردون بها، وزع عليهم سلسيونا مسموماً، مات منهم العشرات، ولكن الإنسانيون ملأوا الكون صراخا من أجلهم.. أعطوهم حقهم في الحياة البائسة المليئة بالغثيان والحمى والجنون والقذارة، دعوهم يعيشون ..لا يهم أنكم محوتم الأدلة، اشتريتم الذمم وبعتموها، برأتم بعضكم بعضا، ووقفتم بجلال الليث أمام الشاة المرتجفة، لاوجيع لهم، ولا قوة لهم، تقيهم قطع الكرتون البالية المتسخة حر الشمس والمطر، و السيليسيون يغرس في أمعائهم وهم الشبع ، والوهن، ولكن لا شئ يحميهم من بطشكم وجبروتكم، سوى يد الله القوية القادرة على إحلال العدل، وإنزال العقاب، أتركوهم وشأنهم.. لاتقتلوهم.. الله يارب..!!
    وجدوا هنا وهناك تحت الحوائط المنهكة، أو بين أكياس القمامة، في العراء، في البراري، في لعنة القدر وزمان المسغبة و إنكار أبناء الذوات لخطيئاتهم ليدفع ثمنها من لا يملك حولا ولا قوة، ليضيع في زحمة الأشياء وينطفئ... هؤلاء هم من يؤنسون وحشتي، لا يقرأون الفاتحة لي ولا يدعون لي بالخير ولا بالشر، ولا يكترثون لمحبة يسوع أو غيره، تجدهم يجلسون قرب شاهد قبري ويعطون ظهورهم على اللافتة التي كتب على صفحتها أحبابي
    " قبر الشهيد/ محمد موسى بحر الدين وكل من عليها فان – نسألكم الفاتحة"
    لقب الشهيد وضعه الأحباب لأنني مت من أجل ما آمنت به في حياتكم الدنيا، آمنت بالحرية والسلام والعدالة وكنت أحلم بأن أنعم بها وينعم بها أطفالي ولكن شاءت الأقدار لي الصعود عزيزا سيدا، ففعلت راضيا، لم أكن لأرفض عرضا مغريا لموت مثل موتي ولكني فقط أفتقدكم يا حبايب..!!
    لا شك أن نضال حبيبتي لما علمت بموتي مقتولا صدمت وربما سقطت مغشيا عليها، هي عادتها عندما تفقد عزيزا عليها، إني فخور بأنني عزيزا عليها ولكني آسف لجعلها تحزن، فهي رقيقة كنسمة، تحب الحياة والعلم والشعر وكتابة الخواطر في دفترها المكسو بغلاف أخضر وزهرات حمراء يانعة مثل لون خدها حين تضحك مبتهجة، كانت خواطرها بريئة محببة منسوجة بالألوان والزهرات والرياحين والنيل والحب والعناق، لم تكن مخيلتها مدنسة مثل ذاكرتي بأزيز الرصاص وصرخات التعذيب و صفير طائرات الأنتنوف والسوخوي وبقايا البشر الملقاة في المدى الفسيح، لم تعلم عن الإختباء في كهوف الجبال، الجوع ورائحة الجثث المتحللة والطيور الجوارح تملأ السماء والموت يضحك ساخرا في المدى الأسود اللعين!، كانت تمثل الجانب النظيف من البشر، كانت تمنحني النقاء والطهر والحب، سأفتقدها هنا كثيراً، سأفتقد ترديدها لأغنية مصطفى سيد أحمد ..
    "يا ايد اخوي علي أيد أبوي علي أيدي أنا
    علي ايد وايد
    تجدع بعيد في لجة من راس ميضنة
    حيكومة الفقر الضلال
    الكضبن والصهينة"
    تحب مصطفى سيد احمد لدرجة أني كنت أغير منه، رغم حبي له أنا أيضاً فأنا أعتبره بحق رسول الدهشة في كل المواسم و تراجيديا الموت في زمن الفشل الكلوي، حزن مقيم في وطني
    يوم وداعي لكم يا حبايب كان يوما عظيما، ألمه كان عظيما جدا فوق كل إحتمال، ولكنكم ياحبايب جعلتموه يليق بنهاية مشرفة كنت أتمناها، فقد إرتحت من تلك الوجوه التي تترأى لي الآن بدمامتها بلا ملامح بلاعيون أو افواه، كانت تصرخ ولكني لم أكن أسمع، كان جسدي يؤلمني .. ثم يؤلمني أكثر ثم توقف الألم وصارت الوجوه تتمطى أمامي كأنها صورة وجوه منعكسة من سطح ماء يهتز، النار تحرق أجزاء من جسدي، الكهرباء تصعق، سنان رقيقة حادة كانت تدخل في يدي ولكني لم أكن أشعر بشئ ولا أسمع صراخي فقط أرى صورا تتمدد وتنكمش و.. تلاشى كل شئ
    إنفتحت أمامي كوة ضوء في حائط القبر مظلم، تفتحت أمامي صفحات الذاكرة المتعبة، كدفتري الجامعي فبت أقلب الأيام و أقرأ منها ما حدث لي منذ زمن بعيد..
    أبي الحاج (موسى عبد الله بحر الدين)، رجل عرفته نيالا بالوداعة والصدق والتدين، كثير الذكر لله يحمل سبحته تلك ليل نهار، سبحة أبي تلازمه منذ زمن بعيد، ويستخدمها أيضا للضرب غير المبرح لمن يخطئ مننا بغير قصد، كان لطيفا، رائعا بلا تكلف، كنت أتعلق بلحيته عندما كنت صغيراً و أقرأ له سور القرآن القصيرة، حتى حفظت جزء عم، كان يبتسم لي ويمنحني الحلوى، كان محبا للقرآن والصلاة، ورعا تقيا، لا شك أنه بعد أن سمع خبر مقتلي، إنفجر بالبكاء، هو شيخ أسف، يبكي عندما يقرأ القرآن ولكن رغبة خفية كانت تمنيني أن أراه يبكي لفراقي، لأتيقن من حبه لي، أنا أحبه، ولم اقصد إيلامه أبدا، ولكني فعلت بموتي هذا، ليتني أستطيع العودة إليه ليفرح، ولكني لن أستطيع الموت طريق في إتجاه واحد لايمكن التراجع عنه، قرار تتخذه لمرة واحدة، ولكن ما كان قد كان، أذكر أنه كان دائما يضحك عندما يذكر الموت أمامه ويقول بأن أمه كلتومة كانت توصيه بأن يستغل فرصة الموت المشرف ويموت ليبقى خالداً لدى الشرفاء من العالمين، كان يسأل الله دائما حسن الختام.. وداعا يا أبي .. لندعو الله بأن نلتقى في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر
                  

05-17-2016, 04:53 AM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعاً ياحبايب..!! (Re: حسن العمدة)

    Quote:

    أخي الأكرم : حسن العمدة

    كما قال الشاعر الدوش : أمتِّع نفسي بالدهشة ...
    هذا مشروع كتاب مملؤ بالمفاجآت ... ويحتاج لفواصل مُرقمة
    ليكون دُرة ....
    لك مودتي ومحبتي ... جمّلت صباح يومي

    *
                  

05-17-2016, 05:09 PM

حسن العمدة
<aحسن العمدة
تاريخ التسجيل: 03-03-2014
مجموع المشاركات: 56

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعاً ياحبايب..!! (Re: عبدالله الشقليني)

    أخي عبد الله الشقليني
    شكرا لمرورك وحضورك البهي
    وانتم دوما نبع لكل جميل وأصيل
    أبشرك بأن العمل يجري على قدم وساق وسيكتمل قريبا لتوثيق سيرة الشهيد/ محمد موسى عبدالله بحر الدين - كلية التربية جامعة الخرطوم 2010
    عل ذلك يسهم في خلق نوع من التلاحم في لوحة كبيرة تعلق على جميع الحوائط والبيوتات تسمى الوطن الواحد الواعد القادم
    عبر السرد والرواية سنقاوم وسننتصر
    كن بخير صديقي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de