كانت تتمنى أن تتزوج بطلاً! أرقها كثيراً زواجها من طبيب عادي، رجل غارق في تفاصيل الحياة اليومية، رجل لا يعرف الحرب والنزال، لا يعرف لغة الأبطال. تحلم أن تكون أنثى يحملها بطلها على حصانه الأبيض بعدما يحارب الدنيا من أجلها، تحلم كثيراً ولذلك كرهت زوجها. تطوي الأيام بعضها بعضاً وهي حزينة، يلفها شعور بأنها تستحق أفضل مما هي فيه. وذات يوم جائها خبر زوجها، إن الطبيب العادي الذي تزوجته ذهب لعلاج طفل لدغه ثعبان، فما كان منه إلا أن هب من فوره لإنقاذه عن طريق ابتلاع السم منه، انتهت حياة الطبيب العادي نهاية غير عادية. وفي اللحظة التي ودعت فيها القرية طبيبها العظيم أدركت الزوجة المكلومة أنها كانت وطوال هذه السنوات تعيش في كنف بطل تنكره، تحيا تحت سقف واحد مع فارس حقيقي، يضرب بسيف جهده وإخلاصه في ميدان العمل ومعركة الحياة اليومية، بطل لم يكن حريصاً على القيام بهبات وقفزات عالية كبيرة، بطل يحوي على قدر من النبل والإيثار والتضحية لم ترها لأنها كانت .. تنظر بعيداً. تنبئنا هذه القصة العبقرية التي قراتها ذات يوم للأديب الروسي “أنطوان تشيكوف” عن معنى هام جداً، عن الفخ الذي نقع فيه حينما ننظر بعيداً ذاهلين عما بين أيدينا من نِعم، حينما نترك ارواحنا كي تشكلها ابجديات المجتمع، وتعبث فيها يد الأوهام. قصتنا السابقة ليست مأساة بعيدة، إنها وجع يومي متكرر، وجع الطموحات الرومانسية التي نأخذها معنا إلى بيت الزوجية، كارثة سقف التوقعات العالي الذي ينهار علينا حينما نتزوج ونكتشف أن ما نراه في السينما وسمعناه في الأغاني غير ما نعيشه، أرق البحث عن شيء ينقصنا لكننا لا نعرفه!. مشكلتنا أن لا أحد يخبرنا قبل الزواج أن الحب صنعة، تراكم مستمر لأشياء بسيطة جميلة فوق بعضها البعض، عندما يُغلق علينا باب نصبح نحن الأبطال الحقيقيين لقصتنا، وعليه صار لازماً على كل واحد منا أن يقوم بدوره كي يصنع الحب عبر سلوكه اليومي. لا أحد يخبرنا أن الحب يشبه البنك، نقوم كل يوم بعمليات “سحب وإيداع” وعليه نحتاج أن نودع من رقة مشاعرنا، وجميل سلوكنا، وتفهمنا الشيء الكثير كي يجبر كسر أي سحوبات يمكن أن تجري ونحن واقعين تحت الضغوط والأزمات. لا أحد يخبرنا للأسف، أن عكس الحب هو اللامبالاة، عدم الاهتمام، وأن ما يجهز عليه حقاً أن يتساوى في وقت ما رضى الحبيب ونقمته، وأن الحياة التعيسة ليست فقط تلك التي تحوي على مشكلات ضخمة كبيرة، وإنما هي الحياة الباردة الفارغة من العطاء، الخالية من الشغف، القائمة على ردود الأفعال النمطية الرتيبة. لا أحد يخبرنا قبل الزواج أن المشكلة التي تقابلنا ليست هي المشكلة الحقيقية!، ذلك أن لا بيت على وجه الأرض يخلو من المشكلات، وإنما المشكلة الحقيقية أن نرى في المشكلة تحد للحب، فنضطرب ونخطئ في تعاملنا معها، ونصنع منها جرحاً غائراً يهدد علاقتنا. لا أحد يعلمنا أن منظومة الزواج لا تقوم على حقي وحقك، لا تستقيم حينما نصبح أنداد يحتمي كل واحد منا وراء قناعاته الخاصة وتبريراته لسلوكه وتصرفاته، وإنما في الرصيد الأخلاقي والنفسي الذي يدفعنا دفعاً إلى العطاء الغير مشروط، والحب الغير مشروط، وغض الطرف عن هفوات شريك الحياة وتغليب حسن الظن دائماً. في الزواج يخدعونا بقولهم أننا سنتوحد ونصبح واحداً، والحقيقة أننا اثنان، كل ما هنالك أننا سنصبح بحاجة إلى صنع طريق مشترك، تتوحد فيه أحلامنا وطموحاتنا، ونتقوى ببعضنا في مواجهة أزماته ومشكلاته، مع احتفاظ كل منا بشخصيته، واحترام كل طرف لكيان الطرف الآخر، ودعمه كي يكون شريكاً رائعاً. بلى، في الزواج لا يوجد أصل وصورة، لا يوجد محور يدور الطرف الآخر حوله، بل هناك احترام للخصوصية، وتشجيع من كل طرف لشريكه كي يكون أفضل، هناك دعم عاطفي ووجداني يدفع كل طرف إلى التميز والتفوق ومن ثم الامتنان لشريك الحياة ومحاولة رد الجميل دائماً. لا أحد يا صديق يخبرنا قبل الزواج أن البطولة الحقيقية أن يكون الرجل منا رجلاً في عين زوجته لا رجل عليها، وأن المرأة تحتاج لأن تحتمي بنقاط قوتها الفطرية، أن تكون أنثى قبل أي شيء آخر، أن تتخلى عن نغمة “الرجال كلهم كذلك” أن تخلع ثوب الضحية السخيف، وتواجه أزماتها بعين الوعي والتدبر. قالوا قديماً: “طريق الألف ميل يبدأ بخطوة”، والحقيقة أن الخطوات كثيرة جداً، المهم أن تكون في الاتجاه السليم، وعليه علينا أن نراجع خطواتنا وتصرفاتنا وسلوكنا، أن نفرق دائماً بين الجهد المبذول والنتيجة، ذلك أننا كثيراً ما نتعب ونجتهد في غير الاتجاه الصحيح. نعم، قد يفعل الرجل منا الشيء الكثير لكنه في غير ما يعبر عن حبه لزوجته بالطريقة التي تريد، وقد تتحمل المرأة وتعاني وتتعب كثيراً، دون أن تنتبه إلى أن زوجها يريد أن تتعب في اتجاه آخر، من هنا تظهر نغمة ” لا يقدر ما أبذله”، التي نقولها كثيراً حينما يتذمر شريك حياتنا ويطالب بشيء يرى بأنه حق له، أو احتياج يرى بأهمية إرواءه. “تشيكوف” في قصته السابقة كان عبقرياً حينما أخبرنا أن ننظر بوعي وتفهم إلى ما يبذله شريك الحياة، وألا نكون مثاليين في رؤيتنا، وأن نهبط بالحب من سماء الرومانسية إلى أرض الواقع. وأنا أخبرك بأعظم من هذا، أخبرك أن الحب بالتحبب، والود بالتودد، أقف على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخبرنا أن “تهادوا تحابوا”، مؤكداً في لفتته تلك بأنه حتى الحب كشعور قلبي منبعه ومنبته في الأصل سلوك نقوم به، وعمل وجهد نبذله. وعلى هذا جرت سنة الله في الكون. ________ *اصلا دا جزء من مواضيع كتاب جديد للاستاذ كريم الشاذلي وبنفس عنوان المقال وحينزل السوق مع معرض القاهرة للكتاب هسي بعد تلاتة يوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة