في نحو الثامنة صباحاً، توقف مترو الأنفاق، في محطة «عين شمس»، محدثاً في أذن حامد عثمان ما بدا ضجة أليفة. وكان المترو قادماً ساعتها، من قاعدة انطلاقه القريبة، في ضاحية «المرج»، حيث تمّ نفي الرئيس المصري الأسبق محمد نجيب، من جانب رفاق دربه، بين جدران فيلا قديمة، صارت مع سريان الزمن ورفيقيه غبار النسيان ورمل الفناء إلى مكان أشبه بالخرابة، وقد أحاطت سرير الرئيس المخلوع، الذي أغرقته الكتب والمراجع وأوراق أخرى، مجموعة حيوانات أليفة، من قطط وكلاب، طيلة ثلاثة عقود، وحين مات أخيراً أحد كلابه تلك، دفنه بيديه في «الحديقة»، وكتب على شاهد قبره هذه العبارة: «هنا يرقد أعز أصدقائي». كان علي حامد عثمان، الذي ظلّ يتحسس جيبه من حين لآخر خوفاً من وجود نشّال محتمل في الجوار، أن يغادر مترو الأنفاق ذاك، في محطة رمسيس، حيث أقلّه عبر أسفل مياه النهر مترو آخر، إلى محطة الدقي، ليلحق من هناك، وعلى عجل، بأتوبيس مزدحم يسير، في طريقه أسفل كوبري الدقي، إلى تقاطع شارعي سورية والفلّاح، في حيّ المهندسين، حيث يُوجد هناك، مكتب المفوضيّة العامة لشؤون اللاجئين.
«لو سمحت، يا سماره»
هكذا، استوقفه صوت سيدة مصرية، كانت في صحبتها سيدة أخرى بدينة في نحو الثلاثين ملتفة بعباءة فلاحية سوداء وطفلة بعينين خضراوين في نحو السادسة، وقالت له السيدة وهي تشير نحو مرافقتيها: «خذ بيدها. والنبي. أصلها خائفة من دا»، وكانت تشير إلى السلّم المتحرك. لما مدَّ حامد عثمان يده لمساعدة الطفلة، اعترضته السيدة نفسها مصححة: «لا مش دي. الجاموسة اللي معاها». وكانت تعني المرأة البدينة، لا الطفلة، والتي بدا بالفعل منعكساً على وجهها المغطى بالعرق، تعبيرُ أن «هذا السلّم المتحرك سيقودها، إن لم يكن إلى الجحيم رأساً ولا بد، فإلى باب قبرها المشرع رأساً»، فابتسم حامد عثمان، وهو يحسّ بثقل المرأة المتشبثة به كالغريق.
مع شدة ذلك الحضور الملح للشعور بخطر فقدان محفظته، إلا أنّه لم يغادره في الأثناء قطّ ذلك الشعور الآخر بملمس الأمان الناعم في نفسه، والمتمثل في عطية اللورد الفقير له، تلك العطية الآخذة بالفعل في التبخر، بعد أن قام بقطع تذكرتي المترو والأتوبيس تباعاً، فما تبقى بحوزته كان قرابة مبلغ التسعة جنيهات، وكان ذلك المبلغ يكفي على الأرجح لشراء ثلاث بيضات وعدد معقول من قطع الطعمية والفول والخبز الذي يُدعى «الجينز» وعبوة صغيرة من شاي «العروسة»، إلى جانب علبة سجائر «كليوباترا». وبدأ حامد عثمان يتذكر، وهو يرسل بصره عبر نافذة الأتوبيس صوب العالم المتراجع للوراء، وقد اطمأن على وضعه المالي، ما حدث في أثناء تلك المقابلة.
أو كما لو أنّه يراها، «الآن».
كانت أناملها رقيقة. أما أظافرها فمطلية بعنايةِ لونٍ هو مزيج، من اللونين الأحمر و «الوردي». ويدها ككل أو الأرجح من عمل إزميل إغريقي قديم. متقن. لكنها نابضة بالحياة. كانت تقلب أوراق طلب اللجوء السياسي خاصّته، ببطء مميت قاتل، عندما رفعت عينيها الجميلتين، تلك الموظفة المصرية الشابة، وشرعت في استجوابه كأي محقق بوليسي لعين آخر قد عرفه العالم في ذلك الوقت، قائلة:
«لماذا هربت إذاً من بلدك، يا أستاذ حامد»؟
... كان كل شيء فيها يغري لا بالعناق بل الأكل والأرجح من دون مضغ... باختصار، بدا حامد عثمان اللعين في جلسته تلك جائعاً جداً للمسها. وكانت هي على قول الشاعر كالسماء بادية ومستعصمة بالبعد في آن. بكلمة واحدة منها، قد يتعفن حامد عثمان داخل شقته الأرضية الضيقة تلك، إلى نهاية الزمن الممنوح له كحياة، وبكلمة أخرى منها، سيلحق حامد عثمان اللعين نفسه بركب الواصلين، إلى أحد بلدان الغرب الفاتنة، فاختلج جسده كله فجأة بالبكاء، وقد آلمه حد ما قد تفعله التوابل الحارة نُثرت على عصبٍ عارٍ مرأى شفتي الموظفة الكرزتين.
هناك، في المقابل، على الضفة الأخرى، من المكتب، غرقت الموظفة، في صمت بدا حزيناً. كانت تعودت على نبش جراح اللاجئين بمثل ذلك السؤال: «لماذا أنتم هنا». وقد أفهمتها الخبرة أن تفسح مجالاً زمنياً لجراحهم، حتى تتفجر وتسيل وتهدأ، وحتى تتابع هي في المقابل مجزرة الأسئلة أو محرقتها، والأمر سيّان. أخيراً، ترجل حامد عثمان، عن الأتوبيس، وسار صوب مكاتب المفوضيّة، لمعرفة نتائج تلك المقابلة. بدأ قلبه يدق كطبل، والدماء أخذت تتصاعد حارة مندفعة إلى قمة رأسه، والحلم بإعادة التوطين في دولة متقدمة يقوى ويضعف، بينما يراجع موظف الاستقبال قائمة الأسماء أمامه على المكتب، قبل أن يرفع رأسه، ويخاطب حامد عثمان، ببرود القابعين عادة على مسافات آمنة من أخطار الجوع تلك أو التشرد، قائلاً: «لقد تمّ تأجيل البت في طلبك». فسأله حامد عثمان، بما يشبه جزع المحتضر أو يأسه، قائلاً: «إلى متى؟». قال الموظف: «إلى حين إشعار آخر».
* من رواية تصدر قريباً
04-26-2017, 09:17 AM
محمد البشرى الخضر
محمد البشرى الخضر
تاريخ التسجيل: 11-14-2006
مجموع المشاركات: 28869
حبيبنا ود البشري تحياتي يا غالي واسف جداً لم استطع ايصال معلومة ان المقصوصة اعلاه للكاتب والروائي الانسان الجميل الزميل "عبد الحميد البرنس " كنت سا تحدث عنها في المداخلات القادمه في محاولة لتطرق الجوانب الفنية فيها . عبد الحميد يملك كل ادوات الروائي المتمكن ، يحرص دائما على ان تكتمل هندسة بنيانه للرواية بصورة كاملة مستصحباً فيها كل عناصر البناء . الحدث - الشخصيات - الزمان - المكان -السرد - الحوار . ساحاول ان اتطرق لكل الجوانب هذه وحتى صدور الرواية ساسعى في الحصول على نسخة بحول الله
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة