أولا : موجز معانى الآيات فى السورة: الآية 1 : يوجه الله تعالى خطابا مباشرا للمؤمنين فى عهد النبى محمد ينهاهم عن مناصرة وموالاة أقاربهم الكافرين ، واصفا أولئك الكافرين بأنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وإذن لا يصح أن يعاملوهم بالمودة، فأولئك الكافرون جمعوا بين الكفر العقيدى ـ وهو الكفر بالقرآن الكريم ـ والكفر السلوكى وهو الاعتداء على المؤمنين والنبى محمد واخراجهم من بيوتهم بسبب أنهم آمنوا بالله تعالى وحده. وعليه فاذا كان المؤمنون قد فارقوا أوطانهم جهادا فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يصح أن يحتفظوا سرا بعلاقات المودة مع أولئك الظالمين. والله تعالى يعلم السرائر ويعلم الظواهر، ومن يوالى أؤلئك الظالمين فقد أصبح من الضالين عن الطريق المستقيم. الآية 2 : واقع الأمرأن أولئك الظالمين الكافرين سيظهرون أكثر على حقيقتهم العدوانية اذا اشتبكوا مع المؤمنين فى قتال، ولن يقتصروا على المواجهة الحربية بل ستنطلق أيديهم وألسنتهم بالسوء للمؤمنين. هذا فى الدنيا. الآية 3 : أما فى الآخرة فإن قرابتكم لأولئك المشركين الكافرين ـ سواء كانوا لكم أرحاما أو أبناء ـ لن تنفعكم يوم القيامة، حيث يفصل الله تعالى بينكم بحكمه ، وهو الذى يعلم ويبصر كل أعمالكم. الآية 4 : أن عليكم الإقتداء والتأسى بالنبى ابراهيم والمؤمنين معه ،وقد واجهوا نفس الاختبار، وقد تبرءوا من أهلهم ومن الآلهة التى يعبدها قومهم ، وأعلنوا كفرهم وعداءهم لتلك الآلهة ومن يعبدها،وسيستمر تبرؤهم من قومهم حتى يؤمنوا بالله وحده دون شريك. وقد قال ايراهيم وقتها لأبيه المشرك أنه سيستغفر الله له ولكنه لا يملك له نفعا ولا ضرا . وقال ابراهيم ومن معه انهم يتوكلون على الله تعالى وحده ، ويؤمنون به وحده ، واليه وحده يتوبون ، واليه وحده مصيرهم يوم القيامة. الآية 5 : وقالوا داعين الله تعالى : ألا يجعلهم عرضة لاضطهاد الكافرين المعتدين ، وان يغفر لهم ربهم ، فهو جل وعلا العزيز بقوته الحكيم بأفعاله.ومصطلح الفتنة فى السياق القرآنى يعنى الاضطهاد الدينى فيما يخص العلاقة بين المؤمنين والكافرين المعتدين، ويعنى الاختبار والامتحان فيما يخص علاقة الله تعالى بالانسان. الآية 6 : هذا الموقف الذى اتخذه ابراهيم والمؤمنون معه هو ما يجب على المؤمنين مع محمد التأسى به. بل على كل من يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يتأسى به ، وإن لم يفعل فان الله تعالى ليس محتاجا له ، فهو تعالى وحده المستغنى عن عباده المستحق للحمد. الآية 7: وفى هذه الآية يبشر الله تعالى المؤمنين مقدما بأنه عسى أن يأتى اليوم الذى تنتهى فيه العداوة ويحل فيه الوئام ، وليس هذا مستبعدا ، فالله عليه قدير، واذا تاب الكافرون ورجعواعن عدوانهم فالله تعالى سيغفر لهم وسيرحمهم يوم القيامة. بعد المقدمات السابقة والتى تعتبر حيثيات لتشريع سيأتى ، يأتى تشريع الموالاة فى الآيتين الثامنة والتاسعة مترتبا على موقف المخالفين للمؤمنين فى العقيدة ، إذا كانوا مسالمين او معتدين: الآية 8: لا بد من التعامل بالبر والمودة والعدل والقسط مع المخالفين للمؤمنين فى العقيدة والدين طالما لم يعتدوا على المؤمنين ولم يقاتلوهم بسبب اختيارهم الدينى ولم يقوموا باخراجهم من بيوتهم وأوطانهم. هذا لأن الله تعالى يحب المقسطين القائمين على تحقيق العدل . ويلاحظ هنا أن الله تعالى أتى بوصف الاسلام الظاهرى بمعنى عدم الاعتداء، فكل من لم يقم بالاعتداء عليك فهو مؤمن مسلم ، وعليك أن تعامله بالبر والقسط والعدل. يسرى ذلك على الأفراد كما يسرى على الدول. الآية 9: أما الذين اعتدوا على المؤمنين بالقتال بسبب خيارهم الدينى ، وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا الظالمين فى طرد المؤمنين من ديارهم ـ فانهم الكافرون الذين ينهى الله تعالى ينهى عن التحالف معهم وينهى عن موالاتهم. ومن يتحالف معهم وينصرهم ويؤيدهم فى عدوانهم الظالم على المؤمنين فهو شريك لهم فى الظلم. بعدها انتقلت الآيات الكريمة لتضع تشريعات اجتماعية فى مشاكل الزواج والطلاق التى حدثت بعد الهجرة من مكة الى المدينة وما حدث من انقطاع تام بين أهل المدينة وأهل مكة، وترتب على هذه القطيعة تفكك بعض الأسر بين زوج كافر استمر فى مكة وزوجة مؤمنة تركت زوجها لتلحق بجماعة المؤمنين ، أو العكس ؛ زوجة تمسكت بدين أهلها المتوارث وظلت فى مكة رافضة أن تتبع زوجها الذى أسلم وهاجر.ثم هناك مشكلة أخرى ، فقد تأتى احداهن تزعم الايمان وهى فى حقيقة الأمر أتت لتتجسس على المؤمنين وتساعد المشركين فى اعتداء يعدون له ، حيث عزموا على ملاحقة المؤمنين الفارين بالقتال فى موطنهم الجديد الذى لجأوا اليه. وبالتالى لا بد أن يرسلوا جواسيس للتمهيد للعدوان. والنساء أفضل من يقوم بهذه المهمة. ومن السهل أن تأتى نساء كثيرات كل منهن تزعم الايمان ، ولا يعلم حقيقة ما فى القلب الا الله تعالى. لذا نزلت الآيات مقدما تطرح الموضوع وتضع له التشريع المناسب فى الآيات 10 ، 11 ، 12. الاية 10 : هذه الآية تخاطب المؤمنين أنه إذا جاءتهم إمرأة مهاجرة فعليهم امتحانها ،أى سؤالها عن سبب مجيئها واختبار حالها حتى لا تكون عينا للعدو، وحتى يتأكدوا حسب الظاهر من حالها ، أما حقيقة ما فى القلب فمرجعه الى الله. وإذا عرفوا صدقها فلا يجوز ارجاعها الى الكفار الذين هربت منهم. إذ لا يحل لها أن تتزوج من كافر ولا يصح لكافر أن يتزوجها. وبالهجرة تحدد من اختار الايمان ومن اختار الكفر. واذا كانت المرأة المهاجرة زوجة تركت زوجها الكافر ولجأت للمؤمنين فعلى المؤمنين دفع المهر الذى دفعه من قبل الزوج الكافر تعويضا له ، ويمكن لها أن تتزوج مؤمنا فى موطنها الجديد ، وعليه أن يدفع لها مهرها. وبالعكس ، إذا اختارت الزوجة الكفر والبقاء فى مكة رافضة أن تصحب زوجها الى المدينة فعلى زوجها المؤمن فى المدينة أن يطلقها تماما ويفارقها حتى تتزوج من كافر مثلها مقيم فى نفس الموطن، وعلي الكفاردفع المهر الذى دفعه المؤمن من قبل. الآية 11: ولآن الكفار لا عهد لهم ولا ذمة ، وليس منتظرا منهم تطبيق هذا الحكم الالهى بدفع ما عليهم من مهور للأزواج المؤمنين الذين تركوا أزواجهم فإن تعويض هؤلاء الأزواج المؤمنين بالعدل يمكن أن يتم إذا تمكن المؤمنون فى المستقبل من الحصول على غنائم من الكفار. وبعد استجواب المرأة المهاجرة واختبارها والتأكد من صدقها عليها أن تقوم بمبايعة النبى على الايمان والتمسك بالاخلاق الحميدة والطاعة فى المعروف، وهذا ما جاءت به الآية التالية: الآية 12: يقول تعالى للنبى أنه إذا جاءته المؤمنات للمبايعة فعليه أن يبايعهن على الامتناع عن : الوقوع فى الشرك والسرقة والزنا وقتل الأولاد والبهتان والكذب والزوروعصيان الأمر المعروف. واذا حدث وبايعن النبى على هذا فعلى النبى أن يدعو لهن ويطلب من الله تعالى الغفران لهن . والله تعالى غفور رحيم. الاية الأخيرة رقم 13: وتختتم السورة بآية اخيرة تؤكد على المؤمنين ألا يناصروا أو يتحالفوا أو يوالوا قوما قد غضب الله عليهم ، وقد كفروا باليوم الآخر ، ويئسوا منه بالضبط كما سييأس الكفار يوم القيامة من الأولياء المقبورين الذين يطلبون فى الدنيا شفاعتهم ثم يفاجأون يوم القيامة بأنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا. ثانيا: تحليل موضوعى للسورة المحور الأساسى للسورة هو قضية الموالاة، وعلى هامش هذا المحور تناثرت إشارات لقضايا أخرى جاء تفصيلها فى سور أخرى. قضية الموالاة : دار حول موضوع الموالاة كل آيات السورة ، إما تتناولها تناولا مباشرا، أو تناقش بعض القضايا المتصلة بها ، كاعطاء الحكم الشرعى للعلاقات المقطوعة بين زوجين منفصلين مكانا ووجدانا لكى يستأنف كل منهما حياته فى المجتمع الذى أراد الانتماء اليه. معنى الموالاة الموالاة عموما تعنى التحالف ( مع) ( ضد )، أى لا تكون إلا فى حالة حرب أو خصومة ملتهبة تستلزم ممن يهمهم الأمر تحديد الجانب الذى ينضمون اليه ، وبالتالى يكونون ضد الجانب الآخر. أى أن تكون مع واحد من خصمين ضد الأخر فى وقت خصام وحرب وما يستلزمه ذلك من معاداة الخصم الأخر. الموالاة والتبرؤ فى الاسلام تعنى أن لا توالى أو تتحالف مع المعتدى الظالم الذى يهاجم المسالمين الآمنين، فاذا كف عن اعتدائه وتاب انتهت الخصومة. الموالاة بالتعبير الأصولى فى الدين السنى تعنى ( الولاء والبراء ) وتعنى فى الدين الشيعى : ( التبرى والتولى ). وكل منها يختلف عن الباقين. التبرى والتولى فى الدين الشيعى تعنى موالاة ( على بن أبى طالب ) وذريته فى إمامة المسلمين ، وتقديسه وآله وتفضيلهم على الجميع ، ويصل معظمهم فى التفضيل والتقديس الى درجة التأليه. هذا هو العنصر الأول. العنصر الثانى هو التبرؤ من خصوم على السياسيين من أصحابه وهم أبو بكر وعمر وعثمان والسيدة عائشة ومعاوية وعمرو وطلحة والزبير ..الخ. وتصل درجة التبرؤ الى التكفير والتحقير. الولاء والبراء فى الدين السنى تعنى موالاة من يتفق معهم فى العقيدة وكراهية وعداء وقتال المخالف لهم فى عقيدتهم. وهناك درجات فى البراء ، وهناك خلاف فى موقفهم من المسلمين العوام الذين لا انتماء لديهم ، هل يصح معاملتهم كالأعداء أم لا. مشكلة الموالاة اليوم : الوهابية وسوء استخدام الموالاة فى تشريع الارهاب الوهابية تستغل نفوذها فى نشر عقيدتها فى البراء والولاء بزعم أنها تشريع الموالاة والتبرؤ فى الاسلام. على سبيل المثال فإن آيات الموالاة فى القرآن قد تم توظيفها ضد الأبرياء من المصريين الأقباط، وصرخ خطباء المساجد فى التحريض ضد الأقباط مستشهدين بقوله تعالى ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ﴾ (5 / 51). وهم فى ذلك الاستشهاد الخاطئ يتناسون سياق الآيات وهى تتحدث عن عصر النبى محمد عليه السلام حين طرأت ظروف حربية خاصة فرضت تحالفات سرية بين المنافقين ـ وهم بعض الصحابة ممن كان يعيش داخل المدينة ـ وبعض القبائل اليهودية والنصرانية المعتدية على المسلمين. اذن هو تعليق على أحداث تاريخية ارتبطت بزمانها ومكانها وحكى القرآن الكريم بعض أحداثها وما دار فيها من أقوال فى الآية التالية ( فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا فى أنفسهم نادمين)(5 / 52 ) .لا بد من تنفيذ هذا التشريع اذا تكررت ظروفه بحذافيرها ، كان يهجم علينا عدو معتديا فيتحالف معه فريق منا ضدنا ، أى يواليه فى عدوانه علينا ، هنا يستحق اللوم ـ فقط ـ طبقا لهذا التشريع القرآنى . إلا إن الارهابيين الذين يعتدون على الأبرياء ويقتلون المدنيين لهم عقيدة أخرى فى الموالاة يسمونها البراء والولاء، أساسها تقسيم العالم الى معسكرين متحاربين ، دار الاسلام ودار الحرب. وهم يعتقدون أن واجبهم هو الهجوم على الآخرين باعتبارهم معسكر الحرب او دار الكفر لارغامهم على دخول الاسلام طبقا للحديث الكاذب الذى رواه البخارى والقائل " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ".وقد جاء اختراع هذا الحديث بأثر رجعى فى العصر العباسى ليبرر الفتوحات العربية التى حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا، والتى استولى بها العرب على الامبراطورية الفارسية وهزموا الامبراطورية الرومية ، واستمرت الحرب بينهم وبين الروم لتقسم العالم الى معسكرين : عربى يحمل اسم الاسلام ورومى غربى يحمل اسم المسيحية، وجرى تقسيم العالم الى دار للحرب ودار للاسلام فى التراث الفقهى . وفى عصرنا الراهن ازدهرت هذه المفاهيم التراثية العصر أوسطية بتأسيس الوهابية وهى أشد المذاهب الفقهية تعصبا فى الدين السّنى. وانتشرت الوهابية فأرجعت عقيدة تقسيم العالم دينيا الى معسكرين متعاديين متحاربين. وكل مسلم لا يتفق مع الوهابيين يعتبرونه مشركا ، شأنه شأن الأفراد فى دار الحرب. وبالتالى فان الأقليات الدينية من غير المسلمين تتعرض لاضطهاد كفريضة دينية ـ مهما كانوا مسالمين ، بل يعتبر التعامل معهم بعدل واحسان وتسامح خطيئة دينية لأنها تتنافى مع البراء والولاء بالمفهوم الوهابى السنى. فالبراء عند الوهابية يعنى التبرؤ من كل من يخالف الوهابية ، سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين . الكافر عندهم هم اهل الكتاب ، أما المشرك عندهم فهو المسلم غير الوهابى ، خصوصا الشيعة والصوفية. ومعنى البراء والتبرؤ عمليا هو الكراهية لهم واستحلال خداعهم والتحايل عليهم عند عدم القدرة عليهم ، اما عند القدرة والتمكين فلا بد من قتلهم أو قتالهم وأخذ الجزية منهم . هذا ما كان يمارسه المسلمون والروم فى العصور الوسطى، وانتهى ذلك بالعصر الحديث، ولكنه عاد يؤرق العالم المتحضرتحت اسم الوهابية ، وهى العقيدة الدينية للاخوان المسلمين وكل التظيمات المتطرفة المنبثقة عنها. اما الولاء فهو مناصرة الوهابيين فى اعتدائهم الاجرامى على المسالمين والذى يسمونه جهادا. ولذلك تتوالى صرخات المتطرفين فى المساجد والصحف والفضائيات وفى كل وسائل الاعلام ووسائل المواصلات تحرض ضد جميع اليهود وجميع المسيحيين تستشهد بالآية القرآنية السابقة فى غير موضعها، ويتناسون تشريعات الموالاة ومعناها، كما يتناسون تشريعات القتال وأنه للدفاع عن النفس وليس للاعتداء على الأبرياء، وان فرض الجزية لا يكون الا على جيش اعتدى علينا فتمكنا من رد عدوانه ولا بد أن يدفع غرامة حربية " جزاء " عدوانه ، وهو قانون معترف به فى عصرنا ، عوملت به ألمانيا النازية وصدام. هذه هى مشكلة الموالاة فى عصرنا الراهن. وقد كانت الموالاة أيضا مشكلة للمسلمين الأوائل استلزمت تدخل القرآن الكريم بالتشريع والنصح والتحذير. مشكلة الموالاة فى عصر النبى محمد عليه السلام الموالاة قد تكون موقفا لا خلاف عليه حين يهاجم عدوغريب بلدا أو قوما ، وبالتالى يكون الاجماع قائما حول الاتحاد معا أو موالاة الجميع بعضهم بعضا ضد العدو الغريب الذى يقتحم الديار ويقتل المسالمين من الوطن.ولكن تتحول الموالاة الى مشكلة حين يبدو تعارض ما بين القومية ( أى الانتماء للقوم والأهل ) والانتماء الدينى. دعنا نفترض أن أقلية مسيحية مضطهدة من الأكثرية ، مما استدعى تدخل قوة معتدية مسيحية كبرى خارجية لتأتى وتهاجم البلد بحجة الدفاع عن المسيحيين المضطهدين. ما هو موقف المسيحيين فى الداخل؟ هنا مشكلة التعارض بين الوطن والقومية وبين الانتماء الدينى. كانت المشكلة أكبر مع المسلمين الأوائل فى مكة ثم بعد هجرتهم الى المدينة. معظم العرب فى ذلك الوقت لم يعرفوا الدولة أو الوطن . عاش معظم العرب قبائل متنقلة ، اى لا تلتزم بوطن ثابت، وبالتالى ليست لهم دولة بالمعنى المعروف. كانت القبيلة هى التى تمثل الدولة والوطن. أساس القبيلة هو الانتماء الى أصل واحد ونسب واحد تتفرع منه بطون القبيلة وفروعها وعائلاتها وأسراتها. العصبية القبلية كانت أساس التعامل داخل وخارج القبائل العربية ، والولاء للقبيلة وذوبان الفرد فيها وفخره به هو أساس حماية الفرد وكينونته. القبيلة كان يمثلها الكبار المترفون الظالمون ، ولم يكن هناك من سبيل لمواجهة ظلمهم ، بل المطلوب نصرتهم حسب القاعدة القبلية القائلة ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ). القرشيون لم يكونوا أعرابا يتنقلون من مكان الى آخر. كان لهم وطن وبلد ينتمون اليه ، وهذا الوطن هو مكة ، أعظم بلد فى الجزيرة العربية، وبالتالى فانتماؤهم هنا الى وطن وبلد مقدس ، يزيد فى الارتباط به حدة الشعور بالانتماء القبلى لقريش ، أعظم قبيلة عربية وقتها . كان صعبا التضحية بهذا الانتماء للوطن ـ مكة ـ والأهل ـ قريش ـ مقابل الانتماء لدين جديد، خصوصا وأن بين الذين آمنوا من كان مؤمنا بالمعنى السلوكى ـ اختيار الأمن والأمان ـ وليس بالمعنى العقيدى ـ اخلاص الايمان لله تعالى وحده. لقد جاء القرآن بمنهج جديد يمنع الظلم ويرسى العدل والمساواة فأسلم المستضعفون والمهمشون بينما استكبر المترفون الظالمون. وبدأ الاضطهاد ، واضطر بعض المسلمين الى الهجرة مرتين الى الحبشة، واستنكف كبار قريش أن يفلتوا من أيديهم فبعثوا الى ( النجاشى ) حاكم الحبشة بوفد وهدايا يطلبون منه أن يسلم لهم أولئك الذين هاجروا اليه. ورفض. وعاد أولئك المهاجرون الى مكة، ثم كانت الهجرة الكبرى الى (يثرب ) التى حملت اسم ( المدينة ) .كانت الهجرة للمدينة نقطة فاصلة فى العلاقة بين المشركين والمؤمنين ، ليس فقط لأن النبى محمدا عليه السلام هاجر ومعه معظم من آمن ، ولكن أيضا لأن الأغلبية العظمى فى المدينة آمنت وعقدت مع النبى عهدا بنصرته وإقامة دولة له. وتمكن النبى محمد من إقامة دولة حقيقية لها حدودها وشرعها ، وتم التآخى بين أبنائها من مهاجرين وأنصار، وتم عقد عهد بين كل أفراد هذا المجتمع والنبى محمد باعتباره قائدا لهذه الدولة. وتم عقد معاهدات مع قبائل اسرائيلية تعيش فى المحيط الملاصق للمدينة تؤكد حرية الفكروالمعتقد ، وتضع أساس الدفاع المشترك. هذه الدولة الجديدة لا بد أن تتمتع بولاء الأفراد الذين بايعوا النبى أو عقدوا مع القائد عقد انشاء الدولة الجديدة. ومسئولية هذه الدولة حماية المنتمين لها والذين يعيشون فى ظلها. هنا بدأت المشكلة. فالمؤمنون المهاجرون منهم من كان مؤمنا بالسلوك أكثر منه مؤمنا بالعقيدة. أى كان مسالما يأمن الناس من شره ، يريد الابتعاد عن المشاكل والنجاة منها. وفى بداية الغربة عن الوطن ( مكة ) كان الحنين جارفا للأهل والمكان والذكريات. وجرى التسامح مع ذكريات الاضطهاد والتعذيب فى ظل هذا الحنين. وبدأت مشكلة التعارض فى الموالاة . هل هى للوطن الذى لا تزال ذكراه حية ، وللأهل مهما كانوا ظالمين ، أم للدين ؟. ونزلت آيات القرآن تضع تحديدا للموالاة فى الاسلام، وكيف أنها ليست ضد أشخاص المعتدين ولكن ضد الاعتداء كفعل إجرامى يقع منهم ، وأنها ليست مع أشخاص المؤمنين ولكن مع صفات الايمان من قيم عليا وأخلاق مثلى. وهذا يستدعى شرحا قرآنيا. الموالاة والتبرؤ فى الاسلام تتعامل مع صفات وليس مع أشخاص الواضح من القرآن الكريم أن الخصومة التى تستوجب الموالاة تكون فقط ضد ما يقترفه الشخص من عدوان فإذا كف عن العدوان انتهت الخصومة. أى أن الخصومة ليست ضد الإنسان الشرير ولكن ضد الشرور التى يرتكبها ذلك الإنسان . هذا ينطبق أيضا على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه الظالمين ؛لقد تبرأ إبراهيم والمؤمنون معه من قومهم بسبب كفرهم واعتدائهم ، وقالوا أن هذا التبرؤ مستمر حتى يؤمنوا بالله تعالى وحده فإن آمنوا بالله تعالى وحده انتهى العداء والخصام. إذن هو عداء وخصام للإعتداء والكفر والظلم . ونعطى المزيد من الأدلة من القرآن الكريم. 1ـــ إن التحديد جاء بالوصف وليس بالشخص . فالآية الأولى تخاطب - ليس الأشخاص حول النبى محمد – ولكنها تصفهم " بالذين آمنوا " وتصف الآخرين بأنهم أعداء الله واعداء الذين آمنوا ، لأنهم كذبوا بالقرآن وارتكبوا ظلما آخر هو إخراج النبى محمد والمؤمنين من ديارهم لمجرد أنهم اختاروا الإيمان بالله تعالى، وبينت أن عداءهم سيتطور الى اعتداء بالقتال ، ثم تلمح الآية السابعة إلى إحتمال توبتهم وعندها سيحل الود محل العداء. إذن هو عداء للفعل وليس للشخص . 2 ـــ ثم يأتى التشريع فى الآيتين الثامنة والتاسعة مرتبطا بفعل عدائى يبدأ بالقتال وطرد المؤمنين من بيوتهم وعليه تمتنع صداقتهم ، فإن لم يوجد ذلك الفعل المعتدى فإن الخلاف فى الدين لا يستوجب عداءا ، فطالما لا يقاتلون المسلمين ظلما ولا يخرجونهم من ديارهم فلابد من التعامل معهم بالود والبر والعدل. 3ـــ ولأنها خصومة وعداء لأفعال إجرامية وليس لأشخاص فى حد ذاتهم فإن المفترض فى المؤمنين أن يتحلوا بصفات الخير ، بل وعليهم أن يبايعوا النبى محمدا على التمسك بصفات الخير والإمتناع عن الوقوع فى الكفر والسرقة والزنا والقتل والبهتان وعصيان أوامر الخير. والنساء عليهن أيضا مبايعة النبى بذلك . وتختم السورة بالتأكيد على عدم موالاة اولئك الذين يرتكبون تلك الأفعال التى تستوجب غضب الله تعالى ( الممتحنة 12:13 ) . إن أفظع جريمة هى قتل نفس مسالمة بسبب أنها اختارت دينا يحض على السلم والحرية، ويتضاعف الجرم حين يتحول القتل الفردى إلى قتل جماعى يقوم فيه المشركون جميعا بالهجوم على المؤمنين المسالمين ، هنا تبلغ الجريمة درجة الشناعة التى لا مثيل لها . وهذا ما وقعت فيه قريش حين طاردت المؤمنين بالقتل والقتال فى المدينة. ومع ذلك فلم تصل الموالاة إلى خصومتهم كأشخاص أو كراهيتهم كبشر ، ولكن ظلت الخصومة مرتبطة بما يرتكبون من جرائم، ولذلك فإن الله تعالى عرض عليهم الغفران إن تابوا وانتهوا عن العدوان، جاء ذلك بعد إعتداءات القرشيين على المؤمنين فى السنوات الأولى من الهجرة ( 2/ 192-193 ) ( 8 / 38: 39 ) ولم يرتدعوا. ثم تكررالعرض عليهم بالكف عن القتل والقتال بعد فتح مكة وعودة أئمة الكفر إلى عدوانهم فنزلت سورة " براءة " تتبرأ منهم وتعطيهم مهلة للتوبة والغفران وتؤكد إنهم إذا تابوا فسيبصبحون أخوة للمؤمنين ( 9 / 5 ، 11 ) 4 ـ ولأن الخصومة والموالاة لا تتعامل مع أشخاص بل مع صفات متغيرة تقبل الزيادة والنقص لدى البشر جميعا فهناك حالات مختلفة تتطلب أحكاما مختلفة: * فهناك مشرك كافر بالله تعالى ولكنه مسالم مأمون الجانب. هذا يجب التعامل معه بالبر والإحسان ، طبقا لما جاء به فى الأيتين ( 8 ،9 ) من سورة الممتحنة. * وهناك مشرك كافر فى عقيدته . ولكنه فى سلوكه يقتصر على الإستهزاء بآيات الله تعالى دون الإعتداء الجسدىعلى المؤمنين. هنا تأتى الخصومة معه فى حدود الإعتداء الذى يقوم به، ويكون التشريع هنا بنهى المؤمنين عن الجلوس معه حين يستهزىء بالله تعالى وآياته ، فإذا تحدث فى موضوع آخر فلا بأس بالجلوس معه . أى ليس التشريع بكراهيته كشخص وليس بإجتنابه تماما وليس بمنعه عن الحديث ومصادرة حريته فى الإيمان والكفر ، ولكن فقط بالإبتعاد عنه حين يستهزىء بالله تعالى ( 70 / 42 ) ( 43/84 ) ، ( 6/68 ) ، (4 ،140 ) . * وهناك مشرك كافر فى عقيدته ومجرم قاتل يسفك دماء المسلمين المؤمنين ويطردهم من ديارهم ويطاردهم فى الأماكن الأخرى التى لجأوا إليها . هذا الصنف الذى جاوز الحدود يجب المنع من إبداء أى مودة له لأنه أعلن الحرب على الله تعالى ، فإذا وصل الإجرام إلى القتل والقتال واخراج المسلمين من ديارهم والإستمرار فى هذا البغى فلابد من قطع كل صلات المودة .( 58 /22 ) ولقد نزلت سورة الممتحنة فى أوائل استقرار المسلمين المهاجرين فى المدينة ، وقبل بدء هجوم مشركى قريش عليهم ؛نزلت تهيىء المؤمنين لما سيحدث ، وتنهاهم عن موالاة المشركين لأنهم - حتى هذه اللحظة – كفروا بالله تعالى واخرجوا النبى والمؤمنين من ديارهم ، وتخبرهم أن عداء المشركين لهم سيظهر حين يبدأ المشركون فى القتال . وهذا ما حدث فعلا، وتحمل المسلمون الأوائل هجوم القرشيين عليهم فى المدينة ، والمسلمون مستسلمون لا يدافعون عن أنفسهم ، الى أن نزل لهم الاذن بالقتال ، وكان من حيثياته أن أولئك المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم ثم قاتلوهم معتدين . ( 22 / 39 : 40 ) وقد استمر هذا الاعتداء ودارت حملات عسكرية بين المشركين والمؤمنين وتكرر نفس النهى عن موالاة المشركين العرب المعتدين ، والنهى عن مودتهم طالما يحاربون الله ورسوله حتى وإن كانوا من الآباء والأبناء والأقارب والأهل والعشيرة ( 58 / 22 ). واستمر هذا النهى إلى أواخر ما نزل من القرآن فى سورة التوبة ( 9 / 23 : 24 ). وحين تحالف كبار المنافقين مع زعماء اليهود والنصارى من قبائل العرب فى الجزيرة العربية نزلت آيتان فى النهى عن موالاة أولئك اليهود والنصارى وتعيب على المنافقين ذلك التحالف السرى بينهم وبين اولئك المعتدين ( 5/ 51 : 52 ) * وهناك مسلم بعقيدته ولكنه يعصى ويقترف الإجرام والعصيان . وهذا الصنف موجود فى عصرنا وقبل عصرنا ، وقد كان موجودا فى عصر النبى محمد عليه السلام، وقد أمره الله تعالى بأن يتبرأ ليس من أولئك العصاة وإنما من أفعالهم الإجرامية فقط ، يقول الله تعالى(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون )( 26 /215 :216 ) لم يقل فإن عصوك فاضربهم ، ولم يقل فإن عصوك فتبرأ منهم وإنما أمره تعالى أن يتبرأ من أفعالهم الإجرامية فقط وليس له أن يتبرأ من أشخاصهم . 5 ـ ولأنها صفات بشرية فهى صفات متغيرة تزيد وتنقص حسب رغبة الإنسان فى إصلاح نفسه أو إستسلامه لغرائزه وأطماعه . إن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها الفجور والتقوى وجعل الإنسان مسئولا عن اختياره الفجور أو التقوى، واختياره الفجور معناه الهبوط بأفعاله إلى الجرائم ، كما أن إختياره التقوى يعنى الفوز والسمو الخلقى ( 91 /7 : 10 ) والتقوى خشية الله تعالى فى العقيدة والسلوك، وخشيته تعالى فى العقيدة بمعنى أن لا تعبد سواه وخشيته فى السلوك بمعنى طاعته فى عمل الصالحات والإبتعاد عن الجرائم والآثام . ولأن الإنسان ليس معصوما من الخطأ ولأن نفسه قد ألهمت الفجور والتقوى فإن إيمانه يزيد وينقص وأعماله تتراوح بين الطاعة والمعصية وبين الوقوع فى الجريمة والتوبة منها أو الاصرار عليها والتفاخر بها. وهذا التدرج والتغيرينعكس على موضوع الموالاة وقد رأينا تدرج موقف المشركين من مجرد الشرك العقيدى دون الشرك السلوكى ثم تدرج الإعتداء من مجرد الإستهزاء بالله تعالى وآياته إلى إعتداء يصل إلى القتل والقتال ،ومن الطبيعى أن يتدرج الولاء والتبرؤ تبعا لذلك .وقد كان للظروف الخاصة للعرب وثقافتهم القبلية ( نسبة للقبيلة )أثره فى موضوع الموالاة . وقد سبق القول بأن إنتماء العربى لقبيلته ونسبه وأهله كان أوثق ما يكون فى غياب الدولة والوطن بالمعنى المألوف حيث حلت القبيلة محل الوطن والقومية ، ومن هنا كان التحلل من هذا الإنتماء القبلى لصالح الإنتماء للدين صعبا على المؤمنين الأوائل وكان الأمر بإجتناب المشركين والإبتعاد عنهم فى مكة عسيرا على النبى وأصحابة المؤمنين، ولذلك كان يتكرر الأمر دليلا على أن الأمر الأول لم يتم تنفيذه فاحتاج الأمر لتكراره . ونعطى أمثله : * فى البداية كان المشركون يجتمعون للسخرية من القرآن فى حضور النبى محمد عليه السلام فنزلت عليه آية تامره ان يبتعد عن المشركين حين يخوضون فى آيات الله متلاعبين مستهزئين. لم ينفذ النبى محمد الأمر فنزلت نفس الآية فى سورة أخرى بنفس الكلمات ( 70 /42 ) ( 43 /83 ). ومع نزول الأيتين فى فترتين متلاحقتين إلا أن النبى محمدا لم ينفذ الأمر فظل يحضر مجالس المشركين وهم يتلاعبون ويسخرون من القرآن الكريم ، فنزل تحذير شديد يقول له أنه إذا رآهم يخوضون فى آيات الله ويستهزئون بها فلابد أن يعرض عن الذين يقومون بذلك ولا يجالسهم حتى يخوضوا فى حديث غيره ، وأنه إذا أنساه الشيطان هذا الأمر الإلهى وتذكر فعليه ألا يجالس هؤلاء القوم الظالمين ( 6 / 68 ) وهاجر النبى محمد والمؤمنون الى المدينة، ونشأ تخالف بين المنافقين والمعتدين اليهود والنصارى المحيطين بالمدينة ضد المسلمين. والمنافقون داخل المدينة كانوا يعقدون مجالس علنية للاستهزاء بالله تعالى والقرآن فتوعدهم الله تعالى بالعذاب ( 9 / 57 : 58 ). وفى بعض مظاهر استهزائهم بالاسلام كانوا يتحينون أوقات الأذان للصلاة لدى المسلمين ليتندروا بالأذان ، وكان لهم أصدقاء من المسلمين يشهدونهم يفعلون ذلك ويوالونهم عليه يالسكوت دون الاعتراض أو الاجتناب ، لذا نزلت الآيات تمنع المؤمنين من حضور تلك المجالس وموالاة أصحابها ضد الاسلام .( 5 / 57 : 58 ) ومع ذلك فقد استمر بعض المنافقين فى حضور تلك المجالس غير آبهين بأوامر الموالاة والتبرؤ ، فنزلت فيهم آيات شديدة اللهجة تقول : (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) ثم يأتى السبب (الذين يتخذون الكافرين أولياء دون المؤمنين ) ثم يأتى التحذير صريحا وواضحا يذكر المؤمنين بما نزل من آيات سابقة تحذرهم من مجالس الإستهزاء وموالاة أصحابها ( وقد نزّل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره . إنكم إذا مثلهم. إن الله جامع المنافقين والكافرين فى جهنم جميعا) ثم بعد عدة آيات يكرر تعالى نفس النهى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ثم يجعل المنافقين فى الدرك الأسفل من النار إلا إذا تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله تعالى ( 4 / 138 : 146 ) .أى إن المنافقين إذا تابوا أصبحوا من المؤمنين؛ أى أنها موالاة لصفات الإيمان والعمل الصالح وبراءة وابتعاد عن الكفر بمعناه العقيدى ومعناه السلوكى أى ابتعاد عن الظلم لله تعالى والناس ، والإنسان الذى يقع فى الظلم يجب إجتنابه طالما يقع فى الظلم ويصمم عليه ، فإذا تاب عن الظلم فلا مجال لعدائه واجتنابه . وفى كل الأحوال فليس للدولة المسلمة أن تعاقبهم أو أن تصادر حريتهم . لأن حريتهم فى العقيدة وفى التعبير عنها مكفولة. وعليهم تحمل مسئولية ما يفعلون يوم القيامة. ولذلك كانت تنزل الآيات القرآنية تحذرهم من عذاب يوم القيامة ، ولا تطلب من النبى والمؤمنين إلا مجرد الابتعاد عنهم واجتنابهم حين يمارسون حريتهم فى الاستهزاء بالله تعالى ورسوله وكتابه. الموالاة أساس فى جوهر الاسلام ومعناه السلوكى أخلاقيات الإسلام تقوم على الإحسان فى القول والعمل والعدل فى التعامل مع الناس جميعاً. أما مع المخالفين فى العقيدة فلا بد من الصبر على الإيذاء والعفو والغفران إذا كانوا ظالمين بالقول واللسان، ولا بد من البر بهم والاحسان اليهم إذا لم يقاتلوا المسلمين ظلماً وعدواناً ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. وعليه فإن هذا الإحسان والصبر والغفران فى التعامل مع المخالف فى العقيدة يؤكد على أن الموالاة فى تشريع الإسلام هى فى الحقيقة موالاة للسلام والأمن، خصوصاً وأن معنى الإسلام هو السلام فى التعامل مع الناس، وأن معنى الإيمان هو الأمن والأمان فى التعامل مع الناس، وأن معنى المسلم هو الذى يسلم الناس جميعاً من لسانه ويده، وأن معنى المؤمن هو الذى يطمئن إليه الناس أو هو المأمون الجانب. وعليه فإنه فى إطار الوطن الواحد والدولة الواحدة حيث يجب أن يعم السلام بين الطوائف والجماعات فإن الانتماء الذى يجمع أولئك الناس هو العيش فى سلام، خصوصاً فى إطار حرية العقيدة ومسئولية كل إنسان على ما يختاره من مذهب أو دين، وإرجاع الحكم لله تعالى يوم القيامة أو يوم الدين، والموالاة هى بين أولئك المسالمين جميعاً ضد المعتدين الظالمين أو الإرهابيين بتعبير عصرنا. وهنا يرتبط تشريع الموالاة بالإسلام الظاهرى أو الإسلام فى التعامل بين الناس على اختلاف عقائدهم فكل إنسان مسالم هو مسلم مهما كانت عقيدته بوذياً أو قبطياً أو سنياً أو شيعياً أو ملحداً.. المهم أنه مسالم لا يعتدى على أحد ولا يجبر أحداً على اعتناق عقيدته، ومرجعنا جميعاً إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون.
الموالاة أساس التحرك الايجابى فى المجتمع المسلم قلنا أن الإسلام فى التعامل الظاهرى هو السلام، وفى التعامل العقيدى القلبى مع الله هو الطاعة والانقياد لله تعالى. ومن السهل الحكم على أى مجتمع يعيش أهله فى سلام بأنه مجتمع مسلم، وهنا يمكن تطبيق كل قواعد الإسلام وشرائعه على أساس القسط والعدل بين الجميع والإحسان والشورى، مهما اختلفت العقائد والمذاهب.أما من حيث الإسلام بمعناه العقيدى الباطنى فذلك ليس منوطا بالدولة الاسلامية ، بل مرجعه لله تعالى يوم القيامة، ولذلك نزل تشريع الله تعالى بتهذيب الناس واقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد او حقوق الانسان وتأجيل الحكم فى العقائد لله تعالى يوم القيامة. إن الله تعالى وحده هو عالم الغيب وهووحده الأعلم بما تخفيه الصدور وهووحده الذى يملك الحديث عن عقائد الناس ومصيرهم يوم القيامة. وليس لأحد من البشر أن يأخذ لنفسه هذه الحق الالهى ، وإلا كان مدعيا للالوهية ، حيث لا اله مع الله ولا اله إلا الله . الله تعالى قد قسم كل البشر إلى ثلاثة أصناف، حسب الأعمال والنيات، وذلك مالا يعلمه ولا يحكم عليه إلا الله تعالى. طبقا لما جاء فى القرآن الكريم فإن البشر جميعا سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات حسب ايمان كل فرد وعمله : السابقون فى الايمان والعمل الصالح ، وأصحاب اليمين ممن توسط فى ايمانه وعمله الصالح وتاب بعد معصية توبة حقيقية، وهذان الصنفان معا فى الجنة ، ثم الخاسرون أصحاب الشمال ، وهم أصحاب النار( 56 / 7 : ـ ). هذا ما سينطبق يوم القيامة على أهل الكتاب والمؤمنين بالقرآن. أهل الكتاب سيكونون يوم القيامة ثلاث درجات، أعلاهم المؤمنون السابقون، ثم المقتصدون المتوسطون، ثم فى النهاية الأكثرية الفاسقة. (5 / 66) (3 /110، 113: 115).وهو نفس التوصيف للمؤمنين بالقرآن: سابقون ، مقتصدون معتدلون ، وفاسقون(فاطر 32).بل هو نفس التقسيم لما يعرف تراثيا بالصحابة الذين عاشوا عصر النبى محمد عليه السلام وقابلوه وتعاملوا معه. : منهم السابقون ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم المنافقون الصرحاء والذين هم فى الدرك الأسفل من النار ومنهم من مرد النفاق وخدع النبى محمدا بتقواه وإخلاصه وهو أشد الناس حقدا على الاسلام ( 9 /97 ـ ) ( 4 / 136 ـ ) ولأن الله تعالى رب العالمين ورب الجميع، ولأن يوم القيامة (يوم الدينوية، يوم الدين) هو أيضاً للجميع فهى ثلاث درجات متاحة أمام الجميع حسب الإيمان والعمل وجوداً أو عدماً. وهم أحرار فى الاختيار، وكلهم إذا شاء وصل بإيمانه الحق وبعمله الصالح إلى الدرجة العليا ليسبق ويكون مقرباً من الله، وكل منهم إذا أراد وصل بكفره وظلمه إلى حضيض جهنم، يسرى ذلك على كل زمان ومكان، لأن الله تعالى رب كل زمان وكل إنسان وكل مخلوق فى كل مكان وزمان، ويسرى أيضاً على كل فرد فى مجتمع. ولهذا فإن المجتمع المسلم هو الذى يعيش أفراده فى سلام ووئام مهما اختلفت عقائدهم وأديانهم الأرضية. المطلوب منهم جميعاً أن يتنافسوا فى الاعمال الخيرية ليصلوا إلى أعلى الدرجات، مهما اختلفت مذاهبهم وشرائعهم السماوية. ومن هنا نفهم قوله تعالى عن المسلمين وأهل الكتاب ﴿لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (5 / 48) أى أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يكون لكل فريق منهاجاً ليختبر كل فريق فيما أنزله عليه من كتاب، والمطلوب هو التسابق فى الخير وليس التعصب، ثم فى النهاية مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون من عقائد. وما الذى يعنيه التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين وهم يعيشون فى مجتمع آمن وفى سلام ووئام؟ إن ذلك يعنى التسابق لخير المجتمع ورفاهيته ورعاية المحتاجين فى أبنائه، ويعنى أن يتسابق المسلمون فى إقامة كنائس للمسيحيين، ويتسابق المسيحيون فى بناء مساجد للمسلمين. التسابق فى الخير بين أهل الكتاب والمسلمين يؤكده تعاون على البر والتقوى وتعاون ضد الاثم والعدوان أمر به الله تعالى.( 5 / 2 ) هذا التعاون على الخير ضد الشر هو التطبيق العملى للموالاة التى هى موقفف للدفاع عن الخير، والتبرؤ الذى هو موقف لمواجهة الشر. هذا التعاون بدوره يؤكده الايجابية الاسلامية فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتى تجعل المجتمع كله متحركا ينصح بعضه بعضا بالتمسك بالمعروف أى المتعارف عليه على أنه الخير والمثل العليا والابتعاد عن المنكر أى الذى ينكره الناس من الشر والبغى. هذه الموالاة والانتماء للمثل العليا تحتاج الى عقد وميثاق والتزام ، حتى يمكن أن تتجمع قوى الخير فى مواجهة قوى البغى والاعتداء التى يمثلها الكفر ويقوم بها المعتدون أى (الذين كفروا ) . وكما أن الذين كفروا يتحالفون معا فى الاعتداء والبغى فلا بد للذين آمنوا أن يتحالفوا ضد هذا البغى ، حتى تقام للعدل والحرية والتسامح أوطان فى هذا العالم.( 8 / 73 ) ولذا جاءت سورة الممتحنة باشارة الى البيعة؛ بيعة النساء للنبى محمد عليه السلام. البيعة، أو العهد والميثاق
سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته . وردت فى السور التى نزلت فى المدينة إشارات إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة.وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى – أو القائد – إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة.وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى . ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة ،وعقد معاهد أخرى مع وفد أخر فى العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهد عامة مع أهل المدينة . القرآن الكريم فى تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين فى الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذى التزموا به . الإيمان له معنى عقيدى هو الإيمان بالله تعالى ورسوله وله معنى سلوكى هو اختيار السلام والأمن والسكون والإبتعاد عن المشاكل ،وقد كان معظم من آمن من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان سلوكا مع بقاء عقيدتهم على المعتقدات المتوارثة بشكل مخالف للعقد الذى عقدوه مع الله تعالى . تلك المعتقدات المتوارثة المخالفة للإسلام كانت تؤثر على التزاماتهم فى الجهاد بالنفس والمال، إذ كانوا مطالبين بالإنفاق فى سبيل الله فيبخلون ، وكانوا مطالبين بالدفاع ضد عدو يعتدى فيتثاقلون تمسكا بالهوان وبالسلام السلبى مع عدو لا يجدى معه إلا دفع إعتدائه بالدفاع الصلب . فى أوائل السور المدنية نجد القرأن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله ، وخيانة العهد والأمانة ، ويأمرهم بالإستجابة وطاعة رسول الله ( 8 / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعنى وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالإلتزام بهذا العهد . وفى أواخر السورة المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا إعتداء المشركين ، ليس بالوهن والإستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدنى والإنفاق المالى فى المجهود الحربى ، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الإستئصال ،وعندها يأتى رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم ( 47 / 32 : 38 ) كان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كررلهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران وأصحاب وأبناء السبيل والرقيق ( 4 / 36 : 37 ) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق فى سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده ، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون مما يستدعى تذكيرهم وتأنيبهم ( 57 /7 : 8 ) وفى أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع فى تذكيرهم بالميثاق الذى عقدوه يوم بيعتهم ، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة . ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور . ( 5 /7 ) هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة ( 60 /12 ) . ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان ولا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا. . والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد فى إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم . إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 103 / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد.ليس فى الاسلام طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون. وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء " ولا يعصينك فى معروف " لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد – وهو القائد – مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( 4 /80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص. وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( 4 / 59 ) ليس هنا تثليث ،أو عبادة لله والرسول واولى الأمر، بل أن طاعة ولى الأمر وطاعة الرسول فيما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى فى كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها ، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له ، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن ، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من سوء الاستغلال والفساد والاستبداد. باختصار : إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه . يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب . ليس فى الإسلام إكراه على فعل الطاعة . وليس فيه عقوبة يوقعها الحاكم المسلم فيما يخص حقوق الله تعالى من ايمان قلبى وعبادة . العقوبة لا تكون إلا فيما يخص حقوق الأفراد . وليس فى الإسلام إكراه على الجهاد أوالتجنيد. إن الجهاد بالمال واللسان والدعوة والنفس فريضة على كل مؤمن، وهو مسئول عن تأديتها أمام الله تعالى وحده يوم القيامة، وليس من سلطة الدولة المسلمة تجنيد الناس قسراأو سخرة كما تفعل بعض النظم فى عصرنا. وحين تثاقل المنافقون عن الدفاع عن المدينة واعتذروا بحجج واهية كان عقابهم الوحيد منعهم من الانضمام الى الجيش مستقبلا ( 9/83 ). ولأنه ليس هناك تجنيد إجبارى للأفراد فإن مواجهة العدو المعتدى كان يحتاج إلى عقد أو عهد أو ميثاق أو بيعة بالإختيار الفردى . ولأن من بايع طوعا عليه أن يلتزم بما عاهد الله تعالى عليه إلا أن بعضهم كان فى وقت الشدائد يفر وينسى العهد والميثاق . فى غزوة الأحزاب حوصرت المدينة من كل الجهات بقيادة جيوش من عدة قبائل يقودها أبو سفيان الأموى ، فى مواجهة هذا الحشد والحصار كان لابد من المبايعة على الدفاع عن النفس والقوم والوطن والعقيدة ، وعندما اشتد الحصار ظهرت المواقف على حقيقتها ، منهم من ظهر نفاقه وجبنه فتخلى عن مواقعه الدفاعيه وبدأ ينشر التشكيك وهو يفر من مواقع المعركة ، وقد جعلهم الله تعالى مسئولين أمامه يوم القيامة على نكثهم للعهد،ولكن ليست عليهم مساءلة فى الدنيا وليست للدولة أن تعاقبهم ( 33 / 15 ). فى المقابل هناك من المؤمنين من وقف موقفا بطوليا رجوليا. وجزاؤهم الحسن ينتظرهم يوم القيامة. ( 33 / 23 : 24 ) . فى موقف أخر خرج النبى محمدا بأصحابه للحج فى البيت الحرام ، ليس معهم سلاح إلا سلاح المسافر، كأنهم يرفعون الراية البيضاء دليل المسالمة؛ خرج عليه السلام مسالما ، فمنعته قريش من الدخول ، وتأهبت لحربه وأرسل النبى بعض أصحابه للتفاوض فاحتجزوهم ، وأشيع أن قريش قتلتهم وأنها على أهبة الإستعداد على الهجوم علىالمسلمين واستئصالهم . كان موقفا دقيقا استدعى من النبى أن يطلب من المؤمنين معه أن يبايعوه على القتال والمواجهة والصمود ، فليس أمامهم طريق آخر. وتحت الشجرة جلس وجاء كل فرد يبايعه على الصمود والقتال ،وكالعادة تكون البيعة لله ورسوله . هذا الموقف البطولى أخاف قريش فأحجمت عن هجومها ولجأت للتفاوض السلمى . ونزلت آيات القرآن تعتبر ذلك نصرا ، وتؤكد أن أولئك الذين بايعوا النبى محمدا إنما كانوا يبايعون الله تعالى ، وكل منهم مسئول عن تنفيذ ما التزم به أمام الله تعالى ، ومن يوفى منهم ببيعته فسيكون جزاؤه عظيما عند الله تعالى ، وتؤكد آية أخرى أن الله قد رضى عن الذين بايعوا النبى تحت الشجرة ، وقد اطلع على الإخلاص الذى عم قلوبهم فى هذه اللحظة الحرجة فزادهم سكينة وثقة وكافأهم بنصر قادم آت ، وكان هذا النصر هو فتح مكة سلميا بعدها. ( 48 / 10 ،18 ) هذا هو مفهوم البيعة فى الاسلام، وذلك كان تطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام. تغير هذا كله بالتدريج فى تاريخ المسلمين بعد وفاة النبى محمد عليه السلام . حوصر المسلمون بعد وفاة النبى بحركة الردة، حيث تجمع الأعراب ( أشد الناس كفرا ونفاقا )حول المدينة يريدون الهجوم عليها فى ذلك الوقت الحرج ، فكان لابد من القيام بالبيعة لقائد يقوم بالأمر فتم اختيار أبى بكر وما لبث أن مات أبو بكر وقد دخل المسلمون فى حرب جديدة ضد الفرس والروم . واستلزم الوضع الجديد البيعة لقائد جديد بعد ابى بكرفكان عمر . وبالفتوحات دخل المسلمون فى عهد جديد تناسوا فيه جوهر الإسلام ( العدل وحرية الرأى والفكر ) فكان لابد من نسيان البيعة بالمفهوم القرآنى فتتحول من بيعة لله تعالى تقوم على أساس طاعته وتنفيذ أوامره ويكون تطبيقها منوطا بضمير المسلم نفسه إلى بيعة خضوع لحاكم مستبد ليحكم مستبدا طيلة عمره دون رقيب أو حسيب ، وطبقا لتلك البيعة تجب طاعته طاعة مطلقة ، مهما استأثر بالحكم والسلطان والثروة . وهذا ما بدأ فى الدولة الأموية ولا يزال ساريا فى بعض دول المسلمين حتى الأن .
وعلى هامش الموالاة فى سورة الممتحنة نفهم بعض المصطلحات التى وردت فى السياق القرآنى الكفر تحدد الآية الأولى معنى الكفر، وهو نوعان: الكفر العقيدى والكفر السلوكى . الكفر العقيدى يعنى الكفر بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الأخر. الكفر السلوكى والذىعبرت عنه نفس الآية الكريمة بأنه إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم بسبب إيمانهم بالله تعالى .وعليه فإن الأكراه فى الدين والإضطهاد هو كفر سلوكى خصوصا عندما يتدرج فى الإكراه والإضطهاد إلى حد الإخراج من الديار والأوطان ثم القتال .
الجهاد :وفى نفس الآية يأتى معنى الجهاد مرتبطا بالهجرة فى قوله تعالى ) إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى) .كان يمكنهم البقاء فى مكة وتحمل الإضطهاد، وكان يمكنهم البقاء مع احتفاظهم بعقيدتهم سرا خشية العذاب، ولكنهم اختاروا الهجرة ابتغاء مرضاة الله تعالى .وهذا هو بعض معانى الجهاد. إن الجهاد يعنى بذل الجهد فى سبيل الله تعالى؛ قد يكون بذل الجهد هجرة كما فى الأية الكريمة ، وقد يكون بالدعوة السلمية بالقرآن الكريم وهو الجهاد الكبير، كما جاء فى القرآن الكريم ( 25 / 52 ) وقد يكون بذل الجهد ببذل المال وبذل النفس فى الدفاع ضد المعتدين ( 8 / 72 ) ، وفى حالة الهجرة والإضطرار للدفاع ضد عدو كافر فلابد من أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا ضد العدو المشترك الذى يهاجمهم ، أما أولئك المؤمنون الذين يقوا فى دار العدو فليس هناك فرصة لموالاتهم إلا إذا هربوا من ذلك البلد وهاجروا إلى دولة المؤمنين فبذلك يكون فى إستطاعة المؤمنين الدفاع عنهم بعد موالاتهم للمؤمنين بالهجرة إليهم. فإذا تعرضوا وهم فى دار العدو إلى إضطهاد كبير وطالبوا بنجدة المؤمنين فعلى المؤمنين نجدتهم إلا إذا كانت هناك معاهدة عدم إعتداء بين المؤمنين وأولئك المشركين ( 8 / 72 ) . التأسى والإقتداء تعرضت الآيتان (4 ، 6) من سورة الممتحنة لقضية التأسى أوالإقتداء. وواضح فيها أن التأسى ليس بشخص حتى لو كان هذا الشخص هو النبى إبراهيم عليه السلام، ولكنه التأسى بموقفه، والموقف هنا حين أعلن إبراهيم والذين معه تبرأهم من أقاربهم المشركين . ونفس الموضوع حين أمر الله تعالى المؤمنين بالتأسى بالنبى محمد وشجاعته فى غزوة الأحزاب ( 33 / 21 ) وهو أيضا نفس المعنى حين أمر الله تعالى محمدا بأن يتأسى بهدى الأنبياء السابقين ، فالهدى هنا هو الوحى الذى نزل عليهم ، وبنفس الوحى نزل القرآن ( 6 / 88:90 ) ، ( 4 / 163 ) ، ( 39 / 65 ) ، ( 41 / 43 ) ، ( 42 ، 13 ) .
وعلى هامش الموالاة فى سورة الممتحنة نفهم بعض الملامح التشريعية:
فى القرآن الكريم نوعان من الخطاب :خطاب التشريع وخطاب العقائد. الخطاب العقيدى هو خطاب خاص بالله تعالى وحده الذى يعلم ما فى القلوب والذى يحكم بين الناس يوم القيامة. هذا الخطاب لا مجال له فى تطبيق التشريعات الاسلامية الدنيوية الخاصة بتعامل البشر فيما بينهم . على سبيل المثال فان الله تعالى يصف أكثرية البشر بأنها لا تؤمن مهما بلغ حرص النبى على هدايتها ، وحتى لو آمنوا فإن ايمانهم هو مختلط بالشرك (12 / 103 ، 106). هذه حقيقة نلمسها فى التدين العملى لأغلبية البشر خصوصا أكثرية المتدينين تدينا ظاهريا سطحيا، فهم لا يؤمنون بالله إلا ومعه تأليه غيره من البشر والحجر ، أى لا بد أن يجمعوا بين تقديس الله تعالى وتقديس غيره من الأنبياء والأئمة والأحبار والرهبان والأولياء.، وهذا ما كان قبل القرآن الكريم واستمر بعده حتى بين المسلمين الذين يقدسون فى أديانهم الأرضية آلاف البشر بدءا من النبى محمد وأصحابه والأئمة والأولياء ، بل ويحجون الى آلاف القبور المقدسة ويقدسون الألوف من الجثث التى تحولت الى تراب وعدم. هذه الحقيقة العقيدية لا يمكن عمليا تطبيقها فى الزواج وإلا تحولت مؤسسة الزواج الى محاكم تفتيش على العقائد والسرائر وما تخفيه القلوب. إن الله تعالى يؤكد أن أكثرية البشر مشركون فهل يعنى هذا أن نحرم الزواج بأكثرية البشر؟ ثم هذه الأقلية التى تعتبر نفسها هى المؤمنة وحدها لا بد أن تختلف فى عقائدها وآرائها وتنقسم وتتفرع وبالتالى تتكاثر التحريمات وتتضاءل امكانات الزواج (العقيدى ). إن تطبيق هذا الخطاب العقيدى فى الدنيا سينشر الظلم وسيدمرالزواج. هذا الخطاب الالهى الخاص بالعقائد سيطبقه الله تعالى يوم القيامة بعد أن يتحدد مصير كل إنسان حسب عمله وإيمانه وعقيدته ومدى أخلاصه فى الطاعة أو مدى إنغماسه فى المعصية . ليس لنا أن نتعامل فيما بيننا فى هذه الدنيا وفق ذلك المقياس الإلهى لأن تحديد المشرك لا يكون الا بعد ان تنتهى حياة الانسان بخيرها وشرها وتحولاتها العقيدية والسلوكية من طاعة ومعصية وتوبة. بعد الموت يقفل كتاب أعمال الانسان ويتحدد مصيره وفق عمله واعتقاده. هذا كله من تخصص الرحمن جل وعلا، ولن يكون الفصل فيه إلا يوم القيامة، حيث يحكم بيننا رب العزة فيما نحن فيه مختلفون. أما فى هذه الدنيا فإن كل إنسان يظن نفسه على حق ويتهم خصومه بالكفر. ولا يصح أيضا تطبيق هذا الخطاب فى تكفير الأشخاص الأحياء المختلفين معنا فى العقائد ، لأننا خصوم فى مجال العقيدة ، ولا يصح أن يكون أحدنا خصما للأخر وحكما عليه فى نفس الوقت ، ولأننا جميعا فى مجال العقائد مختصمون فمرجع الحكم علينا جميعا هو الله تعالى يوم القيامة ( 22 / 19 ) وإلى أن يأتى هذا اليوم ينبغى أن نعيش فى سلام وأمن وعدل ، وبالتالى يكون تعاملنا حسب الظاهر فالمؤمن هو المأمون الجانب والمسلم هو المسالم بغض النظر عن عقيدته ورأيه فى الله تعالى والألوهية ، والكافر هو المعتدى الظالم الذى يصل ظلمه إلى القتل والقتال للمسالمين الآمنين الذين لم يبدءوا بالقتال. وفى مجال التعامل البشرى يمكن لنا بامكاناتنا البشرية الحكم على سلوكيات الناس، فالمجرم واضح حين ثبوت الجرم عليه، والكافر المعتدى القاتل واضح وقوعه فى الكفر السلوكى بما ارتكبه من جرم . هذا الكافر المشرك بالسلوك الإجرامى هو الذى يحرم تزويجه أو الزواج منه. لذلك نزلت بعد الهجرة أية سورة الممتحنة لتضع التشريع المناسب ؛ فالزوجة المؤمنة التى تركت زوجها الكافر وهاجرت إلى دولة الإسلام لا يحل لها أن تستمر فى الزواج بعد ذلك مع هذا الكافر ، ولا يصح أن ترجع إلى عصمته لأنه لا يحل لها ولا تحل له . وفى المقابل فأن المؤمن الذى فارق زوجته الكافرة التى رفضت أن تصحبه ، عليه أن يفارقها ويطلقها ( 60 / 10 ). وبهذا التشريع أمكن رسميا تطبيق الانفصال القائم فعلا بين زوجين يستحيل تواجدهما تحت سقف واحد. وحتى لو كانا فى فراش واحد وكلاهما مخلص لعقيدته قد وهب نفسه لها ويتصرف دفاعا عنها بكل ما يستطيع فإن فراش الزوجية بهذا المعنى يتحول الى ساحة قتال، وليس الى بيت للسكن والراحة والألفة والوئام بين الزوجين، لذا فالأفضل لهما الانفصال ليتزوج كل منهما بمن يوافقه فى عقيدته وميوله السلمية أو الاجرامية. هذا ما نفهمه من سورة الممتحنة. وتأكد هذا التشريع بأية أخرى تمنع ان يتزوج مشرك بمؤمنة حتى يتوب عن اعتدائه ويرجع عنه ، وتمنع أن يتزوج مؤمن بمشركة حتى تمتنع عن الإعتداء ( 2 / 221 ) والملاحظ هنا هو قوله تعالى " حتى يؤمنوا " وبالطبع لا يمكن هنا الحكم على العقائد حيث أن محلها القلب إنما لنا الحكم على السلوك الظاهرى فإذا آمن أحدهم بمعنى عاد إلى الإستقامة الظاهرية مبتعدا عن الإجرام والإعتداء فقد صار مؤمنا حسب سلوكه ، وحينئذ يمكن له أن يتزوج مؤمنة مسالمه مثله ويمكن لها أن تتزوج من مؤمن مسالم مثلها. ونفس الحال مع أهل الكتاب ، فطعامهم حلال للمسلمين وطعام المسلمين حلال لهم ، وحلال لهم أن يتزوجوا من المؤمنات المسلمات وحلال للمؤمنين أن يتزوجوا من نسائهم طالموا كانوا مسالمين ومسالمات ، وطالما جرى الزواج شرعيا بمهر وعقد شرعى ( 5/5 ). الفهم التراثى لهذه الآية يحاول تعطليها بادعاء انها تخص أهل الكتاب السابقين ولا تنطبق على أهل الكتاب اليوم. وهذا خطأ فاحش، فأحكام القرآن على أهل الكتاب والمؤمنين سارية فى كل زمان بعد نزول القرآن الكريم طالما لا يأتى فى النص القرآنى ما يؤكد قصر التطبيق على وقت معين. أكثر من هذا فيما يخص موضوع الزواج بالذات فإن التشريع القرآنى لا يدع حالة فرعية استثنائية محدودة إلا وقد وضع لها حكما خاصا بها حتى مع العلم بأنها حالات محدودة غير قابلة للتكرار طبقا لتشريع القرآن نفسه. نحن نتحدث هنا عن تحريم القرآن الكريم الزواج ممن تزوجها الأب ، وتحريمه الجمع فى الزواج بين أختين. كان هذا معروفا قبل نزول التشريع القرآنى فى الزواج . ونزل التشريع القرآنى يحرمه، ولكن لا يطبق الحكم بأثر رجعى ، اى لا ينطبق الحكم على من سبق له الزواج ممن تزوجها أبوه أو ممن جمع بين أختين، فقال ( إلا ما قد سلف ) ( 4 / 22: 23 ). هى حالات محدودة محصورة بوقتها ولكن ذكرها القرآن الكريم ، فإذا كان تشريع الزواج من أهل الكتاب يسرى على عصر نزول القرآن فقط حسبما يقول فقهاء الدين السنى فلماذا لم ينص القرآن على ذلك ؟ و( المعتدلون ) من فقهاء التدين السنى يقولون ان تشريع الزواج من أهل الكتاب يعنى أن نتزوج من نسائهم فقط دون أن يكون لهم الحق فى الزواج من نسائنا. وهذا التشريع السنى يحمل فى طياته الاستعلاء المعهود الذى كان يمارسه المسلمون ضد غير المسلمين فى العصر العباسى وما بعده. هذا الرأى السنى يخالف جوهر الآية الكريمة لأنها تتحدث عن أن طعام أهل الكتاب حلّ لنا وطعامنا حل لهم، وأردفت نفس الحكم على الزواج ، أى فكما يحل لهم الأكل من طعامنا يحل لهم الزواج من نسائنا، وكما يحل لنا الأكل من طعامهم يحل لنا الزواج من نسائهم. هذا الرأى السنى أيضا يخالف الجوهر الأخلاقى للتشريع الاسلامى وهو العدل ، إن الله تعالى يأمر بالعدل والاحسان ( 16 / 60 ) ، العدل الاسلامى يمنع هذا التعالى الذى يجعل من حق المسلم أن يتزوج كتابية وفى نفس الوقت لا يكون من حق الكتابى أن يتزوج مسلمة. وهناك ناحية أخرى فى سورة الممتحنة فى موضوع الزواج الذى يحدث فى ظروف طوارىء وتأزم علاقات بين معسكرين متحاربين أحدهما مسلم مسالم والآخر مشرك كافر معتد ظالم. فالمرأة المؤمنة المهاجرة لا بد من اجراء اختبار (أمنى ) لها ، ليس لاختبار عقيدتها ولكن لاختبار سلوكياتها السابقة وفق المتعارف عليه أمنيا حتى لا تكون جاسوسة للعدو. الآية تقول )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ) أى فالاختبار ليس للايمان القلبى الذى لا يعلمه الا الله تعالى ولكن للايمان السلوكى الذى يمكن للبشر معرفته . نفس الحال تكرر فى موضوع الزواج حيث يشترط فى الزوجة أن تكون مؤمنة ، ليس الايمان العقيدى ولكن الايمان السلوكى أى الأمن والأمان والسلم والسلام، يقول تعالى : وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) (4 / 25 )، أى إن الله تعالى هو الأعلم بايماننا العقيدى، ولكن المطلوب منا هو اختبار الايمان السلوكى الذى فى استطاعتنا التأكد منه. ونفس الحال فى تحريم الزواج من المشرك والمشركة والزانية والزانى . المشرك يعنى الذى لا يتوب عن سلوكه الاجرامى فى قتل الآمنين ويعتبر ذلك فرضا دينيا وجهادا وفق عقيدته. الزانى والزانية اى المدمن على الزنى دون توبة، إما بأجر أو بدون أجر. كلاهما يحرم تزويجه والزواج منه (24 / 3 ). الخلاصة: إنه يصح للمسلمة أن تتزوج أى إنسان مسالم بغض النظر عن دينه الأرضى أو السماى طالما تمسك بالسلم والسلام والأمن والأمان. كما انه يحرم على المسلمة أن تتزوج الارهابى الباغى القاتل للأبرياء المسالمين. هذا يأتى وفقا لمعنى الاسلام والايمان والكفر والشرك. مكانة المرأة :- فى هذه السورة ملمح واضح يدل على مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق والواجبات فى الإسلام حيث يحق لها المشاركة السياسية وحقوق المواطنة كالرجل إذ عليها أن تبايع الحاكم شأن كل رجل .مشاركة المرأة السياسية أكدها القرآن الكريم ليس فقط على المستوى التشريعى ولكن أيضا على المستويين التطبيقى والتاريخى . على المستوى التطبيقى كان للمرأة ان تجادل النبى وتشكوله ولا تقتنع باجاباته فتدعو الله تعالى ان ينزل لها وحيا يحل مشكلتها فينزل الوحى يقول : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 58 /1). وكان مجتمع المدينة فى عصر نزول القرآن خلية نحل تموج بالحركة والنشاط، حيث أباحت حرية الفكر والعقيدة والتعبير والحركة السلمية المعبرة عن العقائد أن تتألف جماعات من المنافقين والمنافقات يتحركون معا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فتقابلهم جماعات أخرى من المؤمنين والمؤمنات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. (9 / 67 ، 71 )هذا والدولة الاسلامية فى عصر النبى محمد لا تتدخل فى منع هذا او تاييد ذاك لأن مهمتها هى كفالة الحرية فى العقائد والتعبير عنها بالطرق السلمية دون أن يقوم طرف باكراه الآخرين أو اضطهادهم فى الدين. على المستوى التاريخى فقد جعل الله تعالى المثل الأعلى للمؤمنين فى كل زمان ومكان إثنتين من النساء هما السيدة مريم العذراء وزوجة فرعون ، كما جعل المثل الأسفل لكل الكافرين فى العقيدة والسلوك امرأتين أيضا هما زوجة نوح وزوجة لوط .( 66 / 10 ـ 12) . كما قص الله تعالى قصة ملكة سبأ ( 27 / 22 ـ 44)، وتكررت فى القرآن قصة فرعون موسى. والتدبر القرآنى ـ وهو فريضة منسية ـ يحمل المسلم على المقارنة بين إثنين من الحكام كلاهما تعامل مع نبى من الأنبياء بطريقة مختلفة، وفازت الحاكم الأنثى وخسر الحاكم الذكروأضاع عرشه وقومه. ليس المقصد هنا أن المرأة أفضل من الرجل فى مجال الحكم، ولكنها إشارة تاريخية الى أن إمرأة حكمت فكانت راشدة فى وقت يضل فيه أغلب الحكام الذكور. المقارنة هائلة هنا بين الاسلام والدين السنى . الدين السنى يجعل المرأة مخلوقا من ضلع أعوج يستحيل اصلاحه ، ويجعلها "ناقصة عقل ودين ".!! هل يصح أن يقال عن السيدة مريم عليها السلام أنها ناقصة عقل ودين بعد كل هذا المدح الذى قاله الله تعالى عنها فى القرآن الكريم؟ فى الحضارة الغربية لم يتم إعطاء المرأة حقوقها السياسية إلا مؤخرا ، ولكن الإسلام سبق الجميع فى ذلك. الإسلام لم يحرم على المرأة أى عمل حلال يقوم به الرجل ، ويسرى ذلك على الجهاد ، والدليل أن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد هى أعذار تحدث للمرأة والرجل على حد سواء، فليس هنا حرج على الأعمى أو الأعرج أو المريض فى موضوع القتال الدفاعى فى الإسلام (48 / 17 ). هذه الأعذار تسرى هذا على الجنسين فى الذكر والأنثى . وحتى فى الصيام والحج كانت الشروط عامة للذكر و الأنثى ، بل أن الأمر يأتى بلفظ "الذين آمنوا " ، " يا بنى آدم " ، " يا أيها الناس " ليخاطب المرأة والرجل معا، وكل أمراة يشملها الأمر والنهى كالرجل تماما ، أكثر من هذا فإن النسق القرآنى فى تشريع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق لا يذكر مطلقا لفظ زوجة وإنما يقول " زوج " دلالة على الزوج والزوجة ويأتى السياق يحدد المقصود بها. والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكوين بين الزوج الرجل والزوج الأنثى فكلاهما واحد من حيث الأصل والنشأة ، وكلاهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات طبقا للعدل . وهناك تفصيلات أخرى تأتى فى موضعها، وقد فصلنا القول فيها فى كتاب لنا لم ينشر عن تشريعات المرأة بين القرآن والفقه السنى. هناك شيىء هام فى سياق آيات سورة الممتحنة يستلزم الإيضاح . هو حق المرأة فى السفر والهجرة وترك موطنها إلى حيث تريد طبقا لإختيارها العقيدى شأن الرجل تماما ، وهذا ما حققته المرأة فى عهد النبى محمد عليه السلام إذ هاجرت المؤمنات إلى الحبشة مرتين ثم مرة ثالثة إلى المدينة ، بعضهن كن عذاراى وبعضهن كن متزوجات هاجرن مع أزواجهن المؤمنين أو كن أزواج تركن أزواجهن المشركين . أى أن من حق المرأة فى الإسلام أن تهاجر إذا شاءت ، والهجرة أصعب أنواع السفر لأنه سفر يحتمل المطاردة والملاحقة . وبالتالى فان من حقها السفر العادى بمفردها ،وليس لزوجها الحق فى منعها إلا إذا كان هذا الحق للزوج منصوصا عليه فى عقد الزواج .هذا فى الإسلام .ولكن فى دين السنة تم حرمان المرأة من هذا الحق فمنعوها حتى من السفر إلا بإذن زوجها ، بل وجعلوا لها كفيلا – إذا لم تكن متزوجه ـ هو" المحرم " أى الذى يحرم عليها أن تتزوجه كالأب والابن والأخ والعم والخال ، أى اعتبروها شخصا غير كامل الأهلية، حتى لو كانت أما. وتخيل أن تربى الأم ابنها فاذا كبر أصبح آمرا ناهيا لها، يبلغ مبلغ الأهلية بينما تظل أمه مخلوقا ناقص الأهلية. الدين السنى بذلك لم يظلم المرأة فقط بل ظلم معها الرجل ، فهى له الأم والأخت والزوجة والبنت . واذا كانت المرأة ناقصة الأهلية اجتماعيا ودينيا فليس من حقها المشاركة السياسية وليس لها من حق فى المواطنة المساوية للرجل. وبالتالى يكون من العبث الحديث عن حقها فى تولى الرئاسة فى الدولة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة